الفصل السابع
تاريخ الحيرة
(1) تمهيد
في أوائل القرن الثالث للميلاد، تجمعت عدة قبائل في منطقة البحرين يقول عنها مؤرخو العرب إنها من القبائل اليمانية، التي تفرقت على أثر تصدع سد مأرب، فأخذت تغير على أطراف الدولة الفارسية في العراق، وذلك في فترة الاضطراب التي تلت سقوط الدولة البارثية وتأسيس الدولة الساسانية سنة 226م، ولا تستطيع أن تفعل الدولة الفارسية معهم شيئا؛ لأنهم كانوا بعد إتمام غارتهم يعتصمون بالصحراء، التي يعبر عنها بأنها حصن العرب الحصين، والتي لا يعرف مسالكها الفرس ولا غيرهم، وبخاصة لأن فارس في ذلك الوقت لم تكن فيها حكومة مركزية مهمة؛ لأن الإسكندر المقدوني لما غزا فارس سنة 333 قبل الميلاد، جزأ الإمبراطورية الفارسية إلى دويلات صغيرة، يحكمها ملوك يعرفون بملوك الطوائف، وقد اتبع الإسكندر هذه السياسة، حتى لا تقوى الفرس مرة أخرى على الإغارة على اليونان، واستمر الحال كذلك حتى 266م؛ إذ تمكن أردشير بن بابك، من تأسيس الدولة الساسانية التي يعرف ملوكها بالأكاسرة، فوحد بذلك كلمة الفرس، وأعاد سلطانها إلى الأراضي العربية المتاخمة للبادية كالحيرة والأنبار، ولما وجد أنه لا قبل له بصد غارات العرب المستمرة، رأى من السياسة أن يبيح لهم السكنى في منطقة الحيرة، ومنحهم شبه استقلال لغرضين: الأول أن يتخذ منهم درءا يقي بلاده شر غارات البدو، وهم أقدر الناس على ذلك، فكانوا بذلك يكونون ما يعرف في الاصطلاح التاريخي باسم مملكة حاجزة، والثاني ليستعين بهم على الرومان، الذين كانوا في حروب مستمرة مع فارس.
وقد قلنا: إن مؤرخي العرب يقولون: إن عرب الحيرة من عرب الجنوب «قضاعة والأزد»، ولكن بعض المؤرخين المحدثين والمستشرقين، يرجحون أنهم من العرب الشمالية، ويستدلون على ذلك بعدة براهين، بعضها لغوية؛ لأن لغة عرب الحيرة تنطبق على العدنانية، ولا تمت إلى الحميرية الجنوبية بشيء، ومنها الأسماء التي تشبه في مجموعها أسماء عرب الشمال، وكذلك العادات والدين فإنها كلها أكثر انطباقا على عادات وديانة عرب الشمال، ونحن نميل إلى هذا الرأي، وإن كان لا يزال موضع افتراض وتمحيص بين المؤرخين. (2) مدينة الحيرة وسكانها
تقع الحيرة على نهر الفرات، على مقربة من أنقاض بابل، وعلى بعد ثلاثة أميال إلى الجنوب من الكوفة، وقيل إن العرب هم الذين سموها هذا الاسم من الحيرة أو الضلال، ولكن الصحيح أن اللفظ سرياني، مأخوذ من كلمة حرتا ومعناها الحصن أو الدير، وقد بدأت هذه المدينة صغيرة شأن كل المدن، ثم ازدهرت على مر الأيام في عهد دولة المناذرة آل نصر اللخميين.
أما سكانها فقد قسمهم ابن الكلبي إلى ثلاثة أقسام: (1)
تنوخ: وهؤلاء هم العرب الذين نزحوا من البحرين، والذين ذكرنا أنهم مختلف في أصلهم، هل هم عدنانيون أم قحطانيون؟ (2)
العباد: وهؤلاء هم الفريق الأصلي، الذي كان متوطنا في تلك المنطقة، والذين يؤخذ من تاريخهم أنهم كانوا نصارى على المذهب النسطوري، وأنهم كانوا أهل قراءة وكتابة وعلم بالإنجيل، وكانوا يزاولون الصناعة والتجارة أيضا، وربما سموا بالعباد؛ لأنهم كانوا يعبدون الله «أو المسيح». (3)
الأحلاف: وهم بعض أفراد من العرب، هجروا بلادهم لسبب من الأسباب، ونزلوا على تنوخ والعباد، وارتبطوا معهم برباط حلف، فسموا لذلك الأحلاف.
Unknown page