مقدمة الطبعة الثالثة
فنان طيبة
حبيب آمون
شاءول بن شمويل اللاوي
المعجزة
مينا الأثريبي
آكل المرار وهند
العقد المبارك
الغمرات ثم ينجلينا
عبيد الله بن الحر
Unknown page
فارسة قصر الباهلي
سلامش
الأمير بدر الدين بيليك
آخر السلاطين
المبارزة المؤجلة
آخر الباشوات
المعركة المستمرة
الرقصة المجنونة
دعاء شعبان
العودة
Unknown page
مقدمة الطبعة الثالثة
فنان طيبة
حبيب آمون
شاءول بن شمويل اللاوي
المعجزة
مينا الأثريبي
آكل المرار وهند
العقد المبارك
الغمرات ثم ينجلينا
عبيد الله بن الحر
Unknown page
فارسة قصر الباهلي
سلامش
الأمير بدر الدين بيليك
آخر السلاطين
المبارزة المؤجلة
آخر الباشوات
المعركة المستمرة
الرقصة المجنونة
دعاء شعبان
العودة
Unknown page
مع الزمان
مع الزمان
تأليف
محمد فريد أبو حديد
مقدمة الطبعة الثالثة
هذه لمحات من صور النفس البشرية في مغامرتها الطويلة على مدى القرون جيلا بعد جيل، نرى فيها أشباها لأنفسنا؛ إذ نسعد أو نشقى، وإذ نندفع مع عواطفنا التي تسف بنا تارة وتسمو بنا أخرى. وما تزال الإنسانية تكتب قصصا جديدة في كل يوم وكل ساعة، ومن مجموع هذه القصص الإنسانية نستمد عقائدنا ومثلنا العليا ونواميس حياتنا الاجتماعية. وما من قصة قديمة إلا وفيها عرق نابض متصل بحياتنا الحاضرة، وما من خلجة من خلجات نفوسنا في عصرنا هذا إلا وفيها عرق متصل بمنابع الإنسانية الأولى. وأنا إذ أقدم هذه المجموعة إلى أبناء هذا العصر إنما أهدي إليهم جانبا من نفسي وعصارة من فيض قلبي، وقد زدت على القصص التي ظهرت في الطبعة الأولى عدة قصص أخرى تصل خطوات الزمان في أحداثه الكبرى إلى وقتنا هذا الذي نعيش فيه، وما يكون أسعدني إذا وجد القراء فيها بعض لحظات سعيدة أو بعض خطرات تبعث على التأمل.
فنان طيبة
«الحب أزلي والكبرياء أزلية.»
كان «أمنكارع» بقية عصر قديم كاد الناس ينسونه، فقد عاشر الملك «أمنحتب» الكبير جد الملك «أمنحتب» المجيد، وكان أهل طيبة ينظرون إليه كما ينظرون إلى التماثيل الخالدة التي تحف بمعبد آمون. ولكنه كان مع ذلك فتي الروح وسيم الوجه برغم التجاعيد الكثيرة التي تعلو جبينه العريض. وكانت عيناه ما تزالان تلمعان ببريق الشباب وتشع منهما أنوار تنم عن طيبة قلبه، ولا سيما إذا تبسم وهو ينظر إلى ابنته الشابة الجميلة «نفرتويا»، أو إلى تلاميذه الأعزاء في «حصن طيبة».
وكان الأمراء الشبان الذين يتعلمون في حصن طيبة يحبونه كصديق بقدر إجلالهم له كأستاذ، ويلتفون حوله كلما رأوه ليستمعوا إليه وهو يحدثهم عن الأيام الجليلة التي شهدها في أيام شبابه، وما كان أكثر ما يدخره في ذاكرته من القصص العجيبة عن مغامرات الحروب عندما كان يصحب «تحوتمس» الكبير في غزواته ببلاد لبنان وسوريا، وفي زحوفه المظفرة على شواطئ الفرات أو جبال الشمال حيث دك حصون «الخيتا»، وكثيرا ما كان يقص عليهم كذلك قصص مغامراته في صيد فرس البحر والتمساح والأسود والفيلة عندما ذهب مع تحوتمس العظيم إلى ما وراء جنادل النيل في بلاد «كوش»، فإذا ما فرغ من أحاديثه ذهب هو وتلاميذه إلى حجرة الرسم وأخذ يكشف لهم عن أسرار الفنون الخالدة ويبهر عقولهم ببراعته في بعث الحياة في الحجارة الصماء. ولم يكن علم أمنكارع بالتواريخ القديمة أقل من وعيه لذكريات شبابه، فكان يتحدث عن آثار «أون» و«منف» كما يتحدث عن معابد طيبة نفسها. فإذا وصف الدول الماضية منذ آلاف السنين ملأ القلوب خشوعا لعظمتها وإجلالا لمجدها؛ لأنه كان يكشف لتلاميذه عن آيات الإبداع في آثارها العظيمة كأنه قد شارك في بنائها وعرف كوامن أسرارها. وكان من عادته إذا بدأ أحاديثه أن يشخص ببصره في الفضاء وينطق بصوت هادئ كأنه يناجي نفسه، فيخشع تلاميذه من حوله ويسبحون معه في صور القرون الماضية كأنهم قد انتقلوا إليها وعاشوا فيها بسحر ساحر، حتى إذا أمسك عن الحديث تنفس التلاميذ أنفاسا عميقة ونظروا إليه بعيون ملؤها العطف والإجلال. وقد اختاره فرعون أمنحتب العظيم الثالث ليكون أستاذا للفن والتاريخ للتلاميذ الأمراء الذين كانوا يتعلمون في «حصن طيبة»؛ لأن فرعون أمنحتب كان حريصا على أن يتلقى هؤلاء التلاميذ علومهم من أفذاذ العلماء والحكماء، حتى إذا ما كبروا وعادوا إلى بلادهم كانوا أهلا لوراثة الملك عن آبائهم الذين يحكمون الأقطار المنضوية تحت لواء فرعون صاحب التاجين.
Unknown page
وكان أمنكارع مع كبر سنه لا يتخلف يوما عن دروسه، ولم يبد عليه يوما ما يدل على فتور أو ملال، بل كان دائما يفيض بالبشر والنشاط.
وكان من تلاميذه الأعزاء في حصن طيبة أبناء ملوك كثيرين من كل جهات الأرض، فمنهم من جاء من بلاد الخيتا في الشمال، ومنهم من أتى من أقصى بلاد كوش في الجنوب، ومنهم أمراء من أبناء ملوك النهرين في الشرق ورؤساء ليبيا في الغرب. ولكن أحبهم إليه كان «دوشري» ابن ملك المتاني على حدود سوريا الشمالية، وهو من أكثر تلاميذه حبا له وإعجابا به، لا يكاد يفارقه إلا عندما يغادر الحصن عائدا إلى بيته قبل حلول المساء.
وكان الشيخ أمنكارع إذا خرج من معهد الحصن ذهب إلى بيته الصغير على شاطئ النيل ليقضي سائر يومه مع ابنته الوحيدة الباقية له في الحياة نفرتويا ذات الشعر الأسود وأجمل فتاة في طيبة. ولم يكن له في الحياة غيرها، وقد جمع فيها كل ما بقي له من الآمال، بعد أن غادره أبناؤه جميعا وبعد أن سبقه الأصدقاء والأحباب إلى جوار «أوزيريس».
ولكن الشيخ كان يخرج في بعض الأيام للنزهة في الأرياف المحيطة بالمدينة، أو إلى الصحراء الفسيحة ذات الرمال الذهبية في أيام الشتاء، ويستصحب في هذه النزهات تلميذه العزيز دوشري مع ابنته نفرتويا ويقضون الوقت بين تأمل مناظر الطبيعة وبين مدارسة أسرار الفن والحكمة، فإذا تعب الشيخ من السير الطويل جلس ليستريح عند جانب النهر أو ليتمدد على الرمال الناعمة، وينطلق دوشري ونفرتويا في جولتهما الطويلة ثم يعودان إليه بعد أن يكون كل منهما قد رسم أجمل ما وقع عليه بصره من صور الطير والنبات أو مناظر النهر والصحراء. وقد تعود أهل طيبة أن يروا الشيخ مع ابنته وتلميذه حتى صار من المألوف عندهم أن يقرنوا بين اسم نفرتويا ودوشري، وأطلقوا عليهما اسم «إيزيس» و«أزوريس»؛ لأنهما كانا مثالين للجمال والوداعة والكمال.
