مقدمة
القرون الوسطى
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
قصة الرقم 4
فضل العرب في القرون الوسطى
بذور الحركة البشرية الأولى
التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
رجل العلم ورجل الأدب
من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
داعية الشك الفلسفي
أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية
العرب أصل النزعة العلمية
الحركة البشرية الثانية
الحركة البشرية الثالثة
اللغة والنهضة
كلماتنا العربية الأوروبية
قبل خمسمائة سنة
طبيعة الحضارة الأوروبية
الثقافة تؤدي إلى الحضارة
الديمقراطية: نظام المجتمع
إني أخاف على وطني..
مقدمة
القرون الوسطى
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
قصة الرقم 4
فضل العرب في القرون الوسطى
بذور الحركة البشرية الأولى
التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
رجل العلم ورجل الأدب
من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
داعية الشك الفلسفي
أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية
العرب أصل النزعة العلمية
الحركة البشرية الثانية
الحركة البشرية الثالثة
اللغة والنهضة
كلماتنا العربية الأوروبية
قبل خمسمائة سنة
طبيعة الحضارة الأوروبية
الثقافة تؤدي إلى الحضارة
الديمقراطية: نظام المجتمع
إني أخاف على وطني..
ما هي النهضة
ما هي النهضة
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
نحن في نهضة فيجب أن نفهم معاني النهضة.
ويجب أيضا ألا نقف منها موقف المتفرجين، إذ علينا أن نعمل فيها ونعاونها، ونعيش اتجاهاتها نحو المستقبل.
النهضة ثراء وقوة وثقافة وصحة وشباب، ولكن قد يكون الثراء مؤلفا من نقود زائفة كما قد تكون القوة والثقافة والصحة والشباب خداعا وليس حقيقة. •••
كان «ابساماتيك»، فرعونا على مصر. تولى الحكم فيما بين 666-712 قبل الميلاد، وهو مؤسس الأسرة السادسة والعشرين، وكلمة «مؤسس»، تعني: إنه كافح أعداء، ونصب أهدافا، ودرس وحقق.
ولكنه كان رجلا خالص النية في خدمة وطنه أكثر مما كان ذكيا بصيرا بمستقبل بلاده، وكان أعداء مصر يحيطون بها، فمن الغرب غارات، ومن الجنوب غارات. وفى الشرق هزائم، والمستقبل مظلم والأمة مفككة، وولاء الشعب موزع بين الكهنة والعرش، والدسائس لا تنقطع.
وفكر الرجل في نية خالصة، وعزم حديد فيما أصاب مصر، وذكر تلك القرون الأولى حين كان «خوفو» يقول: شيدوا لي هرما، فما هي إلا سنوات حتى يراه ينطح السماء. وكان ابساماتيك يرى الأهرام كما نراها نحن الآن، وكان يقرأ التاريخ فيرثي لبلاده وضعفها.
وفكر، ثم فكر، وانتهى أخيرا إلى أن مصر لن يعود إليها مجدها الغابر إلا إذا رجعت إلى تقاليد هؤلاء الأسلاف، فأحيت الشعائر القديمة، ودرست نصوص الديانة القديمة، ونهضت بالفنون أساليبها القديمة، بل زاد على ذلك بأن عاد إلى سقارة حيث الأهرام، أي: حيث قبور الفراعنة من الدولة القديمة، فقال بوجوب العودة إلى دفن الفراعنة فيها.
وحسب ابساماتيك أن هذه نهضة، مع أنه كان يفصل بينه وبين خوفو من السنين مثلما يفصل بيننا نحن وبين ابساماتيك نفسه. «عودوا إلى القدماء».
كان هذا شعاره، وكان شعار الأفلاس؛ لأن مصر كانت في عصره أسمى مما كانت أيام خوفو كما يمكن أن نعرف ذلك مما قام به خلفه «نيخاو» الذي هيأ سفنا تدور حول أفريقيا، أين بناء الأهرام من مثل هذا العمل العظيم؟
إن ظروفا جديدة نشأت في الدنيا المحيطة بمصر، وكانت تحتاج إلى استنباط جديد.
