maʿaʾl-mushakkikīn fī al-Sunna
مع المشككين في السنة
Editor
فاروق يحيى محمد الحاج
Genres
ثالثًا: أن النسيان الذي يطرأ على النبيّ ﷺ لا يقدح في عصمته؛ لأنه إنما ينسى ﷺ أولًا ليشرّع لأمته، وينسى ثانيًا لأنه من البشر، ومن خصائص البشر هؤلاء أنهم ينسون، وما سُمي ابن آدم إنسانًا إلا لكثرة نسيانه.
وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) (^١).
(^١) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (١/ ٨٩)، رقم (٤٠١)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (١/ ٤٠١)، رقم (٥٧٢).
وثبت عنه ﷺ نسيانه في بعض المواضع، وقد جاء في ذلك:
١ - عن عائشة ﵂ قالت: (سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا، آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا) (^١).
٢ - نسي ﷺ مرةً فصلى إحدى صلاتي العشي ركعتين، ولم يذكِّره بذلك إلَّا أصحابه ﵃، فعن أبي هريرة ﵁ قال: (صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ -قَالَ مُحَمَّدٌ (^٢): وَأَكْثَرُ ظَنِّي العَصْرَ- رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ المَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ﵄، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ ﷺ ذُو اليَدَيْنِ فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. قَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ) (^٣).
(^١) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا (٦/ ١٩٤)، رقم (٥٠٣٨)، وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول: نسيت آية كذا وجواز قول: أنسيتها (١/ ٥٤٣)، رقم (٧٨٨).
(^٢) هو: محمد بن سيرين، أحد رجال سند الحديث.
(^٣) صحيح البخاري، أبواب ما جاء في السهو، باب من يكبر في سجدتي السهو (٢/ ٦٨)، رقم (١٢٢٩)، وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (١/ ٤٠٣)، رقم (٥٧٣).
٣ - رأى ﷺ ليلة القدر في المنام ثم أُنسيها، فعن أبي سعد الخدري ﵁ قال: (اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ العَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا -أَوْ نُسِّيتُهَا-) (^١) الحديث.
قال الإسماعيلي: «النسيان من النبي ﷺ لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية. وعليه يدل قوله ﷺ في حديث ابن مسعود في السهو: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ) (^٢).
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو المشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعلى:٦ - ٧].
قال -يعني: الإسماعيلي-: فأما القسم الأول فعارض سريع الزوال؛ لظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ [الحجر:٩].
وأما الثاني فداخل في قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ [البقرة:١٠٦]. على قراءة من قرأ بضم أوله من غير همزة» (^٣).
إذًا: فمثل هذا النسيان وشبهه لا يمتنع وقوعه من الأنبياء ﵈، كما وقع لكليم الله موسى مع عبد الله الخضر ﵉، حيث نسي الشرط الذي اشترطه عليه ثلاث مرات، وهو أنه لا يسأله عن شيء يفعله حتى يكون هو الذي يبيِّنه له، غير أنه ﵇ كان في كلِّ مرة ينسى ذلك مما حمله على الاعتذار له بقوله: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣)﴾ [الكهف:٧٣].
لكن هذا النسيان لا يقع منهم ﵈ في أصل التبليغ؛ لما تقدم من نقل الإجماع على عصمتهم ﵈ فيما يبلغونه عن ربهم، فلا يحصل منهم فيه خطأ ولا جهل ولا نسيان. وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء، بل حُكي الإجماع عليه، وحكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو والنسيان في الأقوال البلاغية، وخص الخلاف بالأفعال، وأن الأكثرين ذهبوا إلى الجواز (^٤).
فهل أكثر أهل العلم أغبياء؟ حقًا إن هذا لهو الإفك المبين.
(^١) صحيح البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر (٣/ ٤٦)، رقم (٢٠١٦)، وصحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إِتْبَاعًا لرمضان (٢/ ٨٢٤)، رقم (١١٦٧).
(^٢) صحيح البخاري وصحيح مسلم. وقد تقدم.
(^٣) فتح الباري لابن حجر (٩/ ٨٦).
(^٤) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (٢/ ٣٢٨).
1 / 231