مقدمة المترجم للطبعة الأولى
مقدمة المؤلف
الكتاب الأول: في الفلسفة وفروعها
1 - تمهيد في معنى الفلسفة وفروعها
2 - ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
3 - الفلسفة الطبيعية
4 - علم النفس (سيكولوجيا)
5 - علم المنطق
6 - علم الجمال
7 - علم الأخلاق
8 - علم الاجتماع (سسيولوجيا)
9 - مجمل تاريخ الفلسفة أو تاريخ ترقي الفلسفة
10 - فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية
الكتاب الثاني: مسائل الفلسفة ومذاهبها
1 - مقدمة المؤلف
2 - مسائل ما بعد الطبيعة
3 - مسائل علم الأخلاق
4 - نظرية المعرفة
الخاتمة
مقدمة المترجم للطبعة الأولى
مقدمة المؤلف
الكتاب الأول: في الفلسفة وفروعها
1 - تمهيد في معنى الفلسفة وفروعها
2 - ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
3 - الفلسفة الطبيعية
4 - علم النفس (سيكولوجيا)
5 - علم المنطق
6 - علم الجمال
7 - علم الأخلاق
8 - علم الاجتماع (سسيولوجيا)
9 - مجمل تاريخ الفلسفة أو تاريخ ترقي الفلسفة
10 - فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية
الكتاب الثاني: مسائل الفلسفة ومذاهبها
1 - مقدمة المؤلف
2 - مسائل ما بعد الطبيعة
3 - مسائل علم الأخلاق
4 - نظرية المعرفة
الخاتمة
مبادئ الفلسفة
مبادئ الفلسفة
تأليف
أ. س. رابوبرت
ترجمة
أحمد أمين
مقدمة المترجم للطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أتى على العرب حين من الدهر كانت لغتهم تكفي لحاجتهم؛ فلهم منها أسماء ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون وما يفكرون، فإن لم يجدوا نقلوا عن غيرهم أو خلقوا خلقا جديدا، ساروا مع زمانهم في تشريعهم وفي علومهم وفي لسانهم وفي نظمهم؛ إن أحسوا أن أمة سبقتهم في علم أنفوا أن يروا لغتهم عاطلة من حليه، فأسرعوا في ترجمته، وسدوا نقصا شعروا به، وإن رأوا معنى جديدا أو مخترعا جديدا وضعوا له لفظا جديدا، وأدخلوه في معاجمهم، وذكره العلماء في كتبهم، وإن أنتجت حالتهم الاجتماعية أنواعا من المعاملات جديدة، وأنماطا من الجرائم لم يكونوا يعرفونها شرعوا لها تشريعا جديدا يتفق مع الحوادث، وقالوا كما قال عمر بن عبد العزيز: «يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.» وكما قال زياد: «وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة.» فكانوا والزمان فرسي رهان يعدوان جنبا لجنب؛ علما منهم بأن لا نجاح لأمة في الحياة ما لم تعدل حياتها على وفق ما يحيط بها.
ثم وقفوا واستمر الزمن يعدو، وكلما طال وقوفهم زاد البعد وبعدت مسافة الخلف، وقفوا سبعة قرون أو تزيد، تغير فيها مفهوم الكلمات، وزادت المعاني والمخترعات، ولا تزال معاجم لغتهم مما وضع منذ قرون أمثال قاموس «الفيروزآبادي» و«لسان العرب» مما ألف لزمن غير زمانهم، في موقف غير موقفهم، والأمم الحية لا ترضى أن يكون لها في نصف قرنها الحالي معجم ألف في نصف قرنها الماضي!
اختلفت أنواع المعيشة وأصبح بعض ما كان يعد حسنا قبيحا والعكس، وتغيرت أشكال المعاملات وهم أمام ذلك جامدون، اخترعت علوم جديدة وأبطلت نظريات قديمة، واستكشفت قضايا وقوانين غيرت وجه العلم وحولت مجرى الحياة وهم يأبون إلا أن تكون الكتب كتب الأقدمين، والنظريات نظريات الأقدمين، والرأي رأي الأقدمين! نعم، ينبغي أن ننظر في القديم، ولكن ليس إلا لنتخذ منه دعامة للجديد.
فما أحوجنا إلى نهضة تنبهنا من سباتنا العميق، وتغير مجرى حياتنا، وتفتح عيوننا للبحث والنظر، وتطلق الفكر من عنانه، فيبحث ويعتقد ما يراه الحق، وتمدنا بما وصل إليه الغرب فنستأنس ببحثه، ونستعين به على وضع ما يتفق مع بيئتنا وديننا ونظمنا الاجتماعية وحالتنا العقلية.
وقد عثرت على كتاب في «مبادئ الفلسفة» قسمه المؤلف إلى قسمين: أبان في القسم الأول منه موضع الفلسفة وفروعها، وذكر كلمة عن كل فرع، وختمه بفصل في تاريخ الفلسفة؛ مبدأ نشأتها إلى الآن، وذكر في القسم الثاني النظريات الفلسفية المعروضة على بساط البحث، وحكى باختصار المذاهب المختلفة.
والكتاب يقدم للقارئ صورة مصغرة للآراء الفلسفية؛ قديمها والحديث، ويحدد معنى الفلسفة وموضوعها - تلك الكلمة التي يكاد يتخلف الناس عندنا في فهم معانيها بقدر عدد رءوسهم - ولم يأل جهدا في تبسيط الموضوع والتغلب على صعوباته؛ ليكون سهل التناول لجمهور المتعلمين.
رأيت أن أنقله إلى العربية، وأغراني على ذلك صغر حجمه، وطرافة موضوعه عند قراء العربية، وبذل المؤلف جهده لتسهيل الموضوع، حتى إذا بدأت في ترجمته أحسست بصعوبته، وقد لا يعلم قدر ما لاقيت من عناء إلا من حاول ترجمة كتاب كهذا في موضوع دقيق مليء بالاصطلاحات الفنية لا يجد لها مقابلا في العربية.
راعيت الأمانة في النقل المستطاع، فحافظت على ترتيب المؤلف ومعانيه وتسلسلها، ولم أتصرف إلا عند الضرورة القصوى، وقد استعملت في الترجمة الاصطلاحات العربية ما وجدت إلى ذلك سبيلا، فإن لم أعثر بعد البحث على اصطلاح عربي يقابل الاصطلاح الإنجليزي وضعت كلمة من عندي رأيت أنها أقرب للدلالة على المعنى.
ولست أنكر أن في بعض ما ترجمت غموضا - وأرجو ألا يكون كثيرا - وسبب ذلك إما صعوبة الموضوع وغموض الأصل، أو التغالي في المحافظة على معاني المؤلف، أو أن الاصطلاحات التي استعملتها لم تؤلف إلفها في لغة الأصل.
وقد رأيت أن المؤلف لم يذكر كلمة ما عن الفلسفة العربية وتاريخها، فرأيت - إتماما للفائدة - أن أذكر كلمة في ذلك أقرنها بما كتبه المؤلف عن تاريخ الفلسفة، ووضعت على ما كتب المؤلف كلمات في ذيل الصحيفة قد أشرح بها غامضا أو أبين مصطلحا.
وذيلت الكتاب بترجمة صغيرة لأشهر من ورد ذكرهم في الكتاب؛ أبين فيها جنسه وتاريخ حياته، وربما ذكرت بعض مبادئه، وختمت ذلك بقائمة للألفاظ الإنجليزية وما يقابلها من العربية.
وهنا أتقدم بالشكر للجنتنا المباركة «لجنة التأليف والترجمة والنشر» على ما بذلت من المساعدة في إخراج الكتاب، وأخص بالذكر صديقي أمين مرسي قنديل، وعبد الحميد أفندي العبادي، فإليهما يرجع الفضل في مراجعة الكتاب وتنقيحه، وإرشادي إلى ما غمض من معانيه.
وإني أشكر كل من يتنبه لخطأ في الكتاب فيرشدني إليه، والله أسأل أن ينفع به، ويجعله طليعة كتب واسعة تظهر في هذا الموضوع النافع.
أحمد أمين
مايو سنة 1918
مقدمة المؤلف
الغرض من هذا الكتاب أن يكون بين أيدي المبتدئين في الفلسفة شبه دليل مدرسي يقفون منه على مسائل الفلسفة وما وضع لها من حل، وقد كان مجرد عرض المسائل الفلسفية أهم في نظري من مراعاة تاريخها، ولكن لما كان تتابع المذاهب في المسائل متمشيا مع تدرج الفكر في الرقي صار من الطبيعي مراعاة الترتيب الزمني لأقسام الموضوع، وبالضرورة قد اكتفينا في هذا الموجز الذي يستغرق أقل من 128 صفحة بمجرد ذكر كثير من المسائل يمكن أن تبسط في رسائل خاصة، غير أنا نرجو أن نكون قد ذكرنا كل ما هو ضروري في كتاب كهذا يعد «مقدمة للفلسفة» يجمع إلى صغر الحجم ودقة العبارة الوضوح والإلمام بأطراف الموضوع، هذا مع الإخلاص للحق وهو آخر دروس الفلسفة وخيرها.
أ. س. ر.
فبراير سنة 1904
الكتاب الأول
في الفلسفة وفروعها
الفصل الأول
تمهيد في معنى الفلسفة وفروعها
شاع بين الناس أن الفلسفة موضوع لا تتناوله إلا عقول خاصة، وأنها لا تلذ إلا لقوم نظريين لم يروا في الحياة خيرا من أن يجهدوا عقولهم في حل مسائل هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، وأنها تبحث في خيالات عقيمة لا ينبني عليها في الحياة عمل؛ وإنهم في زعمهم لمخطئون.
لم يرفع الإنسان عن مستوى الحيوان إلا فكره وقوته العاقلة، فالحيوان يرى ويسمع بل ويتذكر، ولكنه لا يستخدم هذه القوى إلا في حاجاته الوقتية؛ أما الإنسان فيرى ظواهر الكون على اختلاف أنواعها فيتصورها ويكون له فيها رأيا، ثم يجتهد في تعرف عللها وعلاقة حقائق الكون بظواهره؛ وهذا طريق فهم الشيء فهما واضحا، فإن فعل هذا قلنا: إنه يتفلسف، ولا نعني بهذه الكلمة إلا أنه يفكر في شيء خاص - ذاتا كان أو معنى - ويحاول الإجابة على هذه الأسئلة: (1)
ما هذا الشيء الذي يبحث فيه عقلنا؟ (2)
ما أصله؟ (3)
ما علاقته بغيره من الذوات أو المعاني؟
وبعبارة أخرى معنى «يتفلسف» أنه يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، وليس يخلو إنسان من هذا العمل وقتا ما، فساغ لنا أن نقول: إن كل إنسان متوسط الفكر يتفلسف، وإن كل الناس فيلسوف إلى حد ما، مع تفاوت فيما بينهم، إلا من استعبدته شهواته وانغمس في اللذائذ المادية، إلا أن كلمة «فيلسوف» إذا استعملت بدقة لا تطلق على من ينظر إلى الشيء أحيانا فيتأمله ويفحصه أو يشك فيه، ثم يرى فيه رأيا يعتقده ويتمسك به، بل كما أنا لا نسمي زجاجا ولا قفالا من أصلح في بيته لوح زجاج كسر، أو عالج قفلا فسد، إنما الزجاج أو القفال من اتخذ ذلك العمل حرفة في حياته، ولم يقتصر على التعليم الصحيح، بل أكسبته المثابرة على العمل مرانة وبراعة، وعرف كيف يصل إلى نتيجة خير مما يصل إليها غير المتمرن بجهد أقل من جهده، فكذلك لا نسمي فيلسوفا إلا من كان أهم أغراضه في حياته درس طبائع الأشياء وتعقلها، وعدته في ذلك فكره، وكان له بمزاولة ذلك قدرة على إدراك الأشياء بسرعة، وكما أن الصناع على اختلاف أنواعهم يعرفون دقائق عملهم، وإن شئت فقل ينبغي أن يعرفوا ذلك، وأن يكونوا على علم بأحدث ما اخترع مما يتعلق بعملهم، كذلك الفيلسوف المتخصص للفلسفة يجب أن يعرف ما وصل إليه من قبله، وما قالوه في المسائل التي تشغل فكره.
ولكن ما الحامل على التفلسف؟ وماذا يجني من ورائه؟ يقول أرسططاليس: «إن الدهشة أول باعث على الفلسفة.» برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره، وواجهه الزمان بظروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب، فبدأ يسأل: لماذا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ رأى هذا العالم أمامه لغزا فحاول حله، وتلك المحاولة هي الفلسفة. وقد كان أول حامل له على حله ما يرجوه من المنفعة من وراء ذلك، ولهذا قيل: إن المصريين هم واضعو أساس علم الهندسة لما ألجأتهم الحاجة إلى تحديد ما يمتلكه الأفراد إثر فيضان النيل السنوي، وقبائل البدو من الكلدانيين نظروا في النجوم ليهتدوا بها في السير بقطعانهم. وعلى الجملة فقد حاول الإنسان كشف معميات الحياة ليكون أقدر على تحصيل مصالحه ورعايتها؛ جسمانية كانت أو روحية، وقد ظل العقل الإنساني يتلمس السبيل للوصول إلى فهم العالم والحياة فهما جليا ثابتا صادقا، ويحل ما يعترضه من ألغازهما، وتنوعت أمامه المسائل؛ فمن أرض ذات فجاج إلى سماء ذات أبراج زينت بالنجوم للناظرين، فما أكثر متناول العقل! وما أوسع بيداء الجهل! حيث يجوب العقل البشري فيها يرتاد «واحة» ويجد في البحث لينفذ إلى أسرار الطبيعة ينشرها بين الناس؛ لينتفعوا بها، وبينا هو يتطلب معرفة الأشياء فرارا من الجهل إذ انبعثت فيه رغبة في المعرفة نفسها، وصار يتطلب المعرفة للمعرفة لا قصدا للفائدة العملية. والإنسان مفطور على حب الاستطلاع، وهذه الرغبة المتأصلة في أعماق نفسه لا تستأصل، وهي دافع قوي يقوى بنمو العقل، ويحمل على تطلب معرفة الحقائق الكبرى الأساسية لهذا الوجود وتلك الحياة، وعلى البحث في علل الأشياء وعلاقة بعضها ببعض، وهذا ما دعا الإنسان أن يتفلسف، أحس من نفسه الجهل بالشيء فشك فنظر ففكر؛ فاعتقد الحق فيما رأى، وليس ما يعتقده الإنسان بعد البحث حقا مقصورا على التأمل العقيم، بل غاية هذا التأمل أن يستخدم في الحياة العملية؛ فالفلسفة إذا شوق وجد وراء معرفة الأسباب الخفية للأشياء للتوفيق بين آرائنا وأعمالنا، وهذا هو قصدنا في الحياة، فليس ثمة غرض إلا الفرار من الجهل، والوقوف على الحق، وكشف النقاب عن باطل تقنع بحجاب سخيف يوهم أنه حق.
وأصل كلمة فلسفة وتاريخها يدلان على ما ذكرنا؛ فقد روى المؤرخ اليوناني «هيرودوت» أن «كريسس» قال «لسولون»: «لقد سمعت أنك جبت كثيرا من البلدان متفلسفا.» أي متطلبا للمعرفة، واستعمل «بركليس» كلمة «الفلسفة» يريد بها «الجد وراء التهذب» ومهما يكن من شيء فمنشأ الكلمة يشعر بالاعتراف بالجهل والشوق إلى المعرفة، قال «فيثاغورس» والأصح نسبته إلى سقراط: «الحكمة لله وحده، وإنما للإنسان أن يجد ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبا للحكمة، تواقا إلى المعرفة، باحثا عن الحقيقة.» وهذا ما يدل عليه اشتقاق كلمتي فلسفة وفيلسوف؛ فإنهما مأخوذتان من «فيلوس» ومعناها «محب» و«سوفيا» ومعناها «الحكمة» فمعنى فيلسوف: محب الحكمة، ومعنى «سوفوس»: الحكيم. وقد كانت كلمة «سوفوس» في الأصل تطلق على كل من كمل في شيء - عقليا كان أو ماديا - فأطلقوها على الموسيقي والطاهي والبحار والنجار، ثم قصرت بعد على من منح عقلا راقيا، فلما جاء سقراط سمى نفسه فيلسوفا أي محبا للحكمة؛ تواضعا وتمييزا له عن السوفسطائيين (المتجرين بالحكمة) الذين يطوفون البلاد يعرضون على الناس ما عرفوه بالثمن - كما يفعل بعض الباعة - وما كان المشترون ليشتروها أيضا إلا رغبة في الفائدة العملية.
فالفلسفة إذا تبحث عن كل مسألة يمكن البحث فيها، وإن شئت فقل: عن العالم، ونحن نقسم مسائلها إلى ثلاثة أنواع تبعا لموضوع البحث: (1)
مسألة الوحدة: أعني علة العلل القادرة على كل شيء، الخالقة لكل شيء، مفيضة الحياة على العالم. وهذا القسم يسمى ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة. (2)
مسألة الكثرة: أعني مظاهر هذا العالم المتنوعة. وهذا النوع يسمى «الفلسفة الطبيعية». (3)
مسألة أفراد المخلوقات التي أهمها لنا الإنسان،
1
ويشمل هذا النوع ما يأتي: علم النفس، أي علم الحياة العقلية للإنسان، ويبحث في: (أ)
الطرق التي يتبعها العقل للوصول إلى نتيجة صحيحة. وهذا يسمى المنطق وغايته ترقية فكرة الحق. (ب)
في العاطفة. وهذا هو علم الجمال وغايته ترقية فكرة الجمال. (ج)
في الرغبة أو الميل. وهذا موضوع علم الأخلاق، وهو يدور حول فكرة الخير.
قال الأستاذ سلي: «إن تحليل الإدراك أساس علم المنطق، وهو يقصد إلى وضع قواعد بها نعرف أن نفكر أو نستنتج استنتاجا صحيحا، وتحليل الشعور أساس علم الجمال، وهو علم الغرض منه الاهتداء إلى مقياس صحيح يقاس به الجميل وما يستحق الإعجاب.»
ولما كان سلوك الإنسان قد نظم ببيان ما يجب وما لا يجب قصدا للوصول إلى الخير، وكان بيان هذه الواجبات قد مهد السبيل للقانون، والقانون إما طبيعي وإما وضعي، كان لنا من ذلك فلسفة تسمى «فلسفة القانون»، وهناك مسائل تدور حول البحث في علاقة الأشخاص بعضهم ببعض تكون علما خاصا يسمى «علم الاجتماع» وهذا يشمل أيضا فلسفة التاريخ.
فموضوعات الفلسفة إذا ما يأتي: (1)
ما بعد الطبيعة. (2)
فلسفة الطبيعة. (3)
علم النفس.
2 (4)
المنطق (5)
علم الجمال. (6)
الأخلاق. (7)
فلسفة القانون. (8)
علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
هوامش
الفصل الثاني
ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
يمكن أن ينظر إلى هذا العالم بكل مظاهره نظرا علميا من جهتين مختلفتين؛ إحداهما: النظر إليه وفحصه من حيث أشكاله التي يتجلى لنا فيها، وعليها تقع حواسنا، مغفلين البحث عن علله المجهولة التي لا يمكن أن تعرف، والجهة الأخرى: النظر في روح هذه الظواهر من غير أن نلحظ تأثيرها في حواسنا؛ فالجهة الأولى موضوع العلوم الوضعية، والأخرى موضوع ما بعد الطبيعة.
لكل علم مدركات كعدة له وآلات لا يبحث هذا العالم في قيمتها، وإنما يجدها مهيأة من قبل فيستخدمها في أغراضه، ويكتفي بها، فهي موجودة وكفى، مثل المكان والزمان والكم والكيف والعلة والمعلول والحركة والقوة والهيولي والصورة
1 - وهي مدركات توصف بها الموجودات - رأت العلوم أن علة الحقيقة ليست إلا حقيقة أخرى، وأن سبب الحركة ليس إلا حركة أخرى، فسبب الصوت مثلا حركة الهواء، وليس ذلك السبب إلا حالة أخرى، جاء العلماء فبحثوا في الظواهر المتنوعة (كل في فرعه الخاص) ونظروا في أشكال المادة وتغيراتها كما يتراءى لهم، ولم ينظروا فيما هي المادة، ولا لم كانت كذلك، وإنما وجهوا كل همتهم نحو معرفة كيفيتها، فكانت دائرة علمهم مقصورة على الأشياء المتناهية، والتي أساسها التجربة والاختبار. لم تقنع بهذا نفس الإنسان - وهي الشغوفة بالبحث والاستقصاء - فرأت أن هذه المظاهر الزائلة للحياة المادية لا تقوم بنفسها، وإنما يجب أن تكون وراءها قوة خفية أزلية أبدية، هي للعالم كإرادتنا فينا، عندما نعمل عملا أو نتحرك بإرادتنا حركة، شيء مطلق لا يحده حد وليست له نهاية، هو علة الموجودات، وهو الذي تسميه لغة الدين «الله» - لهذا كانت الحاجة ماسة إلى علم يبحث عن هذه المدركات المتقدمة التي تنتفع بها العلوم الأخرى، ولا ترى أنها في حاجة إلى الشرح، وهذا العلم هو «ما بعد الطبيعة» وهو لا يبحث عن حقائق العالم المادي كما يتجلى لحواسنا، وإنما يبحث في الحواس من حيث مقدار الثقة بإدراكها كما يبحث عن ماهية الأشياء وعلة العلل، لا يكتفي بالحقائق حسب ما يوضحها الحس المشترك وحده، بل يتطلب الشيء المجهول الذي قامت عليه العلوم الأخرى من غير أن تبحث فيها، فهذا العلم غرضه الوصول إلى ما وراء هذه الظواهر الطبيعية، غير قانع بمعرفة الأشياء التي قد تظهر لنا على غير حقيقتها.
إن شئت فقل: إن هذا العلم يحاول أن يقف على المحرك الخفي لهذا العالم، ويتوق إلى أن يخترق هذا العماء ليحس بنبضه.
وإن هذا الشوق لإدراك هذه القوة الخفية المجهولة الذي أفضى بالسذج إلى الخرافات والأوهام هو الذي حمل الفلاسفة على البحث عما وراء الطبيعة، فعلم ما بعد الطبيعة هو علم «واجب الوجود» علم يبحث عن العلة الأولى للأشياء، وهو فرع من الفلسفة ينظر في أوسع المسائل مجالا للبحث الفلسفي.
وهل علم ما بعد الطبيعة سينال غرضه يوما ما، أو سيظل صاغرا متسولا أمام ساحة تلك القوة الخفية الكبرى لا يستطيع أن يطأ حماها، عاجزا إلا عن تخيل ما فيها، محاربا للصعاب التي تعترضه في سبيل كشف النقاب عن ألغاز هذا العالم الكثيرة؟ وهل يستطيع العقل البشري أن يحل هذه المسائل حلا مرضيا، أو سيظهر له أن البحث فيها بحث في مستحيل؟ كل هذه الأسئلة كانت ولا تزال عبئا ثقيلا على العلم والفلسفة، ولقد قيل: «إن علم ما بعد الطبيعة والشعر الرفيع السامي يلتقيان فيمتزجان، وإن عالم ما بعد الطبيعة عالم درج في غير عشه، ببحثه عن شيء فوق الحقائق، فإذا هو شاعر» وقال فولتير: «إن علم ما بعد الطبيعة بستان يرتاض فيه العقل، وإنه لألذ من علم الهندسة، فلا نعاني فيه ما نعانيه فيها من الحساب والقياس، بل فيه نحلم حلما لذيذا.»
وقال «بكل» في كتابه «المدنية في إنجلترا»: «إن كل باحث في علم ما بعد الطبيعة إنما يبحث أعمال عقله، ولم يكن من وراء ذلك البحث استكشاف في أي فرع من فروع العلم.» وقال «بخنر» مؤلف كتاب «القوة والمادة» في أحد مؤلفاته الأخيرة المسمى «بجانب قرن يحتضر»: «بينا نرى علم النفس والمنطق والجمال والأخلاق وفلسفة القانون وتاريخ الفلسفة تستحق البقاء، وينبغي أن يدرسها العقل البشري؛ إذ نرى ما بعد الطبيعة علما مستحيلا، وراء الطبيعة، وراء حواسنا، فيجب أن يترك بمضيعة ويعد من سقط المتاع.»
وقد كان البحث في قضايا هذا العلم سابقا لاسمه؛ ففي قضاياه بحث الأيونيون،
2
وفيها بحث كذلك أفلاطون، وسمى هذه الأبحاث «الجدليات» أو علم الكلام، واسم العلم يدل على أنه يبحث فيما وراء الطبيعة، وقد جمع أصحاب أرسطو وتلاميذه أبحاثه المتعلقة بأصل الأشياء، والتي تسمى «الفلسفة المبدئية» ووضعوها بعد أبحاثه المتعلقة بالطبيعيات، ومن هذا نشأ اسم ما بعد الطبيعة علما على ذلك العلم - ولم يكن الحد الفاصل بين مسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة واضحا جليا في الفلسفة اليونانية؛ فقد أطلق اليونان اسم الطبيعيات على ما نسميه اليوم ما وراء الطبيعة، ومن ذلك العهد إلى الآن سمي هذا العلم بأسماء شتى، فسماه «ولف» الفيلسوف الألماني: أنتولوجيا، أو «علم الموجود حقا» تمييزا له عن الظواهر التي تدرك بالحواس، وبحث «إدور هرتمان» في مسائل هذا العلم وسماها «ما لا يحس»، وكان «كانت» يقول: «إن عقل الإنسان مركب تركيبا يؤسف له، فإنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسنا، لم يستطع أن يكشف معمياتها.» لذلك نصح في كتابه المسمى «نقد العقل المجرد» بنقد عقولنا وقوانا قبل أن ننقد نظريات هذا العلم. أما في إنجلترا أرض الذوق الفطري
3
فلم ينل هذا العلم حظا وافرا، ولم يشتغل به منهم إلا القليل أشهرهم «بركلي».
وسنتعرض في فصل تال لذكر مسائل هذا العلم والمذاهب التي قامت حولها.
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة الطبيعية
إن موضوع بحث الإنسان إما أن يكون هو الطبيعة بأضيق معانيها، ونعني بها مجموعة الأشياء المرئية المدلول عليها بكلمة «العالم»، وإما «العقل» ونعني به القوة التي بها ندرك ونعلم ونتأمل ذلك العالم، وقد شوهد أن ما تقع عليه حواسنا أكثر استرعاء لنظرنا من المدركات العقلية المجردة؛ فإن الأخيرة نتيجة تأمل ناضج لا يكون إلا متى كان للعقل قدرة على التأمل في نفسه، فالطفل أول ما يتذكر إنما يتذكر أسماء الأشياء التي تتميز بلونها أو ثقلها أو صوتها أو نحو ذلك؛ وعلى الجملة فهو إنما يتذكر ما يسترعي حواسه، وما أشبه الأمم في أول حالتها العقلية بالطفل، فإنه يتدرج فكرها في الرقي كما يتدرج فكر الفرد في النمو، ودليلنا على ذلك اللغة، فاللغة تضع أسماء وحدودا لما تدركه حواسنا، وما تدركه قوانا العاقلة، وقد أثبت علم اللغة أن أسماء الجوامد التي تدرك بالحواس أسبق في الوجود من الألفاظ الدالة على عمل الحواس نفسها من نظر وسمع ونحوهما، لهذا كانت المباحث الفلسفية الأولى تدور حول المرئيات؛ أعني مجموعة الأشياء التي نسميها «العالم»، فكانت أهم مسائلهم البحث عن كل المظاهر التي تقع عليها حواسنا، والتي يطرأ عليها التغير الكثير، وعن العنصر أو مادة الشيء التي تبقى مع ما يطرأ عليها من التغيرات، تلك المسائل هي موضوع ما يسمى «فلسفة الطبيعة» ويقابلها «فلسفة العقل».
وقد دون أفلاطون آراءه في هذا الموضوع في رسالة سميت «تيمايس»، وأوضح الفرق بين الطبيعيات وما وراء الطبيعة بأن الطبيعة «معرض التغير»، وأما ما وراءها «فمعرض الثبات»، وجمع أرسططاليس آراءه في الطبيعة وفلسفته فيها في كتابه «علم الطبيعة». وفي العصور الحديثة سمي هذا الجزء من الفلسفة قسمولوجيا - علم الكون - وجعل علم الطبيعة فرعا منها، وقد وجه العقل البشري نظره في طور نشوئه الأول - أي قبل أن يفكر في نفسه - نحو العالم الخارجي؛ أعني نحو الطبيعة ودراستها، والطبيعة وحدة تتجلى في أشكال متعددة. وقد ظل الإنسان من أيام نشأته يجد في البحث وراء معرفة القانون الثابت للتغير المستمر، ويريد أن يعرف ذلك العنصر الذي تنتابه التغيرات وتجري عليه الظواهر المتنوعة، وذلك ما ترمي إليه فلسفة الطبيعة، وكان ممن بحث في هذا الموضوع فلاسفة اليونان الأولون مثل «طاليس» و«أنكسيمندر» و«انسكيمينيز»، وقد ذهب بعضهم إلى أن ذلك العنصر الأساسي الذي تجري عليه التغيرات هو الماء، وآخرون أنه الهواء، ومن أجل هذا سمي فلاسفة اليونان الأولون «الفلاسفة الطبيعيين»، أي الذين بحثوا في المادة - ما ظهر منها للحواس وما خفي - وهم أول من تكبدوا مشاق السير للوصول إلى الحقيقة، وقد كان سيرهم بالطبع بطيئا يصحبه التردد والحيرة، وحاولوا إيضاح الظواهر المتعددة ليدركوا منها وحدة العالم، وليشرفوا على ما شاع من غلط الحواس. وقد نشأ علم ما بعد الطبيعة عند الفلاسفة الأيونيين من الطبيعيات كما نشأ هو (علم ما بعد الطبيعة) عند الفيثاغوريين من العلوم الرياضية؛ فالأولون كان يهمهم البحث في الهيولي (المادة) وحركتها الأبدية، والآخرون (الفيثاغوريون) في النظام الذي يسود العالم - في الوحدة والنسبة، وتوافق المتضادات، والعلاقات الرياضية الكامنة في كل الأشياء - ذاهبين إلى أن كل شيء في علم الهندسة والهيئة والموسيقى مآله العدد، وأن العدد أساس العالم وروحه، وأن الأشياء ليست إلا أعدادا محسوسة، وكما أن العدد روح الأشياء فالوحدة روح العدد.
1
وقد أهمل البحث في الطبيعة في العصور الوسطى، تلك العصور التي سادت فيها الكثلكة، وغلب على الناس التدين الأعمى والخضوع المطلق، فلم يفكروا إلا في أنفسهم وعلاقتها بالله، بل كانوا يستخفون بهذه المباحث، فقل النظر فيها حتى جاءت البروتستانتية فحررت العقول من أغلالها، فهبت من رقدتها للبحث، وساعد على نهضتها استكشاف ممالك لم تكن تعرف، فانبعثت الفلسفة القديمة، ووجه الفلاسفة مثال «جاليليو» و«كبلر» و«برنو» وغيرهم أنظارهم نحو العالم والكون، فأداهم النظر إلى استكشافات كبرى (وتبين أن ذلك الكوكب الذي نعيش فيه ليس إلا هنة تدور حول شمس من شموس عديدة انتثرت في الفضاء نثر الرمال في الصحراء)، ولم يكن العلم الطبيعي (الفلسفة الطبيعية) متميزا عن فلسفة الطبيعة حتى في أيام الفلاسفة «ديكارت» و«ولف» و«نيوتن» إلى أن ظهر سنة 1770م الكتاب المشهور المسمى «نظام الطبيعة» لمؤلفه «بارون هلباخ» وإن كان الكتاب ظهر باسم «ميرابو»، وجاء «كانت» و«شلنج» فأوضحا الفرق بين فلسفة الطبيعة والفلسفة الطبيعية، ومن ثم سارت العلوم الطبيعية شوطا بعيدا، وقد حصرت فلسفة الطبيعة في مسائل (ما وراء المادة) أو ما بعد الطبيعة، وفي البحث في أشياء كانت سببا في استكشاف العلوم الطبيعية، فيبحث في: القوة والهيولي والحركة والحياة ونحوها مما هو موضوع العلوم الطبيعية.
هوامش
الفصل الرابع
علم النفس (سيكولوجيا)
كان مما لفت نظر الإنسان وأيقظ رأيه واسترعى بحثه ومرن فكره - كما ذكرنا - هذا العالم الذي تنوعت أشكاله وتغيرت ظواهره، الحافل بمناظره، المحير بألغازه ، الذي بهر العقول بجماله وروائه، وقد كان أول باعث على أن يفكر فيه تفكيرا فلسفيا رغبته في فهمه وإخضاعه لأمره، وما اعتراه من الدهشة التي أخذت بحواسه، لذلك بدأ الإنسان بالفلسفة الطبيعية التي تميل بالمرء إلى حل معميات هذا العالم، وتلا النظر في العالم المادي ما هو أهم للإنسان؛ وهو النظر في نفسه.
أثبت العلم أن الأرض ليست إلا كوكبا صغيرا سيارا يدور في فضاء غير متناه، ومع هذا فالإنسان من قديم الزمان إلى الآن لا يزال يرى نفسه خير موجود في الدنيا، ومهما اقتنع بأن القبة الزرقاء التي تتلألأ بالنجوم لم تخلق من أجله، وأن السيارات غير الأرض مسكونة كأرضه، فلن يعدل على أن يعتقد في نفسه أنه أرقى مخلوق، والسبب في هذا أن ارتقاء عقله جعله يشعر تدريجيا بوجوده وبعلمه - أو بحاجته إلى العلم - وبشعوره ورغباته وأفكاره، وبأن له قدرة على أن يبدي أفكاره، وأن يفضي بها إلى غيره، وعلى الجملة جعله يدرك أنه وحده عالم في عالم.
دعته دواع لأن يعرف فاجتهد في تعرف ما حير عقله، وكانت تلوح منه التفاتة نحو نفسه فيأخذه العجب من تلك القوة التي فيه، بها يتحرك وينطق، بها يريد ويرغب، بها يشعر ويشتهي. قيل: إن سقراط استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي إلى الإنسان،
1
ونعني بذلك أن هذا الفيلسوف اليوناني العظيم أول من بدأ بالتفكير في الإنسان وما يتعلق به، وفضل ذلك على النظر فيما يحيط به من العالم المادي، وقد نسب إليه أنه أول من قال: «اعرف نفسك»، ولكن الحقيقة أن «طاليس» قالها من قبله، ومن ذلك الوقت والإنسان حيران في تلك الأسئلة التي وردت على لسان الشاب الحزين في شعر «هيني»، سألها نفسه في جنح من الليل وقد هدأت الأصوات وهو واقف أمام البحر المحيط الموحش: «ما الإنسان؟ من أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟» تلك أسئلة تركت المفكرين في كل العصور حيارى، أيام كان النوع الإنساني في همجيته، وأيام أن ابتدأ يرقى عقله، وأيام أن بلغ في المدنية والنمو العقلي شأوا بعيدا، قال «سوفوكليز» الروائي اليوناني: «ما أكثر العجائب! وأعجبها الإنسان.» إن هذه الأسئلة: «ما الإنسان؟ وما منزلته في العالم؟ وما علاقته بالأشياء التي تحيط به؟» هي التي قال فيها هكسلي: «إنها أساس كل ما عداها من الأسئلة، وإنها أحب للإنسان مما سواها.» هي التي شغلت الرءوس على اختلاف أنواعها: من ذوات القلانس من قدماء المصريين، إلى حملة العمائم، إلى لابسي القبعات السود، إلى أرباب الضفائر، إلى ألوف من رءوس تصببت عرقا من البحث، كل سأل هذه الأسئلة، وكل أجاب واختلفت إجابتهم باختلاف روح العصر الذي كانوا فيه.
وتسمى المباحث التي تتعلق بالنفس أو العقل: علم النفس أو سيكولوجيا؛ من «سيكي» نفس و«لوجوس» علم، وهو يبحث في الإنسان من الجهة الخلقية والعقلية لا من الجهة الجسمية.
ولسنا نتعرض هنا للبحث فيما إذا كان العقل أو النفس شيئا غير الجسم مستقلا عنه، أو كانت قوة التفكير التي ميزت الإنسان عن غيره من الحيوان، والتي أخذت في النمو شيئا فشيئا برقي النوع الإنساني من حالة البداوة إلى حالة المدنية، تابعة لحالات الإنسان الجسمية؛ فإن رسالة تؤلف سواد الناس لا يتسع المجال فيها لهذا البحث؛ ويكفينا هنا أن نذكر أن العلاقة بين العقل والبدن، وإن شئت فقل بين أعضاء البدن الظاهرة والأخرى التي يظهر أنها خفية، كانت موضع اهتمام عظيم في العصور الحديثة أدى إلى كثير من النتائج العلمية الهامة، ومن أشهر رجال هذا العلم «هكسلي» و«بخنر» وغيرهما.
