ذكريات ودراسات
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
لا أستطيع أن أزعم أن معرفتي بالموسيقى ترقى إلى مستوى معرفة الخبراء بأصول هذا الفن؛ فلم أكن في أي وقت من محترفيها أو ممن يؤدونها علنا، كما أنني لم أتلق فيها درسا نظريا أو عمليا واحدا، ومع ذلك فإن في تجربتي الموسيقية ما يستحق في نظري أن يروى؛ لأنها أولا تجربة معتمدة على ذاتها اعتمادا يكاد يكون تاما، ولأنها ثانيا تجربة نفس يغلب عليها حب العقل والمنطق، وتميل إلى الجانب الفكري في الأمور، ولأنها ثالثا تجربة طال أمدها حتى ليمكن القول إنها عاصرت حياتي الواعية منذ بدايتها. ومن هنا فقد اعتقدت أن القارئ قد يجد طرافة في صفحات تحكي له كيف انتقل إنسان يعيش في بيئة شرقية خالصة إلى حب الموسيقى العالمية وفهمها فهما واعيا بجهوده الذاتية وحدها، وكيف احتل فن كالموسيقى مكانه في نفس تبدو وكأنها لا تعترف إلا بما يوزن بميزان العقل الدقيق، وكيف تطورت هذه التجربة من بداياتها البسيطة، ونمت على مر السنين حتى بلغت مستوى رفيعا من النضج والاكتمال.
ولقد كرست أطول مقالات هذا الكتاب لعرض هذه التجربة عرضا توخيت فيه الأمانة قدر ما استطعت. أما بقية الكتاب فيتألف من مقالات ودراسات كتبت اثنتان منها - إلى جانب المقال الأول - للمرة الأولى، ونشرت الأخريات في فترات تمتد من عام 1952م حتى الوقت الحاضر. ولما كانت ظروف نشر هذه المقالات والدراسات لم تسمح بأن يطلع على أية واحدة منها سوى عدد محدود من القراء، فقد رأيت أن من المفيد أن أعيد نشرها مجتمعة في هذا الكتاب.
وسوف يدرك القارئ أن هذه المقالات لم تنشر بترتيب ظهورها، بل لقد حاولت أن أرتبها بحسب تاريخ الموضوعات التي تتناولها. وهكذا يمكن أن يقال إنها تقدم عرضا لجوانب من تاريخ الموسيقى في مراحله المختلفة من العالم القديم إلى العالم الحديث إلى العالم المعاصر. ولست أدعي أنني أقدم بذلك دراسة تاريخية متعمقة للموسيقى، بل إنني لم أهدف إلا إلى إلقاء أضواء على مشكلات أثيرت في مراحل متباينة من تاريخ هذا الفن؛ فإذا استطاعت هذه الخواطر والمقالات والدراسات أن تثير في ذهن القارئ مزيدا من الأفكار، وتزيد من إحساسه بالأبعاد العميقة لهذا الفن الرفيع، فإني أكون قد حققت بها كل ما استهدفته بكتابتها من الغايات.
فؤاد زكريا
القاهرة 1968م
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
Unknown page