Mabahith fi Ulum al-Quran by Subhi al-Salih
مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح
Publisher
دار العلم للملايين
Edition Number
الطبعة الرابعة والعشرون كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٠
Genres
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات:
مقدمة المؤلف في الطبعة الجديدة:
ظهر هذا الكتاب -بطبعته الأولى- عام ١٩٨٥، ووجد في القراء سلسلة من المحاضرات الجامعية تعالج أدق المباحث القرآنية بأسلوب علمي بسيط يرضي أذواق الطلاب والباحثين ولا يستعصي فهمه على أوساط المتعلمين، لم يكن عجبا أن تقبلته المكتبات الإسلامية والمعاهد العلمية: الدينية والأدبية، بقبول حسن، وأن عملت على نشره بدافع ديني، أو باعث علمي، أو استجابة لكلا الأمرين على سواء.
وإني، بيني وبين نفسي، لأعرف أن الكتاب -في هاتيك الطبعة الأولى- لم يكن يزيد على دروس جامعية لممت شتاتها مما ألقيته خلال عامين على طلاب "شهادة علوم اللغة العربية" في كلية الآداب بجامعة دمشق، ولم يكن لي مطمع في هذه الدروس النظرية أوسع من أن تكون في أيدي أولئك الطلاب مفاتيح الدروس العلمية في التفسير. من أجل ذلك صرحت في تقديمي الموجز للطبعة الأولى بأني توخيت في عرض هذه "المباحث" السهولة والإيجاز، ولم أقصد إلى الاستقصاء والاستيعاب، كما صرحت بأني لم أقم بأكثر من محاولة لتبسيط العلوم الكثيرة المتعلقة بالقرآن، وتقريبها إلى أذهان الباحثين من طلاب الثقافة العربية الإسلامية.
أما هذه الطبعة فيكاد كل بحث فيها يكون جديدًا، إن لم يكن فيما
1 / 5
ألحق به من زيادات ففي صوغ بعض عبارته بأسلوب منقح أكثر أناقة وإشراقا، فقد نهجت في تبويب هذه "المباحث" نهجا أرجو أن يجده القارئ طريفا مبتكرا، إذ جعلتها على أربعة أبواب تترادف هي وفصولها -على رسلها- ترادفا متسلسلا منطقيا، وتتدرج خلال تعاقبها كل مسألة قرآنية لا يسع جهلها أحدا من العرب والمسلمين.
أفردت الباب الأول، بفصوله الثلاثة، للقرآن والوحي، فأسهبت في تفسير ظاهرة الوحي لأنها توطئة طبيعية بين يدي هذه الدراسة القرآنية، كما أسهبت في وصف تنجيم القرآن وأسراره، وأنا حريص الحرص كله على التفرقة بين الأعماق والسطحيات في تدرج التعاليم.
وانتقلت في الباب الثاني إلى تاريخ القرآن، فوصفت -في فصوله الثلاثة- جمع القرآن وكتابته، ورددت هنا على كثير من شبهات المستشرقين و"المستعجمين". وناقشت موضوع الأحرف السبعة كما نطقت بها أصح الوثائق التاريخية، وأظنني في بحث هذه الأحرف أثرت قضايا إسلامية خطيرة جديرة بأن يطلع عليها علماء الإسلام ليبلوا خيرها وشرها، وأرجو ألا يكون فيها إلا خير. وحين عرضت، في أحد فصول هذا الباب، لما طرأ على المصاحف العثمانية من وجوه التجويد، والتحسين، أضفت بعض التحقيقات الجديدة التي انتهيت إليها في نشأة الرسم القرآني وتطوره، وربما كانت هذه الزيادات مفيدة للذين يشتغلون بتطور الخط العربي، ويعملون على إصلاح رسمه.
ولم يكن البابان السابقان -على ما ألحق بهما من إضافات في هذه الطبعة- شديدي التفصيل لدى المقارنة بالباب الثالث الذي قصرته، بفصوله الثمانية، على "علوم الكتاب"، إذ إن هذا الباب وحده استغرق أكثر من نصف الكتاب، وكان لزاما أن يجيء الأمر على هذا النحو، لأني سميت كتابي "مباحث في علوم القرآن"، فلم يكن بد من أن تدور فصوله حول العلوم القرآنية الصميمة بروح في البحث جديد.
وقد امتاز هذا الثالث بكثير من التحقيقات الطريفة، والزيادات
1 / 6
الشافية الكافية، التي سيقدرها حق قدرها كل من تيسر له أن يقرأ الكتاب في أولى طبعاته: أهمها أني ألقيت فيه الضوء قويا ساطعا على معضلة الناسخ والمنسوخ، ولم أكن تعرضت لهذه المعضلة قط حين ظهر الكتاب لأول مرة.
وإني أدعو العلماء في مختلف بقاع العالم الإسلامي إلى قراءة هذا البحث خاصة بإمعان شديد، لما أرجوه من الخير الكثير في وعيه وتفهم مراميه، أو لما أرحب به من نقد علمي مخلص لبعض ما جاء فيه.