إن هذه الرسالة التي لم يكن من غرضها إلا النظر في الفلسفة من جهة تاريخية وعرض مسائلها تتجنب البحث فيما إذا كان النظام العقلي والبدني شيئا واحدا أو شيئين، وفيما إذا كان العقل قوة غريزية أو مكتسبة، بل ولا تتعرض لما «إذا كان الرقي العقلي للإنسان - كما يقول هكسلي - يشبه السرفة
2
في تحولها، تنزع عنها جلدها وتتحول إلى فراشة، وأن العقل الإنساني في أكبر مظاهره ثمرة القوى الطبيعية، وأنه مركب من مواد كما تتركب الشمس والسيارات، أو أن الفكر منبعث عن النفس التي هي شرارة إلهية» كلا، بل ولا تخوض فيما إذا كامن الروح عندما يلفظ النفس الأخير يرد إلى عالم الأرواح غير المعروف كما يقول رجال الدين، فيرجع الجسم إلى الأرض ويلحق الروح بالله، أو أنه يفنى فناء الجسم ويشتركان في الفناء كما اشتركا في البقاء ويختفي الإنسان كما يختفي النبات؛ تلك كلها مسائل نذكرها ولا نناقشها.
من المحتمل أن يكون الفكر شيئا روحانيا، وأن يكون مجرد قوة بدنية هي وظيفة المخ المنظم عند الإنسان أكثر منه عند الحيوانات اللبونة،
3
والذي يهمنا هنا هو أن نذكر أن المخ - على أي حال كان - هو عضو التفكير، وهو يفنى مع مادة الجسم، ويصبح الرأس بعد الموت وقد زال عنه كل ما كان له من حيل ودهاء ومغالطة وسفسطة.
وما دامت العلاقة بين الفكر والبدن قائمة، وما دام المخ يؤدي وظائفه، فإننا نعرف، ونفكر، ونريد، ونرغب، ونحس، ونشعر بصدور هذا عنا.
وعلم النفس ينظر في الأعمال التي نعملها والطريق التي نتبعها للوصول إلى ذلك الشعور، ويبحث في حقيقة القوى التي تفعل ذلك؛ أعني قوة المعرفة، وقوة الشعور، وحدود الفكر، ومقدار الثقة بصحة التفكر، ووظائف العقل المختلفة التي بها ندرك ونحكم ونتخيل.
فعلم النفس إذا يبحث في عمل العقل.
قال الأستاذ «سلي» في كتابه (العقل البشري): «إن أهم ما يقصده هذا العلم أن يشرح ظواهر الشعور الراقي في الإنسان، وهذا الشرح العلمي يقتضي ترتيبا وتبويبا للعوامل المختلفة في الحياة العقلية، وشرحا لمنشئها وارتقائها، فليس الغرض من هذا العلم أن يصف الظواهر العقلية فقط، بل وأن يتتبع أصلها وتاريخها.»
علم النفس يبحث في قوى الالتفات، والإحساس، والإدراك، وقوة الحافظة، والذاكرة، والإرادة وحريتها، والخيال، والوهم، وفي الشعور والعواطف، وفي اللذة والألم، وفي الشم والذوق.
فهو يبحث في أعمال العقل ليستكشف قوانينه وطرقه التي عنها تصدر الظواهر المتقدمة، كما أنه يبحث في طبيعة العقل وحقيقته وجريه على سنن واحد، وروحانيته، وعلاقته بأعضاء الجسم واعتماده عليها، وتبادل الفعل والانفعال بينه وبينها.
قال الأستاذ «هكسلي»: «إن مثل الباحث في النفس «السيكولوجي» مثل المشرح، فكما أن المشرح يفصل الأعضاء إلى أنسجة، والأنسجة إلى خلايا، فكذلك السيكولوجي يرجع الظواهر العقلية إلى حالات الشعور الأولية.» فالعالم في وظائف الأعضاء يبحث في الطرق التي بها يؤدي البدن وظائفه، وعالم النفس يبحث في قوى العقل، وكما أن العلوم الطبيعية تبحث في العالم المادي الخارجي بواسطة الحواس، كذلك علم النفس يلاحظ ويبحث بواسطة قوة خاصة تسمى «الحس الباطني».
وعلى الجملة فعلم النفس يبحث الحياة العقلية، قابلة أو فاعلة، وفي الشعور بكل مظاهره، وما يبحث عنه علم النفس من ظواهر وحقائق مستمد إما من الشعور وإما من الإدراك بالحس.
إن فكرنا ومعرفتنا وإحساسنا إما نتيجة قوة إدراك باطنية، وإما نتيجة انعكاس ما ندركه من الخارج بواسطة الحواس؛ فنحن تارة نوجه نظرنا إلى عمل ذهننا عندما نعمل أو نفكر أو نحس، وتارة نبحث الظواهر العقلية في غيرنا، فندرس نظراتهم وإشاراتهم وأعمالهم وأقوالهم، ونستنتج ما تدل عليه تلك المظاهر من الفكر والحس قياسا على ما يبدو علينا عندما نفكر مثلهم أو نحس كإحساسهم.
قال الأستاذ سلي: «إن لدرس ظواهر العقل طريقتين؛ إحداهما: توجيه عنايتنا إلى الأعمال العقلية عند حدوثها في ذهننا، أو عقب ذلك مباشرة، كما ألاحظ نفسي عند الغضب مثلا فأرى تسلسل الأفكار وتلونها بألوان خاصة، وما ينشأ عن الغضب من تحيز وميل عن الحق، وتسمى هذه الطريقة «ملاحظة الباطن»، والطريقة الأخرى: أن ندرس أعمال العقل في غيرنا بما يظهر عليهم، فنلحظ الارتباط بين أفكارهم مما نسمع من كلامهم، ونعرف الباعث على أعمالهم، وتسمى هذه الطريقة «ملاحظة الظاهر»؛ لأننا نتوصل إلى معرفة الحقائق العقلية بواسطة الظواهر الخارجية التي تدرك بالحواس من مثل: كلمة تقال، أو صرخة تسمع، أو حركة ترى، أو لون يتغير.»
والبحث في علم النفس (سيكولوجيا) سابق على وضع اسم له؛ فإن هذا الاسم لم يستعمل إلا في آخر القرن السادس عشر للميلاد، مع أنا ذكرنا فيما قبل أن «سقراط» أو «طاليس» قال: «اعرف نفسك»، وألف «أرسطو» كتابا يحتوي ثلاث مقالات عنوانه (في النفس)، بحث فيه في القوى العقلية للإنسان وعدها عين النفس والحياة.
ثم جاء الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت 1596-1650 فوجه هذا العلم وجهة جديدة، ومما يؤثر عنه أنه أجاب من سأل: «كيف أعرف أني موجود؟» بقوله المشهور: «إني أعرف أني أفكر، وأشعر بتفكيري، فأنا أعرف أني موجود.»
والمنابع التي يستقى منها هذا العلم اثنان كما أسلفنا؛ وهي: ملاحظة أعمال عقله، وما يجرى من التجارب على غيره. وجاء الفيلسوف الإنجليزي جون لوك 1632-1704م فألف رسالة في العقل البشري بحث فيها في الإدراك الغريزي بالحس - باطنا كان أو ظاهرا - وذهب إلى أن العقل البشري صحيفة بيضاء تدخل إليها التجارب من أبواب الحواس فتترك فيها نقوشا وأثرا، فنحن نحصل معارفنا إما بواسطة الحواس وإما بواسطة التأمل.
4
وفي القرن الماضي بدأ الناس - بعدما استكشف من الحقائق اليقينية - يميلون إلى فصل علم النفس عن الفلسفة وجعله علما مستقلا كعلم وظائف الأعضاء - الفسيولوجيا - إذ كان لا علاقة بينه وبين نظريات ما بعد الطبيعة.
ولما كان علم النفس يبحث في أعمال العقل بحثا عاما اجتهد في تعرف القوانين والقواعد التي تهدي الفكر وتعصمه من الخطأ، وأخذ يبحث في النظام الذي يسير عليه الفكر ليصل إلى نتيجة صحيحة؛ فنشأ من ذلك فرع من علم النفس انفصل عنه وسمي بعلم المنطق.
هوامش
الفصل الخامس
علم المنطق
جاء في إحدى روايات «موليير» أن أحد أغنياء التجار رأى أن ينزع عن جهله ويعود إلى التعلم، فما كان أعجبه حين علمه معلم اللغة أن الكلام إما نظم أو نثر، وأن كل ما ليس بشعر نثر، ودعاه العجب أن يسأل: فمن أي نوع أنا أتكلم؟ قال: إنك تتكلم نثرا، قال: فأنا أتكلم نثرا طول حياتي ولا أعرف! ثم ذهب إلى أهله وجمع عشيرته ليخبرهم بالاستكشاف الجديد. كذلك كثير من الناس يرعبون إذا ذكر اسم المنطق أو اقترح عليهم أن يقرءوا كتابا في المنطق، ولو علموا أنهم في محادثتهم اليومية وما يدور بينهم من مناقشة وما يشرحون من معتقدات ومسائل دينية وسياسية يسيرون على مقتضى المنطق لاعتراهم من الدهش ما اعترى ذلك التاجر.
إذا شرحت نظرية أو قيل قول أو ذكر رأي؛ فإنا نصغي إليه ونفهمه، ولكنه لا ينطبع في عقولنا حتى يبرهن عليه؛ فإن نحن حللناه وامتحناه وتبينت لنا صحته انطبعت في عقولنا نتائج لا نشك في صحتها، وإننا إن سرنا على هذه الطريقة قيل: إننا نفكر تفكيرا منطقيا أو تفكيرا صحيحا؛ فالمنطق إذا علم التفكير الصحيح، وهو يبحث في القوانين والشروط الضرورية للوصول إلى حكم صحيح يقبله كل مفكر عادي.
ما الشروط التي تجعل الحكم صحيحا؟ كيف نمتحن الحكم ونتأكد من صحته؟ هذه مسائل يبحث عنها علم المنطق، وهو لا يعلمنا كيف نفكر أو ماذا يعمل عقلنا عند التفكير فحسب، بل يعلمنا أيضا كيف ينبغي أن نفكر، فهو يحلل التفكير الصحيح، وما نعمله لنصل إلى نتيجة صحيحة، ويرينا خطأ الفكر عندما ينحرف عن القواعد. هذا وكثير من الناس يستخفون بالمنطق ويستهزئون به وما دروا أنهم مناطقة إلى درجة ما، تتبع عقولهم ما يرسمه المنطق وإن لم يعلموا، ويلاحظون قوانين التفكير الصحيح على غير علم منهم بها حتى ولا بوجودها.
إذا نحن امتحنا التفكير وجدناه يتركب من ثلاثة أعمال يعملها العقل: إحساس بالشيء أو المعنى، وتأثر العقل بهذا الشيء أو المعنى وإدراكه، وهذا هو الفهم في أبسط أحواله، بعد ذلك نبتدئ نؤلف بين فكرتين؛ فإما أن نقرن بعضهما ببعض، أو نفرق بينهما، أي إما أن نثبت وإما أن ننفي، وبذلك يتكون الحكم على الأشياء، وهذه الأحكام يظهر لنا بعضها صحيحا والبعض الآخر خطأ، وإذ كنا نحاول دائما الوصول إلى أحكام مقبولة عند غيرنا كما هي مقبولة عندنا، حاولنا أن نستكشف عللا وأسبابا تتبين منها وجوه خطأ الحكم وصحته، فقارنا الأحكام بعضها ببعض، ونظرنا في العلاقات التي بينها، وبحثنا فيما يقال مبتدئين من الجمل الأولى التي تسمى «المقدمات»، ومنتهين بما يسمى «بالنتيجة».
ولا حاجة بنا هنا إلى البحث فيما إذا كان الإدراك يمكن أن يقوم بنفسه من غير ألفاظ أو لا، وإذا كان فإلى أي حد يكون ذلك ؟ فإن هذه المسألة كانت ولا تزال موضع بحث علماء النفس والمناطقة، فمنهم من يؤيد القول بأنه من الممكن التفكير بدون الاستعانة باللغة، ومنهم من يذهب إلى أن ذلك غير ممكن، وأن التفكير من غير ألفاظ ضرب من الوهم الكاذب، وقد قرر «مكس ملر» مرارا أن الفكر واللغة حقيقة واحدة.
شبه ذلك بالنقد
1
فقال: «ليس ما نسميه بالفكر إلا وجها من وجهي النقد، والوجه الآخر هو الصوت المسموع، والنقد شيء واحد لا يقسم، فليس ثم فكر ولا صوت، ولكن كلمات.» وقد نوقشت نظرياته وعورضت. ومهما يكن فإن من المسلم به أننا عندما نتعقل شيئا أو نستنتجه نستعمل الألفاظ في الدلالة على عمليات العقل، ومن المتفق عليه أننا نشرح أفكارنا بالألفاظ والكلمات الخارجية؛ فقد وضعنا للشيء الذي في عقلنا اسما، ودللنا عليه بكلمة خاصة سميناها «اللفظ»، وبانضمام لفظين أو أكثر مع رابطة نستطيع أن نشرح رأيا أو حكما، وهذا هو ما يسمى «القضية»؛ ولأجل أن نبرر أقوالنا ونبرهن على صحتها ونوضح وجه قبول قول أو رفضه نضع القضايا ونستنتج منها نتائج، وهذه الأدلة المكونة من القضايا تسمى «الأقيسة»، فالمنطق - وهو علم التفكير الصحيح - يبحث في الألفاظ والقضايا والأقيسة.
هذا ولا يخفى ما في تحديد معاني الألفاظ من الفائدة، فكثيرا ما يثور الخلاف بيننا في مسألة ويشتد الجدال في موضوع، ويظهر أن المتجادلين على خلاف فيما بينهم، وهم في الواقع على اتفاق، ولو حددت ألفاظهم لتجلى لهم أنهم على رأي واحد، وليس منشأ الخطأ في الفهم إلا الغلط في تحديد الألفاظ أو غموضها وتعقيدها والتباسها؛ لذلك كان «فولتير» يبدأ المناقشة دائما بقوله: «حدد ألفاظك»؛ فالعلم بمعاني الألفاظ علما صحيحا لا يستغنى عنه للتفكير الصحيح ولا للحكم الصحيح.
وعندما نستخلص حقيقة من حقيقة أخرى نسمي ذلك «استنتاجا»، وليكون الاستنتاج صحيحا يجب أن نسير على مقتضى قوانين تعصمنا من الخطأ، وتمنعنا من الوصول إلى نتيجة باطلة.
والقوانين الأولية للفكر ثلاثة؛ وهي: (1)
قانون الذاتية: وهو أن كل شيء هو هو، وبعبارة أخرى: كل شيء هو نفسه . (2)
قانون التناقض : وهو أن لا شيء يمكن أن يكون هو وليس هو. (3)
قانون الامتناع: وهو أن الشيء إما أن يكون أو لا يكون، أو: الشيء إما أن يكون كذا أو غيره، وبعبارة أخرى: الشيء إما أن يجاب عنه بنعم أو بلا.
وإذا نحن أهملنا قوانين الفكر الصحيح فلا بد من الوقوع في الخطأ مع عجزنا عن معرفة موقعه، ولا بد لنا غالبا من الرجوع إلى القول من مبدئه لاستكشاف الموضع الذي انحرفنا فيه عن الصواب، والذي بسببه نصل إلى غير ما قصدنا، وتسمى هذه الأغلاط «بالمغالطات».
ونحن في بحثنا لا نقصد الوصول إلى نتيجة صحيحة فحسب، وإنما نقصد الوصول إليها من أقرب طرقها، وللوصول إلى ذلك نستعمل نظما متنوعة يظهر لنا أنها أنسب لغرضنا، وتسمى هذه النظم «بالطرق». ويستخدم المنطق في كل العلوم على اختلاف أنواعها.
وهذه الطرق متنوعة؛ فمنها: (1)
طريقة الاستقراء: وهي فحص أمثلة ومعلومات ثم محاولة الوصول منها إلى قاعدة عامة، وتسمى هذه الطريقة طريقة «التحليل» لأنها تحلل الكل إلى أجزاء. (2)
طريقة الاستنتاج: وهي على العكس من الأولى، ففيها يبتدأ بذكر قضايا عامة، ووضع بعضها بجانب بعض، واستنتاج النتائج منها، وتسمى «طريقة التركيب» لأن بها تركب من الأجزاء قضايا عامة.
ففي الطريقة الأولى - وقد تسمى أيضا «الطريقة العكسية» - نبتدئ من الجزئيات ونستقريها، ثم نستنتج منها قضية عامة، وفي الثانية - وتسمى «الطريقة الطردية» - نبتدئ من القاعدة العامة ثم نطبقها على الجزئيات التي نعرفها من قبل بالاختبار.
2
هوامش
الفصل السادس
علم الجمال
هناك فرع آخر من فروع علم النفس يبحث في الشعور الذي ينبعث عن الشيء الجميل، والذي يستحق الإعجاب، أو عكسهما؛ أعني القبيح والمزدرى.
إن في حواسنا - ولا سيما حاستي السمع والبصر - أليافا بها نشعر باللذة إذا سمعنا بعض الأوصاف أو رأينا بعض المناظر، وإن المناظر الطبيعية العديدة في بهائها وجمالها وعظمها، وتوقيع الموسيقيين في تناسقه، وصور المصورين وتماثيلهم،
1
وقراءة الشعر الجميل وسماعه؛ ليحدث في نفوسنا أريحية ويبعث في قلوبنا هزة طرب؛ فطورا نلفظ بما يدل على شعورنا فنهتف : «ما أجمله وما أبدعه! إنه لمنسق وإنه لرشيق.» وطورا نتدرع بالصمت إذ لم نجد قولا يعبر عن شعورنا، وإنا لنسر برؤية الشيء ونعجب به ولو كنا لا نملكه، بل قد:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
إن الجميل ترتاح له النفس، وينشرح له الصدر، أما القبيح فينشأ عنه شعور بألم أو نفور، قال «نيتشه»: «كل ما كان قبيحا يضعف الإنسان ويقبض صدره؛ إذ يذكره بالانحطاط والخطر والوهن.»
فإحساس الإنسان بشيء من الضيق يؤذن بحدوث شيء «قبيح»، وقد ذكرنا أن الجميل ترتاح له النفس، ولكن ليس كل ما ترتاح له النفس جميلا؛ ذلك لأن اللذة التي تحدث من الجمال نتيجة تأثير في العقل بواسطة الحواس، ولست أعني كل الحواس، وإنما أعني الحواس الراقية، وهي حاستا السمع والبصر، فليس كل ما يلذ لحاستي اللمس والشم دائما جميلا، فلا شيء من الجمال في فاكهة لذيذة عند أكلها، ولا في مطعوم عندما نطعمه؛ إذ لا يوصف ذوق تفاحة ولا شم مشموم بأنه جميل، وإنما يقال: طعام مستطاب، ورائحة طيبة.
والجميل أيضا يغاير النافع؛ فإن الشيء الجميل حقا الذي يمنحك لذة لا تكافئها لذة بالتأمل في محاسنه، أو بالإصغاء إلى تناسق نغماته، ليس بنافع عادة - أعني أنه ليس بنافع ماديا وإن كان من المحتمل أن يكون نافعا من الوجهة الأدبية - وما يحدث من اللذة والسرور عند التأمل في الجمال مقصود لذاته لا لشيء آخر وراءه يرغب فيه، وقد كان الفيلسوف الألماني «كانت» أول من أبان أنه مقصد لا وسيلة لغيره.
والسمع والبصر اللذان يعدان أعظم الطرق في العقل هما العضوان اللذان يوصلان إلى المخ أو إلى المركز العصبي كل التأثرات التي تحدث من التأمل في اللون والشكل والهيئة والحركة، أو من سماع أصوات خاصة، وهذه التأثرات تكون مصحوبة عادة بشعور بلذة أو ألم، وتسمى اللذة التي تحدث من التأمل في الجمال «لذة الجمال»؛ وهي أثر الجمال يخاطب عواطفنا وعقولنا وخيالنا بواسطة الحواس، فيذكي نفوسنا ويرقيها ويزكيها، ومن مميزات هذه اللذة خلوها من رغبة في الملك تسبب إحساسا بالألم لا محالة؛ ففرع الفلسفة أو علم النفس الذي يبحث في هذه العواطف وتلك اللذائذ هو «علم الجمال». والإنسان كثيرا ما يحس بسرور ولكنه لا يعرف علته، وقلما يبحث في السبب ويحلله، والغرض الفلسفي من علم الجمال أن يبحث وينقب ويحدد ذلك. نعم، إن الفيلسوف والعامي يشتركان في أن كلا يشعر، ولكن الثاني لا يستطيع أن يوضح شعوره بقول أو فعل كما يستطيع الفيلسوف والفنان؛
2
فالعامي يشعر فقط، والفيلسوف يشعر ويتأمل. في العامي غريزة ساذجة وعاطفة وإلهام يشاركه فيها الحيوان إلى حد ما، وفي الفيلسوف تبصر وإمعان وفكر.
علم الجمال - وإن شئت فقل: «علم الجميل» - هو علم يبحث في الشعور والإحساس واللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة. وهذا التعريف لا يسلم من النقد إن لم يكن خطأ محضا؛ فإن هذا العلم لا يبحث في الجميل فقط، بل يبحث في القبيح أيضا، كما أنا إذا تكلمنا عن «علم الحروب» فلسنا نعني علم النصر، وإنما نعني علم الحركات الحربية التي ينبغي أن تؤدي إلى النصر، وربما أدت إلى الهزيمة.
الجميل يبعث في النفس الشعور بالحب والجاذبية واللذة والسرور، والقبيح يبعث الشعور بالكراهية والنفور، ولكن نرى جمال الطبيعة الرائع، والنجوم التي لا عداد لها سابحة في الفضاء منثورة نثر الرمال في الصحراء، والجبال الشامخة، والبحار الشاسعة، وشروق الشمس وغروبها فنطلق عليها اسم «الجميل»، وهي مع ذلك تحدث في النفوس حزنا عند التأمل فيها، وتبعث نوعا من الكآبة - أو الوجد - يصح لنا أن نسميه ألما لذيذا، وسبب هذا أننا نراع أمام هذه الأشياء باللانهاية، ويعلونا الشعور بأنا لم نعد في حضرة «جميل»، بل في حضرة «جليل»، وهذا يحدث في النفس أولا شعورا بالضعة، ثم يتلوه شعور بالرفعة.
ويقابل الجليل «الفكه»،
3
وهو ينشأ من تضاد أو عدم ملاءمة أو ظهور الشيء بغير مظهره، كالوقار المصطنع والصلاح المفتعل، قال الأستاذ «سلي» في آخر كتاب له واسمه (رسالة في الضحك): «إن لفظي المضحك والفكه يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر إلى حد ما مع أمن اللبس، ومع ذلك فيحسن أن يلاحظ أن اللفظ الثاني يستعمل عادة في معنى أدق من الأول؛ إذ الظاهر أن لفظ (الفكه) لا يدل على ما يضحك منه فحسب، بل يدل أيضا على ذلك النوع من المجون العقلي الذي يتضمن ملاحظة ما بين الأشياء من الروابط والنسب ملاحظة واضحة، ويتصل تمام الاتصال بما ذكرنا من دلالة كلمة (الفكه) على الجانب العقلي أنه يلاحظ فيها أيضا الدلالة على المثل الأعلى لما يستحق أن يضحك منه، وفيها - كما في كل ما يثير عاطفة الجمال - إشارة شبه خفية إلى قواعد الفن المنظمة للعمل.»
والمناظر المحزنة تبعث في النفس لذة مشوبة برحمة، لذة يخالطها شيء يشبه الألم، وسبب هذه اللذة أن للعواطف الأخلاقية عملا في هذه الأشياء، وعلم الجمال يبحث في كل هذه الإحساسات، فهو علم الشعور والعواطف والانفعالات.
علم الجمال يحد الجميل والقبيح والجليل والهزلي والفكه، ويبحث في السبب الذي من أجله يظهر الشيء جميلا أو قبيحا، يبحث في الجمال المطبوع كما يبحث في الجمال المصنوع؛ أعني أنه يبحث في الفنون
4
وفي جمال الذات وجمال المعنى، فهو بذلك حلقة الاتصال بين الفلسفة والفن، وهو - فلسفيا - جزء من علم النفس.
عم ينبعث الشعور بالجمال؟ هل هناك جمال قائم بنفسه، أو أن الشعور بالجمال يعتمد على ما نجده من أنفسنا في الشيء، وعلى ما يظهر به الشيء أمام أعيننا، ومن ثم كان الصوت أو المنظر يسر إنسانا ولا يسر آخر بل ربما يسوءه؟ ما خواص الحركات والأشياء التي يكون بها الصوت جميلا منسقا يلذ السامعين؟ هل هناك عنصر مشترك في كل ما هو جميل؟ هذه المباحث وأمثالها هي التي يشتغل علم الجمال بدرسها.
قال الأستاذ «بين» في كتابه (الانفعالات والإرادة): «إن الفكرة الأولى في الجمال تنشأ عن الألوان، فالطفل قبل أن يشعر بلذة من جمال شكل أو جمال حركة تأخذ ببصره الألوان الزاهية والصور البديعة، وإني أميل إلى تقرير ذلك عند القرويين؛ فإنه تغلب عليهم هذه الفكرة في الجمال حتى في تقدير جمال النساء.»
ويوضح هذه الفكرة أن الأجناس البشرية الأولى والأشخاص الذين لا يزالون في طور الانحطاط ينجذبون نحو الألوان الزاهية في الجماد والحيوان.
إن من أخذوا بحظ قليل من الرقي ولم يصلوا إلى حد أن يوجهوا نظرهم نحو أنفسهم يميلون إما إلى الألوان القوية (كالأحمر والأصفر) أو الألوان المتنوعة، أما الراقون المهذبون فيميلون إلى الألوان المتلائمة والخفيفة، تعجبهم وحدة الفكرة التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة.
والقوة التي بها نميز الجمال ونقومه هي التي نسميها بالذوق، وهي ملكة في الإنسان بها يشعر بلذة الجمال، منحها الناس على تفاوت فيما بينهم، يرقيها التهذيب والمدنية في الفرد والمجتمع إلى درجات متفاوتة.
إنا لنرى أن الصوت الواحد أو المنظر الواحد لا يؤثر في السامعين والناظرين أثرا واحدا، وسبب ذلك:
أولا:
أن الخيوط العصبية ليست سواء في التركيب عند الناس، وأن الاختلاف بينهم في المزاج والتربية والعادات كبير.
وثانيا:
أن الناس مختلفون في درجة الرقي العقلي - وليست الحواس وحدها تكفي في إدراك الجمال، بل لا بد معها من العقل - فالحواس وحدها تستطيع أن تدرك الحركات والأشكال والأصوات والألوان على انفرادها، ولكن لا بد معها من الفكر والشعور ليربطا بعضها ببعض، ويكونا منها مجموعة واحدة متناسقة الأجزاء، وبهذا أيضا يختلف الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يستطيع أن يدرك ألوان صورة ذات ألوان كصورة العذراء لروفائيل، ويسمع الشعر، ولكن لا يدرك ما يدل عليه ذلك من عشق، ولا يشعر بما يمثل من عواطف.
هذا هو السر في أنك ترى إنسانا يلقف
5
الجمال ويفهمه في الطبيعة والصناعة، وفي تناسق الأصوات والصور، على حين أنك ترى الآخر لا يأبه لكل هذا، هو السر في أنك ترى الشخص مفتونا بالشيء لهجا بذكره، بينا ترى الآخر ضجرا به متبرما منه، ترى جماعة يلذ لهم سماع رواية راقية مهذبة، وترى الآخرين إنما يلذ لهم أن يروا منظرا مضحكا في ملعب، هذا هو السر في ميل السيدة من الأشراف إلى الألوان الخفيفة والقاتمة أو - على الأقل - الألوان المتناسبة، بينا نرى خادمتها السوداء تميل إلى الأحمر والأصفر؛ ذلك لأن إحداهما لها ذوق، والأخرى ليس لها، أو لها ذوق لم يرق بعد.
ولذة الجمال تعلن عن نفسها غالبا بإيجاد عمل من الأعمال، ففي الإنسان رغبة متأصلة في أعماق نفسه تدعوه لأن يوضح ما يشعر به، إما بخط أو صوت أو تصوير، فهو لا بد أن يتكلم ويصور ما في نفسه، ومن لم يستطع أن يتكلم أو يكتب أو يؤلف يحاول أن يفعل، فيفكر ويشعر بأنه في حاجة إلى ذلك، ولكنه لا يجد عنده القوة عليه، أما من استطاع فلا بد أن يستخدم قواه، قال «كارليل»: «لا يمكن أن يوجد ملتن صامت غير مجيد.» ونزيد عليه فنقول: لا يمكن أن يوجد «بيتهوفن» أو «موزارت» صامت لا يطرب، بل ولا يوجد «ميخائيل أنجلو» أو «روفائيل» يرى ولا يصور.
6
والتأثر - طبيعيا كان أو عقليا أو أخلاقيا - إذا شرح بخط أو كلام أو صوت أو تصوير أو حفر أو بناء أو شعر أو موسيقى سمي فنا؛ فالفن ملكة يقتدر بها على إظهار العواطف والشعور في مظهر خارجي؛ لذلك كان الشعور بالجمال الذي هو صفة قابلة عند الإنسان العادي قوة فاعلة عند الفنان؛ فإن القوة إذا زادت حملت على الفعل وكان صداها العمل - والفنان يستطيع بواسطة الأحجار والألوان واللغة والصوت أن يشرح ما لا نراه، فيستطيع أن يشرح لنا المثل الأعلى فيرقي بذلك نفوسنا ويزكيها ويهيج فينا أسمى العواطف، ويستخرج منا خير الأفعال، والفن يخاطب العقل كما يخاطب القلب، وعلى الجملة يخاطب أعماق النفس الباطنة وكل قوة فينا. الفنان يجمع خواص كل عاطفة وفكرة وملامح، ويوضح لنا منها ما لم نكن نفهمه من قبل، وهو يرى ما لا يراه غيره، فيرى المثل الأعلى للشيء ويمثله - وهنا تعرض لنا أسئلة؛ وهي: هل الفن مقلد فقط فيمثل بأمانة المناظر المحسوسة؟ وهل للفن غرض يرمي إليه، أو أن الفن للفن؟ هل هو مستقل عن الحاسة الأخلاقية أو يجب أن يكون على وفاق معها؟ هذه مسائل شغلت عقول الفلاسفة ونشأت منها نظريات مختلفة منها «مذهب الواقع» و«مذهب الكمال».
فمذهب الواقع يرى أن الفن يرمي إلى تقليد الطبيعة كما هي، وعلى الأقل إلى القرب منها جهد المستطاع، ومذهب الكمال يرى أن الفنان إذا أراد أن يقلد الطبيعة يجب ألا يقلدها تقليدا تاما، بل يتصور الكمال فيها ويخرجها إلى الوجود مازجا فيها الواقع بتصوراته وعواطفه، يحاكي الطبيعة ومع ذلك يعدلها، يختار من الأشياء ويوفق بينها ويخرجها للناس مترجما عما في نفسه؛ فهذا المذهب يرى أن عمل الفن أن يمثل المناظر الأصلية أو الأخلاق الفاضلة أو الآراء العظيمة بخير مما هي في الواقع، ويجعلها أعظم تأثيرا في العقول من حقيقتها، يرى أن الفنان تتملكه العاطفة فيحولها إلى قوة عاملة، فيمثل الشيء لا كما هو ولكن كما يدركه.
والموضوع الآخر هو: هل الفن يجب أن يخضع للغرض الذي يرمي إليه علم الأخلاق أو أنه فوق ذلك؟ ذهب قوم ومنهم «رسكن» إلى أن الفن يجب أن يكون أخلاقيا، وأن أهم ما يجب على الفنان أن يشرك الناس معه في عواطفه الشريفة، وليس هناك شيء وراء الأخلاق يصح أن يقصد من الفن، وذهب آخرون إلى أن الفن إنما يبحث عن الجميل لا عن شيء وراءه، إنما يهم الفن جمال الشكل، أما الموضوع فليكن ما يكون؛ ليكن رذيلة أو جريمة، وذهب بعض علماء الجمال إلى أبعد من هذا فقرروا أن «علم الجمال أعلى شأنا من علم الأخلاق»، وأن النظر في الجمال والبحث فيه أرقى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان، وأن ذوق الألوان أهم في رقي الإنسان من الحاسة التي تدرك الخير والشر.
والبحث عن الجمال أقدم من اسم العلم (علم الجمال) أو (الاسثتيقي)؛
7
فقد بحث فلاسفة اليونان في الجمال، وقد غلبت على سقراط الآراء الأخلاقية - كما حكى عنه زينفون - فعد الجميل مرادفا للنافع،
8
ورأى أفلاطون في كتابه (هبياس الأكبر)
9
أن الجمال شيء إلهي يرادف الخير، وأنه معنى مطلق مجرد غير قابل للتغير، وقرر أن روح الإنسان قد تمتعت بالجمال الأزلي في الحياة الأولى قبل أن تحل بالأجسام في هذا العالم، ومن أجل هذا إذا رأى شيئا فيه نفحة من الجمال أخذته الروعة لتذكر ما كان فيه، ومن رأي أفلاطون أن الجمال معنى في الشيء مستقل عن حواسنا، ولكن العلماء العصريين - ولا سيما من يوم أن ظهر مذهب النشوء والارتقاء - ذهبوا إلى أن الجمال ليس معنى في الشيء نفسه، بل معنى يوجده إحساسنا وحواسنا، وعلى رأي أفلاطون يكون هناك جمال مطلق تشترك فيه كل الأشياء الجميلة، كذلك أرسطو ألف كتابا في الشعر وبحث فيه في «الفنون».
أما في القرون الوسطى فلم يوجهوا أي التفات إلى «علم الجمال»، ثم كان لما اشتهر به الإنجليز من الذوق الفطري أثر في الفلسفة الإنجليزية وفي نظريات علم الجمال؛ ففي الفلسفة كانت همة فلاسفتهم موجهة إلى التجارب ولم يكونوا يمعنون النظر في الأشياء نفسها، وإنما في تأثير هذه الأشياء في حواس الإنسان وطابعه وطبيعته، وكان علم الجمال عندهم فرعا من فروع الفلسفة التي اهتموا بها، وفي علم الجمال كان أول بحث علمائهم في التأثير الذي يحدثه التأمل في الجمال، ثم انتقلوا منه إلى البحث في الصفات التي يجب أن يتصف بها الشيء ليكون له ذلك التأثير.
ومن الفلاسفة الذين رقوا نظريات هذا الفرع من الفلسفة: «لوك» و«كدورث» و«هوم» و«هوجارت» و«برك» و«شافتسبري» و«هتشسون» و«ريد»، ومن الألمان: «فنكلمان» و«لسنج» و«هردر» و«كانت». و«كانت» هو القائل في كتابه (نقد العقل المجرد): «يجب ألا نبحث أولا في الجميل نفسه، بل في حكمنا الشخصي وذوقنا.» وهو الذي قرر - كما ذكرنا قبل - أن لذة الجمال يجب أن تكون مقصودة لذاتها لا لغاية وراءها، وجاء الشاعر «شلر» فرقى نظريات «كانت»، وكان يرى أن حاسة الجمال ليست إلا عند الإنسان، وقد تبين خطأ هذه بواسطة «علم النشوء والارتقاء»، ومن آراء شلر أن أصل الفن هو ميل الإنسان إلى اللعب، وقد بحثت هذه النظرية بعد بحثا أوسع مما ذكره شلر. وهنا يحسن بنا أن نذكر من الفلاسفة - غير من ذكرنا - «هجل» و«شلنج» و«شوبنهور» و«فخنر» الألمانيين ، و«تين » الفرنسي، و«رسكن» الإنجليزي، و«هيبرج» الدانيمركي، و«بيلنسكي» الروسي إلى غيرهم ممن لا تسعه هذه الرسالة.
هوامش
الفصل السابع
علم الأخلاق
إذا كان علم النفس يبحث في الإنسان كما هو وفي أفكاره وأعماله كما هي، فعلم الأخلاق يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وماذا ينبغي أن يعمل، وبأي شكل يشكل حياته. منح الإنسان كثيرا من القوى والملكات، وله ميول كثيرة ورغبات وحاجات عديدة، وهو ليس بمخلوق قد رسم له نوع من العمل يعمل فيه باستمرار فحسب، بل هو مخلوق حر له السلطان التام على أعماله، ففي استطاعته أن يوجه إرادته وأعماله إلى أي جهة أراد، وأن يعامل بني نوعه كما يشاء؛ ينفعهم أو يضرهم، وفي حق نفسه يستطيع أن يكون مجدا أو كسولا، عاملا أو لاهيا، وإرادة الإنسان وأعماله لا بد معها من مقصد، ويستحيل إرادة عمل من غير غرض أو مقصد يقصده بعمله، وعلم الأخلاق يبحث في المقصد والغرض الذي ينبغي أن يكون، والذي يحاول الإنسان أن يناله بأعماله، وإليه يوجه إرادته، وأن ما منحه الإنسان من قوة الفكر العجيبة - التي بها يستطيع أن يبحث في ماهية نفسه - يؤهله للنظر فيما هو الغرض من وجوده، ووضع قوانين وقواعد لسلوكه وأعماله، وعد بعضها حسنا والآخر قبيحا، ولا بد له من إعمال الفكر لمعرفة تلك القواعد، ومجموع هذه الأفكار يسمى علم الأخلاق، فهو يبحث في مصدر الأعمال والباعث عليها والمقصد منها وقوانينها، يبحث في أعمال الإنسان الاختيارية ومصدرها، وفي الحكم الأخلاقي والعواطف ومظاهرها في الحياة.
