Ma Hiya Sinima
ما هي السينما!: من منظور أندريه بازان
Genres
تشي فقرة في وسط ذلك المقال بأحد الدوافع من خلال التلاعب بمعنى كلمة أمانة: «قد يخبرنا رسم أمين للغاية حقا بالمزيد عن النموذج؛ لكن على الرغم من استثارة ذكائنا النقدي، فلن يمتلك أبدا القدرة غير العقلانية التي تملكها الصورة الفوتوغرافية على تغيير مسار إيماننا.»
51
لماذا لا يتساوى رسم «أمين» لجثة المسيح مع هذه الصورة الرثة في قوته النفسية؟ الآن ندرك الإجابة: يقول بازان إن الخواص الأيقونية التي تقلد بها صورة فوتوغرافية الهيئة المرئية لما تصوره، هي أقل سطوة بكثير من الصلة المادية للصورة بما تصوره، ومنزلتها بوصفها نسخة منه. في هذه الحالة، فإن الصورة الفوتوغرافية هي نسخة من نسخة مزعومة للمسيح؛ لأن الكفن كان بمنزلة طبعة مباشرة بملامسة جسد المسيح. تبجل صورة الكفن الفوتوغرافية فقط لأنها لا يفصلها عن الإنسان الإله، مصدر الخلاص، سوى نسختين مطبوعتين بطريقة الملامسة. «الإيمان» بالمسيح يثير الإيمان بهذه الصورة الفوتوغرافية رغم تواضعها الواضح أمام الرسومات أو اللوحات «الأمينة» التي تقدم وهم الحضور. على الجانب الآخر، فإن عدم نقاء تركيب هذه الصورة الفوتوغرافية يصدق على الحضور الغريب لغياب الجسد المتصلة به، مهما يكن ذلك ضعيفا. تكتسب كل الصور شيئا من الأصالة التي تبثها الشوائب على سطحها؛ لأن هذه تشير إلى أن الموضوع الحقيقي اختفى من الإشارة. ربما يقود بازان إلى دريدا ودولوز بتوسيعهما مفهوم «الفارق»، لكنه يقود هنا إلى موندازان، ويقود خصوصا إلى جان-لوك نانسي الذي لا يكتب عن الفارق بل عن «التشابه» الجزئي الذي يؤدي من وراء المظهر إلى حقيقة حاضرة بسبب غيابها من الصورة.
52
يشير بازان كذلك إلى أن الاقتباسات، مثل الصور، يمكنها الإشارة إلى حقائق وراء ظهورها.
في الواقع، ينظر إلى اقتباسات سينمائية معينة على أنها أيقونات لإبداعات أدبية دينية. بحلول الأدب محل الدين مصدرا للسمو في المجتمع العلماني، يكون الدارسون هم كهنة الثروة الروحية الموروثة المعاصرون. يتجسد الصراع بين الانتشار الأفقي (لشكسبير أو جين أوستن على سبيل المثال) والسلطة الفنية أو الأكاديمية الرأسية اليوم في مناقشات حول الدراسات الثقافية. كان بازان مهتما بكلا الاقتصادين؛ وكما يبين مقاله العظيم «من أجل سينما مشوبة»، فقد رآهما متصلين على نحو صارم؛ حيث تستفيد الاقتباسات الشهيرة من «قيمة» الأعمال الأصلية، لكنها تعزز في الوقت نفسه براعة السينما وهيبتها من خلال نوع من الأمانة.
يختتم المثال الرئيسي الذي يذكره بازان بالصليب العاري الذي يظهر في اللقطة النهائية لفيلم «يوميات قس في الأرياف». يذكرنا بازان بأن ما هو موجود ليس أكثر من ظل لصليب (مرسوم بشكل أخرق على بطاقة مقدسة عادية) يسقط على الحائط الذي يعلو جثة القس من خلال قضيبي نافذة. هذا «الافتراض» النهائي للصورة، هذا التجريد الروحي، أعد على مدى ساعتين من خلال تغشية صوت القس، وكتاباته في دفتر يومياته، والآثار البيضاء والسوداء للبشر والأشياء، حتى نصل في النهاية إلى «إنجاز مهيب للسينما النقية. ومثلما تعتبر الصفحة البيضاء لمالارميه وصمت آرثر رامبو لغة في أرقى حالاتها، فإن الشاشة، بخلوها من الصور وإرجاعها للأدب تعتبر انتصارا للواقعية السينماتوغرافية.»
53
علم فيلم بريسون العظيم بازان أنه يمكن لصناع الأفلام تحدي أنفسهم بتناول مادة أدبية غير سينمائية، وإنتاج «سينما مشوبة» من أفضل نوع ثقافي. باستغنائهم عن «الأمانة الوهمية» في النسخ، تعلموا من خلال بناء السيناريو وتصميم المشهد مواجهة رواية أو مسرحية، وإنتاج شيء قريب من توازن الشكل والأفكار، يعمل في نطاق العمل الأصلي. أنجز بريسون، دون أن يكون تقليديا أو آليا على الإطلاق في اقتباسه للأصل، «أمانة مدوخة تقريبا من خلال الاحترام الإبداعي الدائم لمصدره.» لذا، فالأمانة الأصيلة تحتاج إلى الإبداع، وكذلك حسن النية؛ مثل «الواقعية الحقيقية» التي ذكرها بازان في مقال «الأنطولوجيا»، متحديا بها واقعية المظهر السطحية. ومثلما تصل الواقعية الحقيقية إلى جوهر موضوعها من خلال عمليات الاسغتراب الذاتي، أو عمليات التلميح والحذف، هكذا تتخلى الأمانة الأصيلة عن الملاءمة الواضحة لصالح الجانب الإبداعي. ربما يكشف التقاء اللغات بشأن نص قوي عن شيء جديد عن النص الأصلي، وفي الوقت نفسه توسيع نطاق اللغتين المستخدمتين. بهذه الطريقة ما زال المنظور المحدود والنواقص والعيوب الحتمية لأي اقتباس سينمائي يستطيع تغيير هوية السينما؛ وربما وجودها. يساعد اللقاء التاريخي مع الأدب - ومع أي موضوع قوي - السينما في أن تصبح ما تريد أن تكونه.
قبيل نهاية حياته، أبدع بول ريكور، زميل بازان في مجلة «إسبري» دراسة فلسفية عظيمة يخدم عنوانها فرضيتي: «الذات بوصفها آخر». السينما، مثل «الذات» في الهوية الشخصية؛ لن تثبت مطلقا، لكنها في الوقت نفسه ليست سرابا؛ فهي تعتمد على لقاءات مع «آخر» (ما هو خارج نطاقها). ورغم أن جسمك ليست له خلية واحدة شكلتك «أنت» منذ ثلاثين عاما، وحتى إذا كانت ظروفك ومعتقداتك وأصدقاؤك قد تغيروا، يمكنك «إقرار» أفعالك، والالتزام بوعودك؛ يمكنك أن تحكي تطورك. تتراكم الهوية؛ وبدلا من أن تكون قائمة لقاءات مسلسلة زمنيا، هي، أكثر من ذلك، سرد للاكتشافات، تتبعه الوعود (حتى لو أخلفت )، والمواقف (حتى لو كانت أحيانا سريعة الزوال). وهكذا، فإن السينما تمضي قدما حيث تقابل آثار عالم أكبر؛ كما تمضي قدما كآلة ذكريات، مهيئة «نفسها» لما أصبحت عليه في هذه العملية من الاستكشاف والاشتباك بموضوع آخر، سواء أكان شخصا أم ثقافة أم زمانا.
Unknown page