وأدعو العلماء كذلك إلى قراءة فصلي "أسباب النزول" و"المكي والمدني"، لأستوثق من صواب متجهي أو أتعرف على مواطن خطئي وسهوي، ولا سيما حين أتحدث في أولهما عن المبالغات أو المغالطات التي وقع فيها المصنفون في أسباب النزول؛ وأميل إلى إنكار "السببية" الحقيقية فيما لبعض الآيات من سبب عام؛ وأجنح إلى الجمع بين السبب التاريخي والسياق الأدبي، بالكشف عن التناسب بين الآيات والترابط بين السور، وتعدية الآيات إلى غير أسبابها، وتخطي الزمان والمكان في رسم "النماذج" الإنسانية متجاوزة كل سبب من أسباب النزول، وحين أتقصى، في الفصل الآخر، المراحل القرآنية الست التي تشمل -في كل من مكة والمدينة- ثلاث فترات: ابتدائية ومتوسطة وختامية، متميزة فيها كل فترة عن الأخرى بما أثارت من موضوعات، وما صورت من مشاهد، وما حكت من قصص، وما سرى في ألفاظها وفواصلها من التنغيم والإيقاع.
وكان يسعني أن أسلك "التفسير" في عداد هذا الباب الثالث؛ إذ كانت مسائل هذا العلم- منذ عصر التدوين- أُمَّ المسائل القرآنية، إلا أنني آثرت إفراده بباب اعتناء به وإعظامًا لشأنه، وضممت إليه أقرب البحوث شبها به وهو "الإعجاز" فإني لا أكاد أتصور تفسيرا للقرآن جديرا أن يؤخذ به إلا أن يكون الجانب البياني بارزا فيه لاستجلاء مواطن السحر المعجز في كتاب الله. وأوشك أن أنادي بوجوب الاشتغال بالتفسير البياني في جميع الكليات الشرعية، العالية والثانوية، في العالم الإسلامي كله، وأخص بالذكر كليات
1 / 7
الأزهر الشريف ومعاهده في مصر، وكليتي الشريعة بجامعتي دمشق وبغداد، لأن الجانب الفقهي الذي تعنى به تلك الصروح العلمية، صانها الله من عبث الأيام، لا ينبغي أن يعدو على الجانب الأدبي، فما عرف التأدب بأدب القرآن إلا متمما للتفقه بأحكامه في جميع العصور الإسلامية، ولا معدل عن أن يظل كل منهما يكمل الآخر في عصرنا الأدبي الحديث!.
ولعل هذا هو الذي حملني على أن أقصر الباب الرابع الأخير- في هذه الطبعة- على التفسير والإعجاز، فتتبعت نشأة التفسير وتطوره، وأوضحت كيف يتيسر تفسير القرآن بالقرآن، وربط هذا كله بمفهومنا الفني الحديث للإعجاز محاولا بث الحياة في مصطلحات البلاغة القديمة لدى تصور التشبيه والاستعارة والكناية وأنواع المجاز، ورددت سحر القرآن -بالمقام الأول- إلى إيقاعه الداخلي، وخصصت هذا الإيقاع بفصل جديد ربما وجده القارئ موجزًا وتمنى أن لو كان أكثر إسهابا، ولكنه في نظري كاف لتكوين فكرة صالحة عن استجماع القرآن كل مزايا النثر والشعر بأسلوب فذ عجاب!.
والله أسأل أن يجعل كل حرف كتبته، وكل سطر سطرته، وكل فكرة دعوت إليها في هذه "المباحث" خالصة لوجهه الكريم.
بيروت غرة جمادى الأولى ١٣٨٥
صبحي الصالح
1 / 8
مقدمة الكتاب:
حين أصدرت كتابي هذا في طبعته الأولى لم أزعم أني فصلت فيه القول في جميع العلوم التي لها بالقرآن صلة من قريب أو بعيد، فإن آفاق الدراسة القرآنية واسعة متشعبة ورحيبة، وإن ألوف المجلدات لا تفي بمعشار ما قيل وما يمكن أن يقال في هذه العلوم؛ إنما حاولت بهذا الكتاب تبسيط طائفة من أمهات المسائل القرآنية قبستها غالبا من آثار علمائنا الأبرار القدامى، غير متجاهل أطرف ما جاء به بعض الأتقياء من المعاصرين، وما أبرح في هذه الطبعة الرابعة -رغم الزيادات الكثيرة التي أضفتها- أقر بأني تناولت أمهات المسائل ولم أفصل القول في شيء منها تفصيلا.
ولقد يكون عسيرا على الباحث العصري في شئون الإسلام والقرآن أن يرجع إلى الكتب القديمة ليعثر على شيء من طلبته في تأويل آية، أو تحرير فكرة، أو تحليل أدبي لمقطع من كتاب الله، لما في جل تلك الكتب من روايات متضاربة وآراء يكثر التعارض بينها في تأويل الآية الواحدة. ويخيل إلينا أن هذا التضارب -وإن كان حتما لا مفر منه في الشروح الإنسانية- هو في كتبنا أصل الداء وشر البلاء، فلابد لنا في كل آية منوجه نختاره وتفسير نرضاه، دون أن نجزم حقا بأننا وقفنا حتما على المراد من كلام الله.