ما البواعث التي تدفعنا إلى الإتيان بعمل معين في ظروف خاصة دون أن تدفعنا إلى غيره من الأعمال؟ من أين نعرف الخير والشر؟ وإلى أين توصلنا هذه المعرفة؟ تلك أسئلة يتكفل بالإجابة عنها علم الأخلاق.
يظهر أن في الإنسان صوتا باطنا يوحي إليه بما ينبغي أن يفعل، ويميز به بين الحق والباطل، والحسن والسيئ، والنافع والضار، والأخلاقي
1
وغيره، ويسمى هذا الصوت بالوجدان، وهو نوع من الشعور الباطني ليس يخضع لسلطان خارجي، وهذا الشعور هو الذي كان يحمل الناس على السير في طرق خاصة قبل أن تبحث النظريات الأخلاقية بحثا فلسفيا بأزمان طويلة؛ وهو ناشئ إما من غزيرة في الإنسان، وإما من المعتقدات الدينية، وإما من أحكام تواضع بعض الناس عليها وقرروا العمل بها لما رأوا فيها من الخير والمنفعة العملية لهم، وتأكدت هذه الأحكام بالجري عليها، ثم أجبر الناس على العمل بمقتضاها، وصارت فيما بعد عرفا وعادات، وأصبح العمل على وفقها أخلاقيا، وانتهاك حرمتها مخالفا للأخلاق، قال زجلر: «العرف مجموعة أعمال محدودة تواضع الناس عليها اعتباطا، ونمت في أوساط خاصة سيما في المجتمعات الطبيعية والجنسية كالعشيرة والقبيلة، ثم صار يعد انتهاكها تعديا على الآداب، واتباعها فضيلة.»
وبعد أن جمع علم الأخلاق عادات الأمم وخصالها ورتبها وقسمها لم يقنع بحقائقها مجردة، بل أخذ يبحث في «من أين؟» و«لم؟» و«إلى أين؟»
ابتدأ هذا العلم ببيان عادات الأمم ونظمها، واستحسن بعضها واستقبح بعضا،
2
وكما كانت اللغة سابقة على قواعد النحو كذلك موضوع الأخلاق كان قبل أن يبحث فيه علم الأخلاق، ثم جاء هذا العلم فاجتهد في استنباط قواعد يهتدي بها الإنسان في أفعاله.
لهذا كان علم الأخلاق يمتاز عن الفلسفة النظرية بأن بحثها مقصور على ما كان وما هو كائن وما سيكون، أما علم الأخلاق فيزيد على ذلك أنه فلسفة عملية، يجتهد في تقرير ما ينبغي أن يكون، فهو علم سلوك الإنسان وعاداته.
إن قليلا من الخبرة يكفي في إرشادنا إلى أن الإنسان ليس مطالبا بأن يعمل كما يشاء حينما يشاء، ولا أن يعمل كل ما يستطيع أن يعمل، بل هو على العكس من ذلك؛ فكثيرا ما يطالب أن يتجنب عمل ما يسره، و«أن يخضع إرادته لإرادة غيره»، وأن ينظم إرادته ويشكلها على حسب ظروف الأحوال.
وتاريخ الأمم كذلك يرينا أن الناس اختلفوا - ولا يزالون مختلفين - فيما هو الحسن والسيئ، والأخلاقي وغيره، وأن العمل الواحد قد يكون في حالة حسنا وفي حالة قبيحا، ويكون أخلاقيا في مكان أو زمان، ومستهجنا في مكان أو زمان آخرين؛ لذلك كان من عمل علم الأخلاق أن يحدد لنا الحسن والسيئ، ويبين لنا إن كانا يتغيران بتغير الأزمان أو هما ثابتان لا يتغيران مع تغير العصر والإنسان.
وعلى الجملة فعلم الأخلاق يوضح لنا الحياة الأخلاقية، ويعين الوسائل لامتحان الآراء الأخلاقية التي تظهر في شكل عرف وعادات، ويعيننا على معرفة الغاية الأخيرة للحياة، ويساعدنا على النظر في النظم لإبقاء ما يصح منها للبقاء، وإصلاح الفاسد، ونبذ ما لا يصلح، ويبين المقياس الأخلاقي الذي به نحكم على الأعمال، وبه نهتدي في ميولنا وأفعالنا. وليس غرض هذا العلم مقصورا على معرفة مجهودات الإنسان وأشكال المعاملات وتأثيرها في حياتنا، بل من غرضه أيضا التأثير في إرادتنا وهدايتها، واستكشاف علة الحياة الأخلاقية، وتقويم الأشياء على قدر اعتمادها على إرادتنا وإرشادنا، إلى كيف نشكل حياتنا ونصبغ أعمالنا حتى نحقق المثل الأعلى للحياة، ونحصل خيرنا وكمالنا ومنفعة الناس وخيرهم. ويتذكر القارئ أنا ذكرنا في تمهيد الفصل الأول أن الحق الذي يكتسب من النظر الفلسفي ليس مقصورا على التأمل العقيم، بل نهاية هذا التأمل أن يستخدم في الحياة العملية، ونزيد هنا ما قاله الأستاذ «بولسن» في كتابه (نظام علم الأخلاق): «إن المقصد الأخير الذي دفع الناس إلى التأمل في طبيعة العالم سيظل دائما هو الرغبة للوصول إلى نتائج ترتبط بمعنى حياتنا ومنبعها والغرض منها، فأصل الفلسفة كلها والغرض منها يجب أن يتطلب إذا من علم الأخلاق.»
ذكرنا قبل أن سقراط وجه فكر اليونان إلى البحث في الإنسان، وكانت الفلسفة قبله منصرفة إلى العالم المادي، ومع أن سقراط فعل ذلك فقد كانت الأفكار الأخلاقية منثورة في أقوال الشعراء على شكل حكم وأمثال - ولم يكن ثم علم خاص بها - ولذلك كان أول ظهور الشعور الأخلاقي
3
عند اليونان إنما هو في شعرهم، وكان كما قال الفيلسوف الفرنسي «بول جانيه»: «إن الشعراء كانوا أول لاهوتي
4
عند اليونان، كما كانوا أول واعظ.» أما البحث الحقيقي في الحقائق الأخلاقية فأول من بدأ به عند الغربيين أفلاطون وأرسطو، ولا سيما أرسطو، ولكن أحدا منهما لم يخترع الحكم الأخلاقي على الأشياء؛ فقد كان الناس قبلهما بأزمان طويلة يحكمون على عمل بحكم وعلى غيره بآخر، ويميزون بين الحسن والسيئ، والأخلاقي وغيره، وإنما البحث العلمي يجمع الحقائق، ويبحث في البواعث والعلل، فيبحث مثلا في: لماذا كان القتل أو السرقة رذيلة؟ ولم كان الكذب غير أخلاقي والصدق أخلاقيا؟
ابتدأت الفلسفة الأخلاقية عند اليونان بقولها: إن هناك خيرا عظيما يجد الإنسان للوصول إليه، ويقصد الحصول عليه لذاته لا لأنه وسيلة إلى شيء غيره، ويمكن تحصيل ذلك الخير بالعمل، ويجب أن تنظم أعمال الإنسان بملاحظة ذلك الخير، وهذا الخير هو السعادة، وهي الغاية القصوى لأعمالنا، وكل غاية غيرها تابعة لها، ولنسم هذه النظرية «نظرية السعادة» وهي تقول: «إن السعادة أعظم خير للإنسان، والغاية الأخلاقية من سلوكه.» وبعد أن سلم بهذه النظرية، أي إن أعظم سعادة للشخص هي أعظم الخير له، تساءل فلاسفة الأخلاق اليونانيون: ما أعظم سعادة للشخص؟ وما خير الوسائل التي عساها توصل إليها؟ على هذين السؤالين أجيبت أجوبة مختلفة: رأى سقراط - ذلك الفيلسوف الذي لم يشأ أن يشغل نفسه بالبحث في أصل العالم وتكوينه، بل وجه عنايته نحو الإنسان وما يتعلق به - أن أعظم سعادة هي معرفة الحق، وأن المعرفة هي الفضيلة، ويمكن أن تكتسب بالبحث، وقرر أن لا أحد يعمل غير الحق بإرادته، أو يختار الباطل إذا هو علم الحق، وعندما يرتكب الإنسان خطأ فإنما يكون ذلك لجهله بالخير له، والحكيم العارف هو وحده السعيد الفاضل، وافق الرأي العام والمأثور والعرف أو خالف؛ لأن المعرفة هي الغاية القصوى للإنسان، وهي بعينها الخير والفضيلة، أما العدل والفضيلة الناشئان عن محض الاعتياد والتربية - إذا لم يعتمدا على المعرفة والنظر - فتلمس في الظلماء قد يؤدي عفوا إلى الحق، ولكن ليس فيه مقنع، وإنما ما فيه المقنع أن تجد في البحث للوصول إلى معرفة الخير وتحديده.
وقد ذكر أفلاطون في كتابيه (جورجياس) و(الجمهورية) أن «كليكليس وترازيماخوس» قالا: إن الخير ما يسرنا، والعدل ما استطعنا الحصول عليه. ولكن أفلاطون - الذي يدعي أنه ليس إلا معيدا لتعاليم سقراط - أنكر رأيهما، وذهب إلى أن الخير والعدل معنيان إلهيان قائمان بأنفسهما مستقلان عن الفكر، وكانت طريقته في البحث الأخلاقي طريقة لا مادية،
5
ومن تعاليمه أن فن السلوك إنما يحصل بالجد في جعل الحياة الخاصة والعامة بحيث يسود فيها الوفاق والجمال والنظام، وهي الصفات الأساسية التي هي من خصائص العالم الأعلى، وفي تقليد الخير المطلق الذي كانت النفس - التي هي جزء من النفس الكبرى للعالم - تنظر إليه وجها لوجه قبل أن تحل في الجسم
6
ويمكن نيل هذا بالمران على فضائل أربع: الشجاعة والعفة، وأهم من هذين: الحكمة والعدل، ويبلغ العدل منتهى الكمال في نظام الحكومة. وقد أوضح أفلاطون المثل الأعلى لهذا النظام على وجه الإجمال في كتابيه: (الجمهورية)، و(القوانين).
أما أرسططاليس - سيد المفكرين على الإطلاق كما لقبه بذلك «أوجست كومت» في أحد كتبه - فابتدأ بحثه في الأخلاق بما ابتدأ به أفلاطون، فبحث في «ما هو أعظم خير للإنسان؟» «وما غايته القصوى وما غرضه؟» وكان من تعاليمه أن الإنسان من بين سائر الموجودات هو الذي جمع إلى قوة الشعور والرغبة قوة العقل، وهو بحسه وإدراكه يشبه الحيوان، وبعقله يشبه الله، وباتحاد تلك القوتين فيه كان كائنا أخلاقيا؛ فإن الأخلاقية هي الاتفاق بين عناصر الحيوان والعقل، واستعمال كل قوى الإنسان تحت سلطة العقل، وليس الذي يخضع لهذه الأخلاقية هو من يعيش في عالم الفكر فحسب، بل الذي يشغل بالعمل ويكون لرغبته وانفعالاته عليه سلطان، ولأجل أن يختار الإنسان طريق الحق وينهج النهج القويم يجب أن يستعمل قوة الحكم عنده قوة عقله، ويستخدم إرادته الحرة.
هذا الاتفاق بين إرادة الإنسان وعقله ينتج الفضائل الأخلاقية أو السعادة أو أعظم خير، وهذا هو غرض الإنسان في الحياة. وبينا سقراط يرى أن الفضيلة نتيجة العقل وحده، وليست نتيجة التربية ولا العادة، وإنما هي ثمرة الحكمة وبعد النظر الأخلاقي، إذ بأرسطو يرى أن التربية والمران والعادة ضرورية أيضا في تكوين الفضيلة، ويحدد الفضيلة بأنها «عادة ثابتة مقررة ينتجها المران ، ويكونها تغلب العقل وهدايته».
خلف من بعد هؤلاء الفلاسفة العظام خلف كان لهم أثر في ترقية ما قرره سلفهم، ولا بد أن نخص بالذكر منهم «الرواقيين» و«الأبيقوريين».
فمذهب الرواقيين أسسه «زينون»، وكان يعلم تلاميذه في رواق منقوش من بناء في «أثينا»، ومن أجل هذا سمي هو وأصحابه بالرواقيين، وقد بنى «زينون» تعاليمه على قول سقراط بعدم الاعتداد بالمأثور والرأي العام، وعلى القول بسلطان العقل على الشهوة، فكان يرى أن الفضيلة فيها الغناء عن كل شيء، وأن الحكيم يقضي حياته في وفاق مع الطبيعة مستقلا حرا، بين جنبيه نفس تعتز عزة ملك وإن التحف ببردة فقير، رأى الحكيم أنه لا يستطيع أن يغير الطبيعة ففضل أن يخضع لها عن رضا، ولم يفعل كما يفعل الأخرق ينازل الطبيعة ويكافحها حتى يفقد قوته ويدركه الإعياء فيخر صريعا. والرواقي مستسلم لا يهيجه شيء؛
7
لأنه يعتقد أن كل شيء قدرته الطبيعة، وهي رحيمة عادلة تريد الخير.
أما أبيقور (337 أو 341-270ق.م) فكان يعلم أن لا خير للإنسان إلا اللذة، والعقل يساعده على تحصيلها، وكان أبيقور كسائر فلاسفة اليونان يسلم بأن الأخلاقية
8
والسعادة مترادفان، وأن فن السلوك
9
فن يعلم الإنسان كيف يروي نفسه باللذائذ، وعنده أن لا معنى للأخلاقية إلا الفهم الصحيح لفائدة الإنسان الشخصية، وبعبارة أخرى الأثرة (الأنانية) المهذبة، وإذا ضحى الإنسان بنفسه أو آثر غيره بشيء فليس معنى ذلك أنه يعمل على خلاف طبيعته أو يعاكس رغبته في اللذة المتأصلة في أعماق نفسه، بل إنه إنما يفعل ذلك لما عنده من قوة التفكير؛ ذلك لأنه لما كان عاقلا كان في استطاعته أن يرفض لذة وقتية عاجلة للحصول على لذة أكبر منها آجلة، وأن اللذائذ السريعة الزوال والانهماك في الترف لا تعد شيئا إذا قيست بتلك اللذة الباقية - لذة العقل - التي بها تطمئن النفس، ومنها تتخذ عدة لحوادث الدهر وصروف الزمان.
وإذا كان بعض اللذائذ يعقب ألما كان لا بد من تنظيم رغبتنا في اللذة بالحزم؛ ومن ذلك تنتج جميع الفضائل؛ فإن صحة البدن واطمئنان العقل أعظم سعادة في الحياة، وهما نتيجة ما ذكرنا؛ «ونحن لا نستطيع أن نحيا حياة لذة ما لم تكن حياة حزم وشرف وعدل، كما أنه لا نستطيع أن نحيا حياة حزم وشرف وعدل ما لم تكن حياة لذة.» وقد نضطر أحيانا إلى تحمل ألم وقتي للحصول على لذة مستمرة. وليس يعني أبيقور باللذة الإحساسات الوقتية التي تفنى بفناء ظرفها، وإنما يعني السكينة والعيشة الراضية التي فيها نأمن عواصف الحياة.
10
ولما لم يكن من طبيعة نفس الإنسان الاقتناع بالفلسفة طويلا جاء الدين فحل محلها، وقام الأولياء والقديسون مقام الشعراء والفلاسفة اليونانيين، وأثارت النصرانية ثورة لم يشهد الإنسان قبلها مثلها، فغيرت الأفكار تغييرا تاما حتى لم تستطع عقائد اليونان أن تقف أمام سلطانها، ونبذت أكثر التعاليم الأخلاقية التي وضعها قدماء الوثنيين، فكانت النصرانية كما قال «نيتشه»: «مقومة للأشياء من جديد.»
وقد عممت النصرانية - إلى حد ما - تعاليم اليهودية، ونشرت في المغرب أصول الأخلاق التي وردت في التوراة، والأخلاق عند اليهود إلهية المنشأ، فالمبادئ الأساسية فيها دينية، وليست الأخلاقية إلا نتيجة أمر الله ومن فيضه، وبعبارة أخرى هي تنفيذ أمر الله. نعم، إن الإنسان محتاج إلى قواعد وقوانين تنظم سلوكه، ولكن لا يشرع هذه القوانين والقواعد إلا الله، وهم يرون أن الخير الأخلاقي وإرضاء الله لا ينفصلان، وأن فروض الله والقوانين الأخلاقية متلازمان، وليس الشيء أخلاقيا لأن الله أمر به، بل الله أمر به لأنه أخلاقي؛ فإن الأخلاقية هي المركز الأساسي ومطمح نظر العالم، قال «هرمن لوتز» الفيلسوف الألماني العصري في كتابه الشهير (العالم الصغير): «إن العبرانيين - على ما يظهر لنا الآن - كانوا بين الأمم الشرقية المحكومة بحكومة دينية كالصاحي بين قوم دبت فيهم الكأس، ونال منهم الشراب، وإن كانوا في القديم قد عدوا كالحالمين بين العاملين، وإن التعهدات والالتزامات الأخلاقية التي يرقي الشعور بها الأعمال الاجتماعية كانت في اليهودية تنحصر في إرادة الله، وإرادة الله يجب أن ينفذها الشخص ويمجدها في سره وجهره، بل كذلك الأمة - من حيث هي أمة - يجب أن تنفذها وتمجدها بخضوعها في حياتها لحكومة ونظم دينية.»
من أهم المبادئ حب الله وإطاعته، وحب الإنسان، وهي مبادئ تتطلب التحلي بفضائل كالعدل والإحسان، وبينا نرى علم الأخلاق عند اليونان يعد الغاية القصوى للإنسان كمال شخصه؛ باستعمال كل قواه وملكاته الطبيعية حتى يصل إلى السعادة، إذ نرى الأخلاق النصرانية تطلب من الإنسان السعي وراء طهارة النفس في الفكر والعمل، وتجعل للروح سلطة مطلقة على البدن وعلى الشهوات الطبيعية، وهذه الروحانية أدت إلى إنكار حقوق البدن، واعتزال هذا العالم، ونبذ الحياة الطبيعية واحتقارها، كما أدت إلى الزهد والتنسك والرهبانية، ومحالفة الفقر، وتحمل الآلام البدنية، وعلى الجملة فقد أدت إلى «حياة غير طبيعية»، وشيء آخر جديد وهو عقيدة «النجاة بالغفران»، وهي مبنية على أن الإنسان آثم بطبيعته، وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وجده، وإنما ينال النجاة بالغفران، وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة، وبذلك انهارت أصول التعاليم والعقائد التي وضعها مؤسس المسيحية بالأغلاط التي ارتكبها أتباعه، وأصبحت الآن الرسوم والمظاهر الدينية في النصرانية واليهودية أهم بكثير من الأخلاق وطهارة الحياة في الفكر والعمل، وقد كان إنما يقصد من هذه الرسوم والمظاهر في الأصل أن تكون رمزا.
أما الأفكار الأخلاقية الحديثة فيرجع أصلها إلى «مارتن لوثر»؛ ذلك الراهب الشجاع الذي ظهر في «وتنبرج»،
11
وتمتاز بميلها إلى «الواقع» والحقيقة لا الخيال، وترى أن غرض الإنسان هو إظهار كل ما فيه من قوى وملكات بالحياة العملية في هذا العالم؛ وعلى هذا بنيت الفلسفة الأخلاقية الحديثة ولا سيما المذهب الإنجليزي فيها، وانفصلت الأخلاق بالتدريج عن الدين وصارت علما فلسفيا، ومن أكبر من بحث في هذا الفرع من الفلسفة لوك وهوبز وشافتسبري وهتشسون وهيوم وآدم سمث في إنجلترا وإسكتلندا، وسبينوزا وليبنتز وولف في ألمانيا. وسنذكر الموضوعات التي أثاروها والمسائل التي بحثوها في فصل تال يبحث في المذاهب الأخلاقية. وقد جاء «كانت» بكتابه (نقد العقل المجرد) سنة 1788م فوجه البحث الأخلاقي وجهة جديدة، ذلك أنه قرر أن الإنسان يحمل بين جنبيه وفي نفسه منبع القانون وروح الأخلاق، وهذا الروح الأخلاقي مستقل عن التشريع، ولا يستمد أي شيء من الخارج، ويسمى هذا المبدأ الأخلاقي المستقل «بالآمر المطلق»،
12
ونحن إذا أخضعنا إرادتنا لهذا الروح الأخلاقي الذي فينا، ولذلك الآمر المطلق ولو خالف ميولنا؛ فقد أدينا ما علينا من الواجب، وسرنا سيرا أخلاقيا. وخلف «كانت» «فخته»، وجاء «هجل» و«شلرماخر» وشوبنهور، وفريدريك نيتشه، ودارون، وجون ستوارت مل، وهربرت سبنسر، فظلوا يعملون على ترقية المسائل الأخلاقية، ويضعون نظريات جديدة من عندهم.
هوامش
الفصل الثامن
علم الاجتماع (سسيولوجيا)
«ليس خيرا للإنسان أن يعيش وحده» ولا نعيم الجنة نفسه يلطف وحشة الوحدة، بل ومعيشة الإنسان وحده ضد طبيعته، وهو محتاج إلى بني جنسه لسد حاجاته الطبيعية، ومعاونته على ضروريات الحياة؛ ولهذا اجتمع معهم وتعارف بهم وحالفهم، وإنا إذا تتبعنا تاريخ الإنسان من أقدم عصوره لوجدناه في أي زمان ومكان يتجنب الوحدة ويألف الاجتماع، فيعيش في جملة جمعيات: في أسرة، وفي فصيلة، وفي عشيرة، وفي قبيلة أو أمة، ويشترك مع غيره في أنواع شتى من العمل.
وبعد، فما ظروف الأحوال التي اقتضت اجتماع الناس؟ وبأي شكل كان اجتماعهم؟ ما أنواع الأعمال التي يشترك فيها الإنسان مع غيره؟ كيف يؤثر الناس بعضهم في بعض؟ ما أنواع العلاقات التي بينهم؟ وأخيرا ما القوانين التي بها ترقى الحياة الاجتماعية؟ هذه الأبحاث التي تفيد الإنسان أعظم فائدة - كما قال «كومت» - هي التي تسمى «علم الاجتماع»، ولئن كان من فروع الفلسفة ما يبحث في أصل الكائنات وعللها ومبادئها (كعلم ما بعد الطبيعة)، وما يبحث في الإنسان من حيث شخصه، فيبحث في أصله وعلاقته بسائر الحيوانات (كعلم الإنسان - الأنثربولوجيا)، وما يبحث في أعمال روح الإنسان من حيث هو كائن ذو شعور، وفي سعيه وراء معرفة نفسه (وهو علم الأخلاق والنفس)، فهناك ما يبحث في الإنسان من حيث علاقته بالمجتمع الذي فيه ولد، كما يبحث في الظواهر التي نشأت عنها المعيشة الاجتماعية (وهذا هو علم الاجتماع)، فهو ذلك النوع من البحث الذي يشمل علم الجمعية والاجتماع أو الإنسانية مجتمعة ، وإن شئت فقل: الإنسانية موحدة أو مؤلفة من وحدات الأفراد الذين توثقت الرابطة بينهم على نحو ما، وهو ينظر إلى مجموع النوع الإنساني على ما هو عليه، وكما كان، وكما سيكون، ويوضح أعمال الجمعية البشرية وتفاعل القوى الاجتماعية، وبعد أن يستكشف القوانين التي بها ترقى تلك القوى يجتهد في تنظيمهما لخير المستقبل، ويمكننا الآن أن نقول: إن علم الاجتماع يحاول استكشاف القوانين والمبادئ وسر الظواهر الاجتماعية، ويستخدم ذلك في خير الإنسان.
وأول من استعمل كلمة «سسيولوجيا» للدلالة على علم الاجتماع «أوجست كومت»، وهي مركبة من «سوسيس» كلمة لاتينية معناها الجمعية، و«لوجوس» كلمة يونانية معناها علم، وقد كان علم الاجتماع سابقا على اسمه
1
هذا، ولم يكن علم الاجتماع - كما هو الشأن في العلوم الأخرى في طورها الأول - علما نظريا محضا، بل كان يبحث أيضا في مسائل عملية عرفت باسم «علم السياسة»، وقد قيد أفلاطون آراءه في الحكومة وأشكالها، وأوضح المثال الأعلى
2
لها في كتابيه (القوانين) و(الجمهورية)، وحدد الغرض الأخلاقي للحكومة كما ارتآه، وجاء أرسطو فلم يعتقد بالمثل الأعلى للحكومة ولا بالعصر الذهبي الذي حلم به أفلاطون، واجتهد في كتابه (علم السياسة) أن يحلل أشكال الحكومة التي كانت في عهده، وقسمها من حيث عدد حكامها إلى ثلاثة أقسام: حكومة ملكية، وحكومة أرستقراطية، وحكومة شورية.
3
وتدرج أرسطو من القول بأن «الإنسان مدني بالطبع أو حيوان سياسي» - أعني أنه في طوري سذاجته ورقيه لا يستطيع أن يعيش وحده، بل لا بد له من الاجتماع - إلى القول بأن النظام الحكومي للأمة نتاج طبيعي، قال «كومت»: «إن ما فند به أرسطو ما لأفلاطون ومقلديه من أوهام باطلة في موضوع الاشتراك في الملكية برهن على ما لأرسطو من سداد في الرأي وذكاء وقوة لا تسبق، وقلما تبارى.»
ولم يزد فلاسفة الرومان شيئا في النظريات السياسية عما كان لليونان، وفي القرون الوسطى كان للدين على النفوس نفوذ عظيم، وشغل الناس بالقضايا الدينية حتى لم يبق لهم زمن للنظر في الموضوعات الاجتماعية، إلى أن جاء زمن «النهضة » فكان للناس بعد عناية خاصة بالمسائل الاجتماعية (وبحثوا فيما وصل إليه من قبلهم وزادوا عليه)؛ فمسائل «الحقوق الطبيعية» مثلا بحث فيها قدماء الفلاسفة والمشرعين، ومما جاء في قول شيشرون - الخطيب الروماني: «إن السلوك العام هو قانون الطبيعة.» أي إن اتفاق كل الناس على شيء يجب أن يعد قانون طبيعة، وفرق «ألبيان» المشرع الروماني مثلا بين «الحق الطبيعي» و«الحق المكتسب من القانون»؛ قانون الأمة، فلما جاءت النهضة خطت هذه القضايا خطوة خرجت بها من دائرة النظر إلى السياسة العملية، وكان «هوجو جروتيس» أول من بدأ بالبحث في «الحقوق الطبيعية والوضعية»؛
4
ولذلك يعد مؤسس «فلسفة القانون».
جاء بعده «توماس هوبز» وكان مما كتبه «رسالة في الجبر والاختيار» بحث فيها أبحاثا أخلاقية، وأبحاثا فيما وراء المادة، وقرر فيها أن الإنسان - كسائر المخلوقات - مجبور خاضع للقدر، وبعبارة أخرى لإرادة الله، وأن المصلحة أو الفائدة الشخصية أعلى قاض يفصل في الأخلاق وفي أي شيء آخر، وقد طبق نظرياته هذه على السياسة، فعنده أن نظام الطبيعة نظام حرب عام، كل يحارب كلا ليبقى، «والحق» «للقوة». ولمحافظة الإنسان على نفسه، ووضع حد لهذا النزاع، وتلطيف نظام الطبيعة بالاجتماع؛ تعاقد الناس فيما بينهم نوع تعاقد على إنشاء «حكومة»، وليس القصد منها إلا حماية حياة الأفراد وملكيتهم، فيجب على الأفراد أن يعدوا إرادة الحكومة أسمى قانون، ولا تستطيع الحكومة الوصول إلى تحقيق غرضها إلا بخضوع الرعية خضوعا تاما، ومن أجل هذا يعد «هوبز» مؤسس نظرية «العقد».
وذهب «مونتسكيو» في كتابيه: (عظمة الرومان وانحطاطهم)، و(روح القانون) إلى أن الظواهر السياسية - كسائر الظواهر الطبيعية - خاضعة لقوانين لا تتغير، قال «كومت»: «إن مونتسكيو كان يرى أن الأبحاث والأعمال الاجتماعية مبنية على قوانين طبيعية، على حين أن غيره من كبار الرجال كانوا يرون أن في استطاعة المشرعين أن يعدلوا نظام الحكومة كما يريدون، وأن عندهم على ذلك قدرة مطلقة غير محدودة متى أعانتهم السلطة على ذلك.» ووافق «جان جاك روسو» في كتابه (العقد الاجتماعي) ما ذهب إليه «هوبز» من أن الحكومة نتيجة تعاقد الناس فيما بينهم.
هوامش
الفصل التاسع
مجمل تاريخ الفلسفة أو تاريخ ترقي الفلسفة
ليس من غرضنا في هذا الكتاب أن نذكر قضايا الفلسفة في شكل تاريخ، وإنما غرضنا أن نقدم للقارئ المهذب معلومات عامة عن أصول الفلسفة وقضاياها، وإنا لا نبعد عن الغرض إذا نحن زدنا تاريخا إجماليا يوضح الرقي التدريجي لقضايا الفلسفة من زمن الفلاسفة الأيونيين إلى القرن العشرين بعد الميلاد، وسيكون هذا التاريخ الإجمالي مختصرا جهد الطاقة فلا نتعرض لتفاصيل المسائل الفلسفية التي ناقشها وبحث فيها كثير من المفكرين، وإنما سنستعرض بالإجمال المميزات الخاصة للعصور المختلفة، ونعين الروح الغالبة عليها، وإنه لمن المستحيل أن نبين بالتفصيل كل النظم والآراء الفلسفية، بل ولا ما هم منها، ولا أن نسرد كل المذاهب ومؤسسيها؛ فإن الموضوع واسع الأطراف، ومسائله في غاية التعقيد، حتى إن محاولة تفصيلها تفوت الغرض من هذا التاريخ الإجمالي، وهو أن نقدم للقارئ صورة عامة عن نظام الفلسفة، مع ما في ذلك الموضوع من سعة تحير الألباب، ولا يصح أن يقارن تاريخ الفلسفة بغيره من تواريخ العلوم الأخرى لسببين:
أولهما:
أن مدار البحث في العلوم الأخرى محدود، فلا تعترض صعوبات غير عادية في تتبع الرقي التدريجي، وكذلك بناء العلم على بعض القواعد الأساسية واضح في كل العلوم، وليس كذلك الشأن في الفلسفة؛ فقضاياها - على كثرتها - متنوعة، وليس موضوعها واحدا في كل العصور، ومما يزيد الأمر صعوبة أن كل مفكر يأتي لا يبني على ما وصل إليه من سبقه، بل يبتدئ في حل قضيته من جديد كأن لم تكن قبله نظم ولا وضع قبله أساس (انظر فندلبند صفحة 9).
وثانيهما:
أن ترقية الأفكار وتأسيس العقائد إنما يكون على يد مفكرين ذوي شخصية، وهؤلاء وإن كانوا مرتبطين بأفكارهم بأفكار من تقدمهم يزيدون عناصر خاصة من عندهم متأثرة بشخصياتهم. وهذا في الفلسفة أهم منه في العلوم الوضعية الأخرى؛ فمن البديهي أن أخلاق الشخص وتجاربه وأعماله في الحياة ومنشأه وتربيته تؤثر أثرا كبيرا فيما يضع من القضايا المعنوية المجردة، وفي فكرته العامة نحو العالم، وتطبع ما يرى وما يفكر فيه بطابع خاص.
من هذا كله ينتج أن تاريخ الفلسفة ليس إلا جمعا متسلسلا لكل الآراء الأساسية التي وضعها هؤلاء الأفراد ذوو الشخصية، وأنظارهم إلى العالم، وأحكامهم على الحياة، مع بيان ما زاده كل من عند نفسه. ويجب ألا يقتصر في تاريخ الفلسفة على شرح نظام الفلسفة والتئام أجزائها بعضها ببعض، بل يجب أن يشمل أيضا شرح نموها وتدرجها في الرقي.
وواضح أنه كلما ترقى الفكر وتقدم الإنسان واتسعت دائرة المعارف كانت الآراء أغزر، هذا إلى أنه قد تعرض قضايا على بساط البحث مرة، ثم تعرض هي بنفسها مرات أخرى، وفي كل مرة تبحث بطريقة جديدة تخالف الطريقة التي بحثت بها من قبل.
ومن حين إلى حين تزيد دائرة العقل الإنساني اتساعا، فتنهض موضوعات جديدة، وتقرر قضايا جديدة، وتجاب أجوبة جديدة، ويستكشف الخلف حلا لمسائل مفيدة لم يهتد لحلها السلف، مع ما لكل عصر من عصور التاريخ من طابع خاص لا يشاركه فيه غيره. وإن نظرة سطحية لتكفي في إقناع القارئ بأن القضايا تزداد تركبا وتعقيدا كلما تقدمت المدنية والتهذيب بتقدم العقل البشري.
ويمكننا أن نقسم تاريخ الفلسفة إلى العصور الكبرى الآتية، ولكل عصر منها - كما قدمنا - مميزات خاصة، وطابع خاص: (1)
الفلسفة اليونانية. (2)
الفلسفة الرومانية اليونانية. (3)
الفلسفة في القرون الوسطى. (4)
الفلسفة الحديثة.
إن اليونانيين وإن كانوا يعزون فلسفتهم في كثير من الأحيان إلى حكمة كهنة المصريين، وإنه وإن كان أيضا في كثير من فروع العلم كالرياضة والهيئة والطب لمدنية الشرقيين - وخاصة مصر - أثر في العقل اليوناني؛ فإنا لا يعترينا شك في أن أصل الفلسفة هو نتيجة عقل اليونانيين ومطبوع بطابعهم. نعم، إن التفكير في هذا العالم وظواهره وفي أصل الإنسان والغرض من وجوده قديم العهد قدم الفكر الإنساني نفسه، وإن الإنسان أخذ يفكر في معاني الأشياء قبل اليونان بزمن طويل، وإن جملة من مسائل العلم التفصيلية لا يستهان بها قد جمعت في عهد المصريين والبابليين قبل اليونان، ولم يكن يعوز هؤلاء القدماء علم غزير بالموضوعات المفردة ولا بالنظر العام للعالم، ولكن اليونان استخدموا معارف من قبلهم، وكما قال «جومبرز»: «إن النبوغ اليوناني استطاع أن ينهض من على عاتق المصريين والبابليين ويطير حتى يصل إلى أسمى مكان يمكن الوصول إليه من غير أن يصده عن ذلك صاد.» قد كان للأمم الشرقية علم بما يتعلق بحاجاتهم العملية، ولكن ذلك العلم كان بقدر ما يسمح به قصور العقل الشرقي، فإنه يعوزه النشاط العقلي الذي يحمل على الابتكار، حتى أتى اليونان فرقوا النظر العلمي وبحثوا في العلم بحثا منظما مستقلا، وطلبوا العلم للعلم لا لشيء وراءه (انظر فندلبند ص23). زار فيثاغورس وديمقرطيس وأفلاطون وغيرهم مصر وآسيا الصغرى وانتفعوا بعلم أهلهما، ولكن رقي الفلسفة رقيا علميا كان من عمل العقل اليوناني، وقد قال أفلاطون: «إن ميزة اليونان حب البحث، أما ميزة المصريين والفينقيين فحب الكسب.» ونوه بما لهما من مقدرة في الصناعة وحذق في النظم السياسية، ولكن لم يعترف لهما بشيء من ذلك في المذاهب الفلسفية (انظر الفصل الأول من تاريخ نشوء الفلسفة اليونانية لمؤلفه برنديس ص13).
تتجلى للإنسان في فلسفة اليونان ثلاثة عصور يسهل تمييز بعضها عن بعض، وهذه العصور توضح لنا الرقي التدريجي الذي يتبعه العقل في طور الحضارة، ولست أعني الحضارة الإغريقية فحسب، بل كل حضارة بشرية، وهذه العصور هي: (1)
النظر في الكون. (2)
النظر في الإنسان نفسه. (3)
البحث المنظم.
فأول بحث شغلت به الفلسفة اليونانية الأولى كان البحث في العالم كما يظهر أمام الإنسان، أعني عالم الطبيعة.
