فالتجديد إذن كامن في ماهية الموسيقى، والفنان الناجح هو الذي يتجاوب مع عصره ويأتي في إنتاجه بما يعبر عن روح ذلك العصر. ولقد كانت الأسماء الكبرى في تاريخ الموسيقى، مثل باخ وبيتهوفن وفاجنر، مرتبطة على الدوام بتجديدات معينة أتت بها، وبأساليب لم يألفها الفن من قبلهم، وبثورة ساخطة على القواعد الجامدة التي تسود في عهدهم. وإذا كنا اليوم نعد كلا من هؤلاء العباقرة «كلاسيكيا» فليس ذلك إلا لأن فنه قاوم فعل الزمان مدة طويلة، أما بالنسبة إلى عصورهم فقد كانوا جميعا من المجددين، بل كان الكثيرون منهم يعدون من الشواذ الذين لا يفهمون؛ فلكم اتهم بيتهوفن في عصره بالغموض والتعقيد، وخاصة منذ أتى بسيمفونيته الثالثة، ولكم لقي فاجنر من السخرية؛ ففي فضيحة «تانهويزر» في باريس عام 1860م ما يشعر بمدى سوء الفهم الذي يلقاه فنان كبير وسط جمهور قد يكون مثقفا ومهذبا.
والحق أن عنصر التجديد أساسي في تذوقنا الفني للموسيقى؛ فمن التجارب التي ألفناها جميعا، أن القطعة الواضحة التي نعجب بها منذ الوهلة الأولى، وندرك كل جوانبها دفعة واحدة، كثيرا ما تفقد هذا الجمال بعد أن يتكرر سماعها، وتصبح مملة ممجوجة. أما القطعة التي نجد في بعض عناصرها غموضا غير مألوف لدينا، فالغالب أنها تزداد جمالا بتكرار سماعها، وترتفع قيمتها في أعيننا كلما ازدادت عناصرها الغامضة اتضاحا. وهنا يكون في التجديد الذي يخرج - إلى حد ما - عن المألوف ما يعلو بالقيمة الفنية للإنتاج الموسيقي.
ولقد غدت الحاجة إلى الخروج عن القواعد الموسيقية المألوفة ماسة في أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد اكتشف الفنانون في نهاية الأمر أن النظام الموسيقي الغربي، الذي يقتصر على اثنتي عشرة درجة، ضيق إلى حد يبعث على الاختناق؛ فلو تذكرنا أن كبار الموسيقيين، من بالسترينا إلى فاجنر، ومعهم المدارس الروسية والإسبانية والفرنسية المختلفة، لم يكن في متناول أيديهم جميعا، في اللحن وفي الهارموني، وفي الآلات المنفردة والفرقة الكاملة، في الأغاني والتراتيل، في الأوبرات والدرامات الغنائية؛ في كل هذا لم يكن في متناول أيديهم سوى اثنتي عشرة درجة موسيقية، عندئذ يتبين لنا أن من الصعب أن نكتب لحنا جديدا كل الجدة، وأن إمكانيات التوافق اللحني تضيق على الدوام - خاصة وأن هذه الدرجات الاثنتي عشرة لا تقف كلها على قدم المساواة، بل تفضل على الدوام سبع درجات منها، وتظل للباقيات أهمية ثانوية بالنسبة إليها. •••
هكذا كانت مشكلة الموسيقى في أواخر القرن التاسع عشر: لغة تشكو من قلة حروفها، صيغت بها كل المعاني التي يمكن أن تنطوي عليها تلك اللغة، وفنانون مخلصون لا يودون أن يكونوا من الأتباع المقلدين لهذا الفنان أو ذاك، بل يريدون البحث عن جديد، شأن كل فنان صادق؛ فكان المخرج الوحيد من هذه المشكلة هو التخلص من الفقر الشحيح الذي تتصف به مادة الموسيقى، وتوسيع نطاق تلك اللغة الضيقة النطاق، والقيام بانقلاب حاسم في القواعد والنظم الموسيقية. •••
ولقد وجد هؤلاء الفنانون الثائرون في أبحاث علم الأصوات ما يبرر دعوتهم إلى التجديد؛ فقد أثبت ذلك العلم بطريقة قاطعة أن النظام الحالي الذي تسير عليه الموسيقى ليس نظاما ثابتا تسير عليه الروح البشرية ضرورة، بل هو نظام عارض يتباين تبعا للبيئات والعصور. وهكذا يخرج عن قيود الأزلية ميدان جديد من ميادين الروح البشرية، وهو الموسيقى.
