الفصل الثاني
ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
يمكن أن ينظر إلى هذا العالم بكل مظاهره نظرا علميا من جهتين مختلفتين؛ إحداهما: النظر إليه وفحصه من حيث أشكاله التي يتجلى لنا فيها، وعليها تقع حواسنا، مغفلين البحث عن علله المجهولة التي لا يمكن أن تعرف، والجهة الأخرى: النظر في روح هذه الظواهر من غير أن نلحظ تأثيرها في حواسنا؛ فالجهة الأولى موضوع العلوم الوضعية، والأخرى موضوع ما بعد الطبيعة.
لكل علم مدركات كعدة له وآلات لا يبحث هذا العالم في قيمتها، وإنما يجدها مهيأة من قبل فيستخدمها في أغراضه، ويكتفي بها، فهي موجودة وكفى، مثل المكان والزمان والكم والكيف والعلة والمعلول والحركة والقوة والهيولي والصورة
1 - وهي مدركات توصف بها الموجودات - رأت العلوم أن علة الحقيقة ليست إلا حقيقة أخرى، وأن سبب الحركة ليس إلا حركة أخرى، فسبب الصوت مثلا حركة الهواء، وليس ذلك السبب إلا حالة أخرى، جاء العلماء فبحثوا في الظواهر المتنوعة (كل في فرعه الخاص) ونظروا في أشكال المادة وتغيراتها كما يتراءى لهم، ولم ينظروا فيما هي المادة، ولا لم كانت كذلك، وإنما وجهوا كل همتهم نحو معرفة كيفيتها، فكانت دائرة علمهم مقصورة على الأشياء المتناهية، والتي أساسها التجربة والاختبار. لم تقنع بهذا نفس الإنسان - وهي الشغوفة بالبحث والاستقصاء - فرأت أن هذه المظاهر الزائلة للحياة المادية لا تقوم بنفسها، وإنما يجب أن تكون وراءها قوة خفية أزلية أبدية، هي للعالم كإرادتنا فينا، عندما نعمل عملا أو نتحرك بإرادتنا حركة، شيء مطلق لا يحده حد وليست له نهاية، هو علة الموجودات، وهو الذي تسميه لغة الدين «الله» - لهذا كانت الحاجة ماسة إلى علم يبحث عن هذه المدركات المتقدمة التي تنتفع بها العلوم الأخرى، ولا ترى أنها في حاجة إلى الشرح، وهذا العلم هو «ما بعد الطبيعة» وهو لا يبحث عن حقائق العالم المادي كما يتجلى لحواسنا، وإنما يبحث في الحواس من حيث مقدار الثقة بإدراكها كما يبحث عن ماهية الأشياء وعلة العلل، لا يكتفي بالحقائق حسب ما يوضحها الحس المشترك وحده، بل يتطلب الشيء المجهول الذي قامت عليه العلوم الأخرى من غير أن تبحث فيها، فهذا العلم غرضه الوصول إلى ما وراء هذه الظواهر الطبيعية، غير قانع بمعرفة الأشياء التي قد تظهر لنا على غير حقيقتها.
إن شئت فقل: إن هذا العلم يحاول أن يقف على المحرك الخفي لهذا العالم، ويتوق إلى أن يخترق هذا العماء ليحس بنبضه.
وإن هذا الشوق لإدراك هذه القوة الخفية المجهولة الذي أفضى بالسذج إلى الخرافات والأوهام هو الذي حمل الفلاسفة على البحث عما وراء الطبيعة، فعلم ما بعد الطبيعة هو علم «واجب الوجود» علم يبحث عن العلة الأولى للأشياء، وهو فرع من الفلسفة ينظر في أوسع المسائل مجالا للبحث الفلسفي.
وهل علم ما بعد الطبيعة سينال غرضه يوما ما، أو سيظل صاغرا متسولا أمام ساحة تلك القوة الخفية الكبرى لا يستطيع أن يطأ حماها، عاجزا إلا عن تخيل ما فيها، محاربا للصعاب التي تعترضه في سبيل كشف النقاب عن ألغاز هذا العالم الكثيرة؟ وهل يستطيع العقل البشري أن يحل هذه المسائل حلا مرضيا، أو سيظهر له أن البحث فيها بحث في مستحيل؟ كل هذه الأسئلة كانت ولا تزال عبئا ثقيلا على العلم والفلسفة، ولقد قيل: «إن علم ما بعد الطبيعة والشعر الرفيع السامي يلتقيان فيمتزجان، وإن عالم ما بعد الطبيعة عالم درج في غير عشه، ببحثه عن شيء فوق الحقائق، فإذا هو شاعر» وقال فولتير: «إن علم ما بعد الطبيعة بستان يرتاض فيه العقل، وإنه لألذ من علم الهندسة، فلا نعاني فيه ما نعانيه فيها من الحساب والقياس، بل فيه نحلم حلما لذيذا.»
وقال «بكل» في كتابه «المدنية في إنجلترا»: «إن كل باحث في علم ما بعد الطبيعة إنما يبحث أعمال عقله، ولم يكن من وراء ذلك البحث استكشاف في أي فرع من فروع العلم.» وقال «بخنر» مؤلف كتاب «القوة والمادة» في أحد مؤلفاته الأخيرة المسمى «بجانب قرن يحتضر»: «بينا نرى علم النفس والمنطق والجمال والأخلاق وفلسفة القانون وتاريخ الفلسفة تستحق البقاء، وينبغي أن يدرسها العقل البشري؛ إذ نرى ما بعد الطبيعة علما مستحيلا، وراء الطبيعة، وراء حواسنا، فيجب أن يترك بمضيعة ويعد من سقط المتاع.»
وقد كان البحث في قضايا هذا العلم سابقا لاسمه؛ ففي قضاياه بحث الأيونيون،
Unknown page