هؤلاء هم أشهر الذين تحركوا، وقد بقي باليمن كثير من قبائل حمير وكندة ومذحج وغيرهم، وكانت السيادة لحمير التي كونت الدولة الحميرية كما بينا آنفا.
الفصل الخامس
تاريخ الأنباط
(1) تمهيد
لم يكن عرب الجنوب الذين تكلمنا عن تاريخهم في الفصل السابق هم وحدهم الذين يسيطرون على شئون بلاد العرب التجارية والسياسية، بل عاصر بعض دولهم في شمال شبه الجزيرة ووسطها عرب آخرون، أقاموا دولا - أو بالحرى دويلات - صغيرة في عصر ما قبل الإسلام، وكانت هذه الدويلات العربية الشمالية - شأن دول الجنوب - تستمد قوتها في الغالب من التجارة، وتلعب في شمال بلاد العرب الدور الذي لعبته دول الجنوب في تجارة العالم القديم، وكانت هذه الدول أكثر اتصالا بالشعوب الساكنة في غرب آسيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، بحكم مجاورتها لها واستهلاكها للمتاجر الآتية من الجنوب، وكانت هذه الدول الشمالية شأن دول الجنوب تستمد قوتها في الغالب من التجارة، ولم تكن - لا عند نشأتها ولا عند تطورها - دولا حربية، ولكن هذا لا ينفي أنها كانت تلعب دورا سياسيا آخر؛ إذ كان بعضها يقوم بمثابة الدول الحاجزة، تفصل ما بين حدود الدول العظمى المتصارعة في الشرق والغرب، مثل دولتي فارس وروما، والدول التي سلفتهما، أو تحمي حدود هذه الدول من غارات البدو في الصحراء، وهذه الدول - بحسب ترتيب ظهورها أو تعاصرها - هي:
دولة الأنباط - دولة تدمر - دولة المناذرة - دولة الغساسنة - دولة كندة. (2) دولة الأنباط
كانت أقدم تلك الدول الشمالية، وقد ذكرنا في فقرة [موطن الجنس السامي الأول وهل هو بلاد العرب] أنهم هاجروا من وسط شبه الجزيرة حوالي سنة 500ق.م إلى الشمال الشرقي من شبه جزيرة سينا، واستعمروا المنطقة التي تفصل ما بين بلاد الشام وبلاد العرب، وتمتد من نهر الفرات إلى البحر الأحمر، وكان الأقدمون من اليونان والرومان يطلقون على بلادهم اسم بلاد العرب الصخرية، وقد استولى الأنباط من الآدوميين على مدينة البتراء واتخذوها عاصمة لهم، وهيمنوا منها على المنطقة المجاورة، وتقع البتراء «بطرة» إلى الشرق من وادي عربة في منتصف المسافة تقريبا ما بين رأس خليج العقبة والبحر الميت، وكانت تهيمن على طرق القوافل الممتدة منها إلى غزة في الغرب وإلى بصرى ودمشق في الشمال، وإلى أيلة «العقبة» في الجنوب، وعبر الصحراء إلى الخليج الفارسي في الشرق، والبتراء «بطرة» كلمة يونانية معناها صخر، وهي ترجمة للكلمة العبرية سلع، ويقابلها في اللغة العربية الرقيم، وهذا الاسم الأخير، هو الذي كان يطلقه الأنباط على مدينتهم، كما ذكر المؤرخ يوسفيوس، أما اسمها الحديث فهو وادي موسى، وهي تقع عن سطح هضبة عالية، وهي محصنة من نواحيها الشرقية والغربية والجنوبية، لا يمكن اقتحامها ولا يدخل إليها إلا من طريق ضيق متعرج، تبلغ سعته في أضيق نقطة اثني عشر قدما فقط، وفي الصخور والشواهق التي تحيط بها من كل ناحية كشف النقابون عن جبانة شاسعة منحوتة في الصخر يستطيع الرائي أن ينظر في طبقاتها - ذات الحجر الرملي - معظم ألوان قوس قزح، وقد زينت معظم القبور بوجهات منحوتة في الصخر لا تزال بحالة حفظ جيدة، كما كشفوا أيضا عن بقايا مسرح منحوت في الصخر يسترعي الإعجاب، وتعتبر المدينة البقعة الوحيدة بين نهر الأردن وأواسط بلاد العرب التي كان يوجد فيها الماء الصافي بكثرة، وفي هذه البقعة كان عرب الجنوب في رحلات قوافلهم إلى الشمال يحصلون على بدل جديد من الإبل والحداة، وبذلك كان الأنباط يكونون حلقة هامة في السلسلة التجارية التي كانت عاملا على ازدهار بلاد العرب الجنوبية.