كان فلاسفة اليونان الأولون علماء في الطبيعة يضعون فروضا لتفهم تصرفات الطبيعة وسنة الكون في الرقي، بدءوا يبحثون فيما يتعلق بحياتهم العملية، فأداهم ذلك إلى الرغبة في معرفة الطبيعة نفسها، قال «فندلبند»: «إن علم اليونان خصص حياته الأولى وما لها من قوة شباب لدرس قضايا الطبيعة، وأغفل البحث في أعمال الفكر، واكتفى بالبحث في العالم الخارجي.» فكان أهم ما اهتمت به تلك الفلسفة مسائل الطبيعة والفلك والجغرافيا، وعلى الخصوص الظواهر الأساسية العظمى، ثم تدرجوا بعد ذلك في البحث، فلم يقصروا نظرهم على الأعمال الطبيعية المادية، بل حاولوا معرفة الأساس الذي يطرأ عليه التغير - والبحث في التغير ومعرفة أساسه هو المحور الذي تدور حوله النظريات الفلسفية، ويشمل أعظم القضايا الأساسية التي يبحث عنها علم ما بعد الطبيعة. وهذا التغير - أعني أن الأشياء يتحول بعضها إلى بعض - هو الذي بعث على التأمل والنظر، وحمل فلاسفة اليونان على الجد في تقرير قواعد لهذا العالم القلب الحول الذي قد تتغير فيه الأشياء فجأة إلى أضدادها. (فندلبند ص31).
بحثت الفلسفة عن الأساس الذي تطرأ عليه التغيرات، وتعتريه التقلبات، والذي منه تخلق أشخاص الأشياء وإليه تعود (ص32)، وصيغ هذا المعنى بوضوح في الأسئلة الآتية: «ما أساس الأشياء الذي يبقى مع كل التغيرات العارضة؟ وكيف يتحول ذلك الأساس إلى تلك الأشياء؟ وكيف تتحول الأشياء إليه؟ ولحل هذه المسألة وتقرير طبيعة أساس الدنيا أو هيولي العالم أو مادته قامت نظريات عديدة وضعها فلاسفة اليونان الأولون؛ مثل: طاليس، وأنكسمندر، وأنكسمينيس، وهرقليطس، والإيليون
1
والفيثاغوريون، وظهرت أنظار عديدة تتعلق بذلك الوجود وما يصير إليه، وبمادة العالم ونحو ذلك.»
بعد هذا تحول الفكر اليوناني والأبحاث الفلسفية عند اليونان تدريجا إلى الإنسان نفسه، فكانت أعماله موضع البحث، وأغفلوا البحث في العلم الطبيعي الذي كان قبل موضوع الفلسفة، واتجهت أبحاثهم نحو قوى الإنسان الباطنة، فبحثوا في القوة المفكرة والقوة المريدة وعمل هاتين القوتين، أعني التفكير والإرادة، وكيف تنشأ الفكرة والإرادة؟ وفي ذلك الحين ظهرت في عالم البحث مسألة جديدة؛ وهي: هل حقائق الأشياء ثابتة؟ وهل هناك شيء حق أو صواب أو خير قائم بنفسه لا علاقة له بآرائنا الشخصية؟ وفي هذا العصر أيضا - الذي يسمى العصر الإنساني أو الأنثروبولوجي نظرا لاتجاه بحثه نحو الإنسان، وتمييزا له عن العصر الذي قبله - عصر النظر إلى العالم ظهرت مبادئ القضايا الأخلاقية والمنطقية والنفسية «السيكولوجية»، ومن رجال هذا العصر: سقراط، والسوفسطائيون الذين من أشهرهم: بروتاغوراس وهبياس وبروديكوس، وقد وافق سقراط السوفسطائيين في توجيه بحثه نحو الإنسان، وخالفهم بقولهم: إن حقائق الأشياء ثابتة؛ إذ كانوا ينكرون ذلك، وحاول - بالبحث العلمي - تقرير مبادئ ثابتة يؤسس عليها سلوك الناس ومعاملتهم الأخلاقية. وقد أسست على مبادئ سقراط مذاهب ظهرت بعد أشهرها مذهب الميغاريين
2
أسسه إقليدس ومذهب الكلبيين
3
أسسه أنتسثنيس، ومذهب القورينائيين
4
أو مذهب السعادة أسسه أرسطبس.
وقد كان هذان النوعان من البحث الفلسفي - أعني البحث في العالم والبحث في الإنسان - مقدمة لأعظم رقي للفكر اليوناني، وقد ظهر ذلك الرقي في عصر البحث المنظم، وبلغ أوجه في النظم الفلسفية التي وضعها ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو، ففي الدورين الأولين - دوري البحث في الكون والإنسان - كان مدار بحث الفلاسفة مقصورا على عدد محدود من المسائل، أما في دور البحث المنظم فقد كان مدار البحث أوسع، وشمل القضايا الطبيعية والنفسية، وقد استعمل عظماء هذا الدور مثل ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو - ولا سيما الأخير - معارف من قبلهم، وبحثوا الأشياء من جميع جهاتها بحثا علميا، ووجهوا نظرهم إلى البحث في كل المسائل العلمية، فأخرجوا للناس علما منظما شاملا كاملا، قال فندلبند: إن تنظيم العلم وتوسيع نطاقه حتى يشمل كل النظريات الفلسفية منزلة أمكن لديمقريطس وأفلاطون وأرسطو أن ينجحوا في الوصول إليها، وكان الأخير منهم أول من قسم العلوم وجعل لكل علم دائرة بحث خاصة، ومن أجل هذا يعد أرسطو خاتمة عصر نشوء الفلسفة اليونانية، وفاتحة عصر العلوم المتميزة،
5
وأرسطو هو الذي لخص الأفكار اليونانية وصفاها، وأخرج للناس نظاما للفلسفة كاملا، وبحث في كل فروعها - أعني ما وراء المادة والمنطق وعلم النفس والأخلاق والسياسة والجمال.
العصر الثاني العظيم من عصور الفلسفة عصر الفلسفة الرومانية اليونانية،
6
وبهذا العصر انتهى دور البحث المنظم، وابتدأ الميل إلى وضع الشروح المطولة، وأهم مميزات هذا العصر أنه عصر تحصيل للعلوم وسعة في الاطلاع أكثر منه عصر بحث ونظر، وأنه عصر إقبال على العلوم المتميزة، وإذا كانت الفلسفة فيه قد اتخذت شكلا جديدا استمرت فيه بضعة قرون، فذلك ناشئ من حالة الرقي العامة ومن التغير الذي أحدثته الحياة السياسية والاجتماعية اليونانية.
كان اليونان قد نضجت عندهم الآداب والفنون لما أن وصل الإسكندر الأكبر الشرق بالغرب، وأزاح الفواصل بينهما، وأقام جسرا عبرت عليه المدنية والعلوم والمعارف من بلاد اليونان إلى آسيا وانتشرت فيها، ولكي يخلد اسمه أنشأ مدينة (الإسكندرية)، واختار لها ببعد نظره الفائق موضعا على أحد شواطئ النيل
7
أصبح لحسن موقعه الجغرافي محطة بين آسيا وأوروبا، ومركزا للتجارة بين الأمم، كما كان مركزا كذلك للعلوم والمعارف.
انتشرت المدنية والفلسفة اليونانية في كل العالم، وصارت أثينا وبعض بلدان أخرى في مملكة الإسكندر - وفي الإمبراطورية الرومانية من بعد - مركزا للمدنية والعلوم والمعارف.
بعد سقوط بلاد اليونان في أيدي الرومان اعترى البلاد تغير تام لا في السياسة وحدها بل في السياسة والعلوم معا؛ فإن الفتح الروماني الذي أزال كل الفروق السياسية ومحا الخلافات القومية، ووحد الأمم المختلفة بإخضاعها للحكم الروماني، وأتم بذلك العمل الذي بدأ به الفاتح المقدوني - لم يخل من تأثير في الأفكار والعقول، فالنظام السياسي للحياة اليونانية أخذ ينهار، وأدرك الوهن تلك المبادئ الأخلاقية التي وضعت لهداية الناس، والتي كان يمدها بالحياة الشعور بالواجبات الوطنية وحب الجمهورية، وخلي الإنسان ونفسه يبحث عن مبادئ لنفسه يتبعها في سلوكه، واهتزت الديانة اليونانية والأخلاق القومية من أساسهما، وتقوض أساس الاعتقاد بالآلهة الأولى وبالدين، فقامت الفلسفة تحاول أن تحوز المكان الذي خلا بسقوط دين الأمة، وابتدأ الإنسان يبحث عما يهديه في حياته فاعتقد - أو تخيل - أن الفلسفة هي الهادي الأمين، فكانت مهمة الفلسفة كما قال «فندلبند»:
8 «أن تسد مسد الاعتقاد الديني»، وأصبحت القضية الهامة التي يدور حولها البحث الفلسفي سلوك الإنسان للإنسان، وبذلك تشكلت الفلسفة بشكل عملي؛ إذ أصبح مقصدها وضع فن للحياة، وغلب عليها البحث الأخلاقي، وصارت بعد منافسة للدين ومعارضة له، ويتجلى لك هذا في ميول الرواقيين والأبيقوريين، وشجعت الدولة الرومانية هذه الأفكار؛ ذلك لأن الرومان كانوا أمة عملية لا تأبه للقضايا النظرية المحضة ولا تعيرها التفاتا، وإنما كانت تتطلب العلوم العملية أبحاث الفلسفة التي تهدي الناس في الحياة، وبهذا يظهر أن الميل إلى الحكمة العملية في هذا الزمن جعل البحث الفلسفي يتجه جهة خاصة.
أتى بعد ذلك حين تملك الناس فيه إحساس بالسخط ملأ قلوبهم، وكان ذلك أيام مجد الدولة الرومانية؛ فإن تلك الدولة مع اتساعها والتحام أجزائها حتى تكونت منها مملكة واحدة قوية لم تستطع أن تعوض على الناس ما أفقدتهم من استقلال، ولم يكن في قدرتها إرضاؤهم باطنا ولا إسعادهم ظاهرا، وكانت مدنية العالم الروماني اليوناني إذ ذاك متنافرة غير ملتئمة، فكنت ترى تناقضا تاما في الحياة الاجتماعية، فترف ورخاء بجانب سغب وشقاء، وكنت ترى ملايين من الناس قد حرموا حتى ما يحفظ حياتهم بين جنوبهم، فاستولى على الناس إحساس بظلم جائر وشعور بوجوب ثورة على النظام الاجتماعي الذي لا يسوي بين الناس، وظهر عليهم إذ ذاك أيضا أمل في حياة مستقبلة - آخرة - يجزى فيها الإنسان جزاء عادلا، ويعوض عما لقي من ظلم، فوجهت تلك الملايين التي حرمت كل شيء في العالم وجهتها نحو عالم أعلى، وتحولت الأفكار - بشوق - إلى عالم وراء عالمنا، إلى العالم العلوي لا العالم السفلي - إلى الحياة الأخرى لا الحياة الدنيا - وعجزت الفلسفة عن أن ترضي الناس، واعترف الإنسان بعجزه التام عن معرفة نفسه إذا هو اعتمد على قواه فحسب، ويئس من تحصيله هذه المعرفة إذا لم تعنه قوة علوية، وأعتقد أن السعادة الأبدية لا توجد في هذا العالم المحسوس، بل في عالم آخر وراء حياتنا الأولى، ولم يعد في وسع الفلسفة إقناع الرجل المهذب بما تقدمه من نموذج أخلاقي للحياة، كلا ولا بما تتعهد به من سعادة، فحولت وجهها نحو الدين تستمده المعونة.
غير أن الناس في ذلك العهد أظلمت أفكارهم، واشتد شعورهم بنقصان ما عندهم من العلم وحاجتهم إليه، فطمع الدين أن يكون مقنعا لهم في شعورهم وعقولهم معا، وطمح أن يحول الحياة كلها إلى عقيدة دينية؛ لذلك نرى أنه بينما كانت الفلسفة تحاول حل مسائلها وقضاياها بمعونة الدين، وهي مع ذلك لا تهتدي إلى حل، كان الدين يبحث عن الفلسفة ونظمها ليجد له أساسا علميا يبني عليه عقائده، ويجعلها أكثر قبولا لقوم راقين، قال «فندلبند»: «إن الفلسفة استخدمت نظريات علوم اليونان لتهذب الآراء الدينية وترتبها ، ولتقدم إلى الشعور الديني اللجوج فكرة في العالم تقنعه، فأوجدت نظم دينية من قبيل ما وراء المادة تتفق مع الأديان المتضادة اتفاقا يختلف قلة وكثرة» (ص158).
لهذا كان امتزاج الدين بالفلسفة - الذي هو من خصائص التطور العقلي قبيل النصرانية وبعدها - ملموحا في الرأي العام وفي المدنية أيام الحكم الروماني؛ وكان من جراء هذا الامتزاج انحلال أخلاقي يشعر بالحاجة إلى الإصلاح.
كان الانقلاب في النظم السياسية والاجتماعية واختلاط الأمم المختلفة الأصل، والتغيرات التي شملت العوائد والدين سببا في ظهور روح جديد تغلب على الفلسفة ووجهها وجهة جديدة؛ ذلك أن أفكار اليونان ومدنيتهم لما عدت قوميتهم وتخطت حدود بلادهم أصبحت تميل إلى عد كل العالم - لا اليونان وحدها - وطنا لها، وصارت الفلسفة اليونانية - من جهة - تحاول أن ترضي الإنسان وتقنعه، لا من حيث إنه عضو في مجتمع أو أحد أفراد حكومة جمهورية، بل من حيث إنه فرد ما، يونانيا كان أو شرقيا أو رومانيا، وثنيا أو يهوديا، ومن جهة أخرى تحاول أن تملأ المكان الذي أخلاه دين الأمة بعد أن فقد برقي الناس ما كان له من قوة.
كانت نتيجة تلك الحالة العامة أن صارت الحكمة الرومانية اليونانية تنظر إلى الإنسان في سلوكه ومعاملاته كأنه فرد مستقل عن غيره،
9
وكانت الفلسفة التي تبحث في هذا السلوك مطبوعة بطابع أخلاقي أو ديني، ولم يكن للمسائل السياسية العامة شأن يذكر، إنما كان الشأن للقضايا التي تتعلق بالإنسان نفسه، ويتجلى هذا الميل في مذهب الرواقيين والأبيقوريين والشكاك ومحدثي الأفلاطونيين، وفي الفلسفة اليونانية اليهودية وفي الغنوسطية.
10
وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، فبعد أن كانت مدينة المتحف والمكتبة، والمدينة المعروف عن أهلها النقد وسعة الاطلاع، أصبحت مجمع المذاهب الفلسفية والطوائف الدينية، فسهل الاتصال والامتزاج، والتقى على ضفاف النيل رجال مختلفة آراؤهم، متباينة مذاهبهم، تبادلوا فيها الآراء كما كانت تتبادل فيها السلع، فاتسعت دائرة الفكر وقورن بين الآراء المختلفة، وكان من نتيجة ذلك ظهور روح جديد أسس على مبدأين متناقضين ممتزجين؛ أحدهما: الشك والنقد، والثاني: سرعة التصديق بالأشياء على علاتها. تقابلت في الإسكندرية آراء الشرقيين والغربيين (اليونان) فامتزجت روح اليونان بروح المشارقة، فأنتجتا عقائد ونظما دينية متأثرة بتأمل الأولين وإلهام الآخرين، بما لليونان من علم وما للمشارقة من أساطير. جاءت الروح اليونانية بما لها من ذكاء ودقة وقدرة على الشرح المبين فأصابتها شرارة من الشرق أشعلتها وأحيتها، كذلك أخرجت الروح الشرقية التي من خصائصها الطموح إلى ما وراء عالم الشهادة نظاما ملتئما ونظريات مرتبة لم تكن لتخرجها لولا مساعدة العلم اليوناني لها؛ فإنه رتب مأثور الشرقيين وحل من عقدة لسانهم، فاستخرجوا العقائد الدينية والنظم الفلسفية التي بلغت الذروة في مذاهب الغنوسطية والأفلاطونية الحديثة ويهودية «فيلون» ومذهب الإشراك الذي وضعه يولبان الصابي.
إن الشرقي بما له من ميل إلى الغيب وخوارق العادات، وما في طبيعته من تصوف وتدين، واليوناني بما له من فحص دقيق وبحث عميق، وإن شئت فقل: إن ما للأول من شعور، وما للثاني من تحليل منطقي امتزجا ونتج منهما فكر خاص انتشر في الإسكندرية في القرون الأولى للميلاد، وقد صبغ ذلك الفكر بصبغتين مختلفتين: صبغة الكماليين والصوفيين، وصبغة أهل البحث العلمي؛ ولذا امتاز هذا العصر بميل الفلسفة إلى الدين، وميل الدين إلى الفلسفة.
قال «بلدوين» في كتابه (معجم الفلسفة) عند كلامه على مادتي «فن» و«مدرسة الإسكندرية»: إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام في المدنية والعلوم والدين بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق، واتصل الدين بالفلسفة اتصالا وثيقا كان من نتائجه ظهور عقائد لا هي من الفلسفة المحضة ولا من الدين الخالص، بل أخذت بطرف من كل، وجاء ذلك من عاملين:
أحدهما:
ميل اليهود إلى التوفيق بين معتقداتهم الدينية والعلم الغربي الذي كان متأثرا بالعلم اليوناني.
وثانيهما:
أن المفكرين الذين استمدوا آراءهم من الفلسفة اليونانية رأوا أن يوفقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية المحضة التي جاء بها المشارقة، ومن أي الجهتين نظرنا رأينا أن النتيجة كانت فلسفية دينية، لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص.
العصر الثالث من عصور الفلسفة عصر القرون الوسطى، وبعبارة أدق الفلسفة النصرانية.
سقطت الدولة الرومانية في أيدي أمم الشمال المتبربرة فقوضت الحضارة الرومانية اليونانية القديمة، وطغى سيل القوط والبرجنديين والوندال والسويفيين والألنيين والكلتيين والسكسونيين، ولا سيما قبائل المغول والهون على الدولة الرومانية العتيقة الواسعة، وكانت قد بلغت من ضعفها الناتج من انحلالها الأخلاقي وانحطاطها الاجتماعي حدا أصبحت لا تستطيع معه مقاومة هذه الأمم القوية المتبدية.
وجاءت هذه الأمم المتبربرة بخصائص قومية وأفكار ونظم كانت شريفة راقية - وإن صدرت عن قوم بدو - استطاعت فيما بعد أن تنافس المدنية الراقية، وتسير معها جنبا إلى جنب، غير أنهم ما برحوا جفاة غلاظا سذجا، ومضت قرون طويلة قبل أن يأخذوا عن اليونان والرومان مدنيتهم ويمزجوها بأفكارهم ويكونوا منها المدنية الحديثة، لم يكن لهم لأول عهدهم علم بفنون اليونان ونظمها الفلسفية المحكمة، فكان عصرهم الأول عصر جهل وخشونة، أعقب عصر المدنية والحضارة والآداب ونضارة الفنون والعلوم التي كانت من مميزات العقول أيام الدولة اليونانية الرومانية، وقد كادت آثار العقل الإغريقي تضيع لولا أفراد قليلون من العلماء المسيحيين حفظوا بقايا المدنية القديمة - مع محاربة الكنيسة لهم - حتى وصل هؤلاء المتبربرون إلى درجة من الرقي العقلي أمكنهم معها أن ينتفعوا بتلك البقايا شاكرين لمن حفظها لهم.
كانت الكنيسة على العموم تضطهد آداب اليونان والرومان وعلومها، وتحارب من اشتغل بها، وتعارض نشر الحياة العقلية والمدنية القديمتين، وتحدد دائرة يجول فيها الفكر؛ ذلك لأنها اعتقدت أن الحقيقة قد وصلت إليها من الوحي المعصوم، فلا معنى بعد أن تسمح للناس بالبحث عنها؛ لذلك كانت الكنيسة عدوة الفلسفة والعلم فجمدت الحياة العقلية، ولم تسترد نشاطها إلا بعناء لما أن انبعثت أشعة «النهضة» ممتزجة بأشعة من الشرق؛ فأضاءت سماء القرون الوسطى المظلمة.
وإذا كان قد بقي شيء من الاحترام للعلم نشأ عنه المحافظة على شيء من الفلسفة القديمة، فإنما كان ذلك مقصورا على الجزء من المدنية القديمة الذي يندمج في تعاليم النصرانية، أما ما عدا هذا ، وخصوصا ما يعارض النصرانية، فقد كان ينبذ نبذا؛ وبذلك ظلت الفلسفة الغربية خادمة للدين جملة قرون، وكان غرضها الرئيسي تأييد العقائد الدينية وتحديدها وتنظيمها، وإظهار أن تلك العقائد التي نزلت من السماء تتفق أيضا مع العقل.
ويمكننا تقسيم سبيل النشوء الذي سلكته الفلسفة المسيحية إلى عصرين كبيرين؛ أولهما: ابتدأ من العصور المسيحية الأولى، وفيه كان كثير من آباء الكنيسة فلاسفة قبل أن يكونوا رجال دين، فرأوا من الضروري أن يؤيدوا أنفسهم وعقائدهم أمام الوثنيين، وقد ختم هذا العصر عمليا في الحقيقة بالأب أوغسطينوس 354-430م، غير أن بعض الكتاب الكنائسيين - الذين هم في المرتبة الثانية بعد الأولين - ساروا على هذا النمط إلى القرن التاسع، ويلقب هذا العصر «بعصر الآباء»، والعصر الثاني: يمتد من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر، ويلقب «بالعصر المدرسي»؛ لأن التعليم كان يقوم به جمعية الرهبان في مدارس الكنائس - وقد أنشأ شارلمان كثيرا من هذه المدارس في جميع أنحاء فرنسا - وكان مدرسوها من رجال الكنيسة، وكانوا يرمون إلى إلباس مآرب الكنيسة لباسا فلسفيا، ويطلق هذا الاسم على ذلك العصر من القرون الوسطى الذي كانت الفلسفة فيه تدرس تحت سلطان الدين، وكان القصد من دراستها تطبيق التعاليم المسيحية على العقل، وقد استمر هذا العصر من القرن التاسع إلى ظهور النهضة في القرن الخامس عشر.
قال «هجل» في كتابه المسمى (محاضرات في تاريخ الفلسفة): «إن الفلسفة المدرسية - في العصر المدرسي - لم تكن مذهبا محدودا كمذهب الأفلاطونيين أو الشكاك، بل كانت مجرد اسم مبهم يطلق على كل مباحث المسيحيين الفلسفية في أكثر من خمسمائة عام.» «فليست الفلسفة في العصر المدرسي إلا لاهوتا، ولا اللاهوت إلا فلسفة، والفيلسوف المدرسي هو من يبحث في اللاهوت بحثا علميا منظما.» ففلسفة العصر المدرسي هي فلسفة أوروبا التي انتشرت بين الكنائس في شكل لاهوتي، وكانت الفلسفة والدين فيه شيئا واحدا، وانفصال أحدهما عن الآخر إنما كان عند انتقال الناس إلى العصور الحديثة لما رأوا أن بعض ما قد يراه العقل حقا قد يراه الدين باطلا، وكانوا من قبل يرون أن ليس هناك إلا حق واحد؛ وهو ما أقره الدين، قال «هجل» في ذلك الكتاب: «إن اللاهوت في العصر المدرسي لم يكن مقصورا على ما يختص الله من العقائد - كما هو الشأن عندنا - بل كان يشمل أدق الأفكار في فلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة.» كانت الفلسفة في العصر المدرسي توفق بين العقل والدين، بين الطبيعة وقدرة الله، من قبل كانت هذه الأشياء متعادية، ومؤسس هذه الفلسفة «سكوتس إريجينا»، وأكبر ممثليها القديس أنسلمس وأبيلرد والقديس توماس ودنس سكوتس. وتنقسم الفلسفة في العصر المدرسي إلى قسمين: أفلاطونية، وأرسططاليسية أو مشائية، فكانت أولا متأثرة بآراء أفلاطون، ثم أخذت تخضع لنفوذ أرسطو في القرن الثالث عشر، وقد نشأت آراء آباء الكنيسة - العصر الأول - من آراء اليونان والرومان، أما فلسفة العصر المدرسي فنبتت في أرض الجرمان والعالم اللاتيني الحديث، وكانت ثمرة حضارة جديدة.
العصر الرابع من عصور الفلسفة عصر الفلسفة الحديثة، وهو يبتدئ «بالنهضة» ويستمر إلى يومنا هذا.
يرجع قيام الفلسفة الحديثة إلى حركتين تاريخيتين عظيمتين:
إحداهما:
النهضة أو إحياء العلوم وآثار اليونان والرومان في الفنون والعلوم.
والثانية:
الإصلاح الديني، ففي نحو منتصف القرن الخامس عشر ابتدأت المدنية اليونانية تؤثر في عقول الغربيين، وانبعثت من إيطاليا لغة اليونانيين القدماء وشعرهم وفلسفتهم، وسارت سير الفاتح الفائز إلى أن شمل فتحها أوروبا بأجمعها.
نعم، إن الأسباب التي أنتجت هذه الحركات العظيمة كانت تعمل من قبل هذا التاريخ، ولكن لم يتم تكوين النهضة إلا في النصف الأخير من القرن الخامس عشر، عندما سقطت المملكة الشرقية وعاصمتها القسطنطينية في يد الأتراك، فهجر علماء اليونان بلادهم والتجئوا إلى إيطاليا؛ ابتدأت تلك الأسباب تعمل على إيجاد النهضة من أيام الحروب الصليبية - إن لم يكن قبل ذلك - ولم تكن النهضة طفرة، ولا كانت روح العلم القديم ميتة أو في سبات عميق فانتبهت دفعة واحدة، فجداول المدنية والعلم الثلاثة؛ وهي: اليونانية والسامية والرومانية كانت قد تقابلت في الإسكندرية وامتزجت وتكون منها مجرى واحد جديد، ثم عاد ذلك المجرى فتفرع إلى ثلاثة جداول سارت في سبل متفرقة لتمنح العالم خصبا، وهي النصرانية اليونانية، والنصرانية الرومانية، والعربية، ويزاد عليها ما يعد كرافد لها وهو اليهودية، واستمرت هذه الجداول تفيض بهدوء مدة قرون من غير أن تتقابل، وكانت مراكزها العقلية على الترتيب: القسطنطينية، وباريس، وبغداد، ومدارس الأندلس، وقد تقابلت هذه الجداول في بلاط فردريك الثاني،
11
وظهر من اجتماعها مدنية وثنية تكونت من امتزاج هذه المدنيات الثلاث بعضها ببعض، وابتدأت روح الثورة والاستقلال تظهر من ذلك الحين، ولكنها كانت قبل أوانها، فالكنيسة كان لها السلطان الأكبر، وكانت العقول لا تزال تخضع للدين خضوعا تاما، فكانت النتيجة أن تحولت هذه الحركة إلى التيار الديني ثانية، حتى أتت سنة 1453م فكملت النهضة ووصلت بعد السير البطيء المستمر إلى الذروة، وقدر للجداول الثلاثة التي ترفعت في أرض مصر الخصبة أن تتقابل ثانية في رياض الأسرة الميديسية
12
في فلورنسا، ولكن مضى عليها عدة قرون من يوم أن فارقت مدينة النيل (الإسكندرية) وهي تسير في ثلاث شعب متوازية إلى أن صبت مياهها الزاخرة كلها في مدينة نهر الأر (فلورنسا) مركز النهضة، فهناك تقابلت الروح الغربية والبيزنطية والمدنيات اللاتينية النصرانية، وسال بها الوادي ففاض على أوروبا بأجمعها.
قال ج. ب. أدمس في كتابه (المدنية في القرون الوسطى): «إن الأحوال السيئة التي سادت في أوروبا في القرون الوسطى الأولى من جراء غارات التيوتونيين فأخمدت نور العلم الذي كان عند الأقدمين صارت إلى الزوال ... وجرت حوادث عظيمة وظهرت أفكار جديدة في التجارة والاستكشاف وفي السياسة انتشرت بين الناس بالعدوى، فكانت تزيد في نمو العقل البشري يوما بعد يوم.» وابتدأ الإنسان يتحقق من أن وراءه تاريخا هاما يستطيع أن يتعلم منه مسائل كثيرة؛ وذلك أن العقل لما أدركه الإعياء من التقاليد الجافة التي كانت في القرون الوسطى، وأحس بثقل أغلال الكنيسة التي كانت تمنعه من أن يفكر لنفسه، ولى وجهه شطر الأفكار والعلوم اليونانية يدرسها، وفعل ما فعله المشارقة في الإسكندرية لما أن شغفوا بالآداب اليونانية، وابتهج المتعلم في القرون الوسطى برفع النقاب عن عالم الفكر اليوناني لما رأى فيه من غنى وجمال، فجاء عصر جديد وثني أكثر منه نصرانيا يناهض المدنية النصرانية في القرون الوسطى، حييت فيه المذاهب الفلسفية القديمة، وعادت الفلسفة الأفلاطونية فبزغت في سماء إيطاليا بعد أن مر على غروبها في الإسكندرية عدة قرون وهي محتجبة في خبايا الأديرة، وبعثت أكاديمية أثينا
13
في رياض فلورنسا (انظر: «دريبر» في كتابه الرقي العقلي)، وأخذ الفلاسفة ينظرون بشوق إلى الأزمان الوثنية الجليلة!
سار الإصلاح الديني جنبا لجنب مع الحمية لمدنية اليونان والرومان في الفنون والعلوم، وجاء المجرى الجديد الذي سال من بيزنطية - القسطنطينية - فمر بإيطاليا، ثم غمر أوروبا كلها فحول مجرى الأفكار الغربية، ولم تقتصر نهضة الإنسان على إحيائه علوم الأولين واستكشاف ما كانوا يعرفونه، بل تهيجت فيه عواطف وقوى طال زمن إهمالها، واستيقظ من غفلته فشعر شعورا جديدا بالحياة وبالعالم الذي فيه يعيش، وبما يعرض له من المسائل التي تتطلب حلا، وأحس بقدرة عقله على اكتناه أسرار الطبيعة، وحل ما يعرض عليه من هذه المسائل (أدمس ص365).
قال «برك هارت» في كتابه الممتع (مدنية إيطاليا أيام النهضة ص131): في القرون الوسطى كان النظر إلى باطن الإنسان وما حوله من الأشياء الخارجية بين النوم واليقظة قد سدل عليه ستار نسجه الدين والوهم والتعصب الأعمى، منع الإنسان أن يرى العالم على ما هو عليه، وما كان يحس الإنسان بنفسه إلا كفرد من جيل أو شعب أو حزب أو أسرة أو طائفة، وما كان يحس لنفسه بشيء من الشخصية، ورفع ذلك الستار أيام النهضة فرأى من الممكن أن يفكر فيما حوله من الأشياء سواء كان حكومة أو أي شيء في العالم، كما رأى من الممكن أن يفكر في نفسه، وأعتقد أنه فرد ذو روح حساسة. وامتاز ذلك العصر بشعور الإنسان فيه بشخصيته المطلقة، وبمعارضته للسلطة وذويها، وذهابه شوطا بعيدا في اعتبار العالم كله وطنا له، وهذه دلائل أعظم رقي يصل إليه الناس في تقدمهم العقلي. وقد أعلت النهضة شأن الطبيعة الإنسانية والحياة الدنيوية مخالفة في ذلك طريقة التفكير في القرون الوسطى، ولذلك يسمى العلماء الذين خصصوا أنفسهم لدراسة آداب اليونان والرومان والعلوم عند القدماء «الإنسانيين»، كما تسمى عقائدهم ومثلهم العليا «الإنسانية». وكان من خير ما أحدثه هؤلاء الإنسانيون «نمو الفردية» - أعني الرأي القائل بأن الإنسان ينبغي أن يفكر بنفسه لنفسه، وهو رأي كان قد أهمل في عصر عبودية العقل، وهذا الرأي هو ما كان يجد وراءه علماء إيطاليا منذ زمان.
وأول ما بدت بشائر تقرير ما للإنسان من شخصية كان زمن النهضة، وتم ذلك على يد «العلماء المتبحرين» الذين جاءوا بعد فرددوا تعاليم النهضة وأيدوها، أمثال: ديديرو، وروسو، وفنكلمان، وهامان، وهردر.
قال فندلبند: «إن الفلسفة في أيام النهضة لم تعد من عمل الجماعات - كما كانت في القرون الوسطى - بل أصبحت من عمل أفراد أحرار مستقلين.» وقد كان من أهم أغراض النهضة تقرير الحرية الفردية، وبعبارة أخرى إنماء الشخصية، وجاء الإصلاح الديني فساعدها على ذلك.
فهم الناس على عهد الإصلاح الديني أن لهم حق الحكم الشخصي على الأشياء، وتحررت أفكارهم من قيود قيدها بها رجال الدين، وقد كان هذا كامنا في نفوس الناس من قبل، ولأن يعد هذا سببا في حركة الإصلاح أقرب من أن يعد نتيجة. (انظر فندت ص176). فمبادئ الإصلاح الديني كانت الثورة على سلطة الكنيسة، وإعطاء الإنسان حق الحكم الشخصي، وكان من آثار هذا الإصلاح تحرير العقول من العبودية التي وضع نيرها رجال اللاهوت، وفصل الفلسفة عن الدين وجعلها علما دنيويا مستقلا،
14
وهاتان الحركتان - أعني النهضة العلمية والإصلاح الديني - بتعاونهما أنتجا عاملا ثالثا كان له أثر في تلوين الأفكار الحديثة بلون جديد، وتحويل فلسفة القرون الوسطى إلى الفلسفة الحديثة، وذلك العامل هو «العلوم الطبيعية»، فالعلوم الطبيعية هي التي هدت الفلسفة إلى الاستقلال في العمل، ودليلنا على ذلك أن الاستكشافات العظيمة الحديثة التي وسعت نطاق الجغرافيا - من رحل كولمبس وفاسكوده جاما وماجلان، وما أبانه كوبرنيكس من نظام العالم، والبحث العلمي الذي بحثه ستيفينس وتيكوده براهي وجليلو وكبلر وجلبرت لما كانت تصحب رقي الفلسفة الحديثة، كان لا بد من أن يكون للعلوم الطبيعية - التي تختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه في العصور القديمة - أثر كبير في هداية الفكر في العصور الحديثة.
قال فندلبند: «كلما انفصلت الفلسفة عن الدين وكانت علما كونيا مستقلا كانت مهمتها التي يجب أن تؤديها هي أن تبحث في علوم الطبيعة، وإلى هذه الغاية كانت تتجه كل أبحاث الفلسفة زمن النهضة حتى إن شعارها كان «لتكونن الفلسفة علما طبيعيا».»
من هذا نرى أن النهضة والإصلاح الديني أطلعا فجر الفلسفة الحديثة، وهي - مع مخالفتها لفلسفة القرون الوسطى مخالفة كبرى - تشبه تاريخ تطور العقل عند القدماء مشابهة كبرى، وتسير في نفس الطريق الذي سلكه؛ فإن الفلسفة الحديثة من أيام النهضة فما بعد تتبع سنة النشوء والارتقاء، وتنتقل من طور الإيمان والاعتقاد إلى طور التعقل، وذلك كان الشأن عند القدماء.
أول ما أخذ الفكر يفيق من سباته الطويل بدأ يعرض الدين والنظم التي بنيت عليه للبحث والنقد الهادم، ومن مميزات عصور الانتقال حدوث النزاع بين الآراء المتنوعة والنظريات المختلفة بين القديم والجديد، ويتلو ذلك عادة عدم الرضاء عن الماضي لفساده، والرغبة في نظام جديد خير مما سبقه، فبينما ترى القديم آخذا في التداعي إذا بالجديد لا يزال في طور التكون ولم يستقر بعد على شكل، وإذ ذاك ترى العقل يتراوح بين تعطش لمثل جديدة وآراء جديدة ووضع نظريات للعالم جديدة، وبين البحث في القديم يتخذ منه دعامة للجديد، وترى العقل - إذا قوي شعوره بقوته ونزع إلى الثورة - يتحرر من قيود الدين، ويبعث من نوم عميق سببه الدين؛ لأنه ظل يستدرج الإنسان بما يهمسه في أذنه همسا خفيفا حتى نام واستغرق، ويبتدئ نمطا في الحياة جديدا، وهو مع كل هذا لا يزال يتعلق بالماضي ويتشبث به، فتتمشى الآراء القديمة مع النظام الجديد، وتستخدم الأشكال القديمة في البناء الجديد.
وهذا بعينه ما كان عندما انبثق فجر الفلسفة الحديثة؛ فقد كانت وجهة الفكر في القرون الوسطى دينية محضة، وكان الدين هو الذي يحدد أغراض العلم، ويسن نظم البحث، ولم يكن عنوان الرقي العقلي إلا صلاة طويلة مستمرة، وكان البحث الفلسفي إنما يدور حول الآخرة وعالم الغيب، حتى إذا كانت الأسباب التي ذكرنا من قبل دعا داعي الثورة والانقلاب، فاشتد الهياج على النظام الموجود والمبادئ القائمة، وزاد سخط الناس على ما لديهم من عقائد عتيقة، «فأعلنت الحرب على كل نوع من أنواع السلطات وطولب بحرية الفكر»،
15
وكان موقف الفلسفة الحديثة في عالم الفكر كموقف البروتستانتية في عالم الدين «كل طالب بالإصلاح وكل دعا إلى التغيير»، «وأصبح الحق في نظر الناس ليس ما اعتبر حقا منذ قرون، ولا ما قال عليه فلان: إنه حق، سواء كان القائل أرسطو أو توماس أكويناس أو غيرهما؛ إنما الحق ما برهن لي عليه واقتنعت بكونه حقا.»