وما من شك في أن القرآن قد ملك على سلفنا الصالح مشاعرهم، واستأثر
1 / 9
بعنايتهم التي لم يحط بمثلها كتاب من قبل ولا من بعد، وأنهم درسوا كل شيء يتعلق به حتى بددوا أوقاتههم أحيانا با نظنه لا يخدم أغراضه في شيء.
وربما كان لزاما علينا -إزاء هذه العناية التي لا نعرف لها نظيرا- أن نقنع بالنتائج التي انتهى إليها سلفنا الصالحون، ونسلم بكل ما جاء في تصانيفهم تسليما.
ولو اكتفينا بذلك لما وسعنا أن نكشف الناقب عن وجه القرآن الساحر الجذاب، فإن منهج الدراسة القديمة لا يكافئ ما ينبغي لكتاب الله من تفحص كل جانب من جوانبه التي قامت حولها المدارس والمذاهب والآراء.
وأن نعرف للقدامى فضلهم الكبير، ونقل: إننا عالة عليهم في هذ البحوث، ما نزيد على التفقه بآثارهم، والاستضاءة بأنوارهم، لا يغضض من قيمة عرفاننا هذا ما نأخذه من مآخذ شكلية على منهجهم القديم: ذلك بأن طريقتهم من الوجهة التاريخية لا تضاهى دقة وعمقا وأمانة، ولكن المنهح التاريخي غلب على أبحاثهم القرآنية، فلم يفسح المجال دائما لتصوير الجانب الأدبي الفني الذي يسد الفجوات ويملأ الثغرات حين يكتم التاريخ بعض الحقائق الكبرى.
إن في تعريفهم لعلوم القرآن لما يبرز المعنى التاريخي في منهجهم واضحا قويا: فهذه العلوم -في نظرهم- عبارة عن مجموعة من المسائل يبحث فيها عن أحوال القرآن الكريم من حيث نزوله وأداؤه، وكتابته وجمعه، وترتيبه في المصاحف، وتفسير ألفاظه، وبيان خصائصه، وأغراضه: وفي أبحاثهم التفصيلية لمفردات هذا التعريف يشتد أثر المنهج التاريخي بروزا ووضوحا، فقد وافونا في نزول القرآن بمراحله كلها ابتداء ووسطا وختامًا، وصوروا لنا طريقة نزوله تصويرا دقيقا في الليل والنهار، والحر والبرد، والسلم والحرب، وكادوا لا يغفلون جزئية من الجزئيات الصغيرة في هذا المجال، ولم يعيهم أن يتقصوا النوازل القرآنية المنجمة على حسب الوقائع الفردية والاجتماعية؛ ولم نجد نظائر لمباحثهم في تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، ومتواتر قراءاته فيما
1 / 10
ثبت لديهم من وجوهها القطعية اليقينية، ودلت طريقتهم التي اتبعوها في تمحيص الروايات وتحقيق النصوص في هذا كله على أنهم كانوا أقدر الباحثين على التحاكم إلى التاريخ الصحيح.
لكن انطوت مزيتهم الكبرى هذه على عيب شكلي بسيط: فإن استمساكهم بالمنهج التاريخي لم يترك لهم أحيانا الفرص الكافية لإيفاء الناحية الأدبية في القرآن ما هي خليقة به من العناية: جمعوا في "أسباب النزول" بين السبب التاريخي والسياق الأدبي في ثلة من المواطن ولكنهم لم يحسنوا دائمًا الجمع بين هذين الأمرين في سائر المواطن الأخرى، حتى بات الباحث يتساءل مرارا: لم وضعت هذه الآية إلى جنب تلك؟ ولم قفي هذا الموضوع بذاك رغم الفاصل الزمني البعيد؟ ثم لا يجد لديهم جوابا شافيا عن ذلك، على كثرة ما رووه في هذا وصنفوه.
لذلك لن نكتفي في بحث "أسباب النزول" بعرض أنماط من مقاييسهم الدقيقة التي وضعوها لترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب، بل سنضم إلى ذلك ما وشت به عبارات مبثوثة هنا وهناك -في تفاسير المحققين منهم- من رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فنسهب في الاستشهاد ببعض المقاطع القرآنية التي أقصى فيها المفسرون فكرة الزمان لمراعاة التناسق الفني، حتى بدا كل نص في القرآن محكم البناء، متلاحم الأجزاء، آخذا بعضه بأعناق بعض؛ فبهدا نعرف عن كل آية: أمكملة لما قبلها أم مستقلة؟ وما وجه مناسبتها لما قبلها؟ إن جاءت على سبيل الاستئناف؟
وإننا لنحمد لعلمائنا الأبرار القدامى انتباههم إلى تعدية الآيات إلى غير أسبابها، وقولهم بتعميم الصياغة ولو وقعت الآيات على سبب خاص، غير أننا نرى أن عيونهم قد أخطأت أحيانا ما رسمه القرآن من "نماذج" إنسانية تتخطى الزمان والمكان، وتتجاوز المناسبات والأسباب، فعلينا إذن -خدمة للجانب الفني في القرآن- أن نملأ ذلك الفراغ بما نرجو أن يلهمنا الله التقاطه من الصور الشاخصة والمشاهد المتكررة في عالم الأحياء.
