واختار لقمان العمر الطويل، وقال: مات قومنا بالريح العقيم، فلأعيشن ما استطعت الحياة، وخيرته السماء بين عمر يطول ما بقيت سبع بعرات لا يمسها القطر، وبين عمر يمتد ما امتدت آجال سبعة أنسر، فاحتقر البعرات، وطلب عمر الأنسر السبعة.
فكان يأخذ الفرخ الذكر، إذا خرج من بيضته، فيربيه، فإذا مات أخذ غيره حتى بلغ النسر السابع وهو لبد.
وأدرك لقمان أن هذا نسره الأخير، وعرف أن كل يوم ينفرط من مدة هذا النسر إنما ينفرط من مدته، وأحس أن أنفاس هذا الطائر إنما هي أنفاسه تتلاحق، فاشتد حرصه عليه، وكثيرا ما ناجاه قائلا: ويحك إنك آخر عمري، فلا تطر بعيدا فوق الجبل فتعرض نفسك للأذى، ليتني كنت اخترت البعرات السبع، إذن لآويتهن من وقع الشمس والمطر وفعل الريح، فحفظتهن الدهر، ألا إنني كنت أحمق يوم علقت عمري على أجنحة النسور، ولكن تبا للبعرات! من يقبل أن يعيش دهره كالبعرة في كن من شمس الدنيا ومطرها وريحها؟
وطوى لبد ما طوى من الدهر، وفي يوم أفاق لقمان فوجد نفسه وهنا، ونظر إلى الجبل حيث كان يقع لبد إذا طار، فلم يره جاثما، فمشى إلى رأس الجبل خائر العزم فأبصر نسره ملقى، فزجره : انهض لبد ، فطار طيرة وهو يضطرب.
فقال لقمان: أتى أبد على لبد، أسفنا على عاد إن أفنتها الريح العقيم في يوم، ألا إن الأبد لريح عقيم، ولكنها بطيئة.
وغزا نفسه هذا اليأس الذي لا معنى له، هذا اليأس الذي يغزو الناس إذا قاربوا الموت فيأبون أن يموتوا قبل أن يقولوا رأيهم في الدنيا كلها، في آخر لحظة.
وسمع لقمان وقع جسد خبط الأرض قريبا منه، فهوى هو الآخر، وحاذى فمه منقار لبد، ومست يده مخلبه.
ولكن كان بين الفم الإنساني والمنقار فرق، وكان بين اليد البشرية والمخلب خلاف.
كان المنقار منطبقا راضيا بالانطباق، وكان المخلب منحلا قانعا بالانحلال، أما الفم الإنساني، فكان برغم الموت لا يزال يقول: لي كلمة أخرى جوهرية، لماذا لا تتركونني أنطقها؟ وأما اليد البشرية، فكانت برغم الموت تدعي أن لها عملا ضروريا لما يكتمل!
نداء العرض
Unknown page