16
ويتميز هذا العصر بحرية الفكر واستقلاله، وبكسر القيود التي غله بها رجال الدين
17
فتداعت عقائد القرون الوسطى الجافة، ونبذت آراؤها، وأهمل الجدال في عالم الغيب، ولكن لم تكن الآراء الجديدة قد استقرت بعد، بل كانت في طور التكون. وقد كانت الفلسفة في طور تكونها تنظر إلى الماضي، ولست أعني ذلك الماضي القريب الذي كانت هي على وشك أن تفارقه، وإنما أعني الماضي البعيد وعهده القديم - عهد الإغريق والرومان - واعتاضت بما وجدته في ذلك العهد من عقائد القرون الوسطى، «وبذلك جرت الفلسفة في مجرى النهضة ومذهب الإنسانية، وسار ذلك المجرى من إيطاليا فعم العالم المتمدن كله»
18
وقد ذكرنا قبل أن الفلسفة الحديثة من عهد النهضة كانت أميل إلى الاتجاه نحو الطبيعة، وكان الفكر الحديث - بدافع الروح اليونانية - منصرفا إلى الطبيعة وعلومها ينظر فيها نظرا غير متحيز، كما كانت الحال عند الإغريق، وبعثت الأفكار اليونانية على الرغبة في تعرف العالم من جديد، وحق ما قيل: «إن الذي يقصد إلى الفلسفة الطبيعية أو الفنون والآداب كذلك لا بد أن يعرج على اليونان.» هذا ولم تكن الفلسفة الحديثة طبيعية فحسب، بل كانت فردية أيضا؛ فقد كان من خواصها لفت عقل الفرد وتحريره من رق الإيمان، وكان من أغراض الحركة الحديثة تقرير حق الأفراد في الحكم على الأشياء، والترخيص لكل فرد أن يبحث أي شيء وينتقده، غير مقيد في ذلك بأية سلطة خارجية، وعلى الجملة فقد تقرر أن يكون لعقل الفرد القول الفصل في الحكم على الأشياء، وبذلك فشا الاعتقاد بأن العقل قادر أن يحل كل ألغاز العالم ويصل إلى أبعد أسرارها، وعلى هذا الأساس بنى ديكارت وسبينوزا وليبنتز نظمهم الكبرى «فيما بعد الطبيعة»، ويسمى مذهبهم مذهب «العقليين».
وهذا الميل إلى إخضاع كل شيء لبحث العقل أدى إلى وضع العقل نفسه تحت البحث، فصار كل من العالم المادي والعقلي خاضعا للنظر والامتحان، وكان الشأن في العصور الحديثة كالشأن عند اليونان؛ ففي كليهما جاء أولا عصر النظر في الكون، ثم شفعه عصر النظر في الإنسان نفسه، فتوجه النظر في البحث في أصل معرفة الأشياء، وتحول مجرى الفكر إلى الأبحاث النفسية - السيكولوجية - وأخذ الإنسان يسأل: ما أصل المعرفة والإدراك؟ وما منبعهما؟ آلعقل أم التجربة؟ بحث في هذه المسائل وأمثالها «جون لوك» الذي نهج منهج «ديكارت» واختار كسلفه «بيكون» أن أصل المعرفة التجربة لا العقل، وانتشرت نظرية «التجريبيين» القائلة بأن المعرفة مستقاة من التجربة في إنجلترا، كما انتشرت نظرية «العقليين» القائلة بأن أساس المعرفة العقل فيما عدا إنجلترا من ممالك أوروبا.
وقد قارن «فلكنبرج» بين خصائص العقل في الممالك الثلاث الكبرى التي كان لها الحظ في الفلسفة من عهد «ديكارت» إلى عهد «كانت» فقال: «إن الفرنسي تغلب عليه حدة الذهن، والإنجليزي البساطة والوضوح، والألماني التعمق والتفكير، ففرنسا منبت الرياضيين، وإنجلترا منبت العمليين، وألمانيا منبت المفكرين النظريين، فالأولى موطن الشكاك المرتابين، كما أنها موطن المتحمسين، والثانية موطن العمليين الواقعيين، والثالثة معهد المثاليين.»
وقد جاء بعد «لوك» «دافيد هيوم» - وهو من أكبر من يتجلى فيه مظهر الفكر الإنجليزي من حيث العمق والثبات - فرقى ما قاله «لوك» في التجربة، وأوصله إلى فلسفة الشك
19
والفلسفة الوضعية،
20
وهذا النحو من التطور يشبه التطور العقلي عند اليونان، ونظرية الشك هذه التي أسسها «هيوم» أثارت في إسكتلندا الميل إلى استعمال العقل في البحث، «كما أنها ساعدت عالما ألمانيا يشبه «هيوم» بل أعظم منه نفسا على الخلاص من قيود الاستسلام، ومن قبول المسائل من غير بحث، وشجعته على وضع نظامه الانتقادي، وذلك العالم هو «عمانويل كانت».»
من ذلك نرى أن الفلسفة الحديثة اتبعت في تطورها الطريقة التي جرى عليها الفكر عند اليونان، فالفلسفة اليونانية كانت أيام طفولتها فلسفة طبيعية تبحث في عالم الطبيعة، ثم تحول البحث إلى الإنسان وقواه الباطنة، فبعد أن كانت الفلسفة فلسفة نظر في الكون صارت فلسفة إنسان (فلسفة أنثروبولوجية)، ثم آلت الحركة التي قام بها السوفسطائيون إلى الشك في الحقائق، وهذا بعينه هو الطريق الذي سلكه الفكر الحديث؛ فقد كان مجرى الفكر متجها نحو الطبيعيات عندما فارق منبع النهضة، ثم اتجه نحو الإنسان عند اجتيازه هولندا وألمانيا وفرنسا، ثم ارتقى فاتجه إلى البحث في «نظرية المعرفة» عند وصوله إلى إنجلترا، ثم وصل في النهاية إلى الشك والارتياب، وكما مهد السوفسطائيون بشكهم الطريق للإصلاح الذي قام به سقراط ولنظام أفلاطون «المثالي»، فكذلك الشك الذي أسسه «هيوم» مهد السبيل للإصلاح الذي قام به «كانت»، والذي كان منه «مذهب المثال الألماني»،
21
وحقا إن «هيوم» قوض ما قاله «لوك» من أساسه.
وانبعثت من أقوال «هيوم» شرارة كادت تشعل ما حولها لو أنه قدر لها أن تقع على مادة سريعة الالتهاب، ولو أنه روح على ما أصابت، وكان لأقواله أثر في «كانت»؛ فإنها جعلته ينتبه من سنته وينبذ طريقة التسليم من غير بحث.
22
وقد سار مذهب العقليين مع مذهب التجريبيين جنبا إلى جنب، وإن كانت كل فرقة منقسمة على نفسها وهي في حرب عوان مع الأخرى، حتى جاء «كانت» فحاول أن يوفق بين المذهبين ويزيل الخلاف بينهما بتحديد دائرة لكل من العقل والتجربة، وتقويم كل باعتبار ما يوصل إليه من الحقائق. وقد بحث كل من العقليين والتجريبيين في أصل المعرفة، ولكنهما كليهما وثقا بالعقل البشري، واعتقدا بقدرته على معرفة الأشياء، فلم يتعرض أحد منهما لموضوع «إمكان معرفة الأشياء»
23
حتى أتى «كانت» فوجه بحثه نحو المعرفة نفسها، وأثار البحث في إمكان المعرفة ، وأخضع العقل البشري نفسه للبحث، وقد سمي النظام الذي وضعه هذا العالم «بالنظام الانتقادي» تمييزا له عن الطريقة التي كانت متبعة من قبل، والتي لقبها هو «بطريقة التسليم». بحث «كانت» في أصل المعرفة وفي وجودها، في منبعها وحدودها، في أساسها وفي صحتها، وبعد أبحاث «كانت» في منبع المعرفة وشرح شروطها استطاع الإنسان أن يحدد دائرتها ومجالها، وما كان يستطيع ذلك من قبل، وبذلك وجه «كانت» الفلسفة الحديثة وجهة جديدة ظلت متجهة إليها إلى اليوم، وإليه يرجع الفضل في مذهب المثال الألماني الذي وضعه «فخته» و«شلنج» و«هجل». وقد أضاف التقدم الحديث في العلوم الطبيعية إلى تعاليم «كانت» ومذهب المثال الألماني مسائل كثيرة جديدة، وكان هذا المذهب يوجه أكبر اهتمامه للبحث في أعمال العقل، ولكن ما لبث أن التفت الإنسان ثانية - ولا سيما في إنجلترا - للبحث في تاريخ الإنسانية وفي الأشياء الخارجية والعلوم الطبيعية، وأصبح أهم نظريات العصر الجديد نظرية النشوء والارتقاء التي تشغل الآن أنظار أكبر الباحثين.
هوامش
الفصل العاشر
فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية
يقول معرب هذا الكتاب: لم يذكر المؤلف كلمة واحدة عن الفلسفة الإسلامية، وبعبارة أخرى «الفلسفة عند العرب»، كأنهم لم يشتغلوا بالفلسفة ولم يعنوا بها! ولعل عذره في ذلك أنه إنما ألف كتابا مختصرا لمبتدئين أوروبيين لا يهمهم كثيرا إلا فلسفة بلادهم، وإذ كنا قد نقلنا كتابه إلى العربية رأينا من تمام الفائدة أن نزيد كلمة إجمالية عن الفلسفة العربية وتاريخها؛ حتى نكون قد أتممنا للقارئ العربي الصورة التي ينبغي أن يرسمها فصل «تاريخ الفلسفة» فنقول:
كانت العرب في جاهليتها أمة أمية ندر فيهم القارئ والكاتب، ولم يعرف عنهم أنهم بحثوا في علم ودونوه، وهذا طبيعي في الأمم المتبدية، وإنما كانت لهم معارف أرشدتهم إليها التجارب والنظر ونوع المعيشة؛ فمعيشة كثير منهم مثلا في الصحراء؛ حيث السماء صافية، والجو مفتوح، وحاجتهم إلى الأمطار وهبوب الرياح، لفت نظرهم إلى السماء فعرفوا شيئا عن النجوم، وربطوا بها كثيرا من ظواهر الجو؛ يدل على ذلك ما وضعوا من أسماء النجوم والمنازل والأنواء، ولكنهم لم يبحثوا في ذلك بحثا علميا ولا دونوه كما تدون العلوم، ولم يكن لهم بالضرورة فلاسفة يدعون إلى مذاهب معينة، ولا يضعون مبادئ للسير عليها في الحياة كالذي رأيناه عند اليونان؛ ذلك لأن العلم والفلسفة لا يكونان إلا حيث تعظم المدنية، فيسهل تحصيل المعاش وتتوافر أسباب العلم، إنما كان عند العرب حكماء وشعراء قاموا فيهم مقام الفلاسفة في الأمم المتحضرة؛ يفوهون بالحكم وتعد أقوالهم أمثالا تؤثر في نمط الحياة، كالذي حكي عن لقمان الحكيم وأكثم بن صيفي وزهير بن أبي سلمى، وقد أثر في حياتهم وعقولهم ما وصل إليهم من تعاليم الأديان السابقة ولا سيما دين إبراهيم - عليه السلام - واليهودية والنصرانية. فشت اليهودية في حمير وبني كنانة وكندة، وفشت النصرانية في ربيعة وغسان، وكذلك كان له الأثر فيهم ما نقلوه عن الفرس والروم والهند من القصص المشتملة على المواعظ والحكم، وقد كانت التجارة واسطة النقل، وكان العرب يكثرون التردد إلى بلاد هؤلاء للتجارة.
ثم جاء الإسلام 610م فوحد دينهم ولغتهم وأميالهم وقد كانت متعددة، وملك الدين عليهم نفوسهم، فكانت الحياة حياة دينية، وسياسة الحكومة سياسة دينية، والتشريع تشريعا دينيا؛ لذلك كان البحث في عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية إلى سنة 132ه إنما كان بحثا في الأمور الدينية أو ما يتعلق بها، والسبب في ذلك: (1)
أن المسلمين رأوا ما صارت إليه دولة الإسلام من العز وكثرة الفتوح، وهم يعلمون أن لا سبب لذلك إلا دينهم الجديد، فزادهم ذلك اتجاها نحوه. (2)
أن كثرة الفتوح واتساع المملكة يستدعي حدوث أمور لم تكن في عهد المشروع، وليس لهم أن يحكموا فيها بمجرد الرأي، بل يعتقدون وجوب الاستعانة بقواعد الدين، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا اشتغلوا بالدين. (3)
أن القرآن ملك عليهم نفوسهم من نواحي كثيرة: من ناحية البلاغة، وحسن القصص، ولفت النظر، فدعاهم ذلك إلى الانكباب عليه.
من أجل هذا كله كان مدار البحث في هذا العصر هو الدين، ومن نقل خبرهم من علماء هذا العصر هم علماء دين إلا قوما ترجم لهم صاحب كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، والظاهر أن هؤلاء كانوا يمارسون الطب على أنه صناعة لا علم، وإلا ما حكاه ابن خلكان في ترجمة خالد بن يزيد - توفي سنة 85ه - من أن له كلاما في الكيمياء والطب ورسائل دالة على معرفته وبراعته، وفي ترجمة جعفر الصادق 80-148 أن له كلاما في صناعة الكيمياء. والكيمياء التي اشتغل بها جعفر - إن سلم أنها علم كان يشتغل به - لا يطعن فيما نقول من أن العلم الشائع لهذا العصر هو علم الدين.
وفي آخر الدولة الأموية كانت لهم أبحاث دينية مما هو من أبحاث علم الكلام أو ما بعد الطبيعة، فبحثوا في حرية الإرادة وأن الإنسان مجبور أو مختار، وفي مرتكب الكبائر أمؤمن أم كافر، وفي خلق القرآن ونحو ذلك، وانحاز المسلمون إلى فرق وتجادلوا وكل يدلي بالحجة، وبحثوا كذلك بحثا سياسيا مصبوغا بالصبغة الدينية فيمن يكون خليفة المسلمين، وما ينبغي أن يستوفيه من الشروط، وكان للخوارج الفضل في إثارة الأذهان للبحث في هذه المسائل السياسية، ولكن شيئا من ذلك لم يدون كأنه علم.
فلما جاءت الدولة العباسية 132-656ه عظمت حضارة المسلمين، وهضموا ما أخذوه بالفتح عن الفرس والروم والهند، ونقلوا علوم الأمم التي سبقتهم في المدنية ولا سيما الهند واليونان، وفي زمن أبي جعفر المنصور والرشيد والمأمون ومن بعدهم - ولا سيما المأمون - توسع الناس - وخاصة السريانيين - في ترجمة علوم اليونان على اختلاف أنواعها: من طب وهندسة وهيئة وتقويم بلدان، وفلسفة بفروعها المختلفة من طبيعيات وإلهيات ومنطق ونفس وسياسة وأخلاق - إلى اللغة العربية، فترجموا في القرن الثاني والثالث للهجرة كتب أفلاطون وأرسطو وإقليدس وبطليموس وجالينوس وغيرهم، وبحثوا فيها وتداولوها يشرحونها مرة ويختصرونها أخرى، وخصص كثير من المسلمين حياتهم لدراسة الفلسفة وتفهمها؛ فكانوا بعد فلاسفة.
وكان أغلب مؤسسي الفلسفة عند العرب ومؤيديها أطباء وعلماء في الطبيعيات أكثر منهم رجال دين، وعلى العكس من ذلك فلاسفة الغرب في القرون الوسطى، فقد كان أكثرهم قساوسة؛ ولهذا لم يقصر المسلمون نظرهم على الإلهيات، بل كان البحث في الطب القديم والعلوم الطبيعية عندهم يسير جنبا لجنب مع البحث في الإلهيات وما وراء الطبيعة، وترجموا كلام جالينوس في الطب وإقليدس في الهندسة كما ترجموا كلام أرسطو في الإلهيات.
1
غير أنه يظهر أن ما ابتكروه من عند أنفسهم قليل إذا قيس بما نقلوه من اليونان، نعم إنهم في بعض فروع العلم كالكيمياء وعلم المعادن والطب وعلم وظائف الأعضاء كان لهم أثر ظاهر، واستكشفوا من القوانين ما لم يصل إليها اليونان قبلهم، ولكنهم في غير ذلك من فروع العلم كالمنطق والنفس والأخلاق كانوا نقلة أكثر منهم مبتكرين، وكانوا في طريقتهم العلمية ونظامهم في البحث، وأنظارهم إلى العالم، وترتيب فلسفتهم وقواعدهم متأثرين تأثرا عظيما بفلسفة أرسطو والأفلاطونية الحديثة.
ولهم الفضل على الغرب بكل ما نقلوا أو ابتكروا، فكثير من كتب اليونان وأبحاثهم ما كان يصل إليها الغربيون لولا حفظ العرب لها ودراستهم إياها، كما أن كثيرا من مبتكراتهم واختراعاتهم تعد - بحق - من أسس المدنية الغربية.
ابتدأ المسلمون لأول عهدهم بالفلسفة يدرسون الفلسفة «الأفلاطونية الحديثة» (وهي مذهب مزيج من الفلسفة والدين، ظهر في أواخر القرن الثاني للميلاد، وكان مقره الأصلي الإسكندرية، حاول مؤسسوه التأليف بين الدين المسيحي والمذاهب الشرقية ومذاهب اليونان ولا سيما أفلاطون، وأطلق عليه «فلسفة أفلاطون الحديثة»، من أشهر دعاته أفلوطين، ولد في مصر سنة 204م، قيل: إنه رحل إلى فارس ودرس الفلسفة الشرقية وعلم في رومة من سنة 244م، ومات نحو سنة 264م، وكانت تعاليمه مزيجا من الفلسفة العلمية والتصوف الديني)، والذي دعا المسلمين إلى اعتناقهم هذا الضرب من الفلسفة أنها كانت فاشية لعهدهم في الشام، وأنها مصبوغة بالصبغة الدينية، ثم ارتقوا منها إلى النظر في فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكن كانت قد غلبت عليهم فلسفة أفلاطون الحديثة، فلما أن نظروا بعد في فلسفة أفلاطون وأرسطو نظروا إليها بعيون متأثرة بالأفلاطونية الحديثة.
وأول من اشتهر من المسلمين بالفلسفة يعقوب الكندي، ويلقب «بفيلسوف العرب» لأنه عربي صميم تبحر في الفلسفة، وقد كان تابعا للأفلاطونية الحديثة وتعاليم أرسطو أكثر منه فيلسوفا مستقلا، وأكثر ما له من الفضل جاء ما ناحية الترجمة والنقل، وقد ظهر له في عهد المأمون والمعتصم كتب كثيرة بعضها ترجمة، وبعضها تأليف، وصل إلينا من أسمائها نحو 256 كتابا عدها صاحب أخبار الحكماء وفهرست ابن النديم، ومات نحو سنة 260ه.
وجاء بعده أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 334ه، عاش تحت كنف سيف الدولة بن حمدان، وكان يعرف لغات كثيرة، وبرز في الموسيقى والرياضيات وعلم اللغة والفلسفة، درس فلسفة اليونان ومهر فيها، وقد كان كالكندي تابعا للأفلاطونية الحديثة (وإن لم يعرف هو هذا الاسم) وتعاليم أرسطو، وكان معشوقه من فلاسفة اليونان أرسطو حتى قيل: إنه وجد «كتاب النفس» لأرسطو وعليه بخط الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة!» وقد لقب بالمعلم الثاني - والمعلم الأول هو أرسطو - لحله معميات الفلسفة اليونانية، وكان الفارابي كسائر فلاسفة المسلمين يرون أن الإسلام من قرآن وسنة حق، وأن الفلسفة حق، والحق لا يتعدد، فوجب أن تكون الفلسفة والإسلام متفقين! غير أنه يؤخذ على فلاسفة الإسلام أنهم لم ينظروا إلى الفلسفة اليونانية كما كان ينبغي أن ينظروا إليها؛ من أنها مجموعة أقوال ومذاهب قد يناقض بعضها بعضا، وأن ما يذهب إليه أرسطو في مسألة قد يكون مناقضا لما يذهب إليه أفلاطون فيها، بل نظروا إليها كأنها حقيقة واحدة ملتئمة، وقالوا: إن أفلاطون قد يختلف مع أرسطو في طريقة البحث أو التعبير عن المقصد، ولكن آراءهما في الفلسفة واحدة.
2
وصلت إليها تعاليم أفلاطون كما حكاها فورفريوس - وهو من أصحاب مذهب الأفلاطونية الحديثة - وتعاليم أرسطو كما حكاها متأخرو المشائين، ودخل عليهم فيما نقل إليهم من فلسفة اليونان ولا سيما فلسفة أرسطو خلط وتشويش، يدل على ذلك أنه في زمن المعتصم ترجم أحد نصارى لبنان جزءا من أنيدة
3
أفلوطين إلى العربية وسماه «لاهوت أرسطو»! وتلقى المسلمون كل ذلك بالقبول، وعدوا أقوال الفلاسفة المختلفة شرحا لحقيقة واحدة، فبذلوا جهدا عظيما في التوفيق بين أقوال أفلاطون وأرسطو ، وزاد عليهما المتدينون «القرآن»، وهذا ما فعل الفارابي؛ فقد كان مؤمنا بأقوال أرسطو وأفلاطون منزها للقرآن عن الخطأ، فمزج اللوح والقلم والكرسي والعرش والملائكة والسموات السبع بتعاليم اليونانيين الوثنيين مع ما بين أجزائها من التناقض، ومحاولة ذلك تستدعي ذكاء نادرا وتصوفا و«كشفا» وغموضا وسبحا في الخيال.
وبحث الفارابي كذلك في السياسة في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة)، واختار من أشكال الحكومة الملكية الدينية، ومزج في هذا الكتاب بين آراء أفلاطون في «الجمهورية» وبين أقوال الشيعة في الإمام المعصوم؛ إذ كان سيف الدولة بن حمدان مقرب الفارابي وحاميه شيعيا.
4
وممن لهم أثر كبير في الفلسفة الإسلامية جمعية شبه سرية تسمى «إخوان الصفا» اجتمعت في البصرة نحو منتصف القرن الرابع للهجرة، ودعاهم إلى جعلها سرية كره عامة الناس وعامة المتدينين للفلسفة ومن اشتغل بها، ومحاولتهم إيقاع الأذى بالفلاسفة، وقد عد القفطي في أخبار الحكماء أسماء خمسة من أعضائها، وكان قصدهم نشر المعارف بين المتعلمين في جميع الأقطار الإسلامية، وتغيير أفكارهم الدينية والعلمية، قالوا: «إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية»، «وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال.»
5
فألفوا إحدى وخمسين رسالة ضمنوها خلاصة أنواع العلوم المعروفة لعهدهم، فهي «دائرة معارف» تشتمل على معارف العرب إذ ذاك باختصار، قالوا في أول هذه الرسائل: «إن الحكماء والفلاسفة الذين كانوا قبل الإسلام تكلموا في علم النفس، ولكنهم لما طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن قد فهم معانيها؛ حرفها وغيرها حتى انغلق على الناظر فيها فهم معانيها، ونحن قد أخذنا لب معانيها، وأقصى أغراضهم فيها، وأوردناها بأوجز ما يمكن من الألفاظ وبالاختصار في إحدى وخمسين رسالة.» ا.ه.
وكانت تعاليمهم فيها كذلك مزيجا من أبحاث «الأفلاطونية الحديثة» والتصوف وما قاله أرسطو في العلوم الطبيعية وما قاله الفيثاغوريون في العدد «الرياضة»، وقد كان لها أثر كبير في العقول بانتشارها بين الناس، ولكن فيها من الخلط والتشويش ما ذكر قبل، وقد ظن بعض الباحثين أن هذه الجمعية جمعية باطنية «إسماعيلية» لما بين ما يجيء فيها أحيانا وبين تعاليم الباطنية من التطابق، وقد عثر المغول عند فتحهم قلعة «ألموت» - وكانت في يد الإسماعيلية - على كثير من نسخ الكتاب.
6
وكان لأبي علي بن سينا البخاري 370-428ه شهرة فائقة في الفلسفة، وفلسفته تقرب من الفلسفة الأرسطاطاليسية الصرفة، وربما كانت أقرب فلسفات المسلمين إليها، وكتابه (القانون) كان العمدة في الطب في القرون الوسطى عند الشرقيين والغربيين معا،
7
وله فضل كبير في نشر الفلسفة بين الناس بمؤلفاته العديدة ولا سيما الإلهيات والمنطق، هذا إلى كثير من أمثال هؤلاء الفلاسفة؛ كالبيروني، وابن مسكويه، وابن الهيثم.
وقد كان انتشار الفلسفة بين المسلمين في القرن الثالث والرابع والخامس للهجرة سببا في حركة جديدة قام بها المتكلمون - علماء الكلام - يريدون بها مقاومة تعاليم أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة المتعلقة بالإلهيات، أو الرد عليها ودحضها، فنشأ من ذلك أبحاث كلامية كثيرة، فبحثوا في العلة والمعلول والزمان والمكان والحركة والسكون، والجوهر الفرد والدور والتسلل ونحوها، ولم تكن ردودهم موجهة إلى الفلاسفة فحسب، بل إلى كل من خالف سنتهم من معتزلة وزنادقة وفلاسفة وظاهرية وحنابلة، ومن أعلام هذه الطريقة: أبو الحسن الأشعري، وإمام الحرمين، والباقلاني، ولكن أحدا منهم لم يخص الفلسفة بالطعن ولا رد عليها من جميع جهاتها حتى جاء الغزالي 450-505ه، فدرس الفلسفة اليونانية درسا دقيقا - كما حدث هو نفسه - ثم حمل عليها حملة شديدة من جميع جهاتها، وألف في ذلك كتابه المشهور (تهافت الفلاسفة)، وكفر الفلاسفة لبعض تعاليمهم، وأظهر منافاة الفلسفة لتعاليم الدين، ودعا الناس إلى الرجوع إلى دينهم الصحيح الخالي من الفلسفة، ورغب في التصوف، وأبان أنه الطريق الحق إلى الله، وكان بليغا في قوله، مخلصا في حديثه، سهل العبارة، قوي الحجة، فأثر ذلك في المسلمين أثرا كبيرا، وكان من آثاره أن حول الناس عن الاشتغال بالفلسفة، ورجعهم إلى الكتاب والسنة، وأعلى شأن التصوف والصوفية وحبب ذلك إلى الناس، وسار على طريقة الغزالي كثيرون من بعده.
هذا مجمل حال الفلسفة في الشرق، أما في المغرب - أعني في الأندلس وشمالي إفريقية - فقد أزهرت الفلسفة حينا أكثر من إزهارها في الشرق، وكان فلاسفة الأندلس والمغرب أكثر ابتكارا من فلاسفة المشرق، وكان يندر بين مسلمي الأندلس الخلاف في العقائد والمذاهب كالذي كان عند المشارقة، فكلهم - إلا القليل - مالكي سني، أخذوا الفلسفة عن أهل المشرق؛ فقد كان منهم رحل إليه، رحلوا عن طريق القاهرة وأمعنوا في الرحلة حتى إلى فارس وانتفعوا بعلومهم، وجاء الحكم الثاني 350-366ه فبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار، فجمعوا إليه كتبا جمة، فاشتغل الأندلسيون بالرياضة والعلوم الطبيعية والتنجيم والطب بعد أن نقلت إليهم كتب الفارابي ورسائل إخوان الصفا وطب ابن سينا. وقد تعاون المسلمون واليهود معا على الاشتغال بالفلسفة في الأندلس، ولم يلبث أن نبغ منهم كثيرون، مع مقاومة العامة وأشياعهم مقاومة أشد من مقاومة المشارقة.
ومن أشهرهم: (1)
ابن باجة، وقد اتبع تعاليم الفارابي. (2)
وأبو بكر بن طفيل، مات سنة 531ه، وصل إلينا من تآليفه رواية (حي بن يقظان)، وكان بطلها «حي» يعيش في جزيرة لا يسكنها أحد من الناس، وليس له علاقة بأحد من أهل الجزائر الأخرى، بحث بعقله بحثا منطقيا متدرجا من البسيط إلى المركب حتى وصل إلى الاعتقاد بالله، وغرضه فيها أن يبين أن الشرع يتفق مع العقل. وقد ترجمت إلى اللاتينية وظهرت سنة 1671م وسنة 1700، ولم يمض على ظهورها عشرون سنة حتى ظهرت رواية روبنصن كروسو.
8 (3)
ابن رشد، وهو أشهر فلاسفة الأندلس على الإطلاق 520-595ه، كان يعد أرسطو أكبر الفلاسفة، وقد شرح تعاليمه حسبما وصلت إليه، ودافع عن الفلسفة وألف كتابه (تهافت التهافت) ردا على الغزالي في طعنه على الفلسفة، وأبان في كتب أخرى أن الفلسفة لا تناقض الدين، وألف في ذلك كتابا صغيرا سماه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، وأكثر مؤلفاته لا توجد بالعربية، وإنما موجود ترجمتها، من ذلك شرح أقوال أرسطو مع الرد على الغزالي، رتبت وطبعت باللاتينية في البندقية سنة 1560م، في أحد عشر مجلدا، وترجم له كتاب في الطب طبع كذلك في البندقية، وله كثير من المؤلفات مترجم إلى اللغة العبرانية، وكان لفلسفته شهرة في الكنائس والمدارس الأوروبية منذ القرن الثالث عشر الميلادي - السابع الهجري.
وبانتهاء القرن السادس الهجري تقريبا وقف المسلمون عن البحث الفلسفي والنظر في العلوم الكونية، ولم يكن العلم إلا نقلا، فالمؤلف ينقل عمن قبله فحسب، حتى لا تكاد تجد في كتاب جملة ذات معنى جديد، والمعلم إنما يعلم ما سمع من أساتذته، والاختلاف الذي يظهر بينهم إنما هو اختلاف في الشكل لا في الجوهر - وليس ثمة مجال للبحث في أسباب ذلك - ولم ينبغ منهم نابغ مبتكر ذو شخصية ظاهرة إلا ابن خلدون المتوفى سنة 808ه؛ فإنه بإجماع الشرقيين وكثير من الغربيين مخترع فلسفة التاريخ أو علم الاجتماع، وأكبر الباحثين فيه في الشرق والغرب إلى القرن التاسع عشر الميلادي، فبحث في «أحوال العمران»؛ في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية، وكما قال هو في مقدمة كتابه: «إن كثيرا قبله حوموا على الغرض ولم يصادفوه ولا تحققوا قصده ولا استوفوا مسائله.» وأمل ممن يأتي بعده أن يستمروا في البحث ويضعوا ما فاته من المسائل، وقد تحققت أغراض ابن خلدون، ولكن لم يكن الذي حققها هم المسلمون، بل أوجست كومت وسبنسر وأمثالهما، «وكما كان ابن خلدون في هذا الموضوع هو السابق، فلم يكن له بين المسلمين لاحق.»
9
وأما من عداه فداروا في دائرة ضيقة كانت عنايتهم بالمسائل اللفظية تفوق العقلية، قصروا نظرهم على كتب للمتأخرين محدودة لا تبعث شوقا إلى علم، ولا تهيج العقل إلى بحث، قد ألغزوا في معانيها وركزوا ألفاظها، فوجه المتعلمون أعظم جهدهم إلى حل معمياتها وتفسير أغراضها، وقليلا من الجهد - إن كان - إلى نفس الموضوع.
وكان العلم والفلسفة قد صار شوطا بعيدا في الغرب، والشرق جامد في مكانه، وبدأ الشرق يغالب النوم والنوم يغلبه، ويصارع الكسل والكسل يصرعه، حتى أزعجته الحوادث، وأقلقت راحته ضوضاء احتكاك الشرق بالغرب، فانتبه متأخرا وأحس بتأخره ونقصان علمه وضرورة التعلم حتى يستطيع مشاركة غيره في شئون الحياة، وما أحوجه اليوم إلى هداة يضيئون له السبيل، ويأخذون بيده في هذا المعترك اللجب، وينقلون إليه زبدة ما وصل إليه الغرب فيمعن النظر فيها ويهضمها بعقله الشرقي، ويكون له مدنية وعلما تتفق مع ذوقه وجوه ودينه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هوامش
الكتاب الثاني
مسائل الفلسفة ومذاهبها
الفصل الأول
مقدمة المؤلف
إن الموضوعات التي تبحث فيها الفلسفة والمسائل التي تحاول حلها لعديدة؛ فكل ما هو علمي محض أو يترتب عليه فائدة عملية للإنسان داخل في نطاقها، ونحن نرتب تلك الموضوعات والمسائل على حسب الإجابة عن ثلاثة أسئلة كبرى: ما، وكيف، ولماذا؟
ما حقيقة الموجود؟ وكيف وجد؟ تلك معميات نيط بحلها «علم ما بعد الطبيعة»، ماذا نعرف عن الأشياء الموجودة؟ وكيف نعرف؟ أسئلة تشتغل بالبحث عنها فلسفة المعرفة، ماذا ينبغي أن نعمل؟ ولم نعمل في طريق خاص دون غيره؟ أسئلة يجيب عنها علم الأخلاق، وعند الإجابة عن هذه الموضوعات كلها نشأت مذاهب ونظم فلسفية متنوعة، فكل إنسان وكل فيلسوف أجاب عنها حسب رأيه وأخلاقه - وربما زدنا - وحسب الظروف المحيطة به، وحسب تربيته وروح العصر الذي هو فيه. وقد لاحظ «فخته» ملاحظة صحيحة أن نوع الفلسفة الذي يختاره الإنسان مرتبط ارتباطا كبيرا بطبيعة الإنسان نفسه، ويجب أن يزاد على ذلك أنه مرتبط كذلك بروح العصر.
وليس للفلاسفة من الزمن ما يكفي للبحث في كل المسائل، فالحياة قصيرة، والعقل البشري محدود ومحصور مهما كان متوقد الذكاء واسع النظر، ولهذا شغل كل طائفة من الفلاسفة بالبحث في طائفة من المسائل، فتنوعت النظم الفلسفية، ولم يكن التنوع مقصورا على أن كل جماعة خصصوا أنفسهم لدراسة نوع خاص من المسائل فحسب، بل هم قد يختلفون في المسألة الواحدة وتتنوع إجابتهم عليها، ويمكننا مما تقدم أن نقسم المسائل الفلسفية إلى ثلاثة أقسام: (1)
مسائل ما بعد الطبيعة أو علم الوجود. (2)
المسائل الأخلاقية. (3)
المسائل المتعلقة بنظرية المعرفة.
الفصل الثاني
مسائل ما بعد الطبيعة
على هرم في هيكل «إيزيس»
Isis
بصا الحجر
Lais
1
نقش قديم يتضمن الكلمات الآتية:
أنا كل شيء كان، وكل شيء كائن، وكل شيء سيكون، ومحال على من يفنى أن يزيل النقاب الذي تنقب به من لا يفنى.
أما العلم الحديث فيعتقد أنه كشف هذا الحجاب، وأن «القوة» و«المادة» هما كل شيء كان وسيكون! وليس هذا موضع البحث فيما إذا كان ما يزعمه العلم حقا أو باطلا، وإنما الذي نريد أن نقوله: إن العقل البشري بذل جهده في رفع النقاب، وحاول معرفة هذا السر المحتجب بحمية وغيرة، ولكن لا نتعرض للحكم بنجاحه أو خيبته.
طالع العقل البشري لغز هذا العالم من وجوه عديدة وشرحه، وكان السؤال الأول من بين الأسئلة الثلاثة التي لا ينفك يحاول الإجابة عنها - وأعني بها: (1)
ما حقيقة الموجود الذي هو من اختصاص ما بعد الطبيعة؟ (2)
وما حقيقة المعرفة؟ (3)
وماذا ينبغي للإنسان أن يعمل؟ - هو أهم ما هيج في الإنسان الميل إلى حب الاستطلاع، واختلف الفلاسفة في الإجابة عنه في العصور المختلفة، ونشأ عن ذلك مذاهب فيما بعد الطبيعة.
ولو أنا سألنا إنسانا عاديا عمليا: «ما الموجود؟» أجابك من غير تردد بقوله: كل شيء حولي موجود، وكثيرة هي الأشياء، فكل ما أرى وأسمع، وكل ما أمسك وألمس، والسماء والأرض، والأشجار والأنهار، والشمس والنجوم، والطير والهواء، والسمك في الماء، والوحوش في الغابات، وعلى الجملة كل ما أرى وأمسك وألمس كائن موجود، ولكن يرى الإنسان بين هذه الموجودات فروقا واختلافا؛ «فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع.» طائر وغير طائر، متحرك وغير متحرك، والمتحرك حي، وغيره فاقد الحياة، والحي إذا لمسه الموت فقد الحركة.
أنى لنا هذه الأعضاء وتلك القوة العاصفة التي فينا، ودم الحياة وما يبعث من شهوات، ثم بعد قليل يصير ذلك كله ترابا، ويذهب التراب هباء كأن لم يغن بالأمس؟ هنا يتساءل عن علة هذا التغير وتلك التقلبات.