ولكن بنات الأعيان في طيبة كن يتحدثن دائما عن نفرتويا في سخرية؛ لأنها لم تكن من بنات الأمراء أو الأعيان، فهي ابنة فنان صانع تماثيل، وإن كان فرعون يقربه ويثق فيه ويجعله أستاذا لأبناء الأمراء. وكثيرا ما دفعتهن الغيرة إلى إنكار نبوغ أمنكارع والبخس من عظمة فنه. كما كن يوجهن أشد اللوم إلى الأمير دوشري؛ لأنه تنازل حتى اختار فتاة مثل نفرتويا ولم يلتفت إلى واحدة من بنات كبار الموظفين أو الأمراء أو سدنة المعابد.
ولكن دوشري ونفرتويا كانا لا يعيران التفاتا إلى هذه السخرية التي كانت تصل أحيانا إلى سمعهما؛ لأنهما كانا سعيدين وحدهما في عالمهما الصغير مع الشيخ العزيز، ولا يعبآن بقصور طيبة ولا بمن يمرح فيها.
ولكن الأميرة الملكية «تادوخيبا»، زوج ولي العهد وابنة ملك المتاني وأخت دوشري، كانت تنظر إلى هذه الصداقة بين أخيها وبين نفرتويا في كثير من القلق. حقا إنها كانت تعجب بالفتاة وتجل الشيخ العالم الفنان أمنكارع، ولكنها لم تنس أن أخاها أمير ملكي، وأنه وارث عرش «المتاني»، ولا ينبغي له أن يختار عروسه إلا من قصور الملوك. ولماذا لا يلتفت دوشري إلى إحدى بنات فرعون أو إحدى بنات الأسرة الملكية على الأقل؟ فكانت كلما رأت الصداقة تتوثق بين أخيها والفتاة زادت خشية وتوجسا من أن ينتهي الأمر بينهما إلى الكارثة، وأي كارثة أشد من أن يتزوج الأمير من إحدى بنات الشعب وإن كانت تلك الفتاة نفرتويا؟ ولم تستطع آخر الأمر أن تمتنع عن إظهار مخاوفها لزوجها ولي العهد واستأذنته أن تفاتح في الأمر فرعون العظيم نفسه حتى يحول بين الفتاة وبين دوشري. ولكن ولي العهد لم يوافق الأميرة تادوخيبا، بل إنه صارحها بأنه يفضل نفرتويا على كل بنات الأمراء اللاتي يعرفهن جميعا، وحاول أن يبين لها أن سعادة الشاب تتوقف على اختيار قلبه، وأطال في التحدث عن فضائل نفرتويا. فلما لم تقدر تادوخيبا على إقناع زوجها ولي العهد برجاحة رأيها، ذهبت إلى فرعون نفسه لتضرع إليه أن يساعدها.
وكان اليوم الذي توجهت فيه إلى فرعون من أيام الخريف الجميلة، والمدينة تستعد للاحتفال بفتح السد الذي يفصل بين النيل وبين البحيرة الكبرى في القصر الغربي.
كان يوما من أحلى أيام الخريف وأصفاها سماء وأرقها نسيما وقد أخذت طيبة كل زينتها استعدادا للعيد الذي اعتادت أن تحتفل فيه كل عام بتدفق الماء إلى البحيرة. كانت السفن في ميناء النهر ترفع الأعلام الملونة، وقد انتشر النوتية فوق الساحل يغنون ويشربون الجعة ويرقصون، وهم من ألوان مختلفة جاءوا من جميع أطراف الأرض ليحملوا خيرات بلادهم إلى عاصمة فرعون. كان فيهم نوتية من أهل فينيقية بشعورهم المضفورة ولحاهم الطويلة، وبشرتهم البيضاء وعيونهم السوداء. وفيهم بحارة من جزائر البحار الشمالية من الشردن والشكلش وأهل قبرص ورودس، وهم لا يسترون أبدانهم إلا بقطع من الجلد تتدلى من أعناقهم إلى ظهورهم وصدورهم. وأما بحارة كوش فكانوا يلفون أرهاطا حول أوساطهم من جلود النمور ويرقصون في حلقات صاخبة لا يعبئون بضحكات الجمع الملتف حولهم. وخرجت طيبة كلها منذ الصباح في زينة الاحتفال الأنيق، الرجال في ملابسهم الكتانية البيضاء ونعالهم الملونة وشعورهم المستعارة التي تتدلى على أكتافهم، والنساء في ملابسهم المزركشة بالألوان تصف محاسن أجسامهن الدقيقة. وتزاحمت الجموع على الشاطئ تتنافس على القوارب للعبور إلى البر الغربي لكي تدرك الاحتفال منذ الصباح، حتى لا يفوتها منظر فرعون وهو يقطع السد بيده المجيدة، وينزل في القارب الذهبي إلى البحيرة العظيمة مع ماء الفيضان الأحمر.
وخرج أمنكارع في ذلك اليوم مع نفرتويا ودوشري لمشاهدة مناظر العيد، فاستقلوا قاربا ملكيا وضعت حوله الحشايا فوق الطنافس الوثيرة، وبلغوا الشاطئ الغربي قبل أن يصل موكب فرعون. وكانت البحيرة صافية اللون مثل البلور تحيط بها أشجار الجميز والحور والصفصاف والسنط ذي الزهرة الصفراء الفاتنة. ومالت نفرتويا على فرع فاقتطفت منه زهرتين صغيرتين وضعت إحداهما على صدرها والأخرى على صدر دوشري.
Unknown page
وكان دوشري يلبس حلة زاهية اللون من صنع فينيقية ذات أكمام واسعة حليت أطرافها بخيوط ذهبية، وجعل في قدميه خفا أنيقا من الجلد الأصفر المموه بالذهب. على حين لبست نفرتويا حلة من الكتان الشفاف عليه وشي مختلف الألوان حول الصدر والعنق، وكان خفها الأحمر اللين منقوشا بصور صفراء من رسم زنبق الماء. وأما الشيخ أمنكارع فكان ما يزال محتفظا بزيه الساذج الذي عرفه منذ شبابه، وهو ثوب طويل يربطه حول وسطه حتى يصل إلى ركبتيه، ويلقي فضلته على كتفيه حتى يغطي ظهره وصدره، ولم يجعل في قدميه إلا نعلا من الجلد مربوطة حول قدمه بسير دقيق.
وساروا في الشارع الأعظم المؤدي إلى معبد الملك، وكان أمنكارع يسير الهوينى متأملا تماثيل بنات آوى التي على الجانبين، ويقف بين حين وآخر ليتأمل أحد التماثيل ويهز رأسه في صمت ثم يستأنف سيره. وسبقه دوشري مع نفرتويا حتى بلغا المعبد قبله، ووقفا حينا يتأملان صرحه الرائع والمسلتين الشاهقتين اللتين تحفان به عند المدخل، ثم ذهبا إلى التمثالين الجديدين الهائلين - وقد أقيما لفرعون أمنحتب العظيم الثالث منذ سنتين، ولم يسبق لملك أن اتخذ تمثالين مثلهما في العلو والضخامة. وخشع قلباهما عندما رفعا رأسيهما إلى أعلى التمثالين ليتأملا وجهيهما الصارمين وهما يشرفان على النيل من أقصى السهل كأنهما عملاقان جباران. وقال دوشري لنفرتويا في صوت متهدج: وددت لو ذهب سيدي المبجل أمنكارع إلى بلادي ليصنع تمثالا مثل هذا لوالدي.
فقالت نفرتويا: إنه لا يرفض لك أمرا يا دوشري.
فتبسم الفتى قائلا: أتذهبين معه يا نفرتويا؟
فتبسمت نفرتويا قائلة: لعل أبي يفضل أن يصنعه ها هنا.
فقال دوشري: وكيف يصنعه هنا وهو لم ير أبي؟ إنني أتمنى لو كان لملك المتاني تمثال مثل هذا ليخلد ذكره، إنني أرى ذلك التمثال وكأنني أنظر إلى وجه سيدي الملك المقدس وهو يشرف علينا من علو سبعين قدما.
وكان أمنكارع قد بلغ موضع الشابين ووقف ينظر إلى التمثالين في تأثر ظاهر، وقال: لقد تفنى الأجساد وإن بالغنا في تحنيطها، ولكن خلجات نفوسنا تبقى مع الفن إلى الأبد في هذه الصخور الصماء.
وعاد ينظر إلى التمثالين حينا، ثم قال: وددت لو كان هذان التمثالان واقفين وليسا قاعدين هكذا يا دوشري. إنهما في جلستهما هذه يكذبان النظر ولا يقعان في القلب كما ينبغي لهما. لقد رسمت تصميما لهما واقفين، ولكن الملك المقدس اختار تصميم هؤلاء الذين يملئون الأرض ادعاء ويظنون الفخامة عنوان المجد.
