ألا من يشتري سهرا بنوم
سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت
فمعذرة الإله لذي رعين (14)
وآخر ملوك التبابعة هو ذو نواس، وتتفق المراجع العربية مع الآثار والمراجع اليونانية في أخبار هذا الملك، ويقولون: إنه سمي ذو نواس؛ لأنه كان يرسل ذوائب من شعره على ظهره، وكان يهوديا، وهو صاحب حادثة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة البروج الآيات من 4 إلى 8، وتتلخص هذه الحادثة في أنه اضطهد النصارى، وحارب أهل نجران واقتحم مدينتهم، وقبض على عدد كبير منهم وأحرقهم بالنار، مما أدى إلى استنجادهم بالإمبراطور جوستنيان إمبراطور الدولة البيزنطية التي كانت تنتحل لنفسها حق الإشراف على النصارى، فكان أن أرسل الإمبراطور إلى ملك الحبشة لقربه من بلاد اليمن وبصفته نصرانيا، فأغارت الحبشة على اليمن، وأسقطت دولة التبابعة حوالي سنة 525 للميلاد كما سنبينه في الفقرة التالية: (3-6) الدور الحبشي من 525-575
ليست هذه أول مرة غزت فيها الحبشة اليمن، بل لقد سبق أن غزتها قبل ذلك مرتين أو ثلاثا، فقد عثر النقابون على أثر باللغة الحبشية تسمى به ملك الحبشة «ملك أكسوم وحمير وريدان وسلحين»، وقد أشرنا إلى غزو آخر في الفقرة السابقة.
ولم يكن الصراع بين الحبشة وحمير إلا صراعا بين اليهودية والمسيحية وكانت الحبشة المسيحية تعضدها الدولة البيزنطية، التي كانت تنتحل لنفسها حماية المسيحيين كما قدمنا. على أن هذا التعضيد من جانب الدولة البيزنطية لم يكن خالصا لوجه الدين؛ بل كان للعوامل الاقتصادية والرغبة في السيطرة على تجارة المشرق أثر كبير فيه، ولقد نجحت المحاولة في الآخر في سنة 525 إذا استمر خضوع اليمن للأحباش أكثر من نصف قرن، هذا ما تقوله المراجع اليونانية، ويميل إلى الأخذ به المستشرقون، أما المؤرخون العرب فيرجعون أسباب الغزو الحبشي إلى قصة أصحاب الأخدود، وهي في نظرنا تعتبر السبب المباشر للحرب ولا تنفي تطلع الرومان إلى ذلك من قبل، ونحن نلخصها في الفقرة التالية:
قصة أصحاب الأخدود
كان ذو نواس يهوديا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم، لهم رئيس يقال له عبد الله بن التامر، وكان من بقايا أهل دين عيسى رجل صالح يقال له فيميون وكان سائحا لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، فما زال يضرب في الأرض حتى وصل إلى نجران، فوجد القوم هناك يعبدون نخلة، فقال: لو دعوت إلهي الذي أعبده لأهلك النخلة، فقالوا: افعل، لئن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه، فصلى فيميون ودعا الله تعالى فأرسل عليها ريحا فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران.
وكان ذو نواس متعصبا لليهودية، وتابعته حمير عليها، كراهية منهم للأحباش الذين يعتنقون المسيحية، واتخذ ذو نواس من قتل غلامين يهوديين تكأة للفتك بنجران، فسير إليهم جيشا كبير العدد، ودخل مدينتهم وخيرهم بين اليهودية وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريبا من عشرين ألفا، ويرى الدكتور إسرائيل ولفنسن في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب»، أن عدد القتلى مبالغ فيه؛ إذ لم تكن نجران سوى بلدة صغيرة لا يزيد سكانها عن بضع مئات، وفضلا عن ذلك لم يقتل كل أهالي نجران، بدليل أن لهم ذكرا في أخبار صدر الإسلام، فليس من شك في أن عدد القتلى لم يدرك عشرين ألفا بوجه من الوجوه، فهي مبالغة ظاهرة سببها أن اضطهاد ذي نواس للنصارى كان عنيفا جدا، حتى إنه ترك آثارا أهاجت النفوس العربية في البادية والحاضرة، وقتلى نجران هم الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله تعالى:
Unknown page