1 / 11
وما نحسب باحثا يرتاب في أن علماءنا القدامى قد محصوا ما يتعلق بالمكي والمدني كل التمحيص، وأن بعض المحققين منهم -في طائفة من أبحاثهم- مهدوا بين أيدينا القول بتقسيم النوازل المكية ثم المدنية إلى مراحل ثلاث:
ابتدائية ومتوسطة وختامية، إلا أنهم شغلوا بمتابعة جزئيات تلك المراحل أكثر مما احتفلوا بإبراز ما انطوت عليه كل مرحلة من عقائد وأحكام، وما سرى في ألفاظها وفواصلها من إيقاع وما غلب على صورها ومشاهدها من أساليب، فسنحاول بدراستنا هذه أن نتقرى في القرآن نفسه كل هاتيك الملامح فيما سوف يجده القارئ بنفسه في فصل "المكي والمدني" ولا يفوتنا أن نشير إلى أن الطالب الذي يود لو يطلع على "نماذج" من التحليل البياني لبعض السور القرآنية سوف يجد في هذا المبحث ذاته طلبته في عشرين سورة مفسرة موضوعاتها وأساليبها على حسب تعاقبها في النزول، واقعة موقعها التاريخي من مراحل التنزيل.
وما نحسب أن التوفيق حالف طائفة من القدامى غلت أعجب الغلو في بحث "الناسخ والمنسوخ" فإنهم فيه أكثروا من الخلط بين المفهومات، والتبس على كثير منهم ما ينسبه الله إلى نفسه بما عسى أن ينسبه البشر إليه أو إلى أنفسهم فلم يفرقوا بين النسخ والتخصيص، وبين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار، ولسوف يحملنا غلوهم وخلطهم على أن نتعالى بكلام الله المتواتر المعجز عن أقاويلهم الغريبة التي تعارض منطق الأشياء.
وإن إعجابنا الشديد بكثير مما تناول به سلفنا قضية الإعجاز لن يمنعنا من أن نجري في مفهوم هذه القضية شيئًا من التعديل، لنسمو بدرس الأسلوب القرآني من أفق المصطلحات البلاغية الضيق إلى أفق الفن الأدبي الرفيع: ففي بحث الإعجاز سنفهم الصور البيانية فهما موحيا فيه نداوة الفن وظل الأدب الظليل، وسنتلقى بمشاعرنا كلها موسيقى القرآن الداخلية التي فيها من النثر تعبيره الدقيق، وفيها من الشعر إيقاعه الرخي المنساب!
1 / 12
وبعد، فتلك مباحث في علوم القرآن لا ننمي إليها السعة والشمول، ولا ندعي لها التفصيل والاستيعاب، إنما هي طائفة من المسائل المهمة التي نرجو ألا يجهلها أو يتجاهلها عربي ينطق بالضاد أو مسلم يهتف بهذا الدين الحنيف، وها نحن أولاء نتركها بين أيدي القراء سائلين الله أن يشوقهم بها إلى تلاوة كتابه، فتدبر أحكامه، فالعمل بتعاليمه، لعل التاريخ يعيد نفسه، ولعلنا نرجع بهذا الكتاب كما كنا خير أمة أخرجت للناس.
1 / 13
الباب الأول: القرآن والوحي
الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها
...
الباب الأول: القرآن الوحي
الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها
لقد اختار الله لوحيه أسماء جديدة مخالفة لما سمى العرب به كلامهم جملة وتفصيلا١. وروعيت في تلك الألقاب أسرار التسمية وموارد الاشتقاق.
واشتهر منها لقبان: الكتاب والقرآن.
وفي تسميته بالكتاب إشارة إلى جمعه في السطور، لأن الكتابة جمع للحروف ورسم للألفاظ؛ كما أن في تسميته بالقرآن إيماءة إلى حفظه في الصدور، لأن القرآن مصدر القراءة، وفي القراءة استذكار، فهذا الوحي العربي المبين قد كتب له من العناية به ما كفل صيانته في حرز حريز، وما جعله بنجوة من خوض العابثين وتلاعب المحرفين: إذ لم ينقل كجميع الكتب بالكتابة وحدها ولا بالحفظ وحده، بل وافقت كتابته تواتر إسناده، ووافق إسناده المتواتر نقل الأمين الدقيق.