فقال دوشري في صوت متردد: كنت أقول لنفرتويا إنني أتمنى لو صنعت لأبي مثل هذا التمثال أيها السيد المبجل.
فهز أمنكارع رأسه قائلا بصوت هامس: لو كنت شابا!
Unknown page
ووضع يده على كتف دوشري وأضاف قائلا: لو كنت شابا لذهبت إلى المتاني من أجلك، وصنعت لأبيك تمثالا يرضيني.
فأخذ الشاب يد الشيخ في رفق ورفعها إلى فمه يريد أن يقبلها، فبادر الشيخ وقبض يده وانحنى على الفتى فقبل جبينه، وقال له بصوت متهدج: لئن شاء آمون أن يمد في أجلي، فسأصنع لك أنت صورة من حجر الجرانيت الأحمر، صورة لك إذ تمرح مع نفرتويا في الحقول أو تصيد معها البط والسمك من النهر.
فتهلل وجه الفتى ونظر إلى نفرتويا مبتهجا، ولكنه رأى على وجهها سحابة من الوجوم. ونظر إليها كالمستفهم ولكنه لم يتكلم. وأدركت نفرتويا معنى نظرته، وحاولت أن تبدو مرحة، ولكن قلبها لم يساعدها؛ فظهرت ابتسامتها مترددة تنم عن جزعها.
فصرف دوشري نظره عنها حتى لا يحرجها، وعلت عند ذلك ضجة عالية من ناحية النهر فاتجهت أنظارهم جميعا إلى هناك، وقال الشيخ: هلموا إلى المعبد، فقد أقبل موكب فرعون.
وجذب دوشري نفرتويا برفق من ذراعها واستأذن الشيخ أن يذهب معها مسرعين حتى لا يفوتهما شيء من مناظر الاحتفال. وسألها دوشري وهما يهرولان: رأيتك تغيرت منذ حين يا نفرتويا.
فترددت الفتاة حينا ثم قالت في صوت خافت: لست أدري ماذا أزعجني.
فقال دوشري في لهفة: لعلني لم أكن سبب ذلك الانزعاج.
فبادرت نفرتويا قائلة: لا، لا يا دوشري. إنها حماقة من حماقات الطفولة بغير شك. لست أحب لوحات الجرانيت الأحمر، كانت دائما تحمل إلى ذهني صورا حزينة. كنت أفضل لو قال أبي إنه سيصنع لنا تمثالا من الحجر الجيري أو من الصوان الأسود. أقول تمثالا وليس صورة على صفحة من الجرانيت الأحمر. هذا ما أزعجني.
فضحك دوشري ضحكة عالية وقال في دفعة مرحة: لقد ظننت الأمر أخطر من مثل هذا الوسواس يا نفرتويا. سأقول له أن يجعله تمثالا لا لوحة، ولن يبخل السيد المبجل بأن يجعله من المرمر بدلا من الجرانيت الأحمر. لقد تأخرنا يا نفرتويا وهذا هو الموكب قد بدأ، أرجو ألا يعرقل هذا الحذاء الضيق سرعة حركتك.
وأسرعا حتى بلغا سور المعبد فظهرت أمامهما الساحة الكبرى التي تمتد وراءها البحيرة الفسيحة. ثم بدت لهما صورة الملك من بعيد مع زوجته الملكة الجميلة «تي» ذات الشعر الأصفر الذهبي، وكانا يتجهان في موكبهما نحو الساحة. وبعد حين جاء أمنكارع وهو ينهج من جهد السير. وكان فرعون قد اقترب في موكبه، فلما وقعت عينه على الشيخ حياه باسما. فاقترب الشيخ وسجد حتى لمس الأرض برأسه، ثم رفع رأسه وجهر بالدعاء. فمد إليه فرعون يده عاطفا وأمره أن يكون قريبا منه حتى ينزل إلى البحيرة في أقرب السفن المحيطة بموكبه الملكي.
Unknown page
وبلغ فرعون البحيرة ونزل إلى قاربه الذهبي تحيط به زوجته الحسناء والأميرة تادوخيبا. وتلفت الشيخ ليرى أين ابنته فرآها مع تلميذه دوشري ينزلان وحدهما إلى قارب ولي العهد. ولم يكن عجيبا أن يغيب ولي العهد نفسه عن حضور الاحتفال، فقد كان معروفا بأنه لا يؤمن بآمون، ويعكف على عبادة إله غريب لا يعرفه أحد يسميه «آتون» ويسبح له بالترتيل والأناشيد. فلم يجد الشيخ بدا من النزول في أحد قوارب البلاط الملكي ليكون قريبا من فرعون إطاعة لأمره.
وكان الموكب رائعا أظهر فيه أمنحتب العظيم من أبهة الملك والجود والبر والسطوة ما هو جدير بابن الآلهة المقدس.
وتعطف على الأميرة تادوخيبا فأجلسها عن يساره كما أجلس الملكة إلى يمينه.
وكانت تادوخيبا موضع رعاية خاصة، حتى إنه قضى أكثر الوقت في الحديث معها والاستماع إليها.
ولما انتهت الجولة على البحيرة اتجه فرعون نحو المعبد العظيم الغربي ليقدم القرابين الجديرة بمجده إلى كبير كهنة آمون. ولم ينس أن يتكرم على الفنان الشيخ أمنكارع فدعاه ليسير قريبا منه واتجه إليه بحديث طويل حتى تهامس رجال البلاط قائلين: إن أمنكارع قد بلغ ذروة من المجد لم ينلها أحد رجال الفن من قبله.
وتخلف أمنكارع عن مسايرة فرعون عندما بلغ باب المعبد الكبير، وسار في صفوف رجال البلاط متباطئا، وأخذ يتلفت حوله ليرى ابنته التي غابت عن عينيه منذ سار إلى جانب فرعون. ولكنه كان يبدو عند ذلك أصفر الوجه مضطرب النظرات، يكاد وجهه ينطق بأنه حزين. واستمر الاحتفال رائعا جليلا تتخلله الأناشيد التي تملأ القلوب ابتهاجا، وبدا فيه فرعون في كمال أبهته يجمع بين عزة الملك وخشوع التقوى، ونال بركة مضاعفة من كبير الكهنة الذي أهدى إليه رمز الحياة الخالدة مصنوعا من خشب شجرة سقيت دائما بالماء المقدس.
ورجع أمنكارع مع ابنته وتلميذه بعد انفراط عقد الموكب، فركبوا القارب إلى الجانب الشرقي من النهر وساروا صامتين حتى بلغوا المنزل الصغير على الشاطئ. واستأذن دوشري ليعود إلى حصن طيبة ليقضي الليل فيه كالعادة المتبعة. وكان يحس في قلبه انقباضا عجيبا بعد ذلك اليوم المرح البهيج، ولم يقدر أن يسري عن نفسه ذلك الشعور، وذهب إلى مخدعه لعله يهدئ من قلقه في هدوء الوحدة، ولكن صورة الشيخ كانت تتمثل له دائما وهو يسير بطيئا مطرقا حزينا.
وخيل إليه أن حديث فرعون هو الذي بعث في الشيخ ذلك الحزن الشديد الذي غمره فجأة، بعد أن كان في الصباح نشيطا كأنه شاب مرح.
ولم يستطع دوشري البقاء في مخدعه طويلا فخرج ليفرج عن قلقه، وذهب إلى ركن مطل على النهر وجعل يسرح ببصره فوق صفحة الماء وعلى جوانب الشطآن وخلال السماء الصافية التي يغمرها ضوء البدر، ولكن صورة وجه الشيخ الحزين لم تفارقه وصورة نفرتويا لم تستطع أن تهدئ من سورة وساوسه. ماذا قال له فرعون حتى أزعجه هكذا؟ ثم ماذا قالت تادوخيبا لفرعون في ثنايا ذلك الحديث الطويل الذي كان بينهما على طول الجولة فوق البحيرة؟ أتكون قد أعادت على فرعون ما سمعها تقوله في يوم من الأيام عن مخاوفها من تعلقه بابنة الشيخ؟ أيكون فرعون قد حدث أمنكارع عن ابنته وعلاقتها به؟ لم يفق الشاب من وساوسه إلا عندما شعر بوقع أقدام تقترب منه، فالتفت إلى ورائه وسمع صوتا يناديه وكان صوتا مألوفا، وقال له رئيس الحصن: لقد بحثت عنك في أركان القصر يا دوشري ... لم تخلفت عن مائدة العشاء؟
فأجاب دوشري: حقا لقد نسيت يا سيدي.
