وكان قصي يهيمن إلى جوار ذلك على ما يعرف بالسقاية، والمقصود بالسقاية تدبير الماء وحمله من آبار مكة المجاورة بالمزاود والقرب، ووضعه في أحواض لسقاية الحاج، وما زال ذلك الشأن حتى أعيد حفر زمزم، وفي بعض الأحيان كان يحلى ذلك الماء بشيء من التمر أو الزبيب. (5)
كذلك كانت لقصي الحجابة أو السدانة، ويقصد بها حفظ مفاتيح الكعبة، لا يفتحها إلا هو، ولا تقام شعائر دينية إلا بإذنه، وبذلك كانت لقصي السلطة الروحية أيضا إلى جوار السلطات السالفة الذكر.
وخلاصة القول أن قصيا جمع في شخصه كل الوظائف الرئيسية، دينية كانت أم مدنية «سياسية» فكان - مع شيء من التجاوز - ملك بلاد العرب ورئيسها الديني الأعلى، وقد أضفى نفوذه هذا على قبيلة قريش مجدا وجاها عظيمين، ومنذ أيام قصي وقريش تتمتع بمركز ممتاز بين بقية أعقاب إسماعيل.
ومات قصي حوالي سنة 480 ميلادية، بعد أن عمر أكثر من ثمانين سنة، وترك من الأبناء عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى. (11-2) الحالة بعد قصي
وقبل أن يدركه الموت أقام أكبر أبنائه عبد الدار خليفة له، وبعد أن مات تمتع عبد الدار بما كان يتمتع به أبوه من قبل، دون أن ينازعه في ذلك أحد من قريش، ولما مات عبد الدار تولى أبناؤه الوظائف من بعده، ثم تولى أحفاده من بعدهم، ولكن قام بين هؤلاء الأحفاد نزاع، واحتدمت بينهم وبين بني عبد مناف الخصومة، وانقسمت بطون قريش وحلفاؤهم وجيرانهم إلى معسكرين: معسكر يعاضد بني عبد الدار، وآخر يعاضد بني عبد مناف، وعقد كل فريق حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا ووضعوها عند الكعبة، وتحالفوا وجعلوا أيديهم فيها، فسمي حلفهم حلف المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف، ثم تعبأ الفريقان للقتال، وكان زعيم بني عبد مناف ابنه عبد شمس أكبرهم، ثم تداعى الفريقان للصلح على أن تكون: (1)
السقاية والرفادة لعبد شمس بن عبد مناف. (2)
وأن تظل الحجابة والندوة واللواء في أيدي بني عبد الدار.
ولما كان عبد شمس فقيرا ذا عيلة، وكان فوق ذلك كثير الأسفار، فإنه تنازل عن السقاية والرفادة لأخيه هاشم الذي كان موسرا، وكان يستطيع الاضطلاع بهما لما يكلفان من مال.
ونلاحظ في التقسيم السالف الذكر أن ما أفاده بنو عبد مناف أكسبهم ذكرا ومجدا خارج قريش، في حين أن ما أفاده بنو عبد الدار أكسبهم نفوذا وسلطانا في مكة نفسها. (12) ازدهار مكة في عهد هاشم بن عبد مناف
ولد هاشم بن عبد مناف في سنة 464، وقد قلنا إن منصبي الرفادة والسقاية آلا إليه بعد تنازل أخيه عبد شمس، وكان هاشم غنيا أصاب ماله - شأن السواد الأعظم من المكيين - من التجارة، وقد استعان على القيام بمنصبيه بما كان يخرج عنه من ماله الكثير، مضافا إليه ما كان يجمعه من الضرائب التي سبق أن فرضها قصي على القرشيين لإطعام الحاج وضيافتهم، ولم يقتصر هاشم على إطعام الفقراء من الحجاج فحسب، بل كان يطعم الحجاج جميعا في موسم الحج، حتى يصدر عن مكة، كما أنه أمر بحياض من أدم فجعلها في موضع زمزم، وفي الطريق إلى عرفات، ثم يسقي فيها من الآبار المجاورة لمكة.
Unknown page