ولم تكن تحتاج إلى الرجوع إلى الوراء نحو 2500 سنة تقريبا.
ولم تمض على مصر بعد ذلك مئة سنة حتى كان الأعداء من الأشوريين والفرس يكتسحونها ويغتالونها، ولم ينفعها شعار: عودوا إلى القدماء. •••
فيما بين سنة 500 وسنة 1000 استولى الظلام على أوروبا.
وكان ظلاما حالكا؛ لأن الثقافة كانت وقفا على الرهبان، يبحثون جغرافية العالم الآخر، وهم لا يدرون جغرافية هذا العالم، ويشرحون للناس كيف يجب أن يموتوا بدلا من أن يشرحوا لهم كيف يجب أن يعيشوا، ويشتبكون في مشكلات «ذهنية» أولى بها أن يبحثها الأطفال وأن يضحكوا منها، مثل قيمة الرقم 7 في الدنيا والآخرة، ومثل عدد الملائكة الذين يمكنهم أن يقفوا على رأس إبرة، ومثل مكان الروح من الجسم. الخ ...
كانوا يبحثون العقائد لا الحقائق.
ولكن رويدا رويدا تنبه الأوروبيون إلى أنهم جهلاء، ونظروا حولهم فوجدوا أن الأمم الإسلامية في إسبانيا وفي الشرق تحيا حياة القوة والذكاء، فقصدوا إليها يدرسون وينقلون مؤلفات ابن رشد، وابن سينا، وابن طفيل، وابن حزم، وغيرهم.
ثم لم يقنعوا بما ألفه المسلمون، إذ هم نقلوا أيضا للغة اللاتينية مؤلفات الإغريق القدماء التي كان المسلمون قد ترجموها إلى اللغة العربية، فعرفوا أفلاطون وأرسطوطاليس عن طريق اللغة العربية.
واستطاعوا أن يعرفوهم أكثر عندما هاجر الإغريق من القسطنطينية إلى أوروبا الغربية، فأصلحوا أخطاء الترجمة التي كان المترجمون المسلمون قد وقعوا فيها عندما نقلوا أرسطوطاليس وأفلاطون وغيرهما إلى اللغة العربية. •••
ومضى الناهضون يجترئون ويفكرون.
ولكن رويدا رويدا اتضح لهم أنهم قد خرجوا وتخلصوا من قدماء الكنيسة إلى قدماء الإغريق.
قدماء بدلا من قدماء.
وإن العرب لا يختلفون عن القدماء؛ لأنهم اعتمدوا عليهم، أي: على القدماء، حتى إن ابن رشد كان يعتقد أنه لم يخلق في العالم إنسان مثل أرسطوطاليس.
وعندئذ تساءل هؤلاء الناهضون: «هل المعارف الحقة الصادقة تؤخذ من الكتب القديمة أو تؤخذ من الطبيعة؟»
فقد كانوا يدرسون الطب مثلا في كتب جالينوس وابن سينا، ولكنهم لم يكونوا يعرفون تشريح الجسم البشري.
وهنا نجد رجلا الماني الأصل سويسري الوطن، ولد في 1493، يدرس القدماء ثم يلعنهم بدلا من أن يبارك عليهم، هو «بارا كيلسوس».
والاسم عجيب، فإنه اختاره لنفسه وترك اسمه الميلادي، ومعنى هذا الاسم «فوق كيلسوس».
وكيلسوس هذا الذي أعلن أنه فوقه عالم روماني كانت له موسوعة تدرس في الجامعات أيام القرون الوسطى بل بعدها.
أي: إن بارا كيلسوس يقول: «أنا فوق القدماء، أنا فوق عالمكم المحترم كيلسوس».
ولم يكتف بهذا، فإنه كان يلقى محاضراته في مدينة «بازيل» باللغة الألمانية، وهنا قف قليلا:
ذلك أن التعليم كان إلى وقته وبعد وقته باللغة اللاتينية في جميع جامعات أوروبا، ولكنه هو أبى أن يلقي محاضراته بهذه اللغة القديمة.