Unknown page
ونهض متكلفا النشاط حتى لا يثير فضول رئيس القصر، ولم يلبث أن استعاد مرحه عندما صار بين أصحابه في حلقة السمر بعد أن فرغوا من العشاء. ولما عاد إلى مخدعه بعد أن مضى صدر الليل كانت كل الظلال قد انقشعت من قلبه كأن لم يعكر صفاءه شيء في ذلك النهار.
ولكن الصباح التالي حمل إليه نبأ كان أشد عليه من كل ما مر به من القلق والوساوس، فقد جاء إليه قائد الحصن في الصباح ليبلغه أمر فرعون أن يسافر إلى «أون» في ذلك اليوم نفسه ليتم دراسته في معهدها العظيم بعد أن نال بغيته من الدراسة في حصن طيبة، وكان عليه أن يأخذ أهبته للسفر من ساعته بغير إبطاء.
وأظلمت الدنيا في عينيه وتهالك على كرسيه ولم يجب بكلمة.
وثارت في نفسه غضبة شديدة لذلك الأمر المفاجئ، ولكنه تذكر أنه أمر فرعون، ولا حيلة لأحد فيما يأمر به فرعون. وجاهد أن يمنع نفسه من البكاء لشدة شعوره بالعجز أمام الإرادة التي لا تقاوم، وذهب صامتا ليستعد للسفر في المساء.
ولما أقبل المساء كانت السفينة في انتظاره تحت أسوار الحصن فصعد إليها بغير أن ينظر إلى الوراء، وبادر فمسح الدمعة التي فرت من عينيه، ثم ذهب إلى مؤخرة السفينة واتجه ببصره نحو بيت أستاذه حيث تقيم نفرتويا. ولما اختفت طيبة عن عينيه وراء ثنية النهر ارتمى في موضعه وأسلم نفسه للبكاء.
وأخفى أمنكارع عن ابنته سر الحديث الذي دار بينه وبين فرعون يوم احتفال الخريف، ذلك الحديث الذي أمره فيه أن يقطع الصلة التي ما كان لها أن تجمع بين دوشري الأمير الملكي وبين فتاة من عامة الشعب، وإن تكن نفرتويا الحسناء وابنة الشيخ المبجل أمنكارع. ولكنه لم يستطع أن يخفي عن نفسه ألم الطعنة ومرارة الإهانة. لقد بلغت تلك الطعنة من الشدة أنه كاد يندفع إلى الرد عن أمنحتب العظيم قائلا له: إن القلوب لا تعرف الفروق التي يقيمها المتكبرون. ولكنه لم يجرؤ أن يخاطب ابن الآلهة إلا قائلا: سمعا وطاعة يا مولاي. وخطر له عندما سمع أمر فرعون أن يقول له: «إنك أنت يا صاحب الجلالة تزوجت من إحدى بنات الشعب عندما أحببت الملكة تي الحسناء!» ولكن الكلمات تعثرت في حلقه قبل أن ينطق بحرف من حروفها. ومهما يكن من الأمر فإن غضب أمنكارع وشدة وقع الإهانة عليه لم يكونا شيئا إلى جانب الكارثة التي ألمت به عندما رأى ابنته تذبل وتفقد سعادتها بعد أن فارقها دوشري.
ومرت الأيام بطيئة، ولكنها توالت مظلمة حزينة، وكانت نفرتويا لا تنطق باسم دوشري تسأل أباها عنه أين غاب ولم غاب. قضت أيامها صامتة هادئة وديعة كأنها لم تفقد شيئا ولم تجزع من شيء، كالزهرة المفردة التي تتفتح وحدها في الصحراء ذات صباح ثم يتبدد عبيرها وألوانها الزاهية في وحشة الفقر. ولم يلحظ أمنكارع أن ابنته تذبل وتفقد نضرتها يوما بعد يوم حتى رآها ذات يوم وقد أصبحت ذاوية.
وجلس دوشري في أون على سور معبد الشمس الشاهق ينظر إلى الشمس وهي تهبط إلى أفق الغرب. وكانت الأرض تمتد تحت عينيه مثل صفحة مرآة لا يقطع سطحها سوى نقط منثورة من آجام النخيل. وكان السكون يخيم على الكون وماء الفيضان يغمر الحقول إلى آخر ما تصل إليه العين. وكان الهواء ساكنا في ذلك الوقت من شهر مسرى الحزين، كما كان قلب دوشري. لم يكن له في معبد الشمس صديق كما لم يكن له في أون كلها أليف، وأحس بأنه قد أصبح وحيدا غريبا في بلاد بعيدة غريبة، لا يؤنسه شيء في ذلك الفضاء الفارغ الرهيب الذي كان يحيط به. وعادت إليه وهو جالس هناك ذكريات جولاته مع نفرتويا في أرياف طيبة وعلى ضفاف نيلها وفوق أمواجه الوديعة. كان كل شيء هناك ينبض بالحياة والأمل، حتى تلك التماثيل الرابضة على جانبي الطرق، إذ كان الشيخ أمنكارع يبعث فيها الحياة كلما تحدث عنها. فأين تلك الحياة المليئة في طيبة من حياته في معبد الشمس الشاهق في مدينة أون العظمى، التي لم تكن في نظره سوى سجن مظلم. وخطر له أن يتسلل من المعبد حتى يصل إلى النهر فيلتمس قاربا يصعد فيه إلى طيبة مرة أخرى، ليستعيد أنفاسه الحارة وصدره المبتهج ونفسه المرحة. ولكن كيف يقدر على التسلل من المعبد الضخم الذي توصد عليه الأبواب المتينة ويحيط به الحراس في الصباح والمساء؟
وفيما كان جالسا هناك تتنازعه أشجانه الثائرة جاء إليه كاهن يحمل إليه رسالة من أخته تادوخيبا، وهي أول رسالة تلقاها منذ فارق طيبة في أول الخريف. وفتح الرسالة بقلب مضطرب، وكانت لفافة من البردي عقد عليها شريط من الكتان الأنيق. ولأول مرة في حياته تمنى لو كان له جناح فيطير به ساعة حتى يبلغ طيبة ليرى نفرتويا؛ لأن الرسالة أنبأته بأنها مريضة وتريد أن تراه قبل أن تبدأ رحلتها الأخيرة إلى عالم أوزيريس! لم يدر ماذا يستطيع أن يفعل ولا ماذا يستطيع أن يقول، فلم يكن أمامه إلا أن يصبر نفسه حتى تحمله السفينة كما تشاء لها رياح الخريف الفاترة. وسافر من ليلته نحو الجنوب بقلب واجف وعين دامعة وصدر كئيب.
وهناك في طيبة ذهب إلى بيت الشيخ أمنكارع آخر الأمر، ولكن الدار كانت خالية. وكان الشيخ بعيدا في الجانب الغربي لا يقيم في المدينة منذ فارقته نفرتويا في رحلتها الأبدية. وأسرع دوشري إلى الغرب حتى رأى الشيخ وكان عاكفا على جدران المقبرة التي يعدها لابنته لتكون مثوى لجسدها بعد أن يتم الكهنة تحنيطها. كان الشيخ يطمع أن تقف نفرتويا على مقبرته مع دوشري يقدمان القرابين من أجل سلامة روحه في عالم الظلام، ولكن الأقدار قست عليه مرة أخرى ونزعت منه أمله الأخير.
Unknown page
ولما رأى الشيخ تلميذه مقبلا رمى مطرقته وإزميله ومد يده ليصافحه صامتا. ولم ينطق دوشري بكلمة عزاء، بل نظر إلى الرجل في صمت ثم ترك يده وحول عنه وجهه وأجهش بالبكاء. وأسرع مبتعدا ليتدارى وراء جدار المقبرة، ثم ارتمى على الرمال وترك دموعه تتدفق ليخفف عن قلبه المحترق وصدره المختنق. وعاد أمنكارع إلى جدار المقبرة يضرب فيه بمطرقته وإزميله في عنف وهو صامت، وكان أمامه لوح من الجرانيت الأحمر فيه نقش صورة ما تزال تحتاج إلى المزيد، والشيخ يضرب بمطرقته وإزميله بغير توقف كأن في داخله ثورة عنيفة.