ومع أن كلتا التسميتين ترتد إلى أصل آرامي، إذ وردت الكتابة في الآرامية بمعنى رسم الحروف، وجاءت القراءة فيها بمعنى التلاوة، بدت تسمية هذ الوحي بالكتاب وبالقرآن طبيعية جدًا، لامتياز الوحي المحمدي في مراحله كلها بهذه العناية المزدوجة في صيانة نصوصه وحفظ تعاليمه ومنقوشة في السطور، مجموعة من الصدور.
_________
١ هكذا لاحظ الجاحظ: ذكره السيوطي في الإتقان ١/ ٨٦.
1 / 17
على أن الذي غلب استعماله من بين هاتين التسميتين هو لفظ القرآن بالمدلول المصدري، حتى بات علما شخصيا لهذا الكتاب الكريم. فكان جديرًا بنا -قبل أن نخوض في ظاهرة الوحي وتقصي هذه المباحث القرآنية- أن نبادر إلى معرفة الأصل الاشتقاقي للفظ القرآن الذي يحكي ألفاظا أخر تماثله في اللغات السامية، وإلى الوقوف على المدلولات اللغوية لأهم الأسماء الأخرى التي اختيرت للقرآن وأطلقت عليه، سواء أتشابهت أم لم تتشابه بين الساميات والعربية.
لقد ذهب العلماء في لفظ "القرآن" مذاهب، فهو عند بعضهم مهموز وعند بعضهم الآخر غير مهموز. فممن رأى أنه بغير همز الشافعي والفراء١. والأشعري٢.
أ- يقول الشافعي: إن لفظ القرآن المعرف بأن ليس مشتقا ولا مهموزًا، بل ارتجل ووضع علما على الكلام المنزل على النبي ﷺ. فالقرآن عند الشافعي: "لم يؤخذ من قرأت، ولو أخذت من قرأت لكان كل ما قرئ قرانًا، ولكنه اسم للقرآن، مثل التوراة والإنجيل"٣.
ب- ويقول الفراء: إنه مشتق من القرائن، جمع قرينة، لأن آياته يشبه بعضها بعضا فكأن بعضها قرينة على بعض، وواضح أن النون في "قرائن" أصلية٤.
جـ- يقول الأشعري وأقوام يتابعونه على رأيه: إنه مشتق من "قرن الشيء بالشيء" إذا ضمه إليه، لأن السور والآيات تقرن فيه ويضم بعضها
_________
١ الفراء هو أحد نحاة الكوفة وأئمتها المشهورين في اللغة، واسمه يحيى بن زياد الديلمي، ويكنى أبا زكريا، له كتاب في معاني القرآن، توفي سنة ٢٠٧ "انظر طبقات الزبيدي ١٤٣ إلى ١٤٦ ووفيات الأعيان ٢/ ٢٢٨".
٢ هو الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي تنسب إليه الطائفة الأشعرية، وكتبه مشهورة في الرد على المتبتدعة والجهمية والخوارج والرافضة، توفي سنة ٣٢٤ "انظر وفيات الأعيان ١/ ٣٢٦".
٣ تاريخ بغداد للخطيب ٢/ ٦٢.
٤ الإتقان ١/ ٨٧.
1 / 18
إلى بعض١.
والقول بعدم الهمز في هذ الآراء الثلاثة كاف للحكم ببعدها عن قواعد الاشتقاق وموارد اللغة.
وممن رأى أن لفظ "القرآن" مهموز: الزجاج٢ واللحياني٣ وجماعة.
أ- يقول الزجاج: إن لفظ "القرآن" مهموز على وزن فعلان، مشتق من القرء بمعنى الجمع، ومنه قرأ الماء في الحوض إذا جمعه؛ لأنه جمع ثمرات الكتب السابقة٤.
ب- ويقول اللحياني: إنه مصدر مهموز بوزن الغفران، مشتق من قرأ بمعنى تلا، سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر٥.
والأخير أقوى الآراء وأرجحها، فالقرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ ٦.
والعرب في الجاهلية حين عرفوا لفظ "قرأ" استخدمواه بمعنى غير معنى التلاوة، فكانوا يقولون: هذه الناقة لم تقرأ سلى قط، يقصدون أنها لم تحمل ملقوحا ولم تلد ولدًا، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
هجان اللون لم تقرأ جنينا٧
أما قرأ بمعنى "تلا" فقد أخذها العرب من أصل آرامي وتداولوها،
_________
١ البرهان ١/ ٢٧٨.
٢ الزجاج: هو إبراهيم بن السري، ويكنى أبا إسحاق، صاحب كتاب "معاني القرآن" توفي سنة ٣١١ "انظر إنباه الرواة ١/ ١٦٣".
٣ اللحياني: هو أبو الحسن علي بن حازم، اللغوي المشهور المتوفى سنة ٢١٥، وقد فاد ابن سيده من كتبه في تأليف "المخصص".
٤ البرهان ١/ ٢٧٨.
٥ الإتقان ١/ ٨٧.
٦ ويرى بعض المفسرين أن منه أيضا قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ أي: القراءة.
