وكما كان لنساطرة الحيرة هذا الأثر الثقافي في الحجاز، كذلك كان ليعاقبة الغسانيين أثر في شعب الحجاز أيضا، وقد نقلوا إليه ما تأثروا هم به بحكم جوارهم لبيزنطة، ومن الأسماء التي شاع استعمالها نقلا عنهم أسماء داود - وسليمان - وعيسى وغيرها من الأسماء التي شاعت إلى حد ما قبيل الإسلام في بلاد العرب، على أننا يجب ألا نغالي كثيرا في هذا الأثر من اليعاقبة والنساطرة؛ لأن المسيحية - كما بينا في فقرة [المسيحية ببلاد العرب] - لم ترسخ أقدامها في بلاد العرب، ومن الألفاظ التي نقلها مسيحيو الغساسنة إلى اللغة العربية ما يأتي: كنيسة - وبيعة - ودمية - وصورة - وقسيس - وصدقة - وناطور - ونير - وفدان - وقنديل «وهذه مأخوذة من أصل لاتيني هو كنديل» - وقصر «وهذه مأخوذة من كسترم اللاتينية التي تحولت إلى قسطرا السريانية وقصر الآرامية.»
وتأثرت بلاد العرب بالتوحيد اليهودي، كما تأثرت بالتوحيد المسيحي؛ وقد سبق أن قلنا: إنه كان لليهود مستعمرات زاهرة في المدينة، وبعض الواحات الخصبة في شمال الحجاز، ومن الألفاظ التي دخلت العربية عن طريق العبرية لفظ جبريل - وصورة - وجبار، وقد أورد الجمحي في كتابه طبقات الشعراء تراجم الكثير من شعراء اليهود في المدينة، كما روى صاحب الأغاني كثيرا من أشعار اليهود ، ولكن الشاعر الوحيد اليهودي الذي وصلنا ديوانه - هو السموأل «صمويل» صاحب الأبلق قرب تيماء، وهو معاصر لامرئ القيس الكندي، على أنا لا نستطيع إذا تصفحنا شعره أن نتبين فيه ما يميزه عن بقية الشعر الوثني، وهذا هو الذي حدا بكثير من النقاد إلى الشك في يهودية السموأل، وقد سبق أن قلنا: إن اليهودية أصبحت في عهد ذي نواس دين الدولة الرسمي في اليمن.
وقصارى القول وحماداه أنا نستطيع أن نقرر باطمئنان أن بلاد الحجاز كانت في القرن السابق لبعثة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، تدوي بأصداء من تأثرات مختلفة بين عقلية ودينية ومادية، منعكسة من بيزنطة والشام وفارس والحبشة، سلكت سبيلها من ناحية الغساسنة واللخميين واليمن، ولكن إلى جوار ذلك نستطيع أن نقرر أيضا أن الحجاز لم تكن اتصالاتها بهذه النواحي من الحيوية بحيث تستطيع أن تطبع نفسها بذلك الطابع العالي لهذه الحضارة الشمالية.
ويخيل إلينا أن وثنية شبه الجزيرة قد وصلت - في هذا الدور - إلى درجة فشلت معها في أن تكون غذاء روحيا للشعب العربي، وكانت كافة الملابسات - وبخاصة بعد أن فشلت اليهودية والمسيحية في تثبيت أقدامها - تنبئ بأن تغيرا لابد أن يحدث، لقد كان الناس جياعا إلى الغذاء الروحي وعافت نفوسهم ما قدمته إليهم المسيحية واليهودية، فتلمسوا ذلك الغذاء الروحي في الحنيفية القديمة دين إبراهيم، ولكنهم كانوا حيارى، لقد عمت الفوضى في عالمي السياسة والدين، وكانت لحظة رهيبة، وكان العالم العربي بأجمعه، أو الشطر الأكبر منه على الأقل في حالة نفسية رائعة، كأنما كان ينتظر بفارغ الصبر ظهور دين عظيم، وزعيم قومي كبير، وإذا بالعناية الإلهية، المطلعة على خلجات الصدور، وخفايا الآلام، تبعث بالزعيم العربي ونبي الإسلام سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل صلاة وأزكى سلام.
Unknown page