وقام دوشري بعد أن استطاع أن يتماسك، فذهب إلى الشيخ ووضع يده على كتفه مترفقا، فرفع الشيخ رأسه ورمى بالمطرقة ورفع يده فمسح عرقه المتصبب من جبينه، وتنفس نفسا عميقا وهو ينظر نحو دوشري، ثم استرخى وخر متهالكا. وبعد حين رفع رأسه في فتور وقال: هذا أنت يا دوشري، لقد وعدت أن أصنع لك صورة فوق الجرانيت الأحمر. ها هي ذي صورتك يا بني، ولكنها صورة باكية.
ثم قام وترك الفتى ينظر باكيا إلى الصورة، وانطلق يسير في طرق مدينة الموتى المتعرجة حتى اختفى.
وأما دوشري فقد عزم على أن يعود إلى أون من ساعته، وأن يذهب إليها في هذه المرة ليكون كاهنا راهبا.
وقد عرفت طيبة فيما بعد كاهنها الطيب الوديع دوشري، ذا البشرة البيضاء والعينين الزرقاوين، الذي يقال إنه كان من قبل أميرا جميلا ثم جذبته محبة آمون فآثر خدمة الإله على أن يكون ملك المتاني.
وقد عرف عن الكاهن دوشري أنه كان في كل يوم يعبر إلى مدينة الموتى في الغرب ليذهب إلى قبر نفرتويا وقبر أمنكارع الذي في جواره؛ لأنهما كانا حبيبين لآمون.
وكان دوشري كلما ذهب إلى المقبرة وقف حينا ينظر إلى الصورة البديعة التي في اللوحة الحمراء الجرانيتية، ثم يتمتم قائلا كأنه يتلو صلاة:
قد نزول نحن عن الأرض، ولكن خلجات نفوسنا تبقى مع الفن إلى الأبد في هذه الصخور الصماء.
حبيب آمون
«كان السلطان والعقل يتنازعان منذ آلاف السنين كما لا يزالان يتنازعان إلى اليوم. وقليلون هم الذين يرفضون السلطان طاعة للعقل.»
Unknown page
كان يوما رائعا من أيام الشتاء في طيبة التي لا يشبهها شيء في بهائها ولألاء نورها وزرقة سمائها. وكانت المدينة في ذلك اليوم هادئة على غير عادتها. كانت قصورها الواسعة لا تشتمل إلا على بعض الأتباع والخدم، وكانت معابدها نفسها خالية لا تتردد فيها أصداء الأناشيد، كأن أعمدتها الباسقة وأبوابها العالية ونقوشها الرائعة قد أصبحت آثارا عملاقية من مدينة غابرة بقيت بعد زمانها. وكانت الطرق ساكنة راكدة، كأنها المسالك المهجورة بين المقابر التي يقيم فيها الأبرار إلى الأبد. لم تكن هناك حياة إلا على شواطئ النهر المزدحمة بالسفن التي أتت إليها من أركان البحار السبعة، تحمل خيرات الجزائر وشواطئ البحر الشمالي وأخشاب بونت وخزف كنوسوس وعطور اليمن وعاج كوش.
خرج أهل المدينة في ذلك اليوم لشهود الاحتفال بعودة آمون إلى الكرنك بعد أن حرمت العاصمة العظمى منذ سنوات كثيرة من مواكب الإله آمون منذ أيام «أخناتون» أمنحتب الرابع، صاحب البدعة الجديدة التي دعا فيها إلى عبادة آتون إله الشمس، وفي سبيله فارق عاصمته واتخذ له عاصمة جديدة في الشمال، مدينة أخناتون.
وخرج الناس منذ الصباح الباكر ليتمتعوا بالنظر إلى فرعون الصغير «توت عنخ» زوج الأميرة الملكية ابنة أخناتون؛ لأنه سوف يداوي الجراح ويعيد إلى طيبة بهجتها ومرحها ورونقها، ويرجع بركة آمون إلى أهل المدينة مرة أخرى.
واصطف الشعب على جانبي الطريق خارج المدينة من قصر الملك الشرقي حتى مدخل طريق الكباش الذي زينه أمنحتب الثالث الكبير وجعل على جانبيه صفين من تماثيل الكباش رمزا «لآمون». وهناك وقف الحراس يمنعون الناس من اجتياز مداخل المعبد، إلا العظماء الذين كانوا يستطيعون الاقتراب من فرعون.
ولما علت الشمس فوق أفق الشرق، أقبل «توت عنخ» الشاب زوج الأميرة الملكية راكبا عربته الحربية يجرها اثنان من الجياد البيضاء، ووقف فيها يمسك بأعنة الخيل بيمناه، ويقبض على عصاه الذهبية بيسراه، ولم يلبس تاج القطرين الذهبي المزدوج، بل وضع حول رأسه إكليلا يمثل الحية الملكية ترفع رأسها من أمام. وعلى مدخل طريق الكباش وقف كهنة الهيكل بملابسهم الكتانية البيضاء ينشدون الأناشيد بأصوات تملأ القلوب خشوعا.
وكان «توت عنخ» نحيل الجسم، تعلو وجهه صفرة مثل صفرة النرجس الذابل، وتعتري جبينه بين حين وآخر سحابة من العبوس، وتختلج عيناه في قلق يحاول أن يخفيه تحت ستار من الوقار والهدوء. كان مظهره ينم عن معركة خفية تثور في حنايا صدره، ولكن الناس لم يلتفتوا إلى شيء مما بدا عليه؛ لأن تيار الحماسة جرفهم، وخلعت بهجة العيد ورونق الموكب على فرعون نورا وضاء فلم تقع منه العيون إلا على صفاء وسناء وبهاء.
وسار الملك بعربته بين صفي الكهنة تحف بهم التماثيل البيضاء البراقة حتى دخلوا إلى فناء المعبد، فسجد من هناك جميعا من أعيان وأمراء، ومضى الموكب في سبيله والكهنة من أمامه حتى بلغ صدر الفناء الكبير، ونزل من عربته متجها نحو العرش الذهبي القائم تحت مسلة تحوتمس العظيم.
وكانت ساحة المعبد مثل غابة من الأعمدة الباسقة والمسلات ذات الرءوس الذهبية التي تشير إلى كبد السماء حيث يلمع ضوء حوريس، وزادها كهنة المعبد رونقا بما جعلوه بينهما من أشجار ثمينة نقلت إلى هناك من أقاليم بونت البعيدة، تتخللها الأعلام وسعف النخيل والزنبق المائي في أوعية من المرمر الشفاف. وكان الهواء عطرا بما يفوح من مجامر البخور من عبق الند والعود والمر واللبان.
وجلس توت عنخ على العرش ووقف حوله القواد والأعيان على ما رسم لهم من المواضع، وطاف الكهنة بتماثيل آمون حول الساحة، والكاهن الأعظم يسير أمامهم يحمل تمثالا ذهبيا وهم ينشدون آيات من الدعوات والصلوات. وما زالوا حتى بلغوا مكان العرش، فوقفوا ووقف الأمير الشاب ليحيي صورة الإله المنتصر. فأشار الكاهن الأعظم إليه بالتمثال الذهبي، واتجه به نحو حرم المعبد، وخر الناس جميعا ساجدين. حتى إذا بلغ الكاهن قدس الأقداس فتح الباب ودخل، وتبعه الملك وأغلق من ورائهما المصراع. وخيم الصمت رهيبا من الموقف العظيم في الخلوة الخاصة التي لا يطلع على سرها إلا من يتجلى لهم آمون: الكاهن الأعظم وفرعون.
وكانت حجرة قدس الأقداس مظلمة لا تضيئها إلا ذبالة ضئيلة في قنديل من الذهب، لا يكاد أحد يتبين في ضوئها شيئا سوى ظلال متحركة يلقيها اللهيب الخافت المتراقص في الأركان.
Unknown page
ولما صار الملك وحده مع الكاهن استلقى خائرا على كرسي في جانب المذبح، ورمى عصاه الذهبية، وأن أنة ضعيفة بصوت لا يكاد يسمع، فقال له الكاهن بصوت رقيق: أي بني، شملتك رحمة آمون ...
وكأن هذه الكلمة قد نفست عن مرجل فوار، فما كاد الشاب يسمعها حتى انفجر قائلا: أيها الشيخ، أمسك عن هرائك. فنحن هنا وحدنا لا يسمعنا غير الحق. والناس جميعا من وراء هذا المصراع لا يسمعون.
فقال الكاهن في هدوء: أعرف أننا هنا وحدنا يا زوج ابنة الآلهة، يا وارث الفراعين. وأعرف أن الحق يسمعنا؛ ولذلك أطلب لك رحمة آمون.
