فأما اللات «ولعلها مشتقة من كلمة الإلهة» فقد كان حماها وحرمها على مقربة من الطائف، وكان أهل مكة يحجون إليها ويقدمون لها القرابين، وكان لا يجوز أن تقتلع أشجار من حماها ولا يصاد ولا يراق دم آدمي فيه، وقد ذكر هيرودوت في تاريخه اسم «أليلات» من بين آلهة الأنباط.
وأما العزى «وهي مؤنث الأعز وكان يقصد بها الزهرة «فينوس» نجمة الصباح» فكانت تعبد في نخلة إلى الشرق من مكة، وقد ذكر الكلبي: «أن قريشا كانت تقدسها أعظم تقديس، وأن النبي عليه السلام وهو حدث قدم لها بعض القرابين.» (في ذلك شك)، وكان حرمها يتكون من ثلاث أشجار، وعبادتها تتطلب تقديم القرابين البشرية، وكان اسم عبد العزى من الأسماء الشائعة المحببة عند العرب وقت ظهور الإسلام.
أما مناة «من المنية وهي القضاء المحتوم» فكانت إلهة القضاء والقدر، ولعلها كانت من أقدم الإلهات عند العرب، وكان حرمها عبارة عن صخرة سوداء في قديد، على الطريق بين مكة ويثرب، وكان أعظم عبادها الأوس والخزرج، الذين ناصروا النبي عليه السلام في هجرته من مكة، ولا يزال النظامون العرب يشكون المنية والدهر في قصائدهم إلى يومنا هذا.
ونستطيع أن نقرر - بمناسبة هذه الإلهات الثلاث - أن عبادة الإناث كانت أسبق من عبادة الذكور في بلاد العرب؛ لأن العرب - شأن كل الساميين الأخر - كانوا يعلقون أهمية على دم الأمومة أكثر من دم الأبوة.
وكانت الكعبة مقر أوثان أكثر العرب وأصنامهم، وكان هذا من الأسباب الذي جعلت لمكة وقريش الصدارة على كل مدن الحجاز وقبائله، أما أشهر آلهة الكعبة، فكان الإله هبل «واسمه مشتق من لفظ آرامي معناه الروح»، وكان صنم هبل على صورة إنسان، ذكر المؤرخون أنه كان من العقيق الأحمر مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلت له يدا من ذهب، وكان تمثاله أعظم صنم معلق على الكعبة، التي كان بداخلها صنمان يمثلان إبراهيم وإسماعيل، وكان إلى جوار صنم هبل الأزلام وهي القداح أو السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، وكان الكاهن «وهو لفظ مأخوذ من الآرامية أيضا» يقرر مصائر الناس بوساطة هذه السهام، وقد ذكر ابن هشام في سيرته أن عمرو بن لحي الخزاعي هو الذي أحضر هذا الصنم من مؤاب أو العراق إلى مكة، ولقد أصاب بقوله هذا كبد الحقيقة؛ لأن اسم الإله يحمل ذلك الاسم الآرامي، ويقال أيضا: إن عمرو بن لحي هذا هو الذي أتى بإساف ونائلة من أرض الشام، ووضعهما في داخل الكعبة فعبدا، على أن هناك رواية أخرى تذكر أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة أتيا الفاحشة في داخل الكعبة فأحالتهما الآلهة أصناما، أما بقية القصة التي تقول إن عمرو بن لحي كان أول من أدخل عبادة الأصنام إلى بلاد العرب بنقله هبل، وأن العرب كانوا لا يعبدون أصناما قبل هذا - فهي بعيدة بعدا كبيرا عن الحقيقة، وقد لقي هبل هو والثلاثمائة وستون صنما التي كانت معلقة حول الكعبة مصرعها الأخير يوم الفتح على يد النبي
صلى الله عليه وسلم .
ولا يجولن بالخاطر أن ما ذكرناه عن وثنية بلاد العرب - يستلزم أنهم كانوا لا يعبدون إلا الأوثان أو الأصنام؛ إذ الثابت أن الشطر الأكبر منهم - إن لم يكن جميعهم - كانوا يعبدون هذه الحجارة والأصنام، لا على أنها صاحبة الحول والطول، بل على أنها وسيلة تقربهم إلى الإله الأكبر الذي كانوا يؤمنون به، فكانوا كما قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فأنت ترى أن الله تعالى كان معروفا لديهم، وكلمة «الله» هي صورة من صور لفظ الإله المضاف إليها أداة التعريف، مما يفهم منه أنه الإله الرئيسي، وقد عثر النقابون على نقوش قديمة فيها لفظ «الله»، وقد عثر على نقش في الصفا يرجع عهده إلى قبل الإسلام بخمسة قرون ورد فيه لفظ الجلالة على هذا الشكل «هالله»، ومعروف أن والد النبي عليه السلام كان يسمى عبد الله، وكان أهل مكة قبل الإسلام - يعتبرون أن الله هو الخالق المعطي القاهر فوق عباده، وهو الذي يفزع الناس إليه إذا اشتد الخطب، كما يستدل على ذلك من آيات كثيرة في القرآن نذكر من بينها قوله تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ، لقمان آية 25، وقوله تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ... إلخ.
Unknown page