٧ لسان العرب ١/ ١٢٦.
1 / 19
فمن المعروف كما يقول برجشتراسر G.Bergstraesser أن اللغات الآرامية والحبشية والفارسية تركت في العربية آثارا لا تنكر، لأنها كانت لغات الأقوام المتمدينة والمجاورة للعرب في القرون السابقة للهجرة.
وما لنا نستغرب هذا ولا نصدقه ونحن نعلم أن لهجات الآرمية المختلفة كانت تسود كل بلاد فلسطين وسورية وبين النهرين وبعض العراق؟ ونعلم أيضا أن جوار العرب لليهود الذين كانت لغتهم الدينية الآرمية عجل في انتشار كثير من الألفاظ الدينية الآرامية؟ وقد أشار إلى هذا المستشرق كرنكو Krenkow في بحثه عن لفظ "كتاب" في "دائرة المعارف الإسلامية"١، كما نقل المستشرق بلاشير Blachere طائفة من الكلمات الدينية الآرامية والسريانية والعبرية مؤكدا استعمال العرب لها من أثر الجوار مع اليهود وسواهم من أصحاب الملل٢. ونذكر من تلك الألفاظ "قرأ، كتب، كتاب، تفسير، تلميذ، فرقان، قيوم، زنديق".
ومهما يكن من شيء، فإن تداول العرب قبل الإسلام للفظ "قرأ" الآرامي الأصل بمعنى "تلا" كان كافيا لتعريبه واستعمال الإسلام له في تسمية كتابه الكريم.
ومن أسماء القرآن "الفرقان". قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ٣. ولفظ الفرقان في الأصل آرامي، تفيد مادته معنى التفرقة، كأن في التسمية إشعارا بتفرقة هذا الكتاب بين الحق والباطل.
ومنها الذكر ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ ٤ "وهو عربي خالص،
_________
١ Krenkow، Eneyelopedie de l'Islam "art.Kitab" II، ١١٠٤.
٢ Blachere، Le coran، Introduction،٥.
٣ سورة الفرقان ١.
٤ سورة الأنبياء ٥٠.
1 / 20
ومعناه الشرف، ومنه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ ١.
ومنها التنزيل ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٢، وهو عربي خالص كذلك يشعر بأنه وحي يوحى، ويتنزل على قلب الرسول الكريم.
وهذه الأسماء هي الشائعة المشهورة، غير أن بعضهم بالغ في تعداد ألقاب القرآن، حتى ذكر منها الذركشي خمسة وخمسين نقلا عن القاضي شيذلة٣، ولا ريب أنه خلط فيها بين التسمية والوصف، فمن أسماء القرآن مثلا "العلي" لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ٤، ومنها "المجيد" لقوله تعالى: ﴿ربَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ ٥، ومنها "العزيز" لقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز﴾ ٦، ومنها العربي، لقوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ٧، وقد بلغ بعض العلماء٨ بأسماء القرآن نيفا وتسعين.
والقرآن -بأي اسم سميته- هو الكلام المعجز المنزل على النبي ﷺ المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته، وتعريف القرآن على هذا الوجه متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية.
_________
١ سورة الأنبياء ١٠.
٢ سورة الشعراء ١٩٢.
٣ شيذلة هو الفقيه الشافعي، أبو المعالي، عزيزي "بفتح العين" بن عبد الله، مؤلف "البرهان في مشكلات القرآن" توفي سنة ٤٩٤ "ترجمته في وفيات الأعيان" ١/ ٣١٨ وشذارت الذهب ٣/ ٤٠١".
٤ سورة الزخرف٤ "وانظر البرهان ١/ ٢٧٤".
٥ سورة البروج ٢١ "وانظر البرهان ١/ ٢٧٦".
٦ سورة فصلت ٤١ "وانظر البرهان ١/ ٢٧٦".
٧ سورة الزمر ٢٨ "وانظر البرهان ١/ ٢٧٥".
٨ هو الحرالي، كما في البرهان ١/ ٢٧٣. وينسب الحرالي إلى قرية من أعمال مرسية تسمى حرالة "بالراء المضعفة"، وهو علي بن أحمد بن الحسن التجيبي، ويكنى أبا الحسن توفي سنة ٦٤٧ "النجوم الزاهرة ٦/ ٣١٧ وشذرات الذهب ٥/ ١٨٩".
1 / 21
الفصل الثاني: ظاهرة الوحي
لم يكن محمد بدعا من المرسلين ولا كان أول نبي خاطب الناس باسم الوحي، وحدثهم بحديث السماء، فمن لدن نوح تتابع أفراد مصطفون أخيار ينطقون عن الله ولا ينطقون عن الهوى، ولم يكن الوحي الذي أيدهم به الله مخالفا الوحي الذي أيد به محمدًا، بل كانت ظاهرة الوحي متماثلة عند الجميع، لأن مصدرها واحد، وغايتها واحدة١، كما قال الله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ ٢. وواضح أن الأنبياء الذين صرحت الآية بأسمائهم إنما خصوا لأنهم كانوا أشهر أنبياء بني إسرائيل، وكانت أخبارهم مشهورة بين أهل الكتاب المجاورين لرسول الله ﵊ في الحجاز وما حوله٣.