فصاح الشاب في غيظ: أما كفاك أنني تحملت ما تحملت من الأكاذيب في ملأ الناس؟ أما كفاك أنني كتمت ما في نفسي وخالفت قلبي وأحنيت رأسي لهذا التمثال الأصم؟
فقال الكاهن وفي صوته هزة خفيفة: إنك يا بني ما زلت شابا، وقد يغتفر للشاب أن يشك. ولكن هذا التمثال رمز الحق.
فصاح توت في غيظ: إنني لا أشك أيها الشيخ، إنما أنطق بعقيدة لن تستطيع أن تزيلها من قلبي، هي عقيدة الحق الذي لم يعرفه سوى الملك الأعظم أمنحتب «أخناتون» الذي تسمونه المجرم.
فتراجع الكاهن إلى الوراء وقال في صيحة مكتومة: أما زلت تذكر المجرم أخناتون؟ ألم توافق على نبذ إلهه المزيف؟ ألم تتزوج من الأميرة «عنخ سنب»؟ أما سميت نفسك «توخ عنخ آمون» ورضيت أن تلعن المجرم في ملأ من الناس؟
فصاح «توت» غاضبا: نعم رضيت، وهذا ما يجعلني أمقت نفسي. رضيت لأنني لم أجد بدا من الرضا. إنني هنا لا أنطق إلا بالحق لأن كتمانه يعذبني. أتريدني على أن أخادع نفسي وأنا في خلوتي هنا؟
قل الحقيقة سافرة أيها الشيخ. قل إنك تطلب مني أن أطيعك أنت. قل إن «آي» الكاهن الأعظم قد انتصر، وإنه يأمر «توت» الصغير أن يذعن له. ليس هو آمون الذي يريد مني الإيمان به، بل هو أنت الذي تطلب مني أن أخضع لك. أنت «آي» الذي تطلب مني أن أعبدك وليس آمون ذلك التمثال الأصم.
وكان الشيخ يسمع هذه الصرخات الغاضبة وهو فاتح عينيه في حنق يحاول أن يخفيه. فلما انتهى الشاب قال الكاهن بصوت خافت: ثم ماذا؟ ...
Unknown page
فقال «توت»: لا شيء إلا أن تكون صريحا معي هنا. لقد كنت أنا صريحا مع نفسي ومعك عندما رضيت بتغيير اسمي وتركت اسم «آتون»، فقد قلت لك عند ذلك إنني أذعن من أجل التاج. فأرجوك إذا خلوت معي ألا تطلب مني أن ألغي عقلي وأعبد تمثالا لكبش صنعته أيدي النحاتين.
فلم يقو الكاهن على تمالك نفسه وصاح غاضبا: حسبك يا ابن الشعب! •••
فوثب «توت» على قدميه صائحا: بل أنا الملك المقدس. أنا زوج الأميرة عنخ سنب.
فأجاب الكاهن بصوت أجش: إنك لا تمت إلى الملوك بنسب، فما أنت إلا زوج ابنة قد تموت غدا.
فرفع الملك رأسه ووقف منتفضا، ثم أخذ صولجانه من فوق المذبح وأراد أن يتكلم، ولكنه غص بريقه من الغيظ فلم ينطق. ونظر الكاهن الشيخ إليه فاتحا عينيه الواسعتين في ثبات وسيطرة. وبقي «توت» لحظة ينظر إلى عيني الكاهن لا يستطيع منهما فكاكا، ثم تخاذل واضطرب وتهالك على مقعده وتقدم نحوه الشيخ حتى صار لا يفصل بينهما إلا قيد شبر، فطرفت عينا الشاب وأن أنة تشبه صيحة مكتومة، فقال له الكاهن في صوت هادئ: المجد لآمون.
ثم وضع يده على كتفه وهو لا يزال يحدق في عينيه، واستمر قائلا: سألقي عليك قصة قصيرة قد تكون سمعتها من قبل في دروسك. نحن نحتفل اليوم بعيد «أوبت» تذكارا لليوم الذي اختار فيه الإله «آمون» جد زوجتك الملكية تحوتمس الكبير. كان تحوتمس كما تعلم كاهنا لا أمل له في الحكم؛ لأنه لم يكن سوى ابن جارية لا تجري في عروقها دماء الملوك. وكانت أخته «حتاسو» هي الأميرة الملكية الشرعية. ولكن آمون رضي عن تحوتمس واختاره في مثل هذا اليوم للملك؛ لأن تمثاله الذهبي وقف أمامه في أول دورة من دورات الاحتفال، ومن ذلك اليوم صار تحوتمس الكاهن ملكا لمصر وسيدا للقطرين.
هذا هو فرعون الذي لم تعرف البلاد سيدا مثله ببركة آمون. أما سمعت بهذه القصة من قبل؟
فحدق «توت» في عيني الكاهن لحظة، ثم ألقى برأسه في عنف على يديه واهتز جسمه في نشيج صامت. فوضع الكاهن يده على رأسه ومر عليه في عطف وقال بصوت رقيق: شملتك رحمة آمون يا ولدي. عندما تخرج من هنا سيدور تمثال الإله دورته في الساحة الكبرى، وستكون جالسا على العرش المقدس، وسأقول كلمتي على مسمع من رجال الدولة والأمراء والكهنة، وسينصت الجمع كله ليسمع ما تجيب به، فإذا أجبت وقف تمثال آمون أمامك كما وقف أمام تحوتمس، وإلا ...
قال هذا ثم سار رافعا رأسه متجها نحو الباب، ففتحه ووقف ينتظر حاملا التمثال الذهبي. فقام توت فاترا من مقعده وسار وراءه مطأطئ الرأس، وكانت على وجنتيه بقعة حمراء واسعة تتقد في وسط صفحة وجهه الأصفر. وسار الكاهن عائدا إلى الساحة والملك يسير من ورائه، وخر الجمع المحتشد سجودا، حتى بلغا موضع العرش وجلس الملك عليه. ثم قام الكاهن الأعظم بين يديه فألقى في المجامر حفنات من العود والند والمر، ثم رفع يديه في هدوء وأخذ يرتل نشيدا وهو يدور بتمثال آمون الذهبي حول فناء المعبد، ثم صاح بأعلى صوته: «المجد لآمون!»
فقام «توت عنخ» عن عرشه وأجاب بصوت ضعيف: «المجد لآمون!»
Unknown page
فتقدم الكاهن إلى الملك فوضع يده على رأسه فمسحه بالعطور وقال له: أيها الملك المقدس، انهض، وتلق بركة آمون.
فسجد الجميع مرة أخرى، وقام الملك مترنحا ثم أحنى رأسه وقال مرة أخرى: «المجد لآمون!»
وعلت عند ذلك ضجة عظيمة من الجمع العظيم: «توت عنخ حبيب آمون.» وعلت أناشيد الكهنة تدوي بين جدران المعبد العظيم. ولم يلحظ أحد ما اعترى الملك من اضطراب، ولم يسمع أحد تلك الأنة العميقة التي ترددت في صدره تشبه الحشرجة وهو يقول في ألم: أواه!!
شاءول بن شمويل اللاوي
«ما زال المستعبد يحن إلى الحرية وينطق بالأمل فيها، ولكنه قلما يقوى على أعبائها!»
كان لي ولع بالتجوال في الصحراء منذ الصبا، ففيها كنت أملأ صدري من الهواء الصافي الذي لا تعكره أنفاس هذه الإنسانية المزدحمة، وكنت أجد في سمائها جلاء لبصري، وفي عمق سكونها سلاما لنفسي. كنت أنقل عيني بين رمالها الصفراء فأجد راحة لا أجد مثلها بين الحقول الخضراء أو على شاطئ اللجة الزرقاء. فإذا سرت فيها يوما من أيام الشتاء وقد غسل القطر رمالها، كان من أبدع المناظر عندي منظر حصبائها تلمع مختلفة الألوان في قيعان الجداول الصافية، تزري باليواقيت واللآلئ.
وقد جمع حب التجوال في الصحراء بين قلوب مختلفة الميول متباينة الطباع، ألفت الصحراء بين قلوبهم؛ لأنها كشفت لكل منهم مخبوء طبع صاحبه، إذ لا شيء يكشف حقائق الناس مثل البعد عن زخارف المدينة وغشاواتها الخادعة. فهناك في الصحراء يقابل الإنسان أخاه وجها لوجه، ويقابل الحياة صريحة لا تمويه فيها.
