سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا، فإذا بالشركسي يحملق في، ثم قال موجها كلامه إلي: هل من أخبار جديدة يا أفندي؟
فقلت له وأنا ممسك الجريدة بيدي: ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر، اللهم إلا خبر اهتمام وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.
ولم يمهلني الرجل أن أتم كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني، وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل؛ لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا، وصعد منها لغرفتنا أحد عمد القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة كبير الشارب أفطس الأنف، له وجه به آثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي، ثم سار القطار قاصدا قليوب.
مكث الشركسي قليلا يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحرق الأرم وقال: يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.
فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت: وأي جناية؟ - إنك ما زلت شابا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح. - وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟
فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب: هناك علاج آخر. - وما هو؟
فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال: السوط؛ إن السوط لا يكلف الحكومة شيئا، أما التعليم فيتطلب أموالا طائلة، ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب؛ لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.
وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة - حفظه الله - كفاني مئونة الرد، فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: صدقت يا بيه صدقت، ولو كنت تسكن الضياع مثلنا لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني مع الفلاح ما نعاني؛ لنكبح جماحه، ونمنعه عن ارتكاب الجرائم.
فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال: حضرتكم تسكنون الأرياف؟ - أنا مولود بها يا بيه. - ما شاء الله.
جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت تظهر على وجهه سيما الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مرارا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتا على ما فاه به الشركسي، فقلت له: إن الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام أن لا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.
Unknown page