ولم يرد في العهد القديم أو القرآن الكريم ذكر لاسم هذه الملكة، ولكن المفسرين وبعض المؤرخين من العرب وبعض شراح التوراة، قالوا: إنها هي بلقيس بنت شرحبيل، أو بنت الهدهاد، معتمدين في ذلك على بعض الإسرائيليات، والواقع أنه كانت هناك ملكة تسمى بلقيس، هي إحدى ملكات الطبقة الثانية من ملوك حمير المعروفة عند العرب بالتبابعة، حكمت في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد، وكانت ذكراها لا تزال تعمر أذهان بعض الناس، فحسبوها الملكة المعنية في القرآن.
وقد يكون من المناسب هنا، أن نشير إلى ما يذكره مؤرخو العرب، عن الطريقة التي تولت بها بلقيس الحكم، إذ يقولون إن أحد التبابعة المسمى مالك، كان فاحشا فاسقا خبيثا، لا يبلغه عن بنت ذات جمال إلا أحضرها وفضحها، حتى أتى بنت عمه بلقيس في قصرها، وكانت أعدت له رجلين وأمرتهما بقتله إذا دخل عليها، ولما قتلاه أحضرت وزراءه وأصدقتهم الخبر، وفوضت لهم أن يختاروا رجلا يملكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك، وملكوها لما رأوا من شهامتها وإبائها، وذلك على رغم كراهية العرب لتولية النساء الحكم.
وقبل أن نختم الكلام عن ملكة سبأ، نرى أن نشير إلى أن بعض المفسرين وغيرهم من المؤرخين، يشيرون إلى أن سليمان تزوج من ملكة سبأ، وأنجب منها ولدا، وللأحباش أسطورة انفردوا بها في هذا الصدد؛ إذ يعتبرون أن بيتهم المالك يرجع في أصله إلى ذلك الولد الذي أنجبه سليمان من سبأ، وهذا هو السر في أن نجاشي الحبشة كان يلقب بالأسد الهابط من سبط يهوذا.
سقوط دولة سبأ
على الرغم من المبالغات التي تصحب الكلام عن غنى سبأ وحضارتها، إلا أنه مما لا شك فيه، أنها كانت في القرون السابقة للميلاد في أوج عظمتها وازدهارها، ولقد كان هذا الازدهار يعتمد على أساس واحد، هو التجارة؛ ذلك لأن الطرق البحرية بين ثغور بلاد العرب الشرقية والهند كانت عامرة منذ قديم الزمان، وكانت الحاصلات الهندية - وخاصة التوابل والحيوانات النادرة كالنسانيس والطواويس - تنقل إلى ساحل عمان ومن هناك كانت تنقل عن طريق البر، حتى في القرن العاشر قبل الميلاد، إلى خليج العرب «البحر الأحمر»، ومن هناك كانت تحمل في المراكب إلى مصر، حيث يشتريها الفراعنة والعظماء، وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعل طريق البر مفضلا في نقل المتاجر بين اليمن والشام، فكانت طرق القوافل تبدأ من مدينة شبوة «سابوتا عند اليونان والرومان» في حضرموت، وتسير إلى مأرب عاصمة سبأ، ومنها إلى مكة، ومنها إلى البتراء «بطره» فغزة على ساحل البحر المتوسط، وقد ظل رخاء السبئيين مستمرا حتى تحولت تجارة الهند عن الطريق البري إلى طريق البحر، والراجح أن ذلك كان في أيام دولة البطالسة التي قامت في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، بمشروعات تجارية ترمي إلى الأخذ بنصيب موفور من التجارة الشرقية، ومن المشروعات التي قاموا بها في تحقيق هذا الغرض، تعبيد الطريق بين قنا والقصير، وإعادة بطليموس الثاني (285-246ق.م) فتح القناة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وبذلك صارت السفن تأتي من الشرق رأسا إلى مصر، واستطاع التجار المصريون من البطالسة أن يخرجوا من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، وأن ينافسوا التجار العرب منافسة خطيرة، فعملوا بذلك على تخفيض أثمان السلع تخفيضا واضحا، بعد أن كان أهل الغرب يضجون من شدة الغلاء، ومن الأثمان الباهظة التي كان يفرضها عليهم التجار من عرب الجنوب ثمنا لسلعهم، التي كانوا لا يجدون محيصا عن دفع أثمانها نقدا لشدة حاجتهم إليها في الأغراض الدينية أو الدنيوية.
وتذكر المراجع أن رجلا إغريقيا في أواخر العصر البطليموسي، أحاط علما بخفايا الطرق البحرية، وتغييرات الرياح الموسمية، يدعى هيبالس - ويلقبونه كولمبس تجارة البطالسة - نجح في الخروج إلى المحيط الهندي والعودة منه، وقد حمل معه حمولة من السلع المرغوب فيها، ذات القيمة العالية، ومن بينها القرفة والفلفل من الهند، وهي سلع كان الغربيون - بتمويهات التجار العرب - يعتقدون أنها من منتجات بلاد العرب الجنوبية، وقد قفى على أثر هيبالس هذا كثيرون غيره، فساهموا بذلك في ضرب الاحتكار العربي وتدميره، وترتب على ذلك أن انتقل ما كان بأيدي العرب إلى أيدي المصريين، وقلت إيرادات سبأ، فلم تعد تحتفظ بمنشآتها القديمة، كسد مأرب الذي أهمل، وانتهى به الأمر إلى أن يتصدع في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد (حوالي سنة 115ق.م) وكان تصدع سد مأرب، الذي كان من أعظم المباني السبئية العامة، والذي تكاتف أكثر من ملك سبئي على إقامته لأغراض اقتصادية، مؤذنا بسقوط دولة سبأ النهائي، وهجرة كثير من سكان اليمن إلى الشمال.
وحادث تصدع سد مأرب أو سيل العرم، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في الآيات من 15-19 من سورة سبأ.
هذا؛ ونظرا لأهمية سد مأرب، سنفرد للكلام عليه فقرات خاصة في آخر هذا الباب. (3-5) الدور الحميري
في الوقت الذي أخذت فيه دولة البطالسة في الازدهار، والاستيلاء على مقاليد التجارة العربية، كانت دولة سبأ في دور الاحتضار، وانتهى الأمر بسقوطها كما بينا، وعلى أثر سقوطها قامت مقامها الدولة المشهورة المسماة في التاريخ دولة حمير، ومن حسن حظ هذه الدولة، أن في الوقت الذي أخذت تظهر فيه، ابتدأت دولة البطالسة تضعف وتتلاشى أمام نفوذ دولة الرومان المتغلبة، وكانت نتيجة ذلك أن التجارة القديمة أخذت تعود إلى طريقها القديم طريق البر، كذلك كانت دولة القتبانيين قد سقطت أيضا في بلاد اليمن، فلم يكن للحميريين منازع في الطريق التجاري.
وقد عمرت دولة الحميريين نحوا من 640 سنة، يقسمها المؤرخون عادة إلى قسمين، معتمدين في ذلك على اختلاف ألقاب الملوك الواردة في النقوش، وهما: (1)
Unknown page