وقد وضع الشاعر «بيرون» الأبيات الآتية على لسان قابيل وقد رأى أخاه «هابيل» ميتا ولم يكن رأى الموت قط:
أخي ما دهاك وكنت صباحا
قوي الفؤاد قوي البدن؟!
على العشب ملقى فماذا عراك؟
أنوم وما الوقت وقت الوسن؟!
سكنت وأمسك منك اللسان
وهل مات حي إذا ما سكن؟
ألا ما هلكت ، وإن كان في
شحوبك معنى يهيج الحزن
وصل العقل البشري إلى نتيجة وهي أن هناك شيئا لا يدركه النظر، ندركه بعقولنا ولا ندركه بعيوننا، ليس بمادة ولكن يسكن الأجسام الحية، وذلك هو الروح أو النفس، وهي التي تمنح ما تحل فيه حركة وحياة، فإذا انسلت منه فلا حياة ولا حركة. وترى الأمم مجمعة على الاعتقاد بالروح حتى إن علم اللغة أثبت أنه لم تخل لغة من لفظ يدل عليها؛ فالإنسان من مبدأ أمره يميز بين المادة والروح حتى من قبل أن يتفلسف، فالمادة تفنى والروح تبقى، قال بيرون:
وهيهات لا تفنى جميعا وإنما
لديك من الأسرار باق مخلد
ولما يقنع الفيلسوف بهذه الأقوال المبهمة الساذجة حاول أن يضع مبدأ أساسيا يحيط بكل موجود، وعنه يصدر كل شيء، قال قائلون: «لا شيء غير الروح، وليست المادة إلا ظاهرة من ظواهرها.» ويسمى هؤلاء بالروحانيين، وقال آخرون: «لا شيء غير المادة، وليست الحياة والحركة إلا وظيفة من وظائف المادة أو صفة من صفاتها، حتى إذا عرا المادة الانحلال فلا حياة.» ويسمى هؤلاء بالماديين، وذهبت طائفة ثالثة إلى أن هناك أساسين متحدين امتزج بعضهما ببعض؛ وهما: المادة والروح، ويسمى هذا المذهب «بالاثنينية» تمييزا له عن القولين الأولين الذاهبين إلى أن هناك أساسا واحدا؛ إما المادة أو الروح، ويسمى مذهب هؤلاء «بالواحدية». (1) المادية والروحانية
في إحدى حجر الفاتيكان صورة شهيرة في حائط صورها «روفائيل» تسمى مدرسة أثينا، مركز هذه الصورة أرسطو وأفلاطون يحيط بهما أتباعهما وتلاميذهما، وفيها يشير أفلاطون بإصبعه إلى السماء، وأرسطو يصغي إلى قوله في فتور مشيرا بيده اليمنى إلى الأرض. هذه الصورة تمثل تاريخ المذاهب في أثينا، بل وتمثل تاريخ الفكر الإنساني والنظريات الفلسفية في كل العصور، تمثل المادية والروحانية اللتين ثارت الحرب بينهما من ذلك العهد إلى الآن، فالروحانية تشير إلى السماء، والمادية إلى الأرض.
المادية
تطلق «المادية» على المذهب القائل بأن الظواهر المتعددة للأشياء ترجع إلى أساس واحد (هو المادة)، ويرى أن العالم مجموعة مكونة من شيء واحد، ويذهب إلى أن المادة أساس كل شيء، وينكر وجود روح قائمة بنفسها قد تتصل بالمادة وقد تنفصل عنها «كالحصان يربط في العجلة ويحل منها»، قال موليشت: «مضى الزمن الذي كان يقال فيه بوجود روح مستقلة عن المادة.»
فالماديون يرون أن لا شيء غير المادة، مخالفين في ذلك الروحانيين، كما أنهم يخالفون الاثنينيين القائلين بأن الظواهر لا ترجع إلى شيء واحد، بل إلى أصلين: المادة، والروح أو العقل، ويرى هؤلاء الماديون أن ما نسميه العقل ليس إلا شكلا من أشكال المادة الدائمة التغير والتنوع، وليست المادة كتلة عديمة الحياة لا حراك بها، تأتي إليها الروح وهي منفصلة عنها فتنفخ فيها وتنتج حياة، وإنما القوة ملازمة للمادة ومظهر من مظاهر المادة المتنوعة، والحياة والفكر ليستا إلا صفتين غريزيتين للمادة ونتيجة لامتزاج جزئيات المادة مزجا معقدا.
وليس القول بوجود قوة وروح وإله منفصل عن المادة يسبح فوقها يدفعها ويسخرها إلا قولا خاملا هراء في نظر المادي العنصري «موليشت»، ومن السخف عنده القول بوجود روح مجردة وقوة خالقة مغايرة للمادة.
نكرر القول - على مذهبهم - بأن كل الظواهر النفسية ليست إلا وظيفة لأحد أعضائنا - وهو المخ - فالأفكار والإرادات والعواطف تتوقف على قوة المخ وعمله وحجمه وتركيبه، وعلم النفس إنما هو فرع من علم وظائف الأعضاء يبحث في المخ، وليس الفكر إلا حركة للمادة ينعدم بانعدامها، وأعمال العقل مظهر خاص لقوة حية نشأ عن تركب المخ تركبا خاصا، والإنسان يفكر بواسطة المخ كما يهضم بواسطة المعدة، وليس القول بوجود نفس منفصلة عن الجسم مستقلة عن المادة إلا لغوا اختلقه فلاسفة علم النفس ليس له قيمة علمية، وعلى الإجمال فكل شيء إما مادة أو مظهر من مظاهر المادة، والمادة لا تحد ولا تفنى، وقوانينها أبدية لا تتغير، وهذه المادة لم يخلقها الله ولا الإنسان، بل هي قديمة أزلية أبدية لا تتغير ولا تفنى، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء ولا ذرة واحدة، وإنما تتغير الأشكال:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه
د هوان الآباء والأجداد
قال شكسبير:
يعتري قيصر العظيم حمام
وتحيل الوجود أيدي الفناء
فإذا قيصر المعظم طين
سد في ثلمة ممر الهواء
وقد ذهب الأستاذ «كارل فخت» إلى أبعد من هذا في تعريفه للفكر فقال: إن المخ يفرز الفكر بعين الطريقة التي يفرز بها الكبد الصفراء والكلية البول.
والنفس والحياة والفكر والوجدان كلها ثمرة المادة، وكلها كائنة في كل ذرة من المادة، وإنما تظهر إذا تركبت الذرات، وكلما كانت مادة العضو أكثر تركبا كانت وظائفه أكثر تعقدا، والمخ من أعجب الأعضاء وأدقها وأجملها تركبا، ووظيفته الفكر، فليست المادة كتلة صلبة جامدة خالية من الحركة الذاتية عقيمة لا تنتج مظاهر الحياة والعقل والشعور إلا بمعونة قوة أخرى، وليست المادة دائما محسوسة منظورة، وإنما المادة تحتوي ملايين لا تحصى من الجزيئات على حالة عادية غير منتظمة ولا منظورة، وبتحرك هذه الجزيئات حركات متناسقة تتخذ المادة أشكالا متنوعة، وينشأ عنها ظواهر متعددة من خشونة ونعومة ولون وحركة وامتداد وحجم إلى ما عدا ذلك مما ليس إلا نتيجة عمل المادة، والحياة والفكر مظهران كذلك من تلك المظاهر، ولسنا ندعي أنهما أنفسهما مادة، وإنما هما كما قال «بخنر» في كتابه (القول الفصل في المادية): «ليسا مادة وإنما هما ما فعلت المادة.»
وهذه المادة المركبة من ذرات وقتية ليست موزعة على الفضاء بنسبة واحدة، بل هي مجتمعة في بعض المواضع دون الأخرى كتلا كتلا من سديم وسحاب وشموس ونجوم وأجرام أخرى سماوية، وكما تختلف المادة من حيث توزعها على الفضاء، كذلك تختلف من حيث الحركة وتركب الجزيئات، فبعض أجزاء المادة في منتهى النشاط وسرعة الحركة، وبعضها بطيء خامد، وقد تقلبت المادة في أطوار متعددة جارية على سنن النشوء والارتقاء حتى تشكلت بشكل أرضنا؛ ذلك الشكل المكثف الجامد المستقل، وكذلك مر الإنسان في أدوار النشوء حتى وصل مخه - وهو عضو التفكير - إلى درجة عالية من الرقي، وعند ذلك نشأت المدنية الحديثة.
أما الموت فقد رأى فيه بخنر ما يأتي، قال: «ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن الموت هو السبب الأساسي الذي حمل على الفلسفة، وإذا صح هذا كانت الفلسفة التجريبية (القائلة بأن التجربة أساس العلم بالأشياء) في عهدنا هذا قد حلت أكبر لغز في الفلسفة؛ فقد أبانت منطقيا وتجريبا أن لا موت، وأن الموت - وهو أكبر سر غامض - ليس إلا تغيرا مطردا من حال إلى حال، وأن كل شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول، من أصغر دويبة إلى أكبر جرم سماوي، من حبة رمل أو قطرة ماء إلى أعظم موجود في الخليقة؛ أعني الإنسان وأفكاره. نعم، يتغير شكل الموجود، أما الموجود نفسه فدائم لا يلحقه الفناء، فإذا نحن متنا فليس معنى ذلك أننا فقدنا، وإنما فقدنا شعورنا الشخصي أو شكلنا العارض الذي لبسته حقيقتنا الأبدية وقتا قصيرا، وسنبقى أبدا في العالم وفي جنسنا وفي ذريتنا وأعمالنا وأفكارنا، وعلى الجملة فسنبقى فيما قدمناه من عمل - مادي أو نفسي - وما خلفناه من أثر لبني جنسنا أو للعالم أجمع في الأيام القصيرة التي عاشتها أشخاصنا.» والمادية مع كونها من المذاهب الواحدية إلا أنها بالضرورة مذهب إلحادي؛ لأنه ينكر وجود شيء غير المادة، فلا يعترف بآلهة ولا بأرواح ولا بملائكة ولا بشياطين، قال أحد الكتاب الماديين: «إن الطبيعة تقوم بشئونها ولا شيء فوق الطبيعة، وليست الحوادث التي يسميها بعضهم خوارق للعادة ووراء الطبيعة إلا هراء من القول، وخطأ في الملاحظة منشؤه اختلاط في العقل وإضلال رجال الدين.»
وليس مثل هذه الرسالة المؤلفة للجمهور يسمح لنا بذكر تفاصيل عن مذهب المادة، ولكنا سنذكر لها تاريخا إجماليا يبين أصلها وما وصلت إليه من رقي، قال «لنج» في كتابه (تاريخ المادية): إنها قديمة قدم الفلسفة وليست أقدم منها، فقديما حاول الناس أن يدركوا العالم كأنه شيء واحد، وأن يدركوا خطأ الحواس الشائع ويتغلبوا عليه، وترجع المادية لأول عهد الناس بالفكر والنظر، فتراها في البوذية عند قدماء الهنود، وفي النظم الدينية عند الصينيين، وعند أعظم الأمم القديمة مدنية - أعني المصريين - ونجدها في شكل منظم عند اليونان الأولين؛ فقد كان فلاسفتهم الأقدمون ماديين، بحثوا في أصل المادة التي منها تتكون الأشياء، وقد رقى مذهب المادية علماء الجوهر الفرد؛ أعني ليوسيبس وصاحبه ديقريطس 420ق.م الذي يعد رأس الماديين، وقد وضع ديمقريطس هذا - وهو أحد علماء الطبيعة الأيونيين - نظرية الجوهر الفرد، فقرر أن المادة تتركب من جزيئات صغيرة لا نهاية لها «جواهر فردة» تتجمع وتتفرق فتتكون منها الأجسام، وتلك الجزيئات قد منحت الحركة ولم تستمد حركتها من أية قوة أخرى أو أصل آخر، وإنما ذلك من طبيعتها.
وجاء بعده أبيقور 340ق.م، فرقى نظرية ديمقريطس وقرر أن المادة قوام العالم، وأن النفس والفكر والعقل والشعور أعراض للمادة، وربما عد من أتباع أبيقور: ليوكريتوس كاروس 99ق.م المؤلف الروماني الشهير والفيلسوف الشاعر، وقد أوضح آراءه في كتاب له منظوم لقبه (طبيعة الأشياء)، وهذا الشعور المشهور - كما قال «لنج» - هو الذي جعل لعقيدة أبيقور قوة في العصور الحديثة.
وفي القرون الوسطى كان للمعتقدات الدينية والتصديق الأعمى الغلبة والسلطة على عقل الإنسان، فخضعت المادية للنصرانية الاثنينية؛ أعني القائلة بالروح والمادة، ولم يخل ذلك العصر من أصوات ضعيفة قالت بالمادية، مثل: جسندي الفرنسي، وجيوردانو برونو الإيطالي، ولكن لم تلبث أصواتهم أن أخمدت، وأحرق الأخير برومية في 17 فبراير سنة 1600م. أما في العصور الحديثة فقد انتعشت المادية في إنجلترا بفضل توماس هوبز 1588-1679، وقد ذهب إلى أن كل مظاهر العالم الحقيقية نتيجة الحركة، وأن ليس هناك أرواح غير مجسدة، وفسر الروح بأنها أجسام طبيعية رقيت حتى لم تستطع حواسنا إدراكها.
وقد انتقل مذهب المادية من إنجلترا إلى فرنسا، فظهر لامتريه 1709-1751 وبارون هلبك فأوضحا مذهب المادية، وجاء كاباني أيام الثورة الفرنسية 1757-1808 فأيد مبادئ الماديين.
وفي ألمانيا كان سيل مذهب المثال الذي وضع نظامه (فخته وشلنج وهجل) طاغيا على المادية، ولكن انتعاش العلوم الطبيعية جدد للمادية حياتها، وجاء مولشت فبحث في روح العلوم الوضعية - اليقينية - حتى صار في القرن الماضي ناشر مذهب مادي قوي جديد، وقرر في أحد كتبه مبدأ «أن لا قوة بلا مادة ولا مادة بلا قوة»، وتبعه «كارل فجت» الطبيعي الشهير، فأظهر في كتاب له
2
ميله إلى المادية، وجاء «لدويج بخنر» فتأثر بتعاليم مولشت حتى صار اللسان القوي المبين لمذهب الماديين العصريين، ولقب كتابه (القوة والمادة) بالكتاب المقدس للمادية.
الروحانية
على العكس من مذهب المادية - القائل بأن المادة أصل كل الأشياء من حياة وفكر وشعور ومظاهر عقلية - مذهب الروحانية، وقد أخطأ بعض الناس فهم «الروحانية» فلقبوها «مذهب المثال»
Idealism ، مع أن مذهب المثال هذا إنما يقابله «مذهب الواقع» لا «مذهب الماديين» كما ستعلم ذلك عند الكلام على «نظرية المعرفة». وقد نشأ من عدم تحديد معاني الكلمات أن بعض الناس فهموا خطأ كذلك أن المادية تدعو إلى الأنانية (الأثرة) والأميال السافلة حتى استعملوا كلمة «الماديين» للذم والتعيير؛ لهذا كان من المستحسن أن نميز بين المادية والروحانية تمييزا صحيحا، فمذهب المادية يرى أن أساس كل الأشياء هو المادة، وهي في أول أمرها تكون مادة لا حراك بها ولا شعور لها، ثم ترتقي حتى تصل إلى مادة حية شاعرة، وتصدر عنها الأعمال النفسية في أرقى مظاهرها، وأما مذهب الروحانية فيرى أن أساس هذا الوجود الذي يعمل وراء هذه المظاهر إنما هي الروح التي لا مادة لها.
ولسنا نحاول هنا شرح المذاهب المختلفة للروحانية، وإنما يكفينا أن نقول: إن هذا المذهب يرى أن «الفكر» وإن كان له ارتباط بالمخ ليس نتيجة المخ، وبعبارة فلسفية نقول: إن العلاقة بين المخ والفكر ليست علاقة علة بمعلول. نعم، إن المخ آلة لا بد منها للتفكير، ولكنها ليست نتيجة للتفكير؛ إذ ليس يمكن أن يكون فكر الإنسان الذي يشعر بشخصيته وبحرية إرادته نتيجة لمادة جامدة لا تحس ولا تشعر مهما كانت حالتها من رقي تركيبها وحسن نظامها.
المادة لا يمكن أن تفكر ولا أن تشعر؛ لأن ما يفكر فيه أو يشعر به (وهو المادة ) لا يمكن أن يكون هو بعينه المفكر الشاعر في الوقت نفسه، وفي ذلك يقول شاعر فرنسي ما معناه: «لا أظن أن الفكر وهو ذلك الشعاع الساطع ينبعث من مادة كثيفة مظلمة.»
فماهية الأشياء على هذا المذهب ليست قوة مادية، بل روحا تشعر بنفسها وتحس بشخصيتها؛ ذلك لأنه ليس في استطاعتنا أن ندرك حقائق الأشياء بحواسنا، بل بعقلنا المجرد، فكان لا بد إذن أن تكون حقيقة الأشياء المدركة بالعقل المجرد شيئا روحيا مجردا.
وقد ظهر المذهب الروحاني بعد المذهب المادي، فالعقل البشري الشغوف بالغيب وبالأسرار وبما لا تعرف له علة، وبعبارة أخرى بكل ما لا يصل إليه علمنا، لا يقنع طويلا بمذهب المادية الذي يجرد الحياة من الأسرار، وهذا هو السر في أن الإنسان من حين لآخر يعدل عن العلم إلى الدين، بعدما عدل عن الدين إلى العلم.
وقد كانت المادية والروحانية في جميع أدوار تاريخ الفكر الإنساني - ولا تزالان إلى اليوم - في حرب عوان، كل يطلب الغلبة والسيادة في عالم الفلسفة؛ فقد أوضح أفلاطون نظرية الروحانية وقرر أن «المثل» لها وجود حقيقي، وأنها هي النماذج التي تحتذيها الظواهر، وفي العصور الحديثة جاء «رينه ديكارت» فأحيا عقيدة الروحانية، ثم جاء ليبنتز 1646-1716 وإليه يرجع الفضل في ضبطها وإحكامها، ومذهبه أن أساس الموجودات شيء وهو الروح، وهي تنقسم إلى نقط روحية لا عداد لها، وكل نقطة من هذه النقط تسمى «الذرة الروحية»،
3
وهذه الذرة يخلقها الله، وكل جوهر فرد مركب من مجموعة من هذه الذرات، وعدم قبول الجواهر الفردة للانقسام ليس إلا في الظاهر فقط، أما في الواقع فهي قابلة للانقسام؛ إذ إنها مركبة من ذرات روحية، وكل جسم مركب من جواهر فردة فهو إذن مركب من ذرات روحية، وما يرى للجسم من الامتداد فليس حقيقيا، بل هو ناشئ من اجتماع ذرات روحية بعضها مع بعض.
وحقائق الأشياء ليست المادة، بل القوة أو الذرات الروحية، وقد خلق الله تلك الذرات وجعلها مراكز للقوة، ومنحها قوة إدراك، وفاوت فيما بينها في ذلك، فالذرة الروحية قوة روحية تتجلى فيما تتخذه من الأشكال المتغيرة على الدوام، وهذه الذرات «هي مرآة العالم الحية الباقية»، وفيها قوة تحاول التحول من حالة اللاشعور إلى حالة الشعور، والشعور هو تيار من الأفكار والإحساسات يتدفق من حقيقة الذرة الروحية، والمادة هي مجموعة من الذرات الروحية، وقد تكون تلك الذرات في حالة اللاشعور فتكون منها المادة الميتة.
والجسم هو امتداد المادية
Materiality ، ولكن ما حقيقة تلك المادية؟ قال ليبنتز: إنها القوة - أو الذرة - وهي ليست بمادة، وليست قابلة للامتداد ولا للتجزئة ولا للفناء؛ وللذرات الروحية تدرج في الرقي يصل إلى حد الكمال، وما بلغ منها منتهى الكمال يحكم ما لم يبلغ، وما لم يبلغ حد الكمال يطيع، والمادة الميتة هي مجموعة ذرات روحية لم تبلغ الكمال، وليس معها ذرات حاكمة، وليست الذرات الروحية في أي حال من أحوالها فائدة الحياة؛ لأن كل ذرة لها جسم وروح، فالروح ماهية المادة والجسم مظهره المحسوس.
ولئن كان ليبنتز قد رأى للمادة وجودا ما، فإن «بركلي» قد ذهب إلى أبعد منه وتغالى في الروحانية - وهو جورج بركلي قسيس «كلوين» 1685-1753م الملقب «بمحب الإنسانية الكبير والفيلسوف الصغير»، لقبه به مؤلف جرماني حديث، وربما كان غير عادل في تلقيبه بذلك - وقد ذهب بركلي إلى أن المادة لا وجود لها في الخارج، وإنما يخيل إلينا أنها موجودة، ولا وجود إلا للروح والعقل، ولا فرق بين ما نسميه شيئا حقيقيا وبعبارة أخرى (ما ندعي وجوده في الخارج)، وبين آرائنا في الشيء أو تصورنا له، بل العقل يتصور شيئا وفي الوقت عينه ينتج الشيء نفسه، وليس هناك شيء خارج العقل، فترى من هذا أن ليبنتز سلم بوجود الأشياء الخارجة، وأما بركلي فأنكر وجود شيء وراء العقل، فالشمس والقمر والأشجار عند بركلي لا وجود لها إذا لم يوجد عقل يدركها، والعقل عنده - وقد رأى بركلي تعدد العقول - لا يدرك الأشياء بنفسه ولا بقوة إرادته، ولكنه يستمد الإدراك من الله القادر، فهو سبحانه يطبع الصور في عقولنا، ونحن نسمي تلك الصور عادة أشياء حقيقية .
وقد قال في كتابه المسمى (السلسلة) الذي ابتدأه بالكلام على منافع «ماء القطران» وختمه بالكلام على «الموجود المطلق»: «ليست الآراء والأفكار خيالات باطلة يتخيلها العقل، بل هي الموجودات الحقيقية التي لا تقبل التغير، ولذلك كان وجودها أكثر تحققا من الأشياء الخارجية الزائلة التي تقع عليها حواسنا والتي لا ثبات لها، ولا يمكن أن تكون موضوعا للعلوم فضلا عن أن يدركها العقل.»
وفي العصور الحديثة جاء «هرمان لوتز» فشرح في كتابه (العالم الصغير) مذهب الروحانيين، وكذلك «شوبنهور» الذي ذهب إلى أن الإرادة هي حقيقة الأشياء، و«فخنر» الذي يقول: «إن كل شيء في الوجود حي.» يعدان من الروحانيين. (2) الواحدية والاثنينية
ذهب بعض الفلاسفة إلى أن أساس الأشياء شيء واحد، إما المادة وإما الروح، وآخرون إلى أن العالم والإنسان يتركبان من أصلين قائمين جنبا لجنب على وفاق، وهما المادة والروح، فالأولون وهم القائلون بوجود أساس واحد إليه ترجع كل الظواهر المختلفة يسمون «الواحديين»، ومذهبهم يسمى «الواحدية»، قال ولف: «الواحديون هم الفلاسفة الذين يقولون بعنصر واحد.» وهم إما ماديون إذا رأوا أن المادة هي الأصل، أو روحانيون إذا قالوا بأن الروح هي أساس الأشياء.
وقد رأى «إدوارد هارتمان» في كتابه (فلسفة اللاشاعر) أن الميل إلى «الواحدية» كان سائدا بين النظم الأساسية التي وضعها الأولون دينية كانت أو فلسفية، وأما «الاثنينية»؛ أعني المذهب القائل بوجود أساسين متعاونين: المادة والروح، فليس مذهبا يسود بين السذج فحسب، بل قد دافع عنه أيضا فلاسفة عظام من طلوع فجر المدنية إلى اليوم، قال ولف في تعريفهم: «الاثنينيون هم الذين يقولون بوجود عنصرين: مادي وروحي.»
وقد كان أنكساغوراس وأرسططاليس والرواقيون اثنينيين، وفي العصور الحديثة جاء «ديكارت» فأيد مذهب الاثنينية، ثم عدله جهلنكس إلى مذهب «الاتفاقيين»
Occasionalists ،
4
وربما عد من «الاثنينيين» أيضا هربارت ولوتز وفخته.
رأى أنكساغوراس 450ق.م وجود مبدأ عاقل هو سبب الحركة، وهو غير العنصر المادي لا يتحرك ولا يشعر، والعنصر المادي لا شعور له، وليس في قدرته أن يسبب حركة بنفسه، وإنما العنصر الروحي الذي وهب الشعور والتأثير والقوة والعقل، وهو الذي ينتج الحركة والحياة في هذا العالم.
ويعد الفيلسوفان العظيمان القديمان أفلاطون وتلميذه الشهير أرسطو «اثنينيين»؛ فقد سلم أفلاطون بوجود المبدأ المثالي والمبدأ المادي، وبعبارة أخرى سلم بوجود عالم الحواس وعالم المثال، ويرى أن عالم المثال نموذج يحتذيه عالم الحواس، وكذلك أرسطو قال بوجود مبدأين: المادة (الهيولي) - وهي الشيء القابل - (والصورة) وهي التي منحت القوة، فهو أيضا اثنيني، ولكن ما ذهب إليه من أن الصورة أو المثال والمادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وأن لكل موجود صورة وهيولي، مثالا ومادة، روحا وجسما، يجعل مذهبه أقرب إلى «الواحدية»، أو على الأقل يجعل الاثنينية مصبوغة بصبغة الواحدية.
وقد ظلت الاثنينية ذات السلطان في القرون الوسطى لاتفاقها مع التعاليم الدينية، ويعد «ديكارت» مؤسس الاثنينية في العصور الحديثة، وقد فرق بين ما يقبل الامتداد - وهو المادة - وبين العقل وقال: إنهما عنصران مختلفان يضاد كل منهما الآخر على خط مستقيم، وكل منهما يطارد الآخر.
والعقل أو الروح ليس ماديا ولا امتداد له، وهو فاعل حر، أما الجسم أو المادة فلها امتداد ولا روح لها، والإنسان مكون من الجسم والروح معا، وحركات الجسم تنشأ عن النفس، والنفس مستقلة عن البدن وغير قابلة للفناء، وتلتقي النفس مع البدن في الغدة الصنوبرية (القلب).
وجاء سبينوزا فرأى أن الامتداد والفكر إنما هما صفتان مختلفتان لعنصر واحد يتكون منه كل شيء، الطبيعة أو الله، وليسا ناشئين من عنصرين مختلفين؛ لأن العنصرين المختلفين المتضادين تمام التضاد لا يمكن أن يتحدا، ولهذا يعد سبينوزا «واحديا».
وفي العصور الحديثة يمكن أن يعد لوتز وفخته اثنينيين. «والاثنينية العقيدة التي تعتنقها العقول الساذجة، وهي أساس الأديان كلها.»
قال هيكل في رسالته «الواحدية»: كل الأديان الغابرة والمذاهب الفلسفية القديمة «اثنينية» تعتقد أن الله والعالم، الخالق والمخلوق، الروح والمادة، عنصران منفصل بعضهما عن بعض تمام الانفصال، وإنا نجد الاثنينية في أنقى الأديان ولا سيما في ديانات التوحيد الثلاث التي جاء بها أنبياء ثلاثة ظهروا شرقي البحر الأبيض وذاع صيتهم؛ وهم: موسى، وعيسى، ومحمد . (3) قضية العالم الدينية
مما يتصل بالبحث في حقيقة الموجود مسألة شغلت عقول الناس منذ أن ابتدءوا يفكرون؛ وهي: كيف وجد العالم؟ وبعبارة أخرى كيف برز هذا العالم إلى الوجود؟ فقديما تنبه الإنسان - حتى الإنسان العادي - إلى أن هناك وحدة تشترك فيها أشياء العالم المتنوعة، أي إن العالم كله كالشيء الواحد يتصل بعضه ببعض، سواء في ذلك ما يدرك بالعين وما لا يدرك، وسرعان ما أدرك أن ظواهر العالم تحصل بنظام دقيق، وأنها خاضعة لقوانين لا تنتهك في كل أطوار الإنسان؛ من أيام طفولته إلى عصر تقدمه يرى أن كل شيء حوله من أرض تقله وسماء تظله تسير على قانون ونظام يستخرجان منه العجب، فكان فيما شاهده من نظام في الطبيعة وترتيب في الظواهر الطبيعية المتنوعة ما أثر فيه، وحمله على أن يسأل عم نشأ نظام هذا العالم؟ وكيف وجد؟
ظن فلاسفة اليونان الأولون أنهم حلوا المسألة بقولهم بوجود أصل واحد للأشياء مثل الماء كما قال طاليس، أو الجو - أنكسمندر - أو الهواء - أنكسمينيس - أو النار - هرقليطس - وأن كل موجود على قولهم يستمد وجوده من ذلك الأصل وإليه المآب.
ولكن كيف نشأ هذا النظام، ووجدت الأشياء من ذلك العماء؟ إلى الآن لم يجب عن هذا السؤال، وقد أفحم الطفل الذكي أبيقور أستاذه - وقد كان يقرر له أن العالم نشأ من العماء - بسؤاله: «ومن أين نشأ هذا العماء؟!» إن العنصر أو العناصر التي يظن أنه ينبثق منها كل موجود، وينظم هذا النظام التام لا بد أن يكون لها علة، وقد ذهب بعض الفلاسفة مثل ديمقريطس وهيرقليطس إلى أن وحدة
Unity
العالم ليست إلا مظهرا فقط، والحقيقة أن هناك عددا لا نهاية له من جزيئات لا عداد لها (جواهر فردة) تتحرك في الفراغ لا لغرض ولا مقصد، فتجتمع تارة وتتفرق أخرى، وليس تجمعها أو تفرقها يرجع إلى سبب علوي، ولكن تبعا للحركة الوقتية التي هي جزء من حقيقتها، وليس عندهم ما يسمى بعلة العلل، وإنما تتحرك الجواهر الفردة في فضاء لا نهاية له، وفي زمن لا نهاية له، فيجتمع منها ما يمكن أن يتجمع، ويحصل ذلك ويتكرر، ويسمى هذا المذهب مذهب الجوهر الفرد.
مثل هذا الشرح لا يقنع الإنسان طويلا؛ فإن عادته التي لا تفتأ تسأل عن العلة الأخيرة لهذه الظواهر، وما فيه من مشاعر غامضة قوية أهمها شعوره بضرورة اعتماده على قوة، وحاجته إلى واق يقيه، حملته على الاعتقاد بوجود قوة علوية لا تدركها الأبصار، قوة شاعرة بأن لها إرادة «ولها بعض الشبه البعيد بعقل الإنسان»، وهذه القوة هي سبب نظام العالم، هي سر كل شيء، إياها يستعين الإنسان على ما يطلب من حماية وسعادة. وذلك العماء
5
الذي ذكرناه لا بد أن يكون له مدبر يضبط أموره، وهذا المدبر هو ما يعلل به نظام العالم، وهو مفتاح يحل به أعظم الألغاز المعقدة، ويشرح لنا الغرض من هذا العالم، قال مكس مولر: «إن النظر في الظواهر الطبيعية قاد الإنسان إلى إدراك خالق وراء هذه الظواهر.»
تلك القوة العلوية هي الله، ومن قبل أن طلعت شمس المدنية والناس يقرون بوجوده، وكل جنس وجيل تقريبا سماه باسم خاص مثل: يهوه، وجوبتر، والسيد المالك، وما لا يحد وما لا يعرف، والإرادة المطلقة، ومسخر العالم إلخ.
وإن السماء لدليل على عظمته.
وكما قال «تنيسن»:
كلا، ليس الشمس والقمر والنجوم والسهل والحزن إلا منظرا من مناظر رب العالمين.
والاعتقاد بالله متأصل في نفوس الناس ينبع حينا بعد آخر حتى من أجدب النفوس وأقحلها، وكانت فكرة الاعتقاد بالله فكرة ساذجة في أول أمرها، درجت بين ما كان عند الإنسان الأول من أثرة وحب نفس ثم ترقت بمرور الأزمان، وكانت مجالا لنظريات مختلفة وآراء متباينة، نشأت فكرة سخيفة في عصر الهمجية اعتنقها المتوحشون الذين صاغوا معبودهم بأيديهم، وترقت إلى أن وصلت إلى شكل اعتنقه أمثال هجل ورنان ومكس مولر وغيرهم.
والمذهب القائل بوجود خالق لهذا العالم مدبر لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار يسمى بمذهب المؤلهة (القائلين بإله)، وهذا المذهب يرى وجود إلهة أو آلهة علويين فوق الطبيعة وفوق العالم، وهذا الاعتقاد أساس كل المعتقدات الدينية من عقيدة المتبربرين الذين لم يأخذوا من المدنية بحظ وافر إلى العقيدة الأثيرية التي وضعها شلر ماكر.
ومذهب المؤلهة إما أن يقول بإلهين أو آلهة عدة، وهذا هو أساس ديانات كثيرة - شرقية قديمة وحديثة - ويسمى مذهب الشرك، وإما أن يقول بإله واحد ويسمى مذهب التوحيد، وهذا أساس الديانات الثلاث العظمى: اليهودية، والنصرانية، والإسلام، ويقول مذهب المؤلهة: إنه لما كان العقل وحده لا يستطيع أن يدرك الاعتقاد بالله حق الإدراك، جاء الوحي لتفهيم الناس هذه الحقيقة.
ومذهب المؤلهة مذهب مشبه (يشبه الله بالإنسان) فينسب إلى الله فكرا ورأيا وصفات وأميالا وصورة كما للإنسان ذلك، إلا أنه يقر بأنه ما له من ذلك أكمل مما للإنسان.
وهناك مذهب يخالف مذهب المؤلهة فيقول أيضا بوجود إله علوي قوي عالم، إلا أنه لا يقول بوحي، ويسمى هذا المذهب مذهب العقليين، وهذا المذهب يؤيد القول بإله، ويرد على الملحدين المنكرين له، ولكنه ينكر أن الله هو الفعال على الدوام في حكم العالم وفي تدبيره، وفي إسعاد الناس وإشقائهم، ويرى أن العقل وحده لا بمعونة وحي وخوارق للعادة يستطيع أن يصل إلى معرفة الله، أو إلى علة العلل الذي نظم العماء، وأن هذه القوة (الله) ليست في حاجة إلى نظام ديني خاص، ولا إلى شكل من أشكال الصلاة، ولا إلى شعائر عبادة.
وتغالى أصحاب هذا المذهب في آرائهم، وتعمقوا في خيالاتهم، حتى ذهبوا إلى أن كل العقائد والأديان ستفقد خواصها المميزة لها بعد أمد مديد، وأن النصرانية واليهودية والإسلام ومذاهب الإشراك والتوحيد ليست إلا أمواجا قصيرة الأمد سائرة إلى الزوال في بحر الألوهية المحيط، وليست البوذية والزرادشتية والمانوية أشياء يعتد بها في الأفق الفسيح للمثل الإنسانية العليا. والعقليون ينكرون أيضا القول بأن الله خالق العالم من لا شيء، ويرون أن الله إنما نظم حالة المادة المشوشة وأخرجها من حالة العماء، أما المادة نفسها فقديمة، وكثيرا ما يسمى العقليون لهذا «ملحدين»، وقد سماهم بوشوت «الملحدين المتنكرين».
ويتفق مذهب المؤلهة ومذهب العقليين في القول بإله علوي فوق العالم يحكم العالم من عل، كأنه من منفصل عنه، ويذهب المؤلهون إلى أبعد من ذلك، فيعتقدون الله مستويا على العرش بيده الخير والشر، يثيب الناس ويعاقبهم جزاء بما كانوا يعملون، تهمه أعمال الإنسان، وتسره التضحية، وتسكن ثورة غضبه الصلاة، ويرى أيضا أن الله تعالى أعلى من أن تفهم عقولنا أعماله.
وتضاد هذه العقائد القائلة بأن لله وجودا مستقلا وأنه أعلى من مخلوقاته عقيدة أخرى ترى مذهب الحلول؛ أي إن الله في هذا العالم، وأنه كل شيء في كل شيء، وأن الله والقوة الداخلية الفاعلة في هذا العالم مترادفان؛ وإنه لمن الصعب تحديد مذهب الحلول حتى قال جوتيه: «لم أر إلى الآن من يفهم ما تدل عليه كلمة الحلول فهما صحيحا.» وتدل الكلمة على أن هذا المذهب يرى أن الله هو كل شيء، وأن كل شيء هو الله، وليس الله والعالم منفصلا بعضهما عن بعض، بل شيئا واحدا من عنصر واحد، ولا يرى أن الله قائم بذاته منفصل عن العالم كما يرى مذهب المؤلهة - المشبهين - ومذهب العقليين، بل ينزه الله عن كل أوصاف البشر، وينكر أن يكون الله مشخصا قائما بذاته، ويقول: لا فرق بين الله والعالم، وأن الله هو الخالق المدبر والعلة الفاعلة على الدوام، وهو روح فكرتها العالم، والعالم عندهم مظهر الله، والطبيعة شعاره؛ ذلك لأنه لو كان هناك شيء غير الله لكان محدودا ولما وجد في كل مكان، ولما كان قادرا على كل شيء، وعندهم أن الله حال في كل ذرة من ذرات العالم، وفي كل حبة من رمال الصحراء، وفي كل نبتة من نبات الحقول، وفي كل ورقة من أوراق الأشجار يلاعبها الهواء، وفي كل دابة تدب على الغبراء، قال شلي يخاطب الله:
إن أصغر ورقة من أوراق الأشجار التي يلاعبها النسيم ليست إلا بضعة منك (جزءا من أجزائك)، كلا ولا أحقر دودة تسكن القبور وتسمن من لحوم الموتى أقل مشاركة لك في حياتك السرمدية.