لذلك حرص القرآن على تسمية ما نزل على قلب محمد وحيا، ليشابه مدلول الوحي بين جميع النبيين تشابه اللفظ الدال عليه، فقال:
_________
١ تفسير الطبري ٦/ ٢٠.
٢ النساء ٦٣، ١٦٤.
٣ الوحي المحمدي ٣١.
1 / 22
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ١ وقال: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ ٢، وقال: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ ٣؛ ثم أنكر على العقلاء توهمهم، أن في الوحي عجبا عجابا فقال: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ ٤.هل كان للمنطق أن يقضي بأن اشتراك الناس في البشرية يمنع اختصاص الله واحدا منهم بما شاء من العلم والحكمة والإيمان؟ وهل كان للمنطق أن يعد هذا الاختصاص أعجوبة حتى تفكه الناس باستغراب ما فيه من نكر، ورأى فيه أهل الكفر ما يشبه عمل السحر؟
إن الوحي الذي لا ينبيغ أن يتعجب منه لا بد أن يكون إدراكه سهلا ميسرا خاليا من التعقيد، فما حقيقة هذا الوحي في نظر الدين؟ وما مدى التشابه بين ظاهرته عند محمد وعند سائر النبيين؟
حين سمى الدين هذا الضرب من الإعلام الخفي السريع "وحيا" لم يبتعد عن المعنى اللغوي الأصلي لمادة الوحي والإيحاء: فمنه الإلهام الفطري للإنسان، كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ ٥ وقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ ٦ ومنه الإلهام الغريزي للحيوان كالذي في قوله: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ ٧،
_________
١ أوائل سورة النجم.
٢ يونس، الآية ١٠.
٣ الأعراف ٧.
٤ يونس ٢. وقارن بتفسير المنار ١١/ ١٤٣.
٥ القصص ٧.
٦ المائدة ١١١.
٧ النحل ٦٨. وقارن بأساس البلاغة ٢/ ٤٩٦.
1 / 23
سومنه الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء، كما في قوله عن زكرياء: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ ١، والمعروف في تفسيرها أن زكريا أشار إليهم إشارة وحية سريعة ولم يتكلم.
ومنه الإيماء بالجوارح، وعليه قال الشاعر:
نظرت إليها نظرة فتحيرت ... دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليها الطرف أني أحبها ... فأثر ذاك الوحي في وجناتها٢
وعبر القرآن بالوحي عن وسواس الشيطان وتزيينه خواطر الشر للإنسان، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ ٣، وقال: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ ٤، مثلما عبر بالوحي أيضا عما يلقيه الله إلى الملائكة من أمره ليفعلوه من فورهم، كقوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ٥.
أما تعبيره بالوحي عما يكلف الله الملك حمله إلى النبي من آيات كتبه المنزلة فهو شديد الصلة بتعبيره بالوحي إلى النبي نفسه، وما بين مدلولي التعبير من اختلاف لا يعدو الوظيفة التي يتحملها ملك الوحي بالنقل الأمين، ويتحملها النبي بالوعي والحفظ والتبليغ. من ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ ٦: إذ المراد أن الله أوحى إلى عبده جبريل ملك الوحي الأمين، ما أوحاه جبريل إلى محمد خاتم النبيين، ومدلول الوحي إذن في هذه الآية كمدلول التنزيل الصريح في الآية الأخرى في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ٧.
_________
١ مريم ١١.
٢ قارن بمفردات الراغب الأصفهاني.
٣ الأنعام ١١٢.
٤ الأنعام ١٢١.
٥ الأنفال ١٢.
٦ النجم ١٠.
٧ الشعراء ١٩٢- ١٩٥.
1 / 24
بيد أن القرآن -لدى مراعاته المعنى اللغوي الأصلي لمادة الإيحاء حين سمى وسيلته في الإعلام الخفي السريع "وحيا"- لم يقصر ظاهرة هذا الاتصال الغيبي الحفي بين الله وأصفايئه على تنزيل الكتب السماوية بواسطة ملك الوحين بل أشار في آية واحدة إلى صورة ثلاث من صور الوحي:
إحداها إلقاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه، والثانية تكليم النبي من وراء حجاب كما نادى الله موسى من وراء الشجرة وسمع نداءه؛ والثالثة هي التي متى أطلقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدين عادة من لفظة "الإيحاء" حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء ما كلف إلقاءه إليه سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية؛ فبهذا نطقت الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ١.
