فأجابه الأمير: ذكرني هذا السد بأسطورة الجرذ، فقد سمعت من عجوز أن أميرا من أمرائنا سمي لي مزيقيا، عمرو بن عامر ماء السماء، ركب يوما فأتى هذا المكان، فنظر إلى جرذ ينشب أسنانه في السد، فأدرك أنه سينقبه فيفيض السد وتخرب البلاد ويتشتت العباد، فقفل راجعا إلى بيته ودعا بابنه فأخبره الخبر وقال له: «لا بد من النزوح، ولكن لا بد قبل ذلك من بيع أرضنا، فإذا اجتمع لدي الوجهاء فأغضبني فإني سأزجرك، فتحمس والطمني، فتجدني قد صحت: وا ذلاه ! وحلفت أن لا أقيم في بلد يلطمني فيه ولدي جهارا نهارا، ثم تجدني قد عرضت أرضنا للبيع بثمن بخس، وأظن أن وجهاءنا سيغتنمون غضبي وسيشترون»، وحقا مثل الأب والابن الرواية، المهزلة، وباعا الأرض ورحلا، ثم لم يلبث السد أن انفجر بفعل الجرذ الذي زحزح حجرا من حجارته ربما احتاج إلى سواعد خمسين من الرجال، فنزح من الناس خلق كثير، وأصبحوا وهم المناذرة في العراق والغساسنة في الشام.
وهنا أذن الأمير سيف لنفسه بأن يضحك وقال لمحدثه: شد ما ظلمنا المناذرة والغساسنة حين جعلنا جرذا يغلبهم على السد فيبعدهم عن أوطانهم، وهم من نعلم، قد استطاعوا أن ينشئوا لأنفسهم دولتين عربيتين منظورتين، كلا! ليس الجرذ الذي دفع بهم إلى النزوح، ولئن كان هذا السد، قد نقب من قبل، فإنهم ما كانوا ليعجزوا عن ترميمه، ولقد نقب في زمننا هذا فاستطاع أبرهة أن يصلحه.
وعادت الكآبة فطفت على وجه سيف وهو يتمتم: إن سفن الرومان ذللت البحر الأحمر وحولت عنا طريق الهند ... ليس بدعا أن يقهرنا الأحباش إذا كنا قبلنا أن يكون الجرذ هو الذي جلانا عن بلادنا.
فأجابه أحد الذين يحيطون به: إنها أسطورة أيها الأمير فلا تزعج بها.
فقال سيف: ولكن الأساطير قطع من العقول، وصور من مدى الهمم، بئس ما كافأنا به أجدادنا، بنوا لنا هذا السد العظيم فقابلناهم بأسطورة الجرذ الذي خربه.
فقال الرجل، وقد أدرك مغزى كلام سيف: لا تزال لنا عقول، ولا تزال لنا همم، أيها الأمير، وإننا لنكافئ بغير أساطير الجرذان. اطلب تجد!
الأمير سيف عند كسرى
قالت أم سيف لولدها: «إنك لا تزال تطلب أمرا أظن فيه هلاكك كما هلك أبوك من قبل، فارفق بنفسك يا بني، ولقد هممت بالخروج يوم ارتد أبرهة بفلول جيشه عن مكة، ثم رأيت أن لا تفعل، ونعم ما رأيت يا بني آنئذ، فليس يغنيك هؤلاء الفتية اليمنيون المتحمسون الذين يدفعون بك إلى التمرد، وبعد، فما أنت في ملك الأحباش بمغبون، ولو كان كسرى هذا الذي تتحدث عنه ينوي إمداد اليمنيين بالجند والسلاح لما قال لأبيك: «أكره أن أغامر بجيشي في موامي الأثل والسدر».»
بمثل هذا كانت أم سيف تخاطب ابنها كلما أتاها مستشيرا، وكان سيف لا يستسهل الهدف الذي عكفت نفسه على نشدانه، بل كان يدري أن كلام العجوز ليس خوفا كله وهراء وضعف امرأة.
على أنه كان قد عقد العزم فلا تردد ولا نكوص، وها هي الظروف جميعها مؤاتية، لقد مات أبرهة، ومات خلفه وولده يكسوم، فاعتلى العرش مسروق، ومسروق ليس بالرجل الكفؤ الخطير، والأحباش في زمنه يرون الهدوء مخيما على البلاد، ويحسبون أن ملك اليمن مستتب لهم أبد الدهر.
Unknown page