وقال: «إن هذه الروح التي توجد في كل مكان بها يحيا كل موجود، وهي هو.»
وقد حدد هنريك هيني في كتابه الممتع (الدين والفلسفة في جرمانيا) مذهب الحلول الذي قال عنه: «إنه دين ألمانيا المختفي في نفوسهم.» فقال: إن الله هو العالم، وقد تجلى الله في النبات بنوع حياة؛ حياة مغناطيسية لا تنبهية، وتجلى في الحيوان بحياة تشبه حياة النائم، فهو يحس نوع إحساس بأن له وجودا، ثم تجلى أعظم تجل في الإنسان، فهو يشعر ويفكر، ظهر الله في الإنسان بمظهر الشاعر بنفسه، ولست أعني فردا من أفراد الإنسان، وإنما أعني النوع الإنساني كله، فيحق لنا أن نقول: «إن الله قد تجسد في ذلك النوع الإنساني.»
وإذا نحن حاولنا أن نذكر تاريخا كاملا لقضية العالم الدينية، فمعنى ذلك أننا نريد ذكر تاريخ الفلسفة كلها، وليس في وسعنا ذلك؛ ولذلك سأقتصر على ذكر أسماء قليلة من هؤلاء الذين قالوا بالمذاهب الأربعة التي تقدم ذكرها؛ وأعني بها مذهب الجوهر الفرد، ومذهب المؤلهة، ومذهب العقليين، ومذهب الحلول.
أسس مذهب الجوهر الفرد «ليوسيبس» وتلميذه ديمقريطس، وجاء أنكساغوراس فرأى أنه لا بد من قوة أو عقل مدبر هو السبب في نظام العالم، ومن أجل ذلك قال بوجود عنصر قد منح القوة والحياة والعقل والعمل والحرية، وهو منبع نظام العالم وحياته وحركته، وسمى هذه القوة نوس
Nous «العقل»، وهذا العقل هو الروح التي أخرجت من العماء نظاما، وهو المحرك الأول للمادة، ولكنه ليس الخالق لها؛ فإنها أزلية. ويخالف هذا المذهب مذهب المؤلهة؛ فإنه يرى أن الله خالق المادة من العدم، وهذه العقيدة هي أساس كل العقائد الدينية، وقد اتبع مذهب المؤلهة «أفلاطون» و«أرسطو» و«ليبنتز» و«كانت»، واعتقدوا أن الله هو العلة الأولى لهذا العالم.
ومذهب العقليين يقول بوجود إله يشرف على الكائنات ويحكم العالم، ولكن لا عن إرادة حرة، بل يحكمها متبعا قوانين لا تقبل التغير؛ وقد ظهر هذا المذهب أولا في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وكان «تولاندوم. تندال» وشافتسبري أشهر المدافعين عنه.
أما مذهب الحلول فقد كان يدعو إليه ريك فيدا
Rig Veda (كتاب الهنود المقدس) وقدماء فلاسفة اليونان الإيليون، وكان القديس بولس نفسه يدعو إلى الحلول لما قال: «في الله نحيا، وفيه نتحرك، وفيه نكون.» وكان «زينو فانيس» يعلم أن ليس إلا إله واحد، وأنه هو والعالم شيء واحد.
ونحو آخر القرن السادس عشر، قام «جيوردانو برونو» ولم يعبأ بتهديدات محكمة التفتيش ورفع صوته بتأييد الحلول، والطعن على مذهب المؤلهة الذي يشبه الله بالإنسان، وعنده أن الله الذي لا يحده حد والعالم شيء واحد، وأن هؤلاء الذين يتخيلون أن الله موجود بجانب الموجودات الأخرى إنما يجعلونه محدودا، وأن ليس الله خالق العالم ولا المحرك الأول له، بل هو الروح العالم.
وجاء «سبينوزا» الأمستردامي 1632-1677 ونظم مذهب الحلول، ولذلك يعد أبا الحلول الحديث، وأصبحت كلمتا الاسبينوزية ومذهب الحلول مترادفتين، ويمكن تلخيص مذهب سبينوزا فيما يأتي: إن في العالم جوهرا واحدا وهو الله، وهو مطلق لا يحد، وكل الجواهر الأخرى المحدودة منبعثة منه ومظروفة فيه، وليس لها إلا وجود زائل سائر إلى الفناء، ولله صفتان يظهر بهما لنا نفسه: الامتداد والفكر، فبالامتداد المتنوع تتكون الأجسام، وبالفكر المتنوع تتكون العقول، وهاتان الصفتان ثوبان لله نسجتهما «المكوكات الدائمة الحركة في نول الزمن العاصف».
ولما أعلن سبينوزا حكيم «أمستردام» الأوحد عقيدته هذه ثار عليه أنصار الدين واتهموه بالإلحاد، وما كان أبعده عن الإلحاد؛ فقد كان مملوءا بحب الله حبا جاءه عبر الطبيعة، فمن كأس الطبيعة الطافحة قد شرب الألوهية حتى ثمل، وحتى أصبح لا يرى أمامه إلا الله، وبالرغم مما وجه إلى سبينوزا من الضربات القاسية كان له تأثير عظيم في أكبر العقول في أوروبا، «فشلر» و«جوتيه» و«لسنج» و«هردر» و«شلر ماكر» و«هيني» و«شلي» كانوا حلوليين، وإن شئت فقل: سبينوزيين.
وقد أوضح جوتيه عقيدته في الحلول في قوله:
كلا، ليس يرضى الله أن يهيمن على العالم من فوق فحسب، بل يود أن يكون في باطن الكائنات، وأن يرى الطبيعة متجلية فيه، ويرى نفسه متجليا في الطبيعة، فما يخلقه الله والله وحياته وقوته شيء واحد !
6
هوامش
الفصل الثالث
مسائل علم الأخلاق
من بين المسائل الأخلاقية التي اجتهد فلاسفة كل عصر في حلها، وخصصوا أفكارهم للبحث فيها المسائل الآتية: (1)
أصل شعورنا الأخلاقي. (2)
الباعث الباطني الذي يحملنا على إطاعة ما يمليه علينا شعورنا الأخلاقي ، والذي يشكل سلوكنا بشكل خاص. (3)
المقاصد أو الأغراض أو النتيجة الأخيرة التي نحاول أن نصل إليها بأعمالنا الأخلاقية. (4)
المقياس الذي به نقيس أعمالنا فنحكم عليها بأنها خير أو شر.
المسألة الأولى: أصل الشعور الأخلاقي؛ أعني كيف نعرف أن عملا من الأعمال أخلاقي وآخر غير أخلاقي؟ كيف يدرك وجدان الإنسان الخير والشر، أو الحق والباطل ويميز بينهما؟ ألسنا نرى العمل الذي يعده بعض الناس خيرا وحقا وأخلاقيا في عصر من العصور أو عند بعض الأمم، قد يعد هو بنفسه في عصر آخر أو عند أمة أخرى شرا وباطلا وغير أخلاقي؟! فما أصل ذلك؟ انقسم الفلاسفة في الإجابة عن هذا إلى قسمين: ففريق يرى أن في كل إنسان قوة غريزية يميز بها بين الحق والباطل، والخير والشر، والأخلاقي وغير الأخلاقي، وقد تختلف هذه القوة اختلافا قليلا باختلاف العصور والبيئات «الأوساط»، ولكنها متأصلة في كل إنسان، فكل يحصل عنده نوع من الإلهام يعرفه قيمة الأشياء؛ خيرها وشرها، وهذا الإلهام يحصل للإنسان بمجرد النظر، ولهذا نشعر - ولو لم نعلم - بأن شيئا خير وشيئا شر، ويسمى هذا المذهب «مذهب اللقانة»،
1
وكان «كارليل» من أتباع هذا المبدأ لقوله: «إن الشعور بالواجب - وهو معنى أبدي - جزء من طبيعتنا، ونقطة المركز في نفوسنا الفانية، ومثل ذلك مثل الأبدية الخالدة؛ فإنها معنى أبدي مظاهره الليل والنهار، والنعيم والشقاء، والموت والحياة، وهي أشياء فانية.» وهذه القوة ليست نتيجة بيئة ولا زمان ولا تربية، بل هي غريزية لا مكتسبة، وهي جزء من طبيعتنا منحناها لنميز بها الخير من الشر، كما منحنا العين لنبصر بها، والأذن لنسمع بها، وكان «بطلر» يعد الوجدان جزءا أساسيا من طبيعتنا، ويعرفه بأنه «قوة بها نستحسن العمل أو نستقبحه»، فهو إذن من أتباع هذا المذهب. وممن ذهب هذا المذهب من الجرمان «فخته» و«كانت» وهو أكبرهم.
وفريق آخر من الفلاسفة خالف الأولين ورأى أن معرفتنا بالخير والشر مثل معرفتنا بأي شيء آخر تعتمد على التجربة، وتنمو بتقدم الزمان وترقي الفكر، ويقول أصحابه: إن الشعور الأخلاقي ليس غريزيا في الإنسان، بل هو نتيجة التجربة، وهي التي علمته الحكم على بعض الأعمال بأنه خير أو حق، وعلى بعضها بأنه شر أو باطل، ويسمى هذا المذهب مذهب التجربة، وأشهر من ذلك تسميته باسم النشوء والارتقاء
Evolution ، وقد أسس هذا المذهب على نظرية النشوء التي وضعها «دارون» و«والاس» القائلة بأن الأجسام الحية العالية «نشأت» وترقت من الأجسام الحية السافلة، وأن عقل الإنسان «نشأ» وترقى من أبسط نوع من الإدراك، فأخذ فلاسفة كثيرون نظرية دارون هذه في النشوء وطبقوا عليها قانون الأخلاق وعلم الأخلاق، وقد كان «كارنري» و«مل» و«بين» وخاصة «هربرت سبنسر» من معلمي هذا المذهب، قال أهل هذا المذهب: كما أن الجسم العضوي نتيجة الوراثة ونتيجة عملية انتخاب ورفض دامت مدة عصور، كذلك عقل الإنسان تدرج في الرقي من أحط الأحوال، وليست القوة الأخلاقية التي نعرف بها الخير والشر إلا التجربة، فمنها نستخرج الحكم على الأشياء بأنها خير أو شر، واستمرار الأمة في التجارب يفضي إلى تعديل الآراء في الأخلاق من وقت لآخر. ويرى هذا المذهب أن ليس عند الإنسان قوة أخلاقية خاصة، ولسنا نحتاج للاهتداء في أعمالنا إلا إلى إعمال عقولنا، وأن أحكامنا على الأعمال تصدر بملاحظة الغاية التي نقصدها من أعمالنا والباعث عليها، لا بملاحظة ملكة فينا أو قوة أخلاقية في نفوسنا، وليس الشعور الأخلاقي إلا نتيجة من خير نتائج «النشوء والارتقاء»، وقد تدرج في الرقي من تخيل المتوحشين إلى آراء المتمدنين المهذبين، ولا يزال إلى الآن يرقى بترقي الأمم.
المسألة الثانية من المسائل التي وجه إليها فلاسفة الأخلاق نظرهم، وذهبوا في الإجابة عنها مذاهب: مسألة الغاية أو الغرض من أعمال الإنسان الأخلاقية؛ إن الأعمال الاختيارية يعملها الإنسان وأمام نظره غاية من أجلها يعمل العمل؛ وذلك أن الإنسان لما كان حيوانا ناطقا (مفكرا) قد منح قوة الفكر - بها يستطيع أن يدرك العلاقة بين الأعمال وبين ما تؤدي إليه من النتائج - لم يكن ملجأ إلى العمل بمجرد الدوافع (كما هو الشأن في الحيوان)، وإنما هو منقاد ومتأثر برغبة في غاية يريد تحصيلها، فالأعمال الأخلاقية أو السلوك الأخلاقي إذن وسيلة يحاول بها الإنسان أن يصل إلى غاية؛ فما هذه الغاية الأخيرة والخير النهائي الذي يشتاق الإنسان للوصول إليه، ويجد في البحث عنه؟
ذهب فلاسفة اليونان الأقدمون كسقراط وأفلاطون إلى أن كل إنسان بطبيعته وبالضرورة إنما يبحث وراء خيره، فالخير الأخير وغاية الغايات هو السعادة أو اللذة، وتسمى هذه النظرية نظرية السعادة. وقد نشر هذه النظرية فلاسفة اليونان، وظهرت في تاريخ البحث الأخلاقي لابسة أثوابا مختلفة، ونظرية السعادة هذه تضاد نظرية اللقانية وتقول: إن الإنسان إنما صار أخلاقيا بعقله وتجاربه وبحثه وراء سعادة يريد تحصيلها، وقد حللها وشرحها في العصور الحديثة جمع من فلاسفة الإنجليز أشهرهم بالي وجرمي بنتام ومل، ويعرف المذهب الآن «بمذهب المنفعة»
2
وإن كان مؤسسا على نظرية السعادة.
قال «جون ستوارت ميل» في رسالته في مذهب المنفعة: «إن جميع القائلين بمذهب المنفعة من أبيقور إلى بنتام لم يريدوا بالمنفعة شيئا يخالف اللذة، بل أرادوا اللذة نفسها والخلو من الألم، وإنهم لم يقولوا: إن الشيء النافع يضاد اللذيذ وما هو حلية وزينة، بل قالوا: إنه يشملهما ويشمل غيرهما.» وعرف مذهب المنفعة بقوله: «إن المذهب الذي يتخذ أساس الأخلاق المنفعة أو أكبر سعادة مذهب يرى أن الأعمال خير بقدر ما تدعو إلى الزيادة في السعادة، وشر بقدر ما تدعو إلى الزيادة في ضدها، والمراد بالسعادة اللذة والخلو من الألم، وبضدها الألم والخلو من اللذة.» من هذا نستنتج أن هذه النظرية القائلة «بأن الأعمال ليست لها قيمة ذاتية وإنما قيمتها بقدر ما تحصل من السعادة» تسمى نظرية المنفعة.
وخالف في هذا القول بعض الفلاسفة فقالوا: إن الأعمال الأخلاقية، ليست وسائل (كما يقول مذهب السعادة) بل هي أنفسها غايات، وبسيرنا على مقتضى قانون الأخلاق نؤدي الغرض الذي من أجله خلقنا، وبسلوكنا الأخلاقي نرقي قوانا التي منحناها؛ لنحصل بها العلم، ونعرف ما هو حق وما هو خير، وبسلوكنا الأخلاقي أيضا نستعمل قوانا الأخلاقية ونرقيها، وبترقيتنا لقوانا العقلية والأخلاقية نصل إلى كمالنا، وهو مقصدنا في الحياة، وهذا الرأي هو أساس الأخلاقية المسيحية.
ولكن على مذهب السعادة، سعادة من نقصد؟ قال قوم: إننا نقصد تحصيل سعادتنا الشخصية، وقال آخرون: نقصد تحصيل السعادة لغيرنا أو السعادة لأكبر عدد، ولخص «جرمي بنتام» رأيه في ذلك في قوله: «أكبر سعادة لأكبر عدد.»
ويتصل بمسألة الغاية والمقصد البحث في الباعث النفسي على العمل أو منبع السلوك الأخلاقي، وبيان ذلك أن الإنسان لم يمنح العقل والفكر فقط، بل منح أيضا الشعور، وللشعور سلطان على طريقته في التفكير، وبواسطة ذلك يكون للشعور أيضا سلطان على أعماله، فكثيرا ما نرى الإنسان يتجه - اتجاها ينطبق على العقل - نحو سلوك أخلاقي ثم يتغلب عليه طبعه؛ أعني دوافع ليست دائما متفقة مع العقل، بل كثيرا ما تحيد بالإنسان عن الصواب في الحكم، فالشعور بما له من التأثير الشديد في عزمنا الاختياري يجعلنا نميل إلى عمل أكثر مما نميل إلى آخر؛ فحالة العقل الباطنة مع تأثيرها في العامل تعتمد - إلى درجة كبيرة - على الطبع والمزاج والبيئة، وأيضا قد يكون الدافع فينا أقوى من العقل، فيتغلب على عقلنا في لحظة ما من لحظات الحياة، ويقودنا إلى أعمال نراها فيما بعد على خلاف ما نراها وقت الدافع، ويجعلنا نتردد في الإتيان بعمل، ونسرع إلى الإتيان بآخر، فظهر من هذا أن غرضنا الاختياري وسلوكنا الأخلاقي وإن كانا وسيلة لتحصيل غاية إلا أنهما كذلك يعتمدان على الدافع الطبيعي، وعلى باعث يستميلنا للسعي وراء هذه الغاية، وليس الغاية متفقة مع الباعث فحسب، بل هي إلى درجة كبيرة تعتمد عليه أيضا، ولسنا نعرف بعقولنا فحسب أنه ينبغي أن نسير في طريق خاص دون غيره، بل نشعر بذلك أيضا، وليس نظرنا إلى المصلحة أو المنفعة وحده هو الذي يوجهنا وجهة خاصة، ويشكل أعمالنا بشكل خاص ، بل العاطفة والشعور أيضا يعملان ذلك.
واستكشاف الدافع العام للناس جميعا، والمحرك العالم للسلوك الإنساني، والعاطفة الأخلاقية أو الشعور الأخلاقي الذي هو بمعزل عن العقل، والذي يؤثر في عزمنا، والذي هو متأصل في أعماق أعمالنا - مسألة من المسائل الهامة التي اجتهد فلاسفة الأخلاق في حلها، واختلفوا في الإجابة عنها، فذهب قوم مثل «هوبز» إلى أن الإنسان إنما يعنى بسعادته هو، وأن كل إنسان إنما يحارب من أجل نفسه، وأن أساس أعماله الأثرة - الأنانية - وقاعدة سلوكه رغبته في نفع نفسه، وليس حبه الظاهري لجاره إلا ضربا خفيا من ضروب حب نفسه. نعم، إنه قد يفعل خيرا لغيره، ولكن ليس إلا لأن فعله يسبب له لذة أو يوصله إلى غرض له، والسبب النهائي في إطاعة الإنسان للقوانين الأخلاقية من صدق وكرم ونحوهما ليس إلا أنانيته، وكل ما يسمى إيثارا أو عملا ليس فيه مصلحة شخصية تجده بعد الفحص الدقيق نتيجة رغبة في منفعة شخصية يراد تحصيلها عاجلا أو آجلا.
وذهب آخرون مثل «هيوم» و«آدم سمث» إلى أن في الإنسان أيضا عاطفة حب للناس، وأن في نفس الإنسان عاطفة تدعوه للإتيان بأعمال يريد بها أن يزيد في سعادة بني جنسه، وأن سعادة الناس وبؤسهم لا حب النفس ومراعاة لذتنا نحن هو المتأصل في طبيعتنا، وهو الأساس العام لسلوكنا الأخلاقي، أعني أنه هو الأساس الذي ينبني عليه المدح والذم، وتسمى هذه النظرية نظرية الإيثار، وهي ضد نظرية الأثرة، ومن أتباعها آدم سمث وهيوم، وهي تقول: إن في طبيعتنا شيئا نقومه أكثر من تقويمنا لسعادتنا الشخصية، وذلك الشيء هو ما يحس به العامل عملا أخلاقيا من مشاركته لمن ينالهم بره في السرور والعواطف والسعادة، وذلك الشيء أيضا هو العنصر الأخير الذي نحلل فيه عواطفنا وانفعالاتنا. إن نفوسنا لتهتز عطفا على الناس ورحمة بالمنكوبين وغضبا على الخاطئين، وإنا لنحس رغبة شديدة تنبعث من نفوسنا تحملنا على العمل لخير الناس وسعادتهم، وهذا الشعور بأنواعه التي ذكرنا يكون قوة كبيرة صادرة من طبيعتنا، ومؤثرة في سلوكنا الأخلاقي ، تارة يحملنا على بعض الأعمال، وطورا يمنعنا من ارتكاب بعض آخر. وإلى المذهب الأول؛ أعني مذهب الأثرة، ذهب فلاسفة اليونان الأقدمون والفلاسفة الذين كانوا في عصر الثورة الفرنسية، وذهب هذا المذهب في العصور الحديثة «ماكس سترنر» و «نيتشه»، وإلى المذهب الثاني؛ أعني مذهب الإيثار، ذهب «كانت» و«فخته» و«شوبنهور»، وذهب «آدم سمث» و«جون ستوارت ميل» إلى أكثر من ذلك؛ فطلبا من العامل الأخلاقي تضحية النفس، «ولكن لا تبذل هذه التضحية ما لم تكن سببا في سعادة الآخرين.»
قال «ميل»: «إن من نقص الدنيا واختلال نظامها أن أحسن طريق يمكن للإنسان أن يسلكه في مساعدة غيره على تحصيل السعادة هو تضحية سعادته تضحية تامة، ولكن ما دامت الدنيا على هذا الحال من النقص؛ فإنني أقر أن الاستعداد لتلك التضحية أكبر فضيلة يمكن أن يتصف بها الإنسان.» «إن أصحاب مذهب المنفعة يقولون: إن النوع الإنساني يمكنه أن يضحي أكبر خيراته من أجل خير الآخرين، ولكن لا يقولون بأن هذه التضحية في نفسها خير، بل يقولون: إن كل تضحية لا تزيد فعلا في مقدار الخير في العالم، ولا تدعو إلى ذلك، ولا يعتد بها وتذهب هباء، وليس عندهم تعفف محمود إلا ما كان موصلا إلى خير الآخرين، ويشترط أن يزيد في مقدار الخير العام أكثر مما ينقص منه.»
وهناك مسألة أخرى شغلت عقول فلاسفة الأخلاق، وهي مسألة المقياس الأخلاقي وما له من سلطان، وبعبارة أخرى: مسألة أساس الأخلاق وعلاقته بإرادة الإنسان، أي القانون الأخلاقي وما له من قوة ملزمة تحمل الإرادة على العمل بموجبه.
3
قال «ميل» في رسالته «مذهب المنفعة»: «إنني أشعر بأنني ملزم بألا أسرق ولا أقتل، وبألا أخون ولا أخدع، ولكن لم ألزم بالعمل للسعادة العامة؟ وإذا كانت سعادتي الشخصية في شيء؛ فلماذا لا أفضله على غيره؟» وأيضا إن الواجبات على الناس والأحكام التي تصدر على الأعمال لتختلف باختلاف الأشخاص وأخلاقهم، وإن ما نحمل الأشخاص من المسئولية ليختلف باختلاف الأحوال، أليس من الجائز إذا أن نكون في أحكامنا مخطئين ؟ أوليس من المحتمل أن نكون في عملنا مبطلين ونحن نظن أنا محقون؟ فأين نجد مقياس الأخلاق؟ وما الذي له من سلطان؟ على هذا السؤال أجيب بجوابين:
فقال قوم: إن المقياس الأخلاقي في أنفسنا، وإنه لصوت فينا يخبرنا كيف نميز بين الحق والباطل، وإن القانون الأخلاقي مستمد من نفوسنا تشرعه قوة فينا، وهو مقيم في أعماق نفوسنا - يساعدان على إزاحة حجب المظاهر حتى نصل إلى إدراك الواجب، وهذا القانون الأخلاقي - المقياس - يهدينا في أعمالنا، وله سلطان قوي على كل مصادر السلطان الأخرى، وتسمى هذه النظرية نظرية «القانون الذاتي»
Autonomous ؛ لقولها بوجود القانون الأخلاقي في طبيعة الإنسان، وبعض هؤلاء الفلاسفة اعتبر هذا الصوت الباطني هو صوت العقل، ويسمون بالعقليين. وقد كان قدماء الفلاسفة والفلاسفة الذين في عصر الثورة الفرنسية الكبرى عقليين بهذا المعنى، وهم يجعلون للعقل القول الفصل في الحكم على الأعمال، وله سلطان قوي على سلوك الإنسان، وفي طليعة القائلين بهذه النظرية «كانت».
وقال قوم: يجب أن يفسح العقل مجالا للشعور، وأن السلطان الذي يحمل على إطاعة القانون الأخلاقي إنما هو في أنفسنا كما قال «هيوم» و«شوبنهور» و«آدم سمث» وغيرهم، ولكن ليس مركزه العقل بل الشعور، فسلطان القانون الأخلاقي شعور باطني مغروس في نفوسنا، «وهذا الشعور ألم مختلف الشدة يعقب مخالفة الواجب، ويحمل - في الأحوال الهامة عند من صلحت تربيتهم - على النفور من المخالفة حتى يخيل لهم أنها مستحيلة.»
4
وعلى الضد من نظرية «القانون الذاتي» نظرية «القانون الخارجي»
Heteronomous ، وهي تضع المقياس الأخلاقي وسلطانه في يد سلطة خارجية، فهي تقول: إن الخوف من الله رب العالمين والخوف من المخلوقين، والرغبة في تحصيل الثواب من الله والاستحسان من الناس هي أساس الواجبات الأخلاقية، وهي السلطان الحامل على إطاعة القانون الأخلاقي، وإن القانون الأخلاقي والقواعد التي تبين السلوك الأخلاقي (المقياس) تستمد من قوة خارجية لا من قوة فينا كإرادة الله أو الملك أو قانون المجتمع.
ومما يتصل أشد اتصال بهذه المسائل الأخلاقية مسألة حرية الإرادة، ولتوضيح ذلك نقول: هل إرادتنا حرة فنحن نطيع القانون الأخلاقي ونخضع له اختيارا؟ وهل إطاعتنا للقانون الأخلاقي تشعر بأن لنا اختيارا، وأن العامل حر في اختيار العمل، وحر في تشكيل عمله بما يشاء، وحر في استعمال القانون الأخلاقي حسب ما يحيط به من الظروف؟ أو أنا مضطرون بمقتضى الطبيعة أن نعمل في الحالة المعينة عملا خاصا بحيث لا نستطيع أن نعمل غيره، وأن إرادتنا معلولة بعلل، فإذا حصلت العلل حصل المعلول، وأن عزمنا على إتيان عمل وإن كنا نشعر بأننا أحرار فيه ليس إلا نتيجة لازمة لأسباب تسبقه وتستلزمه؟
انقسم الفلاسفة في الإجابة على هذا إلى قسمين تحاجا ولا يزالان يتحاجان إلى اليوم؛ فمذهب يرى أن الإرادة حرة حرية مطلقة لا يضطرها أي سبب ولا أية علة، ويعرف هذا المذهب بمذهب الاختيار، ومذهب يرى أن إرادة العامل واختياره نتيجة لازمة لأسباب سابقة، ويسمى مذهب الجبر، ومسألة الجبر والاختيار من المسائل الهامة التي حاول حلها كل من الدين والفلسفة.
هوامش
الفصل الرابع
نظرية المعرفة
كثيرا ما تعرف الفلسفة بأنها نظرية «الكون والمعرفة»، فعلم ما بعد الطبيعة يبحث في حقيقة الكون وأصله، أما ما يبحث في المعرفة نفسها (العلم بالشيء)؛ أعني حقيقتها ومنبعها وحدودها التي تقف عندها، فيكون فرعا آخر من الفلسفة يسمى «نظرية المعرفة» أو «إبستمولوجيا». وقد وجه فلاسفة اليونان الأولون نظرهم للبحث في حقائق الأشياء وطبائعها، وهذا التفلسف والنظر الذي يفوق أنظار السذج والعامة وآراءهم تدرج بالمفكرين الذين يبحثون عن الحقائق إلى البحث في مسألة أخرى؛ وهي: لماذا يختلف نظري إلى الأشياء عن أنظار غيري من الناس؟ ولماذا تختلف نظرياتي المبنية على البحث عن الأفكار الشائعة بين العامة؟ إني أعرف أن الناس على باطل وأني على حق، وأن هناك عالما من الأشياء خارجا عني يعرفه عقلي، فكيف تدخل المعرفة بهذه الأشياء في عقلي فتثير أفكارا تولد عالما من الأشياء في داخله؟ كيف حصلت هذه المعرفة؟ ولم يفكر الناس على خلاف ما أفكر؟ أين منبع الحقيقة التي حصلتها؟ أين أصل المعرفة وحدودها التي تقف عندها؟ وما حقيقتها وطبيعتها؟ هذه الأبحاث أدت إلى الشك في صحة المعرفة وفي الوثوق بها، وجاش في النفس هذا السؤال: هل يمكن بحال أن نعرف الحقيقة، وأن نجد مقياسا صحيحا عاما نقيس به الأشياء لنعرف صحيحها من باطلها؟ قد كان العقل البشري في أول الأمر يميل إلى العمل والسير في الحياة من غير أن يسأل نفسه سؤالا كهذا، حتى إذا وقع في الخطأ ورأى آراء تناقض آراءه اعتراه الشك ولم يعد يثق بما يرى، وبعد أن كان الفكر يشتغل بالأشياء الخارجية توجه للبحث في نفسه هو، باحثا عن نصيبه من الصحة فسأل: ما المعرفة؟ وما علاقتها بالحقيقة؟ هل المعرفة ممكنة؟ وهل يستطيع العقل البشري الوصول إليها؟ وإذا كان كذلك فكيف الوصول؟ هذه أسئلة وأبحاث توجه إليها العقل الإنساني الشائق إلى أن يعرف، بعد أن بحث أبحاثه فيما بعد الطبيعة.
قال «بولسن»: إن الفلسفة ابتدأت في جميع أماكنها بالبحث فيما بعد الطبيعة، فكان البحث في شكل العالم وتكونه وأصله، وفي طبيعة الكون، وماهية الروح وعلاقتها بالبدن؛ هو موضوع الفلسفة الأولى، وبعد أن استغرقت هذه الأبحاث زمنا طويلا اتجه الفكر للبحث في المعرفة وإمكانها، ورأى العقل البشري ضرورة النظر فيما إذا كان من الممكن بحال حل هذه المسائل، ومن هذا النظر نتجت «نظرية المعرفة»، من هذا يفهم أن البحث في صحة معرفة الأشياء وحدودها وعلاقتها بحقائق الأشياء هو موضوع ما يسمى نظرية المعرفة، أو إبستمولوجيا.
فيمكننا أن نجمل الغرض من نظرية المعرفة ومسائلها في أسئلة ثلاثة هامة؛ وهي: (1)
ما المعرفة؟ وهو سؤال عن نفس المعرفة. (2)
بم أحصل المعرفة؟ وهو سؤال عن أصل المعرفة ومنبعها. (3)
هل يمكن تحصيل المعرفة؟ وهو سؤال عن صحة المعرفة وحدودها.
وقد أجاب العلماء عن هذه الأسئلة إجابات وردت ضمنا في تاريخ الفكر، وكانت مختلفة تبعا للاختلاف في المذاهب الفلسفية، فذهب قوم من الفلاسفة إلى أن معرفة الأشياء نسخة طبق الأصل لحقائق أشياء، وصورة دقيقة في عقولنا لما في الخارج، وأن الأشياء في الحقيقة والواقع مطابقة لمظاهرها التي ندركها بواسطة القوى المدركة، وأن العالم الخارجي في الحقيقة كما ندركه، وهو مستقل في الوجود عن إدراكنا، وأن مظاهر الأشياء وحقائقها متطابقة، وإدراكنا للأشياء كما هي في الواقع هو المعرفة. وهذه العقيدة؛ أعني أن الأشياء المحققة لها وجود في الخارج مستقل عما يماثلها في الذهن، تسمى «مذهب الواقع»، وهذا المذهب يرى أن ما ندركه بالحواس سواء كان إدراكا يقينيا أو ظنيا، وما نعرفه بالتأمل بالفكر
1 - وهما اللذان بهما تحصل المعرفة بالأشياء - نتيجة شيء حقيقي موجود في الخارج مستقل عن ذهننا؛ فالمعرفة على هذا المذهب هي إدراك الأشياء كما هي في الواقع بواسطة آلات البدن والنفس، فالشيء أسود وأحمر لأن به صفة جعلته أسود أو أحمر، فإذا انعكس على أعيننا أدركنا سواده أو حمرته، وهذه الصفة موجودة محققة سواء انعكس الشيء على عين الإنسان أو لا، ويقابل هذا المذهب مذهب الظواهر أو مذهب المثال، وهو يرى أن «إدراك الأشياء»، و«الأشياء في أنفسها»، وبعبارة أخرى «ما في الفكر» و«ما في الخارج» مختلف اختلافا كبيرا، وعلى هذا المذهب ليست المعرفة إدراك الأشياء كما هي في الواقع، ولا هي - كما يقول الواقعيون - نسخة طبق الأصل، ولا صورة دقيقة للأشياء نفسها، بل المعرفة إدراك الأشياء حسب ما يظهر لنا؛ إذ لا يمكن أن يكون بين المعرفة - التي هي عملية نفسية - والأشياء الخارجية تشابه، وليس العالم الذي حولنا إلا نتيجة أنتجها عقلنا، وكل ما نعرف من العالم والأشياء الخارجية سواء كان طريق المعرفة حواسنا أو تأملنا الفكري ليس إلا خيالا يولده العقل، وبينا يرى الواقعي «أن الإدراك بواسطة الحواس يحدث عندنا يقينا بها، وأن في ذلك الإدراك ضمانة لحقائق الوجود؛ إذا بالمثالي يرى أن حقائق الوجود الخارجي ليست إلا قابليتها لأن تدرك».
أما السؤال الثاني؛ وأعني به السؤال عن أصل المعرفة ومنبعها، فقد أجيب عنه بجوابين: أما الحاسيون أو التجربيون فقالوا: إن كل معرفة إنما سببها الإدراك بالحواس، وبعبارة أخرى إن منبع معرفتنا هو الإدراك الأول، أعني الإدراك بالحواس باطنة أو ظاهرة، فباجتماع هذه الإدراكات وتركيبها وإتقانها تحصل التجارب، وبجمع التجارب وترقيتها تحصل المعرفة، فمنبع المعرفة إذن عمل الحواس، أي «الإدراك بالحس» و«التجربة»، وهما يقابلان عند أصحاب النظرية الأخرى الآتي شرحها «التفكير» و«الفكر».
2
وعلى هذا المذهب تكون كل معرفة - ولو كانت فكرا عميقا أو «لقانة » - ترجع إلى الإدراك الحسي، فمذهب الحاسيين أو التجربيين إذا هو المذهب القائل بأن التجربة هي المنبع الوحيد للمعرفة، أو على الأقل أساسها، وأن كل معرفة تنبع من التجربة، والتجربة نوعان: فإما أن تكون مستقاة من الحواس الظاهرة، وإما من الباطنة، فإدراك الأشياء الخارجية يسمى إحساسا، وإدراك الأشياء الباطنية يسمى تأملا، والإدراك بنوعيه باب ينفذ منه ضوء المعرفة «إلى حجرة الفهم المظلمة».
قال «لوك» في رسالته (العقل البشري): «لنفرض أن العقل صحيفة بيضاء خالية من أية كتابة وأي معنى، فكيف استعدت لأن تتلقى ما يلقى إليها؟ ومن أين لها ذلك المستودع العظيم الذي نقشه عليها خيال الإنسان الواسع نقشا متنوعا إلى أنواع لا تحد؟ ومن أين لها كل مواد الفهم والمعرفة؟ عن كل هذه الأسئلة أجيب بكلمة واحدة وهي: «من التجربة»؛ فمنها استقينا كل ما عرفنا، ومنها نستمد المعرفة؛ فملاحظتنا - سواء كانت ملاحظة محسوسات خارجية أو ملاحظة عمليات العقل الباطنية، وبعبارة أخرى سواء أكانت إدراكا بالحس الخارجي أو تأملا فكريا - هي التي تزود عقلنا بكل أدوات التفكير، ومن هذين الينبوعين تنبع كل أفكارنا ... وكل أفكار يمكن أن تكون ... وهما - على ما أعرف - المنفذان اللذان ينفذ منهما الضوء إلى تلك الحجرة المظلمة؛ إذ يظهر لي أن العقل كحجرة صغيرة حرمت من كل النوافذ إلا فتحات صغيرة تدخل منها صور المحسوسات الخارجية أو الآراء المتعلقة بها.» وقال: «لهذا كان أول مقدرة للعقل هو أن يكون صالحا للانفعال؛ إما بواسطة الحواس التي تدرك الأشياء الخارجية، وإما بالعمليات التي يعملها العقل عند التأمل في هذه الأشياء، وهذه أول خطوة يخطوها الإنسان لاستكشاف أي شيء، والأساس الذي تنبني عليه كل الآراء التي يحصلها في هذا العالم، فكل الأفكار الراقية الجليلة التي تفوق السحاب رفعة وتعلو علو السماء إنما أصلها الحواس، يسبح العقل مسافات بعيدة ويفكر ويتأمل تأملات رفيعة، وهو في كل هذا لا يخرج قيد ذرة عما أمدته به الحواس أو التأمل (الفصل الأول من الجزء الثاني).» من هذا يعلم أن الحاسيين أو التجربيين يرون أن ما يمكن أن يجرب هو وحده الذي يمكن أن يعرف، وأن أداة المعرفة الصحيحة هو الإدراك بالحس، ومدركاتنا عند التجربيين ناشئة من قوة الإدراك بالحس، أما قوة الفكر فقابلة في الغالب لما يرد عليها لا فاعلة. (انظر فلكنبرج ص318).