كان شعبيا، كان عاميا، أي: كان مع الشعب.
واجترأ على أن يعلم بلغة العامة، اللغة الألمانية، وكان أول من أقدم على ذلك في أوروبا جميعها.
وكانت محاضراته خاصة بالطب والعلاج.
وذات صباح بعد اختبار وقلق، وتساؤل وأرق، رأى أن يقف الموقف الحاسم في تاريخ أوروبا؛ بل في تاريخ الإنسان.
فلم يذهب إلى الكلية لإلقاء محاضراته كما كانت عادته.
ولكنه جمع مؤلفات ابن سينا ومؤلفات جالينوس، وحملها على ظهره إلى أن وصل وهو يلهث إلى ميدان المدينة، وهناك وضعها أمامه على الأرض وشرع يخطب:
إن القدماء ليسوا أفضل منا، وهم لا يعرفون مقدار ما نعرف.
إن دراسة القدماء نافعة، ولكن دراسة الطبيعة أنفع منها.
إن الكتب القديمة تحفل بالأخطاء، ولم يكن مؤلفوها معصومين.
إن الطب تجارب وليس تقاليد، إننا نتعلمه من الطبيعة وليس من الكتب.
واحتشد حوله، في سوق المدينة، أي: الميدان العام، فئات من الطلبة والأساتذة والعامة والخاصة، فلما انتهى من خطبته أشعل النار في كتب جالينوس وابن سينا. •••
لقد انطلقت في أيامنا حيوية جديدة في بلادنا تجدد القيم والأوزان في معاني الحياة والاجتماع والرقي، ولكننا لا نزال في اختلاط وارتباك وتردد لا نعرف هل نأخذ بالقيم القديمة أم بالقيم الجديدة.
ما هي النهضة؟
هل هي القيم القديمة؟
إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة: «عودوا إلى القدماء».
هل نعيد مأساة ابساماتيك؟ هل يعني الرقي والتقدم أن ندفن موتانا في سقارة؟
القرون الوسطى
تطلق عبارة «القرون الوسطى» على فترة من الزمن تبلغ نحو ألف سنة، تبتدئ من سقوط الدولة الرومانية الغربية سنة 476 على يد الجرمان، وتنتهي بسقوط الدولة الرومانية الشرقية سنة 1453 على يد الأتراك، وبدهي أن هذا التحديد بالسنوات هو اصطلاح تاريخي فقط، وإلا فإن الواقع يثبت أن بذور القرون الوسطى ظهرت في الدولة الرومانية منذ القرن الأول للمسيح، كما أن هذه القرون لم تنته بسقوط القسطنطينية.
ولكي ندرك مدى الرقي الذي يتمثل في النهضة أو النهضات الأوروبية يجب أن نعرف عمق الانحطاط الذي سبق هذا الرقي.
أي: يجب أن نعرف الهاوية التى هوى إليها الفكر البشري في القرون الوسطى.
والقرون الوسطى غير «القرون المظلمة» وإن كان كثيرون يطابقون بينهما، والمعول عليه الآن أن تطلق صفة الظلام على السنين الخمسمائة الأولى، أي: من سنة 476 إلى سنة 976؛ لأن هذه الفترة كانت في أوروبا فترة الركود الفكري، أما بعد ذلك فإننا نجد بوادر النهضة وبواكيرها.
وقد قلنا: إن بذور القرون الوسطى ترجع إلى الدولة الرومانية، وهذه الدولة التي بقيت متماسكة خمسة قرون متوالية كانت قوتها تنحصر في هذا التماسك، ولكن منذ القرن الأول بدأت عوامل التفكك تعمل فيها حتى إذا كان القرن الثالث والرابع استفاضت الفوضى، وأغار الجرمان على جسم الدولة.
ولكن يجب هنا أن يذكر القارئ أن الغارة لم تكن أجنبية؛ لأن هؤلاء الجرمان كانوا منذ القرن الأول للميلاد يتسربون إلى الدولة ويسرون في عروقها، تؤلف منهم الجيوش الجرمانية المحضة لرد غارة الجرمان، ويعين منهم القواد، حتى إذا كانت الغارة الأخيرة لم يكن الجيش المغير أجنبيا؛ لأنه كان يجد أينما حل أناسا من الشعب الذي ينتمي هو إليه.