فلكل نظام موسيقي سلم معين، وهذا السلم هو الأصوات التي تثبت عندها الأذن بين مختلف الدرجات التي تتراوح بين نغمة معينة، ونفس النغمة في طبقة أعلى منها؛ أي الصوت كما يغنيه رجل وكما تغنيه امرأة مثلا؛ ففي كل هذه الأصوات التي تبلغ عددا هائلا، تقف الأذن عند أصوات معينة لتستطيع تمييزها مما يسبقها وما يليها، وتلك هي التي تكون السلم الموسيقي. ولذلك السلم في الموسيقى الغربية درجات سبع محدودة، وله في غير الموسيقى الغربية نظم أخرى متباينة كل التباين؛ فلكل من الموسيقى الشرقية والموسيقى الزنجية، والموسيقى اليونانية القديمة، سلالمها الخاصة. وإذن فالسلم الغربي الشائع ليس مبنيا على قوانين طبيعية ثابتة، وليس تعبيرا عن ميل غريزي، بل هو نتيجة مبادئ جمالية خاصة اتخذها نظام موسيقي معين.
ولقد اعتادت الموسيقى الكلاسيكية أن تسير على نظام خاص لا تحيد عنه؛ فالسلم العام ذو السبع درجات، تختلف أسماؤه تبعا لأسماء الدرجات التي يبدأ منها وينتهي عندها، وإن كان هذا الاختلاف في الأسماء لا يؤثر بطبيعة الحال على المسافات بين الدرجات، والقطعة الموسيقية كانت تبدأ من سلم معين، لنسمه سلم «دو» مثلا، وتنتهي بنفس السلم ضرورة. وإذا حادت عنه في الوسط فإنما تنتقل إلى سلالم معينة تربطها بالسلم الأصلي صلة قربى. أما الموسيقى الحديثة، فلم يعد لديها ذلك التجانس النغمي القديم، ولم تعد تطيق البقاء في سلم ذي إشارة واحدة، أو تنتقل إلى غيره بانتظام وتبعا لقواعد خاصة، بل أصبح «الابتكار» هو أن يتغير السلم تغيرا متخبطا؛ ففي كل فترة قصيرة بل في كل زمن وكل نغمة، تتغير إشارة السلم، ويسهل التجديد في هذه اللعبة المسلية الخطرة إلى غير حد.
والحال كذلك في الهارموني بين الأصوات الموسيقية المختلفة؛ فبينما كان الانسجام النغمي يسري قديما بين أصوات تنتمي إلى سلم ذي إشارة واحدة، أصبح الانسجام - إن كان لنا أن نظل نستخدم هذه الكلمة - يقوم بين أصوات تنتمي إلى سلالم مختلفة، بل حدث ما هو أغرب من ذلك؛ إذ أصبح الانسجام يقوم بين أعمدة مختلفة من الهارموني، كل عمود منها ينتهي إلى سلم معين، كأن يوضع عمود من سلم «صول» الكبير تحت آخر من سلم «دو» الكبير مثلا، وتستمر هذه العملية بين أكثر السلالم اختلافا، وعلى الأذن بعد هذا أن تحتمل.
وعلى حين كان الانسجام بين الأصوات في النظام الكلاسيكي يقوم بين أبعاد معينة من هذه الأصوات، بحيث يكفل التناغم بينها، أصبح على الموسيقى الحديثة أن تسعى إلى كشف مسافات جديدة بين أصوات الهارموني؛ فأصبح من المألوف أن يقوم الانسجام بين صوت والصوت التالي له مباشرة، بل بين أنصاف الأصوات بلا تحفظ. وحجة الموسيقيين المحدثين في ذلك أنه لما كان نظام الموسيقى بأسره مبنيا على الاثني عشر نصفا من الأصوات، فلا بد من استغراق كل هذه الأنصاف، أفقيا في اللحن ورأسيا في الهارموني، واستنفاد كل ما بينهما من إمكانيات، مهما كان الصوت النهائي غريبا غير مألوف للآذان. وبينما كان كل نشاز يحل إلى انسجام في الموسيقى التقليدية، أصبحت الموسيقى الحديثة لا ترى ضيرا في بقاء هذا النشاز على ما هو عليه دون التخلص مما ينطوي عليه من تنافر.
وأساس هذا الانقلاب في اللحن وفي الهارموني، هو التحديد الجديد لمسافات الأصوات الموسيقية، كما ظهر بوجه خاص عند «شونبرج»؛ فالمسافة بين النغمة الأساسية ومثيلتها في الطبقة التي تعلو عنها اثنا عشر نصفا من الأصوات، ويقوم السلم المألوف بضغط هذه الأصوات إلى سبعة، بحيث تكون المسافة بين خمسة منها صوتا كاملا، وبين اثنين منها نصف صوت. أما عند شونبرج، فالأصوات كلها تتساوى أهمية، وليس هناك داع لتخطي بعضها وإعطاء بعضها الآخر أهمية خاصة. ومن هنا كان سلمه مكونا من اثنتي عشرة درجة كلها من أنصاف الأصوات (أو التونات).
Unknown page