وأخرج من جيبه خطابا أعطاه لإبراهيم وهو يقول له: هاك مقالة وصلتني أمس من كاتب مجهول يسألني فيها أن لا اذكر اسمه الحقيقي. - وأي اسم اختاره لنفسه؟ - رعمسيس الثاني. خذ واقرأ لتقف على المقالة.
قرأ إبراهيم المقالة، ثم ردها لصاحبه وقال: إني أعرف هذا الصرصور الصغير. إنه معنا في المدرسة. - في السنة الرابعة معك. - في السنة الأولى، وله كلف عظيم بالإنشاء حتى لقبه الطلبة بأبي الإنشاء. أعازم أنت على نشر هذه السخافات؟ - لم يقر رأيي بعد على شيء. - إني أربأ بجريدتك الراقية أن تتلوث بهذه القاذورات النجسة. - أترتئي في مقال صاحبك ذلك؟ - إني لا أعد هزؤة المدرسة صاحبا لي. - أتهزأ الطلبة بهذا التلميذ؟ - هو موضوع سخريتهم أجمعين. - إنك إذن لعلى حق. مزق المقالة وألقها على الأرض لتدوسها المارة، وكفى جريدتنا ما حل بها من المصائب حتى أزيدها بكلام هذا التلميذ المهزأ مصيبة على مصيبة. - أنا لا أمزق كلام الناس يا صديقي. - هاتها ...
وأخذها من يد إبراهيم ومزقها، وألقى بها على الأرض، وهو لا يعلم إنه يمزق بذلك غشاء ذلك القلب المسكين قلب حسن أمين، وقد دفعه على ذلك ما كان قائما في قلبه من الحقد على أعدائه وعلى الأغنياء والعظماء، وقام يتبعه إبراهيم وقد ارتسمت على شفتي هذا الخبيث ابتسامة الغلبة والظفر.
الفصل الخامس
دخل حسن قهوة «النادي المصري» وطلب جريدة الحقائق، فأجابه الخادم قائلا: «إننا لا نشتري هذه الجريدة يا سيدي.» فأخرج حسن من جيبه قرشا وقال للخادم: «اذهب واشترها لي.» فصدع الخادم لأمره وأتاه بها بعد حين.
أمسك حسن جريدة الحقائق بيده وبحث في الفهرست عن عنوان مقالته فلم يجده، فكذب الفهرست، وبحث في جميع الصفحات فلم يجد من مقالته حرفا واحدا، فأظلمت الدنيا في عينيه، وأقفل الجريدة وألقى بها على الخوان، وعافت نفسه قراءة الجرائد الأخرى، فأطلق لفكره العنان.
مكث حينا يفكر في أشياء كثيرة إلى أن سئم التفكير، فقام يتمشى وهو مطرق برأسه. ثم أطلق من بين جوانحه زفرة ألفتت إليه أنظار المارة، ومشى غير عابئ بأحد.
لم يسلك حسن سبيله إلى المنزل؛ لأنه كان سائرا على غير هدى، ولكنه كان يأمل الخير في الغد مع أن شواهد الحال كانت تنطق بغير ذلك. لقد مرت على مقالته ثلاثة أيام والأقدام تدوسها في الشارع، ولكنه كان يجهل ذلك فكان يقول لنفسه: «إن لم تنشر مقالتي في الغد فعلى آمالي السلام!» ويا ليته كان عالما بما حل بها حتى لا يفاجأ في الغد بما لم يهجس في ضميره قبل ثلاثة أيام.
ليس شيء أصعب على نفس الناشئ من حبوط أول أمل له، كما أن هذا الحبوط هو أكبر باعث له على إعادة الكرة لنيل أمنيته وتحقيق غرضه، وتكبر صعوبة حبوط المسعى على الناشئ إذا كان من خلقه الحياء وضعف الإرادة، وحسن أعظم مثال لهذا النوع من الناشئين؛ ولذا كان ألمه عظيما، ولم يبعث في قلبه داعي التأسي إلا أمله في الغد، وكان الغد آخر موعد لنشر مقالته، ففي الغد يفتح حسن صدره للبؤس أو للسعادة.
مشى حسن من شارع إلى شارع وهو لا يلوي على أحد إلى أن وصل إلى منزله بعد الغروب، فأنبته أمه فلم يجب عليها، وانتظرته حبيبته لتقرأه السلام كالعادة فذهب انتظارها سدى، ولم يعزه على مصابه في ذلك اليوم إلا كلبه «سحاب». •••
Unknown page