ويعارض نظرية الحاسيين أو التجربيين نظرية الذهنيين أو العقليين، وهؤلاء يقولون: إن التجربة التي تحصل بواسطة الحواس مضلة موهمة، وإن الحواس لخداعة كذابة مخطئة، فإذا كانت كل معارفنا بواسطة الإدراك بالحس فالمعرفة مستحيلة؛ ذلك لأن الإدراك والتجربة إنما يخبراننا بما يتعلق بحالة واحدة من أحوال الشيء، ولا يستطيعان أن يتناولا كل الأحوال، فلو كان الأمر مقصورا عليهما لما عرفنا حقيقة عامة، وإذ كان من الثابت أن المعرفة ممكنة وجب أن نقول: إن بعض المدركات التي تكون المعرفة ليس أساسها الحواس - ولأن تعد الحواس عدوا للمعرفة الحقة أقرب من أن تعد خادمة لها - وإن ما يظهر للعقل بواسطة الحواس إنما هو مظهر الأشياء الخارجي الخداع لا ماهيتها الحقة التي لا تحس. (انظر فلكنبرج ص219). فالمعرفة إذا إنما تحصل بالفكر، وبالتفكير وحده يمكننا أن (نشرف على مملكة الظواهر المتغيرة)، وبينا التجربي يرى أن كل الحواس والتأمل منبع المعرفة إذا بالعقلي يرى أن التفهم والتعقل هو المنبع الوحيد للمعرفة، ويستدل العقليون بأن العلم والفلسفة يميلان إلى العموم والضرورة
3
كما يظهر ذلك في العلوم الرياضية التي هي أهم مظهر للمعرفة العلمية. والعلم والفلسفة لا يمكن أن يحصلا بالتجربة لأنها محدودة، وإنما يحصلان من طريق العقل الذي به الإدراك، وهو وحده المدرك، ثم كيف يفهم ما لا يحس؛ كالله والأبدية ومجموع العالم إذا نحن اعتبرنا التجربة لا العقل منبعا لمعرفتنا وآرائنا؟ الحق أنه بواسطة التفكير المحض وحده يمكننا فهم حقائق الأشياء، وقد غلا بعضهم في معارضة التجربيين «فذهب إلى أنه لا يصل شيء إلى النفس من الخارج، ولا يمكن للنفس أن تبتكر شيئا إذا لم يكن من الأصل فيها».
إنما شغل العقليون والتجربيون أنفسهم بمسألة المعرفة، فذهب الأولون إلى أنها تحصل بواسطة العقل المحض، وبه وحده يحصل العلم بالأشياء، أما بواسطة الإدراك بالحس فمستحيل أن يحصل ذلك، والتجربيون ينكرون تحصيل المعرفة بالعقل المحض، ولكن لم يتعرض أحد المذهبين لمسألة إمكان المعرفة، فكلاهما وثق بالعقل البشري ثقة تامة واعتقد بقدرته على معرفة الأشياء.
ولكن لما كان هذا الموثوق بالعقل وبقدرته على تحصيل الحقائق قد تزلزل بنظرية التجربيين؛ كانت النتيجة أن ضعفت الثقة بالعقل أولا، وتلا ذلك تعريضه للنقد والامتحان، وظهرت هذه المسألة: هل تمكن المعرفة؟ وإذا أمكنت فإلى أي نقطة تمتد؟ وما حدودها؟ والعقليون والتجربيون لم يبحثا في هذه المسألة، بل آمنا بأن لنا قدرة على معرفة الأشياء؛ إما بواسطة الإدراك بالحس، وإما بواسطة التفكير، وبأن الأشياء في الحقيقة هي كما ندركها، ويسمى هذان المذهبان مذهب اليقين؛ نظرا لتيقنهما بإمكان المعرفة.
ويعارض مذهب اليقين مذهبان آخران يكونان نظامين من نظم الفلسفة، ويتعلقان بمسألة إمكان المعرفة وحدودها: أحدهما مذهب الشك، والآخر مذهب النقد، فمذهب الشك يشك فحسب، وينكر إمكان المعرفة وقدرة الإنسان عليها، ويمسك عن إبداء أي رأي، ويقابله مذهب النقد؛ فهو لا بد من أن ينكر ببساطة، ويشك من غير تعليل، ينقد ويبحث في كيف نشأت المعرفة كما يبحث في حدودها.
رأى النقاد - أصحاب مذهب النقد - أنفسهم أمام مسألتين لا تحل ثانيتهما إلا بحل أولاهما، فقبل أن يبحثوا في منبع المعرفة وأصلها قالوا: يجب أن نبحث في حدود المعرفة ويقام البرهان على إمكانها، وبعد أن تعرف الشروط التي بها تحصل المعرفة يمكن للإنسان أن يعرف ما يمكن إدراكه بهذه الشروط. (فلكنبرج 322).
وإنا نذكر كلمة مجملة في تاريخ نشوء نظرية المعرفة (إبستمولوجيا)، ففي عصر الفلسفة القديمة كان السوفسطائيون أول من أثار البحث في المعرفة، ومهدوا السبيل للعقليين والتجربيين، وفيها بحث الإيليون وأفلاطون وأرسطو، وفيها بحث الرواقيون والشكاك والأبيقوريون، وفي العصور الحديثة كانت هذه المسألة في مقدمة المسائل عند البريطانيين وغيرهم من الممالك الأوروبية في القرن السابع عشر، فكان للعقليين نفوذ كبير في ممالك أوروبا غير بريطانيا بما وضعه ديكارت 1650، وسبينوزا 1677، وليبنتز 1716، وولف 1754. أما الباحثون البريطانيون: بيكون 1626، وهوبز 1679، ولا سيما جون لوك 1632-1704 فكانوا تجربيين، وقد أدت أبحاث لوك التجربية إلى مذهب الشك الذي وضعه هيوم 1776 في إنجلترا، كما أن بحث هيوم كان باعثا قويا «لكانت» على أن يرقى مذهبه النقدي، وكما قيل: «ينبهه من نومه اليقيني.»
هوامش
الخاتمة
هذا باختصار تام هو موضوع الفلسفة ومجالها بجميع فروعها، وإنه لمن الصعب أن نحيط بموضوع كهذا - كتبت فيه مجلدات - في رسالة صغيرة كهذه ألفت لسواد الناس، ومما يزيد الأمر صعوبة أن يكون موضوع البحث مما اختلفت فيه الآراء اختلافا كبيرا كما هو الشأن في الفلسفة، حتى لقد وصل الجدال وامتد الخلاف إلى تعريف الموضوع وماهيته، وإني لآمل أن أكون قد أوضحت للقارئ شيئين: (1)
أن الفلسفة تحاول أن تجيب عن هذه الأسئلة الباقية أبدا؛ وهي: كيف؟ وما؟ ولم؟ ما حقيقة الشيء الموجود؟ كيف ظهر إلى الوجود؟ ماذا نعرف؟ ماذا يجب أن نعمل؟ لم يجب أن نعمل بهذه الطريقة دون غيرها؟ (2)
أن الفلسفة ليست شيئا بعيدا عن الحياة الحقيقية، بل إنها شيء مرتبط بمسائل الحياة اليومية؛ مدرستها العالم، وموضوعها ظواهر الكون، وكتبها العقل الإنساني، هي الفكر موجها إلى العالم الذي حولنا وإلى كل مظاهره، وإلى حياة العالم الفسيح الذي كل منا جزء منه، وإلى نفسنا التي بين جنبينا، وبالإجمال إلى العالم الكبير والعالم الصغير (الإنسان). كل هذا شيء معروض على الوضيع والرفيع، على العالم والجاهل، فكل إنسان - باعتبار ما في بعض لحظات حياته - فيلسوف، وستدوم الفلسفة ما دام الفكر البشري. نعم، ليست مسائل الفلسفة في كل العصور سواء، ولا يمكن أن يكون ذلك كذلك؛ فإن الفكر الإنساني في تقدم ورقي مشاهد في كل مكان، فكم من مسائل اختفت وحل محلها مسائل جديدة، وكما أن الكهل يبتسم عندما يلقي بنظرة على آرائه أيام صباه، فيرى أن أهم شيء كان يراه في أمسه أصبح تافها في يومه، كذلك النوع البشري في سيره قدما يغير مزاعمه وآراءه ومثله العليا، وينبذ عقائد ويعتقد أخرى، ولا يكاد العقل البشري يجد حلا لمعضلة قديمة حتى تظهر أخرى جديدة، ويكاد في نفس الوقت الذي وفق فيه إلى حل ظاهرة غامضة وإيضاحها تظهر مشكلة جديدة في أفق الفكر البشري، وأن حب المعرفة والشوق إليها والرغبة في كشف الحجاب عن الطبيعة والنفوذ إلى أسرارها لمعرفة الحقيقة ستظل خالدة في أعماق صدر الإنسان. نعم، إن الثورات العظيمة التي تقوم في مملكة الفكر ستحل الألغاز القديمة، وتقلب الأفكار العميقة المتأصلة رأسا على عقب، وتبدد العقائد القديمة والمثل العليا العتيقة، ولكن لا بد أن يكون للإنسان جديد يقوم مقامها. وإن حل الألغاز المتشعبة التي لا تفتأ تظهر، والعمل على إيجاد مثل عليا جديدة، ووضع الحقيقة الجديدة محل القديمة واعتناقها، وبناء الإنسان أعماله وسلوكه عليها، كان ولا يزال وسيكون غرض الفلسفة.
معجم لأشهر الرجال الذين ورد ذكرهم في الكتاب
أرسطو أو أرسططاليس
Aristotle :
384-322ق.م أعظم فلاسفة اليونان الأقدمين، رحل إلى أثينا ولازم أفلاطون يأخذ عنه العلم حتى مات أفلاطون، وأسس بأثينا مذهبا يسمى أتباعه بالمشائين؛ لأنه كان يعلم في مماش مظللة، ويلقب بالمعلم الأول لأنه أول من جمع علم المنطق ورتبه واخترع فيه، وقد دعاه فيلبس لتعليم ابنه الإسكندر المقدوني، فعلمه نحو ثلاث سنوات، وله كتب كثيرة في فروع العلم المختلفة.
ألبيان
Ulpian :
170-228م مشرع روماني ألف كتبا كثيرة في التشريع.
أنكساغوراس
Anaxagoras :
فيلسوف أيوني مات سنة 428ق.م، اتهم سنة 424ق.م بالإلحاد، وحكم عليه بالإعدام، ثم استبدل بالنفي من أثينا بعد أن أسس بها مدرسة، وتبنى فلسفته على أصلين؛ الأول: أنه لا يوجد شيء من العدم، والثاني: أنه لا بد للعالم من علة مدبرة. ولم تصل إلينا فلسفته واضحة، بل كل ما وصلنا قطع متفرقة ناقصة.
أنكسيمنس
Anaximenes :
فيلسوف يوناني مشكوك في تاريخ حياته، إلا أنه يظن أنه عاش من 560-500ق.م، ولم يبق شيء مما كتب، ويعرف عنه أنه كان يقول بأن الهواء مبدأ للأشياء كلها، وأن العالم موجود بحركتي التكاثف والتمدد، أي انقباض الهواء وانبساطه، وأرجع العناصر الأخرى إليه فقال: إن النار هواء متمدد غاية التمدد، والماء هواء متكاثف بعض التكاثف؛ فإن زاد التكاثف كان التراب والحجارة وسائر الجوامد.
أوغسطينوس هو القديس أوريليوس أوغسطينوس
Augustine :
354-430م، ولد في إفريقيا في بلدة قريبة من قرطاجنة، وتعلم في مدارس مادوره وقرطاجنة، وطالع شيئا من الفلسفة، وصار أسقفا لكنيسة هبو فاجتهد في توحيد الكنائس النصرانية، وله تآليف كثيرة جمع فيها بين الفلسفة والدين.
إقليدس
Euclid :
فيلسوف يوناني رياضي قيل: إنه ولد في الإسكندرية وتوطن إغريقية قبل الميلاد بثلاثمائة سنة، ثم جاء إلى الإسكندرية وفتح مدرسة لتعليم الرياضيات صارت أشهر مدرسة في مصر، وأشهر كتبه كتابه المعروف بأصول إقليدس، منه قسم في الهندسة لا يزال يعتمد عليه في مدارس إنجلترا، واشتغل به العرب وشرحوه، وممن شرحه نصير الدين الطوسي، وله تآليف أخرى عديدة.
بالي
:
باحث إنجليزي 1743-1805م كتب في الأخلاق والسياسة.
بخنر
Buechner :
فيلسوف مادي وطبيب ألماني 1824-1899م، وهو من أتباع دارون، وقد ذكر مذهبه الدكتور شميل في كتابه النشوء والارتقاء من صفحة 288-296 ومن 322-342 فارجع إليه.
برك
Broke :
هو سياسي وخطيب وكاتب إنجليزي 1729-1797م، كتب في الفلسفة والسياسة، ولم يرض عن الثورة الفرنسية وانتقدها نقدا شديدا.
بركلي
Berkely :
هو جورج بركلي 1685-1753م، أسقف وفيلسوف إنجليزي بحث في نظرية المعرفة، وذهب إلى أن لا وجود للمادة، وليس إلا العقل والروح، وكان له قدرة على التعبير عن الآراء الفلسفية بعبارة واضحة ظريفة.
بروديكوس
:
فيلسوف يوناني سوفسطائي كان في زمن سقراط.
بطلر
Butler :
يوسف بطلر فيلسوف إنجليزي 1692-1752م، اشتهر ببحثه في علم الأخلاق ما وراء المادة، وكان يرى أن في طبيعة الإنسان دافعين رفيعين: حب النفس، والوجدان، وهما الرئيسان على كل ما عداهما من الدوافع، وتوسع في نظرية الوجدان، وكان يرى أن كل إنسان يجد في أعماق نفسه أساس الخير، ويحس بأنه ملزم باتباعه.
بنتام
Bentham :
هو جرمي بنتام، عالم إنجليزي 1748-1832م، اشتهر ببحثه في الأخلاق والقانون، وهو من أكبر دعاة مذهب المنفعة؛ وربما عد مؤسسه، وهو القائل بأن «مقياس الخير والشر أكبر لذة لأكبر عدد»، وألف في أصول القوانين كتابه المشهور (أصول القوانين) الذي عربه المرحوم فتحي زغلول باشا.
بولس: القديس بولس
St.
:
أحد الحواريين، قتل في رومة سنة 66م.
بيكون
Bacon :
هو فرنسيس بيكون، فيلسوف إنجليزي 1561-1626م تعلم في كمبردج، ثم سافر إلى فرنسا فجال فيها، وفي سنة 1588 عينته الملكة أليصابات وكيلا للدعاوى في ديوانها، ثم عين مدعيا عموميا، ثم جعل لوردا، إلخ، وفي سنة 1621 اتهم بأخذ الرشوة، وحوكم وحكم عليه بغرامة وبالعزل من منصبه وبالحبس، ثم عفا عنه الملك.
لم يقنع بيكون بفلسفة أرسطو، ولم يرض عن نظام الفلسفة في القرون الوسطى؛ فقد كان الفلاسفة يضيعون جهدهم في مناقشات قليلة الفائدة، ويتلاعبون بالألفاظ، ويقنعون بالحقائق المجردة التي لا يبنى عليها عمل؛ ولكن بيكون وجه همته وفلسفته نحو المسائل العملية وما يسعد الناس، وبهذا كان له الفضل على الفلسفة. ألح بيكون في طلب الملاحظة ودقة النظر والتجربة، وأن النتائج يجب أن يتوصل إليها من الاستقراء والعناية بالمعلومات وترتيبها، وقال بضرورة تطبق هذا المبدأ على علم الأخلاق والسياسة. ويعد بيكون مؤسس الفلسفة التجربية.
بيرون
Byron :
هو اللورد بيرون، شاعر إنجليزي مشهور 1788-1824م.
بين
:
عالم إنجليزي 1818-1903م، كاتب في النفس والأخلاق والمنطق.
تندال
Tindal :
1656-1733م كاتب إنجليزي كان من العقليين؛ يقول بالإله وينكر الوحي.
تينيسن
Tennyson :
1809-1892م شاعر إنجليزي شهير.
تولاند
Toland :
1670-1722م، كان على رأي تندال فيما ذكرنا من الوحي.
تين
Tane :
1828-1893م مؤرخ فرنسي، كتب في آداب اللغة الإنجليزية، وبحث في علم الجمال.
جانيه: بول جانيه
Janet :
1823-1899م فيلسوف فرنسي كان مثاليا من أتباع هجل.
جسندي
Gassenndi :
1592-1655م فيلسوف فرنسي فتح مدرسة في فرنسا أحيا فيها تعاليم أبيقور، وتخرج منها موليير وفولتير.
جوتيه
Goethe :
1749-1832م أديب ألماني كبير كان كاتبا وشاعرا وروائيا وفيلسوفا وعالما، وكان يقول بالحلول، وكانت حياته مثارا للعواطف.
دارون
Darwin :
1809-1882م فيلسوف إنجليزي غير وجه العلم بأبحاثه، خالف رأي الأولين القائلين بأن كل نوع من المخلوقات له خصائص ثابتة منذ البدء لا تتغير؛ فكل نوع مستقل عن غيره ، وقال هو بالتحول؛ أي إن هذه الخصائص تتغير على تمادي الزمان فتحول الأنواع إلى أنواع أخرى جديدة، وهكذا، وأن الأنواع لم تخلق كلها في زمن معين، ولكن على التعاقب خلف بعضها بعضا، وشرح علة هذا التغير فقال: إنه ناشئ من تأثير البيئة ومن التربية، وهو القائل بنظرية «تنازع البقاء، وبقاء الأصلح» أي إن أنواع الموجودات في تنازع وعراك شديد من أجل البقاء، والفوز في هذا التنازع إنما هو للأنواع القوية، أما غيرها فهو إلى التلاشي والفناء.
دنس سكوتس
Duns Scotus :
فيلسوف إنجليزي من فلاسفة القرون الوسطى، ولد نحو سنة 1274 إلى سنة 1308، اشتهر بمزجه الفلسفة بالدين.
ديكارت
Descaret :
رياضي وفيلسوف فرنسي، يعد مؤسس الفلسفة الحديثة 1596-1650م، تعلم الأدب ولم يقنع به فاشتغل بالفلسفة، ولم يرض عن فلسفة أرسطو التي كانت شائعة في عصره، والتي كانت تؤخذ قضايا مسلمة من غير بحث، فجاء ديكارت ووضع مبادئ جديدة؛ أهمها: (1)
عدم التسليم بشيء ما لم يفحصه العقل ويتحقق من وجوده، فما كان مبنيا على الحدس والتخمين وما كان منشؤه العرف والعادة يجب أن يرفض. (2)
طريقة البحث يجب أن تكون هكذا: نبتدئ بأبسط الأشياء وأسهلها، ثم نتوصل منها إلى ما هو أكثر تركبا وأغمض فهما حتى نصل إلى المقصود، ولا يحكم بصحة مقدمة حتى يتحقق منها بالامتحان - وكان يؤمن بالله وبخلود الروح - وقد أثارت تعاليمه رجال الدين في عصره فحاربوه، وله استكشافات في الطبيعة والرياضة.
ديمقريطس
Democritus :
فيلسوف يوناني ولد سنة 470ق.م، ولا تعرف سيرة حياته ولا تصانيفه معرفة دقيقة، ويعرف بالفيلسوف الضاحك؛ لأنه لم يكن يرى إلا ضاحكا، يضحكه منظر العالم وأحواله؛ ويناقضه في ذلك هرقليطس. (انظر: هرقليطس).
رسكن
Ruskin :
أديب ومصلح اجتماعي إنجليزي 1819-1900م، كتب في الفن وفي الاقتصاد السياسي، ويتجلى في كتبه النبوغ والإخلاص، وكان يرى أن الفن وعلم الجمال يجب أن يخضعا للأخلاق.
رنان
Renan :
إرنست رنان فيلسوف فرنسي 1823-1892م تربى في أول أمره تربية دينية ودرس الفلسفة واللاهوت وتاريخ الأديان واللغات القديمة، وعدل بعد بحثه العلمي عن الانخراط في سلك رجال الدين، وألف كتبا كثيرة النفع؛ منها: كتاب (مستقبل العلم)، وكتاب (ابن رشد ومبادئه)، وأشهر كتبه (تاريخ الديانة المسيحية)؛ ومنه قسم في تاريخ المسيح ترجم إلى العربية، وكان يرى أن المسيح إنسان راق لا إله، فقام عليه رجال الدين وحرموه من الكنيسة، ولعنوا من يقرأ كتبه.
روسو: جان جاك روسو
Rousseau :
كاتب وفيلسوف فرنسي 1712-1778م، ربي في أول أمره تربية خاملة، ولم يكن له من المال ما يكفيه، ووظف كاتبا عند أحد أصحاب الأملاك ، ثم ظهر نبوغه في الكتابة والتفكير، فانقطع إليهما وألف جملة كتب مفيدة؛ أشهرها: (أميل) في التربية، رأى فيه أن التربية الصحيحة إنما تكون بترك الولد للطبيعة تربيه! وله كتاب (الاعترافات) ذكر فيه تاريخ حياته، وله مبادئ في السياسة والآداب سامية كانت من عوامل الثورة الفرنسية.
ريد
Reid :
توماس ريد فيلسوف إنجليزي 1710-1796م، كان أستاذا للفلسفة في جامعة غلاسكو.
زينون
Zeno :
فيلوس يوناني 342-270ق.م مؤسس مذهب الرواقيين، كان يعلم أصحابه في رواق مزخرف، فسمي أصحابه بالرواقيين، وكانوا يرون أن الغاية ليست هي السعادة ولا تحصيل اللذة؛ بل نيل الفضيلة.
زينوفون
Zenophon :
مؤرخ يوناني 430-355ق.م.
سبنسر: هربرت سبنسر
Spencer :
فيلسوف إنجليزي 1820-1903م حاول أن يضع العلوم كلها في نظام عام، وكانت فلسفته مؤسسة على مذهب النشوء، رقى الأبحاث الأخلاقية والاجتماعية والتربية، وألف كتبا كثيرة مفيدة في النفس والأخلاق والاجتماع والتربية والسياسة، ويعد من أقطاب العلم الحديث.
سبينوزا
Spinoza :
فيلسوف هولاندي 1632-1677م، ولد من أب يهودي برتغالي، واضطهده اليهود لما ظهر منه من الريبة في تعاليم اليهودية فطردوه، درس فلسفة ديكارت، ثم وضع طريقة جديدة خاصة به، ونشر مذهب الحلول، وقد حكم فلاسفة القرن السابع عشر بكفره، وكتب عدة مؤلفات فلسفية وسياسية.
سقراط
Socrates :
فيلسوف يوناني شهير 469-399ق.م وجه البحث الفلسفي إلى الإنسان، وكان قبله موجها إلى العالم والأجرام؛ ولذلك قيل: إنه استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض! ويعد سقراط مؤسس علم الأخلاق لأنه أول من حاول أن يبني معاملات الناس على أساس علمي، وكان يدعي أن صوتا داخليا يرافقه على الدوام، ويمنعه من ارتكاب بعض الأعمال، اتهم بأنه يحتقر آلهة اليونان وبإفساد الشبان بتعاليمه، وحوكم وحكم عليه بالإعدام، وسقي كأس السم فمات، وهو أستاذ أفلاطون.
سلي
Sully :
فيلسوف إنجليزي ولد 1842م، وفي سنة 1892م عين أستاذا للفلسفة في جامعة لندن، ألف كتبا كثيرة قيمة في علم النفس.
سوفوكليز
Sophocles :
شاعر وروائي من أشهر الروائيين اليونانيين 495-406ق.م، كتب أكثر من مائة كتاب أكثرها روايات تمثيلية.
شافتسبري
Shaftesbury :
فيلسوف إنجليزي في الأخلاق 1671-1713م، كان يعارض نظرية هوبز التي ترجع كل عمل إلى الأثرة وحب النفس بنظريته التي يقول فيها : إن الإنسان مفطور على حب الناس كما هو مفطور على حب نفسه، والفضيلة إنما هي بتوازن الغريزتين.
شلر
Schiller :
شاعر وروائي ألماني شهير 1759-1805م.
شلر ماكر
Scheilermacher :
فيلسوف لاهوتي ألماني 1768-1834م، درس فلسفة أفلاطون وسبينوزا، وكانت له أبحاث في نظرية المعرفة وفي الدين، وكان يؤمن بالله، وبالنصرانية.
شلنج
Schelling :
فيلسوف ألماني 1775-1854م، كان أستاذ الفلسفة في مونيخ وبرلين، وكانت آراؤه متأثرة بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة وفلسفة برونو، وفي فلسفته ضرب من التصوف.
شلي
Shelly :
شاعر إنجليزي 1792-1822م، شعره مملوء بعاطف الحب للإنسانية.
شوبنهور
Schopenhaure :
فيلسوف ألماني 1788-1860م، مؤسس فلسفة التشاؤم، كان يرى أن هذا العالم شر عالم يمكن أن يكون؛ وأن ما فيه من الآلام تفوق ما فيه من اللذائذ، وأن السعادة إنما تكون بالزهد وقمع الشهوات وبالحياة الفكرية، وأن الشيء الأساسي فينا هو الإرادة.
شيشرون
Cicero :
خطيب وسياسي روماني 107-43ق.م، كان له الفضل في إخراج الفلسفة اليونانية في ثوب روماني.
فجت
Vogt :
عالم طبيعي 1817-1895م، تعلم في برن وعين أستاذا في جامعة جسن ثم حرم المنصب لأنه كان من دعاة الثورة، وكان ماديا محضا.
فخته
Fichte :
فيلسوف ألماني 1762-1814م، كان أستاذا للفلسفة في جامعة جينا بألمانيا، واتهم بالزندقة.
فخنر
Fechner :
فيلسوف ألماني 1801-1887م، كان أستاذا للطبيعيات في ليبزج، وجه أكثر جهده في البحث في الكهرباء ونظريات اللون، ثم ترك البحث في هذا لمرض اعتراه في عينه، واشتغل بالبحث في العلاقة بين الفسيولوجيا والسيكولوجيا - علم وظائف الأعضاء والنفس - وكتب بعض كتب في الاعتقاد والنفس.
فندت
Wundt :
فيلسوف ألماني 1832م كتب في المنطق وعلم وظائف الأعضاء والنفس والأخلاق.
فنكلمان
Winckelmann :
فنان نقاد ألماني 1717-1768م، كتب في تاريخ الفن القديم.
فولتير
Voltaire :
فيلسوف وشاعر فرنسي 1694-1778م، كتب روايات كثيرة، وله شهرة فائقة في الأدب والروايات التمثيلية، وكان لكتاباته أثر عظيم في أفكار الأوروبيين.
فيثاغورس
:
فيلسوف يوناني كان في القرن السادس قبل الميلاد، لم يعرف عن حياته إلا القليل، وتعاليمه التي نقلت إلينا موضع شك، ولكن مما لا شك فيه أنه كان يقول بتناسخ الأرواح، وينسب إليه القول بأن نهاية الأشياء كلها العدد.
كارليل
Karlyle :
توماس كارليل مؤرخ وأديب إنجليزي 1795-1881م، ألف تآليف كثيرة نافعة أشهرها: تاريخ الثورة الفرنسية ، وكتاب الأبطال؛ وفيه فصل عن محمد رسول الله كأحسن ما يكتب غربي عن شرقي، تغير به رأي الإنجليز في الرسول، فبعد أن كان كثير منهم يهجونه جهلا أصبحوا يعترفون بفضله ونبوغه.
كانت: عمانويل كانت
Immanuel Kant :
من أشهر فلاسفة الألمان 1724-1804م، ومؤسس فلسفة النقد، وكان أستاذ الفلسفة في جامعة كونسبرج، وكان يعيش عيشة منظمة أدق نظام، حتى كان أهل قريته يضبطون ساعاتهم على خروجه من بيته. مر في ثلاثة أطوار؛ فكان في أول أمره على مذهب ولف وليبنتز، ثم تأثر بمذهب التجربيين الإنجليزي، ثم انتقل إلى الفلسفة النقدية من سنة 1770م.
كمت: أوجست كمت
Comte :
فيلسوف فرنسي 1798-1857م، مؤسس الفلسفة الوضعية، وهذا النوع من الفلسفة يرى ضرورة تنظيم معلومات الإنسان عن العالم وعن الإنسان وعن الجمعية، وجعلها كلها مجموعا يلائم بعضه بعضا، وأنه لا يصح تأسيس علم ما إلا على المشاهدات الخارجية، ولكمت اليد الطولى على علم الاجتماع، وكان غرضه في الحياة أن يكون مصلحا للفكر ليصلح العمل.
لامتري
Lamettrie :
عالم فرنسي في علم وظائف الأعضاء 1709-1751م، كان ماديا يعد الإنسان آلة من الآلات، وأن النفس وظيفة المخ.
لسنج
Lessing :
نقاد وروائي ألماني 1729-1781م، قضى مدة في برلين صحفيا ظهرت فيها مقدرته على النقد.
لوثر: مارتن لوثر
Martin Luther :
زعيم المصلحين الدينيين، وهو راهب ألماني 1483-1546م، وكان الإصلاح الذي يدعو إليه هو الرجوع إلى الكتاب المقدس وحده، ونبذ تقاليد الكنيسة وما وضعه الآباء من الشروح، وأن للإنسان الحق في انتقاد ما تصدره الكنيسة، وأن كل إنسان مسئول أمام الله، وليس للآباء ولا للبابا سلطة العفو عن الذنوب والتطهير من الآثام.
لوتز
Lotze :
فيلسوف ألماني 1817-1881م، كان أستاذا للفلسفة في ليبزج سنة 1842، صرف جزءا كبيرا من حياته للبحث في علاقة علم النفس بعلم الحياة، وله أبحاث أخلاقية.
لوك: جون لوك
Locke :
فيلسوف إنجليزي 1632-1704م، كان متأثرا بتعاليم ديكارت، وكانت أبحاثه الفلسفية متضمنة لاهوتا وسياسة واقتصادا وتربية، ألف رسالة سماها (العقل البشري) كان يرى فيها أن العقل يجب أن يترك حرا لينقد أي شيء، ويجب ألا يوضع له أي حد بواسطة أية سلطة، وكان تجريبيا يرى أن مصدر معلوماتنا إنما هو التجربة، وبحث في سلطة الحكومة ورأى ضرورة تنازل الناس عن بعض حريتهم للسلطة العامة، وعلى الملك المحافظة على حقوق الناس؛ فإذا لم يحافظ فلا حق له في الملك.
ليبينتز
Leibniz :
فيلسوف ألماني 1646-1716م، درس الفلسفة والرياضيات والقانون، ثم اشتغل بالأمور السياسية واخترع الآلة العادة، وله مذهب في الفلسفة وفي تكون العالم شرح في ثنايا الكتاب، وكان له فضل على العلماء الذين أتوا بعده بطريقته العلمية، وبتوجيه النظر إلى علم النفس.
ليوسبس
Leucippus :
كان نحو 500ق.م، فيلسوف يوناني مؤسس مذهب الجوهر الفرد، وممهد السبيل في ذلك لديمقريطس.
ليوكريتوس كاروس
Lucretius Carus :
شاعر روماني 99-55ق.م، قد يعد من أتباع أبيقور.
مكس ملر
Max Muller :
لغوي ألماني إنجليزي 1813-1900م، كان مستشرقا، درس اللغة السنسكريتية، وكان أستاذ اللغات الحديثة في أكسفورد، ونشر كتبا كثيرة في علم اللغة.
مولشت
Moleschott :
عالم في علم وظائف الأعضاء ولد في هولندا 1822-1893م، وكان ماديا في تعاليمه وكتبه.
مونتسكيو
Montesquieu :
مؤرخ واجتماعي وفيلسوف فرنسي 1689-1755م، ألف كتابه المشهور في عظمة الدولة الرومانية وسقوطها.
ميل: جون ستوارت ميل
John Stuart Mill :
فيلسوف إنجليزي 1806-1873م كان متأثرا بتعاليم هيون وأوجست كمت، كتب في المنطق وفي الاقتصاد السياسي وفي السياسة، وكتب رسالة في الحرية ورسالة في مذهب المنفعة ألفها سنة 1863، وهو من أكبر مؤسسي مذهب المنفعة والداعين إليه.
نيتشه: فردريك نيتشه
Neizsche :
فيلسوف ألماني 1844-1900م، كان أديبا وكاتبا في الأخلاق، وكان يؤمن بمذهب النشوء والارتقاء، وكان من آرائه في الأخلاق أن آراءنا في الفضائل والواجبات يجب أن تنقح من آن لآخر على حسب تغير الأحوال المحيطة بالناس، وقال: إن الفضائل النصرانية كالوداعة والتواضع والإحسان قومت بأكثر مما تستحق، ولقب الأخلاقية النصرانية بأخلاقية العبيد، وقال: يجب أن تعوض هذه الأخلاقية بأخلاقية السادة، وهذه الأخلاقية العالية يجب أن تكون فوق القانون، والمثل الأعلى للإنسان عنده إنسان له الحرية التامة في الكفاح ليبقى، يبحث عن لذته وما به قوته ولا يعرف الشفقة.
نيوتن: إسحاق نيوتن
Neuton :
فيلسوف إنجليزي في الطبيعيات 1642-1727م، له استكشافات كثيرة في الطبيعة أشهرها قانون الجذب العام 1665.
هتشسون
Hutcheson :
عالم إنجليزي لاهوتي وأخلاقي 1694-1746م، وكان أستاذ علم الأخلاق في جامعة جلاسكو، وكان متبعا للوك في كثير من نظرياته، ومعارضا لهوبز.
هجل
Hegel :
هو جورج وليام فردريك هجل فيلسوف جرماني 1870-1831م، كان من الفلاسفة المثاليين، وكان حامل لواء الفلاسفة في عصره في ألمانيا.
هرتمان
Hartman :
فيلسوف ألماني 1842-1906م، كان ينظر إلى العالم بعين السخط، ولكنه يرى أنه بالتقدم الاجتماعي ربما نال الناس بعض السعادة.
هردر
Herder :
مؤلف ألماني 1744-1803م، كان له أثر في ترقية علم الجمال، وكان صديقا لجوتيه.
هرقليطس
Heraclitus :
فيلسوف يوناني ولد في أفسوس بآسيا الصغرى، نبغ حوالي سنة 500ق.م، ويلقب بالفيلسوف الباكي لأنه كان يبكيه ما يراه من شقاء الناس، على العكس من ديمقريطس، ويرى الناس أساس عنصر الموجودات.
هلباخ أو هلبك
Holback :
هو بارون هلبك فيلسوف فرنسي 1723-1789م، كان ملحدا، وكان يتهم النصرانية بأنها منبع كل مرض.
هكسلي
Huxley :
عالم من أكبر علماء الإنجليز في علم الحياة والحيوان 1825-1895، وقد كتب في نظرية النشوء وعلم الأخلاق.
هوبز: توماس هوبز
Hobbes :
فيلسوف إنجليزي 1588-1679م، اشتهر بأبحاثه السياسية ونظريته في السياسة مذكورة في هذا الكتاب، وكذلك بحث في الأخلاق، وعد أساس الأخلاق المصلحة الشخصية.
هوجارث: وليام هوجارث
Hogarth :
1697-1724م، يعد من أكبر فناني الإنجليز.
هوجو جروتيس
Hugo Grotius :
1582-1685 فقيه هولاندي كتب في القانون الدولي.
هيوم: دافيد أو داود هيوم
David Hume :
مؤرخ وفيلسوف إنجليزي 1711-1776م، وكانت فلسفته تجربية، أي إنه كان يقول: إن كل معارفنا إنما نحصلها من التجربة.
هوم: جون هوم
Home :
شاعر إنجليزي 1722-1808م.
هيبرج
Heiberg :
شاعر دانماركي 1791-1860م.
هيكل: إرنست هيكل
Haeckel :
1834-1919م، عالم ألماني مشهور له أبحاث هامة في علم الحياة.
هيني
Heine :
شاعر ألماني يمثل العواطف 1799-1856م.
والاس
Wallace :
سائح وطبيعي إنجليزي 1822، صرف حياته في البحث في الحيوان والنبات وطبقات الأرض، وقرر نظرية الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
ولف
Wolff :
فيلسوف ورياضي ألماني 1679-1854م، نظم تعاليم ليبنتز وعدلها.
يوليان الصابي
Gulian the apostate :
إمبراطور روماني 331-363م، أعلن حرية التدين، وكان هو نفسه يفضل الوثنية على النصرانية.
Unknown page