كانت إذن لهذا الإعلام الخفي السريع المسمى "بالوحي" صورة خاصة تختلف في نظر القرآن عما قد يشبهها من مظاهر الخفاء والسرعة في ألفاظ الإعلام المستعملة قديما وحديثا. وقد يكون مؤسفا لنا -بعد أن استهوتنا الفكرة القرآنية التي تؤكد اتحاد مفهوم الوحي عند الأنبياء جميعا- أن نقع في قاموس الكتاب المقدس٢ على تفسير للوحي يختلف اختلافا جوهريا عن تفسيره الجامع الموحد، إذ الوحي في هذا القاموس "هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين لإطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب الوحي شيئا من شخصياتهم، فلكل منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير" وإنما أسفنا لاختلاف وجهتي النظر ههنا، لأن الوحي -بتعريفه القاموسي هذا- أضحى أبعد ما يكون عن الصعيد الديني المتصل بالله، الآخذ عن الله، وأقرب ما يكون إلى مدلول الكشف الذي
_________
١ الشورى ٥١.
٢ هو القاموس الذي وضعه بالعربية الدكتور جورج بوست. وطبع في المطبعة الأمريكية ببيروت سنة ١٨٩٤.
1 / 25
عرفت البشرية ألوانا صافية منه لدى الشعراء الملهمين والمتصوفين العارفين: وألوانا عكرة كدرة لدى الكهان والعرافين، وأكثرهم من الدجاجلة الكذابين١.
نرى لزاما علينا -خشية أن نقع في اللبس من أثر استعمال الكلمات في غير مواضعها- أن نقصي عن ظاهرة الوحي لفظ الكشف الذي كنا فيه، وما يشبهه من ألفاظ الإلهام والحدس الباطني والشعور الداخلي أو "اللاشعور" التي يتغنى بها شبابنا المثقفون محاكاة للأعاجم والمستعجمين، ويحاولون بها أو ببعضها أن يفسروا بسذاجة عجيبة ظاهرة الوحي عند النبيين وعند محمد خاتم النبيين.
ما أيسر أن نثبت مدلول الكشف لكل من يدعيه، ثم ننكر عليه مدلول الوحي ولو ظل يدعيه.
إنه يخلو من الدلالة النفسية الواضحة المحددة؛ لأنه غالبا ما يكون ثمرة من ثمار الكد والجهد أو أثرا من آثار الرياضة الروحية أو نتيجة للتفكير الطويل، فلا ينشئ في النفس يقينا كاملا ولا شبه كامل، بل يظل أمرا شخصيا ذاتيا لا يتلقى الحقيقة من مصدر أعلى وأسمى.
إن كشف العارفين كإلهام الواصلين وجدان تعرفه النفس معرفة دون اليقين١، وتنساق إليه من غير شعور بمصدره الحقيقي، فيدخل فيه ذوق المتذوقين ووجد المتواجدين، بل تدخل فيه أيضا أسطورة آلهة الشعر عند اليونان وأسطورة شياطين الشعر عند العرب الجاهليين!.
ولا غرو، فإن الكشف كالإلهام من ألفاظ علم النفس المحدثة التي ما تبرح حتى عند القائلين بها موغلة في الإبهام، لاحتلالها "حاشية اللاشعور"٢، وهي حاشية -كما يوحي اسمها- أبعد ما تكون عن حالات الحس والشعور:
_________
١ لذلك لا نتفق مع الإمام محمد عبده حين جعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس في "رسالة التوحيد، ص١٠٨ حول إمكان الوحي".
٢ الظاهرة القرآنية ١٦١.
1 / 26
فإذا قيل في إنسان: إنه من أولي الكشف والإلهام لم يسم به ذلك إلى درجة النبوة والوحي، لأن في كل وحي وعيا١، وفي كل نبوة شعورا بمعناها وإدراكا لمغزاها، وإنما يرمى "باللاوعي" من فقد الوعي، ويوصم "باللاشعور" من حرم الشعور!
وطبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لهذه الأساليب "اللاشعورية" التي تستشف حجاب المجهول بالفراسة الذكية الخفية والحدس الباطني السريع. مثلما تأبى الخضوع لمقاييس الحس الظاهرة التي تخترق حرمات المجهول بالأدلة المنطقية والاستنباط المتروي البطيء٢، وإنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين: ذات متكلمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقية.
وعلى هذا النمط رسم النبي الكريم فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه، فقال: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني ٣ وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" ٤، فكشف النقاب صراحة عن صورتين من الوحي: إحداهما عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، ولديه يسمع صوتا متعاقبا متداركا كصوت الجرس المصلصل المجلجل٥؛ والثانية عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشاكله في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه بالقول ولا يرعبه، وما من شك في أن الصورة الأولى أشد وطأ وأثقل قولا، كما قال الله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ ٦ حتى كان يصحب الوحي فيها رشح الجبين عرقا، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين: "ولقد رأيته
_________
١ نفسه ١٣٩.
٢ قارن بالنبأ العظيم ٣٤.
٣ يفصم: ينكشف وينجلي.
٤ صحيح البخاري، بدء الوحي ١/ ٦ والحديث من رواية الحارث بن هشام.
٥ انظر في هذا رأي الخطابي الذي ذكره السيوطي في الإتقان ١/ ٧١.
٦ المزمل ٤.
1 / 27