ولا نعلم من تاريخ الأنباط شيئا يرجع إلى ما وراء سنة 312ق.م وهي السنة التي استطاع فيها الأنباط أن يصدوا حملتين وجههما ضدهم أنتيجونوس الأول، الذي خلف الإسكندر كملك على الشام وأن يعودوا منتصرين إلى عاصمتهم الصخرة، وقد انتفع الأنباط من تدهور السلوقيين أخلاف الإسكندر، فمدوا حدودهم إلى الشمال صوب المنطقة الأكثر خصبا، الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن، لقد احتلوا حوران، وحوالي سنة 85ق.م أصبح ملكهم الحارث «حاريثة أو أريتاس» سيدا على دمشق وما يجاورها من بلاد الشام، ومنذ ذلك الوقت اتصل الأنباط بالرومان - لأول مرة - اتصالا وثيقا، وفي سنة 47ق.م طلب يوليوس قيصر إلى مالك «مالكو أو ملخوس الأول» أن يمده بالفرسان لحرب الإسكندرية، وفي عهد عبيدة «عبيدات أو أوبوداس الثاني» اشترك وزيره سيلوس في الحملة التي قادها إيليوس جالوس في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر لغزو بلاد العرب الجنوبية سنة 24ق.م كما بينا في فقرة [الدولة الحميرية الأولى]، وقد وصلت دولة الأنباط إلى أقصى نفوذها في عهد الحارث الرابع (9ق.م-40م) إذ كانت تمتد إلى الشمال حتى دمشق وإلى الجنوب حتى الحجر أو مدائن صالح في شمال الحجاز، بما في ذلك سواحل البحر الأحمر المجاورة لهذه المنطقة، وقد أخذت مدينة بطرة منذ ذلك الحين تصطبغ بالصبغة الرومانية، حتى إذا كانت 106م اهتضمتها الإمبراطورية الرومانية، بسبب جشع الإمبراطور تراجان وقصر نظره، وكان ذلك في عهد آخر حاكم مستقل لها، وهو ربيل الثاني، ومنذ ذلك اليوم فقدت دولة الأنباط استقلالها، وأصبحت مقاطعة نظامية من مقاطعات الرومان، تعرف باسم بروفينسيا أرايبيا «أي مقاطعة بلاد العرب»، ولولا سوء تصرف تراجان هذا لاستمرت بلاد الأنباط تعمل حاجزا بين روما وغارات البدو من سكان الصحراء على أقاليمها.
واستمرت بطرة كمركز تجاري في عهد الاحتلال الروماني، ولكن عندما بلغ رخاء المدينة أقصاه في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي أبطل سك العملة فجأة، وربما كان ذلك بسبب اشتداد غارات البدو وتحريض الدولة الساسانية التي كانت حديثة الظهور إذ ذاك، ثم لا ننسى أن مدينة تدمر أخذت - في نفس الوقت - تزداد أهمية، وتجتذب إليها التجارة العربية، فأدى ذلك إلى تدهور بطرة التجاري. (2-1) حضارة الأنباط
كان الأنباط عربا كما تدل على ذلك أسماء بعض ملوكهم التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، ولكنهم اندمجوا مع الآراميين، وبرغم أنهم كانوا يتكلمون العربية الدارجة، إلا أنهم كانوا يستعملون الحروف الآرامية، التي كان يستعملها جيرانهم الشماليون، وذلك بسبب عدم وجود الخط العربي في ذلك التاريخ البعيد، ثم إنهم كانوا يستعملون اللغة الآرامية كلغة للعلم، ولكن الأغلاط التي كانت تحدث في النقوش الآرامية، واستعمال بعض التعبيرات العربية فيها، ينم عن اللغة العربية الأصلية لمؤلفيها.
Unknown page