ونحن إلى الآن ما زلنا نعيش في سياق النهضة التي انفجرت في النصف الثاني من القرن الخامس عشر في أوروبا، وبقيت في انفجارها هذا إلى نهاية القرن السادس عشر حين اتزنت وسارت سيرا وئيدا مطمئنا، إلى أن عادت فانفجرت مرة أخرى في فرنسا في آخر القرن الثامن عشر.
وفي إسكتلندا وغيرها من الأقطار الأوروبية لا تزال تسمى دراسة الكتب الإغريقية واللاتينية «البشريات» ومن هذه التسمية التي ترجع إلى ما قبل أربعة قرون يدرك القارئ هذا الفرق الذي ميزته أذهان الناهضين في القرن السادس عشر، فإنهم شعروا أن أسلافهم كانوا يدرسون الموضوعات التي تتعلق بالدين، وهي التي كانت تسكن الديور في صوامع الرهبان أي: «الإلهيات» من الفلسفة واللاهوت والصوفية، وتفسير الكتب المقدسة والتعليق على شرح القدماء فيما يتعلق بالدين، ولكن الناهضين انحرفوا عن هذه الثقافة، أو كفروا بها، وعمدوا إلى الوثنيين من الإغريق واللاتين يدرسونهم، فكانت دراستهم لهذا السبب «بشرية» وليست «إلهية».
وهذه الجراءة على الدراسة البشرية كانت أشبه الأشياء بالدعوة إلى تقرير المصير للذهن البشري، أي: إن للإنسان الحق في أن يقرأ ما يشاء، ولو كان المؤلف من كفار الإغريق أو الرومان القدماء، بل له أيضا أن ينتقدها، فسقطت بهذا الحق الجديد مكانة «أرسطاطاليس» وصار لأمثال «جاليل» أن ينقده وأن يجرب التجارب لكي يثبت خطأه، وأصبحت «التجربة» طريقة جديدة للاقتراب من الحقائق وبحثها.
وأول ثمرات الحركة البشرية الأولى هو «لوثر» المصلح الألماني، وهو نفسه كان بذرة لنهضة أخرى هي الحرية الدينية، فإنه ورث من النهضة حرية الذهن فأورث الناس حرية أخرى هي حرية الضمير، وقد كان هذا الرجل راهبا زار روما سنة 1511 فرأى من نظام البابوية وأخلاق البابوات ما أسخطه، ولكنه صمت وعاد إلى وطنه، فلما كانت سنة 1517 بعث البابا برهبانه لكي يجمعوا من المؤمنين ثمن الغفرانات، وكان على الراهب أن يعرض الغفران من العقاب في الآخرة فيشتريه الموسر ويناله الفقير بالمجان، ولكن لوثر لم يطق هذه النخاسة الدينية فعمد إلى لوحة كبيرة وكتب عليها 55 اعتراضا على بيع الغفرانات وعلقها على باب الكنيسة.
وعلم البابا بهذه الفعلة فاستدعاه لسؤاله أو محاكمته، ولكن لوثر أيقن أنه إذا سافر إلى روما فإنه لن يبرحها حيا؛ ولذلك بقي في مكانه يدعو إلى مذهبه فيجد المؤيدين كما يجد المعترضين، وعقدت له هيئة حاكمته وحكمت بحرمانه، ودعت الجمهور إلى مقاطعته وألا يؤاكله أو يعامله أحد، وأرسل إليه البابا «حرمانا» يجعله مطرودا من بركة الكنيسة ونعيم الآخرة، فأخذ لوثر ورقة الحرمان وأحرقها علنا بين الجمهور المعجب بجراءته، ولم يقف عند هذا الموقف السلبي، بل خالف الرهبانية وتزوج، ثم خالف قواعد الكنيسة وترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية، ومات سنة 1546 بعد أن ملأ أوروبا بالخلاف الديني وهيأها لحروب مذهبية دمرت مدنها وخربت ريفها، ولكنها أحيت نفوسها.
وأحيت نفوسها لأنها قررت مبدأ آخر إلى جنب حرية الذهن، هو حرية الضمير، و«تقرير المصير للنفس الإنسانية» وأن خلاص الإنسان ليس قضية يحكم عليه فيها الكهنة والكنيسة، وإنما هو مسألة خاصة بين الإنسان وربه، ولا شأن لحكومة أو فرد أو أي هيئة أخرى أن تتدخل فيها.
فانظر إذن في هذه الحركة البشرية الأولى، فإنها قررت استقلال الذهن البشري وحقه في أن يقرأ المؤلفين الذين ألفوا أو يؤلفون في غير «الإلهيات» حتى ولو كانوا كفارا من الإغريق أو اللاتين، ثم قررت استقلال الضمير وحق الإنسان في أن يناجي ربه دون أن يتوسل لذلك بالكهنة والكنيسة.
ومن هذا الحق الثاني نشأت حركات أخرى اتصلت بالحقوق السياسية والاقتصادية، بل لقد رأى لوثر نفسه أن حركة حرية الضمير أدت إلى ثورة الفلاحين على الأمراء، وأصبحت «حرية الضمير» كلمة مفيدة تقال في وجه الملوك لمنع الاضطهاد، وفكرة تبعث على التفكير الاجتماعي، بلا خوف من العرف الشائع والعادات الفاشية، وإذا كان لوثر نفسه قد احتفظ بعفونات ورواسب من القرون المظلمة جعلته يكره ثورات الفلاحين وحملته على الدفاع عن حقوق الأمراء والنبلاء، فقد أثمرت هذه الفكرة أيضا حرية السعي الاقتصادي والمزاحمة الحرة بين الأفراد، هذه الحرية التي بلغت قمتها في عصرنا حتى استحالت من الفائدة إلى الضرر، وحتى قامت الحكومات الحديثة تحد منها وتأخذ بالآراء الاشتراكية كي تحول دون ضررها، ولولا حرية الضمير هذه لما أمكن العلماء أن يكتشفوا ما كشفوا من حقائق علمية.
التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
كان التاريخ يكتب كي يكون معرضا، تسير فيه مواكب العظماء من الملوك والقواد والساسة والعلماء أو الأدباء، تروى فيه سيرهم وما اشتبكوا فيه من المعارك الحربية أو المناضلات الدينية، فلما ظهرت نظرية «التفسير الاقتصادي للتاريخ» أصبح المؤرخون يبحثون العوامل والعلل الاقتصادية لإحدى الثورات أو الحروب كما يبحثون عنها لتعليل أحد المستكشفات أو المخترعات.
Unknown page