وكان صديقي الذي أؤثر صحبته في هذه الجولات صديقا قديما منذ أيام الطفولة، وكنا كلما خرجنا معا إلى قلب الصحراء تبينت لنا تفاهة الحياة المتكلفة التي نحياها بما فيها من حدود وأوضاع وعادات ورسوم وعقائد. كان كل منا يرى في الآخر أخا من بني الإنسان، لا يحتاج معه إلى رباط أوثق من علاقة الإنسانية.
ولقد طالما تساءلنا فيما بيننا إذا ما خلونا إلى النجوى تحت النجوم المتلألئة السرمدية عن جوهر تلك الحدود التي يخلقها الناس فيما بينهم، وكثيرا ما كنا نعجز عن الجواب.
وقد قصدت مع صديقي هذا إلى برية سيناء في بعض أيام الشتاء، وكنا نسير يومنا كله على هينة في سيارتنا، حتى إذا أدركنا المساء ملنا إلى أقرب واد فقضينا فيه الليلة، حتى يطلع الصباح فنستأنف السير معرجين على كل ما نمر به مما يسترعي أنظارنا. وكنا نجد في ذلك كله مجالا فسيحا للتأمل والدرس.
Unknown page
وفيما كنا نسير في أصيل اليوم الثالث من رحلتنا، سمعت صاحبي يصيح فجأة: اسمع ...
فنظرت إليه فوجدته يحدق بنظره في ناحية عن يسارنا بها مدخل واد ضيق، وقال وهو يوقف السيارة: انظر إلى هذا الموقع. إن شيئا في مظهره يأخذ بنفسي.
فتأملته لحظة فإذا هو يشبه فناء بيت من تلك البيوت التي يصفها علماء آثار ما قبل التاريخ، عندما كان الإنسان يتخذ من الكهوف منازل قبل أن يعرف سر البناء. وشعرت بشيء يجذبني إليه. فقلت لصاحبي وأنا أنحدر إلى الوادي: إن التمتع بالصحراء لا يتم لمن يسير على مثل هذه السيارة السريعة.
فأجابني صاحبي في ابتسامة عابرة: حقا، إن السيارة هنا دخيلة، إنها تدنس أرضا خلقها الله لتكون وادعة مطمئنة راضية بسير إبلها.
وكان يسير إلى جانبي ويحدثني وأنا متجه بكل اهتمامي نحو مدخل الوادي. ولو كانت الجان تتخذ بيوتا لما كانت تختار إلا مثل هذا المكان.
وبعد جولة قصيرة في الوادي بدا لنا أن نقضي الليلة هناك، فقد كان منزلا طبيعيا لمن يمر بذلك الجانب من الصحراء. وجلسنا بعد ساعة إلى جانب صخرة قائمة في وسط الفناء الفسيح الذي ينفرج من وراء المدخل الضيق، وأعددنا عليها طعامنا وجعلنا نضرب في شعاب الحديث، كأننا على مائدة في فندق عظيم في عالم مسحور.
وقلت لصاحبي: كم من الناس أتوا قبلنا إلى هذا المكان وجلسوا حول هذه الصخرة كما نجلس؟ وكم من أجيال من البشر مرت من مدخل هذا الوادي إذا عرجت لقضاء ليلة هنا في أسفارها الطويلة؟
فقال صاحبي: لعل هذه الصخرة كانت مذبحا مقدسا تنحر عليه القرابين للآلهة التي لم يفهم الناس سرها؟
والحق أنني فطنت عند ذلك إلى سر الرهبة التي أحسستها منذ دخلت إلى ذلك الفناء الفسيح.
وجلسنا لحظة في صمت ننظر فيما حولنا، وخطر لي أن هذا المكان البعيد ينطوي في صمته على أسرار عميقة.
Unknown page
وقلت لصاحبي: ألسنا نشبه بني إسرائيل وهم يغادرون مصر هربا من طغيان فرعون؟ ألست تضيق ذرعا بالإقامة في المدن المزدحمة وبين المجامع المنافقة؟ ألست تحس هنا لونا من الحرية لا تجدها في ربوع المدينة؟
فأجاب: هذا ما كنت أفكر فيه منذ لحظة.
وجعلنا نتذاكر بعض ما تردده الكتب المقدسة من قصص موسى وقومه حتى فرغنا من الطعام، وقمنا نمشي رويدا في أطراف المكان الساكن.
وكانت لي منذ صغري عادة سيئة: أن أخبط بقدمي ما يعترضني من حجارة، فجعلت - كلما مررت بحصاة - أدفعها كما أدفع الكرة، وما كان أشد عجبي عندما خبطت قطعة مستديرة فرأيتها تتدحرج خفيفة كالكرة، فتبينتها فإذا هي عظام جمجمة آدمية.
فصحت بصاحبي: إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية!
فقال بتهكمه الهادئ: أتقصد أن كائنا بشريا مات هنا؟
فقلت في شيء من الاهتمام: أقصد أنه قد وقف هنا بعض إخواننا في الإنسانية الذين مضوا قبلنا، وكانت العواطف تهزهم كما تهزنا وتعصف بهم وتدفعهم وتؤدي بهم إلى المآسي كما تفعل بنا. ونحن اليوم لا نستطيع إلا أن نشعر بآلامهم ونرحمهم مع أننا لا نعرفهم. أتنكر العلاقة القوية التي تربط أجيال البشرية؟
فتبسم وهز رأسه وسار يتأمل جوانب التلال ويميل بين حين وآخر إلى بعض حجارتها فيفحصها ويبقي منها في يديه قطعا يريد أن يحتفظ بها كما كان يفعل دائما في جولاتنا.
فقلت له لأنتقم من تهكمه: إنك لا تعبأ إلا بهذه الحجارة يا صديقي. ألا يهمك كل هذا العالم السحري الذي يحيط بنا؟
ولكنه مضى في سبيله يميل هنا أو هناك كأنه لم يسمع مني شيئا. وملت على العظمة المستديرة لأفحصها فإذا بي أرى عظمة أخرى قريبة منها قد غمر الرمل أكثرها، فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها حتى استخرجتها فوجدتها تتصل بهيكل آدمي كامل مدفون هناك. فاعتراني انقباض شديد واسترجعت، وجمعت العظام المنثورة التي وجدتها قريبة مني وجعلت أعيدها إلى مدفنها وأجمع عليها الرمال مما حولي حتى لا أزعجها في مقرها الذي ثوت فيه تلك السنوات الطويلة. وفيما أنا في ذلك بدا لي سطح من الخشب تحت طبقة الرمل التي أزلتها بيدي لأسويها فوق العظام، فثارت دهشتي مرة أخرى وتركت ما كنت فيه، وأقبلت على ذلك السطح الخشبي فكشفته وأخذت أحدق فيه بنظري، فوجدت عليه نقشا غريبا. فدفعني ذلك إلى أن أحفر ما حوله حتى أخرجته، فوجدته صندوقا صغيرا طوله نحو نصف متر في عرض أقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه. وكان صديقي قد عاد يسير نحوي حتى اقترب مني، فلما رأى الصندوق أمامي أقبل يسعى نحوي في اهتمام عظيم، وقال: أراك قد كشفت شيئا يستحق الاهتمام.
Unknown page
ثم أخذ يساعدني على تنظيف الصندوق مما عليه من الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فوجدنا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دب إليها شيء من الفساد، وكان عليها خط بقلم غريب يميل لونه إلى السواد. فنظر صاحبي إلي وقال: إنها لقية ثمينة!
فقلت له: حقا إنها كذلك، ولا شك في أن لهذا الصندوق شأنا مع هذا المقيم في الحفرة إلى جانبه.
وأشرت إلى الحفرة التي دفنت فيها بقية العظام. وقضينا الليلة التالية في حديث متشعب عن هذه الإنسانية القديمة التي كانت منذ ألوف السنين كما هي اليوم تضطرب ولا تعرف السلام. ولما عدنا إلى القاهرة كان أول همنا أن نذهب إلى صاحب لنا من علماء الآثار ليساعدنا على كشف السر الذي تنطوي عليه الكتابة الغريبة.
وقضى هذا العالم حينا في فك تلك الكتابة حتى نسيت أمرها أو كدت أنساه، لولا أن جاء صاحبي إلي ذات مساء وهو يلوح في وجهي بلفة من الأوراق قائلا: ألا تذكر رحلة سيناء؟ لقد أتم صاحبنا فحصه واستطاع أن يفك رموز الكتابة الغريبة. «كانت الجلود كلها مكتوبة بالخط الشعبي الذي كانوا يكتبون به في دواوين مصر القديمة في عصر الإمبراطورية.»
