ولكن هذه ورطة محرجة! فالتاريخ مصر على أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا الأبجدية، ومنهم اقترضها اليونان فانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها.
وكم في التاريخ من قصص مفككة ضاع الكثير من حلقاتها، وإحداها قصة الأبجدية، وإذا كان الإنسان لا يعرف الكثير عن مبدأ التاريخ وألف بائه، فالتاريخ كذلك لا يعرف إلا اليسير عن ألف باء الإنسان.
غير أن بعض المؤرخين غامروا مغامرة، فوفقوا فيها إلى ملء الفراغ في هذه القصة الطريفة.
قالوا: إن المعينيين قبسوا الخط المسند عن الهيروغليفية، بعدما وصلت إلى دور كاد يتعدى الكتابة المقطعية إلى الكتابة بالحروف، وأيد هذا الرأي نقوش وجدت في شبه جزيرة سيناء تحمل شبها بالخط المسند، وكانت للمعينيين صلات وثيقة بشبه جزيرة سيناء؛ لأنها كانت على الطريق التجاري بينهم وبين مصر.
والفينيقيون، ما شأنهم في هذا كله؟ هل أخذوا هم أبجديتهم من شبه جزيرة سيناء أيضا، أم أنهم حملوها معهم من البحرين في شبه الجزيرة العربية؟
لقد أخذت سدول كثيفة تتزحزح عن بعض ظلام التاريخ، فالفينيقيون كانوا على شواطئ الخليج الفارسي قبل أن ينتقلوا إلى شواطئ لبنان، أو أنهم كانوا في شواطئ لبنان قبل أن ينتقلوا إلى شواطئ الخليج الفارسي، ومن الطبيعي أن يكونوا انحدروا جنوبا في شبه الجزيرة العربية، فاتصلوا بالمعينيين وعملوا في سفنهم، واقتبسوا منهم كتابة حملوها إلى شواطئ لبنان وحسنوها
2
فكانت الأبجدية!
فإذا صحت الحكاية، وهي معقولة على الأقل، وجب على أصحاب الخصومة الفينيقية العربية أن يبدلوا نظرا، أو يلتمسوا سببا يمتن الخصومة بعد أن زعزعتها الألف باء.
ولكن برغم كل شيء، سيبقى المعينيون فينيقيين قبل الفينيقيين، ازدهروا عصورا على شواطئ المحيط الهندي، واقتضتهم مصالح التجارة أن يبتدعوا خطا يخف على اليد ولا يغبن حقوق الجيب.
Unknown page