فتذكرت رحلة الصحراء والصندوق والجلود البالية المنقوشة بالخط الغريب، وسألته: وما هذه الأوراق في يدك؟
فقال: هي ترجمة عربية فصيحة.
وجلس إلى جانبي وفتح الأوراق وأخذ يقرأ: «أنا شاءول بن شمويل بن شمعون، من عشيرة اللاويين سادة إسرائيل ...»
ثم رفع وجهه إلي قال باسما: أليس هذا اسما جميلا؟
وكان شوقي إلى سماع الترجمة عظيما، فقلت في لهفة: هذه الشينات لا تعجبني، ولكن استمر ...
فاستمر يقرأ: «كنت بمصر مع قومي، وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، وكنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير «راحا ترع»، ولكني عزلت من خدمته عقب الحوادث المشئومة التي جرها النزاع الدموي بين الكهنة وبين «أخناتون»، فطردت من خدمتي؛ لأنني مثل سائر قومي آمنا بالإله آتون، الإله الواحد الذي تدين له الخلائق جميعا، آتون الذي يشرف على الكون من سمائه ويحييه بأنواره ذات الأسرار العميقة.
Unknown page
ثم وضعت بعد ذلك حول رقابنا أغلال العبودية، وحشرنا في البراري لنعمل اللبن من الطين لبناء مدينة بيتوم، تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي تشبه خشب السنط.
وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر علينا شتاء جاء شتاء آخر أشد منه بردا، حتى امتلأت قلوبنا غيظا وحقدا.
ودفعنا اليأس والألم أخيرا إلى أن نضرب ونقاوم، وأخيرا تحرك رجل امتلأ قلبه بالرحمة علينا، فكان يزورنا في الليل ويواسينا، ولكنه دافع يوما عن أحدنا فقتل رجلا مصريا واضطر إلى الهرب.
وكاد اليأس يغلب الأمل في قلوبنا، لولا أن عاد الرجل الطيب إلينا بعد غيبته، وأخذ يدعونا إلى ترك مصر والخروج معه إلى الصحراء. وكان يجمعنا في الليل خفية ويؤكد لنا أن وراء البرية أرضا فسيحة يستطيع الناس أن يعيشوا فيها أحرارا ويعبدون الإله الذي يريدون عبادته.
ولكن الناس كانوا يخافون من البرية، ولا يجرءون أن يخرجوا من أرض مصر؛ لأنهم كانوا في الحقيقة يخشون الجوع أكثر من حبهم للحرية. نعم، فالناس دائما يفضلون أن يشبعوا بطونهم على أن يعيشوا أحرارا.
وأخيرا أمرنا الرجل الحكيم بالاستعداد للرحيل، فخاطرنا وعزمنا جميعا على أن نسير وراءه إلى الصحراء.
وطلع علينا الفجر يوما من أيام الربيع ونحن نغطي وجه الأرض في قافلة لا أول لها ولا نهاية، وسرنا وراء الحمير التي حملنا فوقها كل ما كنا نملك من المتاع. ولست أنكر أننا قد خدعنا جيراننا المصريين وأخذنا نحاسهم وذهبهم مدعين أننا سنردها إليهم بعد العيد. وهذا العمل سرقة بغير شك، ولكنه كان انتقاما منهم لشدة غيظنا.
وقابلنا في هجرتنا صعابا وشدائد، وتعرضنا لأخطار جمة نجونا منها ببركة إلهنا الذي هاجرنا من أجله، وكان الرجل الطيب يصلي لله من أجلنا كل صباح وكل مساء؛ لأن موسى - وهذا هو اسمه - كان محبوبا من الله. ولكنا وجدنا بعد قليل أن زادنا قد نفد، ولم نجد حولنا زرعا ولا صيدا، وكان الماء في الآبار ملحا، فعادت الحيرة تملأ قلوبنا؛ لأن الحرية التي طلبناها كانت تهددنا بالموت جوعا وعطشا. وصرخنا إلى موسى نطلب منه أن يعطينا خبزا وماء، وأعطانا موسى كل ما بقي معه، فلم يكفنا إلا قليلا، وصرنا ننظر إلى أولادنا وهم يبكون من الجوع والعطش وتتحرق عليهم قلوبنا جزعا، حتى انتهى بنا الأمر إلى أن صحنا بموسى: «أعدنا إلى مصر؛ فالإنسان قد يحيا مع العبودية، ولكنه لا يحيا وسط الصحراء بالحرية وحدها.»
وغضب موسى وظهر عليه الاضطراب، وصاح بنا يؤنبنا، ولكن لغته كانت سقيمة؛ لأنه لا يحسن لغتنا وكنا لا نفهم منه إلا بعض ألفاظ عندما كان يتكلم بلسانه المصري.
وجعل هرون أخوه يترجم لنا أقواله؛ لأنه كان يجيد لساننا، فلم نستمع إليه لأن الجوع كان يقرص أمعاءنا وبكاء أطفالنا يوجع قلوبنا، وصحنا نطلب العودة إلى مصر لنأكل من فولها وعدسها وبصلها. وفي الصباح ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى جاشان. فوجدناه يصلي، فانتظرنا حتى فرغ من الصلاة وأقبل علينا بوجهه متهللا، وقال: «اذهبوا إلى ذلك الوادي.»
Unknown page
وأشار بيده إلى جهة مشرق الشمس، ثم قال لنا: «هناك تجدون على الأرض حبا يشبه القمح، فاطحنوه واعجنوه بالزيت وكلوا منه.»
ثم أشار إلى السماء وقال: «انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة التي تأتي من البحر، إنها رزق طيب، فكلوا من لحومها تغنكم عن فول مصر.»
ولكن السلوى والمن لم يكونا مثل الفول والعدس، والحرية كانت تكلفنا أن نسعى وأن نفكر. كانت الحرية ثقيلة على أكتافنا؛ لأن الذين اطمأنوا إلى العبودية يفزعون من التفكير لأنفسهم.
وأخيرا وصلنا في سيرنا إلى الجبال العالية التي تغطيها الثلوج في الشتاء، وألقينا رحالنا في «ريفيديم»، وكان البرد شديدا لم نقو على تحمله بعد السير الطويل، فتساءل الناس: «هل هذه هي الحرية التي خرجنا نطلبها؟» ولكن موسى كان رجلا مهيبا لم يجرؤ أحد على الصياح في وجهه.
فما كاد يصعد إلى الجبل العالي ليناجي ربه حتى اجتمعنا وجعلنا نوقد النيران ونرقص، وصنعنا بعض الشراب من بلح واحة «ريفيديم»، وصنعنا لأبيس تمثالا من الذهب الخالص وأقمنا لأنفسنا عيدا. نعم، فإن العبيد ينسون ذل العبودية وهم يرقصون. ولا أستطيع أن أصف ما كان من موسى عندما عاد إلينا ورآنا على تلك الحال. لقد غضب وحطم التمثال وأوقع بالرؤساء وجثا هرون على ركبتيه يعتذر ويتنصل من ذنبنا.
وأمرنا موسى بالتأهب لغزو أرض «موآب»، كأنه أراد أن يعاقبنا على خطئنا. فوقع علينا ذلك الأمر مثل الصاعقة، وصاح الناس: «هل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ هل معنى الحرية أن نحارب ونموت؟»
فانفجر موسى غاضبا، وقال: «إن الحرية أغلى ما يملك الإنسان في الحياة، فحاربوا لكي تكونوا أهلا لها.»
ولكنا لم نفهم أقواله، وقعدنا على الأرض عازمين على العصيان، وقال بعضنا له في وقاحة: «اذهب أنت وربك فقاتلا.»
فغضب موسى غضبا لم يسبق له مثله، وصاح بنا: «أيها العبيد، إنكم قد نشأتم في الذل فلا تعرفون الكرامة، وعشتم في الخسف فلا ترون في الحياة ظلما تأبونه. إن دمكم لا يحمى ولا يعنيكم إلا الطعام. فعودوا إلى مصر وارجعوا إلى فولها وبصلها وعدسها وإلى عبوديتكم فيها. لن يفهم جيلكم هذا للحرية معنى؛ لأنه لا يعبأ إلا بالطعام. فها أنا ذا سائر إلى الأمام، ولمن شاء منكم أن يرجع إلى مصر. ستبقون حيارى حتى ينقرض هذا الجيل وينشأ جيل من بعده يستطيع أن يدرك قيمة الحياة الحرة، وعند ذلك يستطيع الأحرار غزو أرض موآب.»
ولما انتهى موسى من قوله سار مسرعا وأمر بالرحيل ضاربا في البرية على غير هدى.
Unknown page