وكان يربط الدولة أيام عزها جميعها إمبراطور يعبده جميع السكان ويضعونه في مصاف الآلهة، وكان لهم جميعهم قانون واحد تجري أحكامه عليهم هو القانون الروماني، وكانت الدولة مع ترامي أطرافها تتصل بالدروب الرومانية، فتنتقل أخبارها وجيوشها ومديروها بسرعة فائقة.
أما أيام الضعف والتضعضع فقد طرأ الفساد إلى مكامن القوة ومراكز الاتحاد، وأول ذلك أن استنت سنة في انتخاب الإمبراطور جعلت للجيش سلطانا على الانتخاب، فصار هو الذي يولي ويعزل، وصارت الحروب الأهلية تنشب بين جيوش الدولة؛ لأن بعضها يناصر إمبراطور دون الآخر.
ثم دخلت المسيحية فمحت عبارة الإمبراطور ومحت بذلك وحدة الدولة ووحدة الولاء، وتفشى الترف في القصر أو القصور الإمبراطورية، وكثرت تكاليفها، وأصبحت تكاليف الجيش عبئا كبيرا على المنتجين في الأمة، وهم جمهور المزارعين، فزادت بذلك الضرائب وصارت جبايتها التزاما لا يعرف المزارع كم يجب عليه أن يؤدي، وإنما على الملتزم أن يؤدي للدولة مبلغا معينا من المال من ناحيته، وله لقاء ذلك حق الاستعانة بالجيش في هذه الجباية الظالمة التي كانت تقع بأشدها على المزارعين النشيطين، واستوى بهذه الضرائب المجد والمتراخي؛ لأن الملتزم صار يأخذ كل ما يجده من الغلات، وصار الفلاحون يهجرون القرى إلى المدن حتى اضطر الإمبراطور إلى منعهم من هجرة قراهم.
ومن هذا المنع نجد البذرة الأولى للعهد الإقطاعي، حين أصبح الفلاحون عبيدا لمواليهم، وقد بقيت العبودية في فرنسا إلى سنة 1789 حين هبت الثورة الكبرى، ففي مدة القرون الوسطى نجد أنه كان لا يجوز للعامل في الضيعة أن يتركها إلا بإذن مولاه.
ثم كان تفشي الرق سببا آخر للضعف والسقوط، وامتلأت الدول بالأسرى الذين بيعوا رقيقا، ووجد أصحاب الضياع أن استخدام العبيد خير من استخدام العامل المأجور وأوفر عليهم وأبلغ ربحا، فاستكثروا من العبيد، وعمت الفاقة طائفة العمال الرومانيين.
وساءت الزراعة وقلت الحاصلات، فاضطرت المدن الكبرى إلى أن تتجر وتتبادل سلعها مع الأقطار البعيدة دون الريف الروماني، فانتقلت النقود من رومية إلى هذه الأقطار، وقلت بين الرومانيين، حتى كان الأباطرة ينزلون عيار الذهب في الدينار من وقت لآخر، أي: أن النقد «تضخم» فنقصت قيمته وزادت أثمان السلع، وعمت الفاقة، وتناقص السكان، وكان هذا التناقص مغريا لقبائل الجرمان بالتسرب والانسلال رويدا ثم الغارة الأخيرة.
وقد ذكرنا المسيحية من حيث إنها محت الوحدة الرومانية التي كانت تتجسم في عبادة الإمبراطور، ولكن دخول هذه الديانة الجديدة على ما نرى فيها من سمو المبادئ ونبالة الحياة التي تنشدها، كان سببا كبيرا في هدم الدولة، فقد حدث شقاق بين أبناء الأمة قطع اتحادها، وحسب القارئ أن يعرف أن «قسطنطين» أول الأباطرة الذين آمنوا بالمسيحية ترك رومية، وأسس هذه العاصمة الجديدة في شرق الدولة لكي لا يرى المعابد الوثنية، وهو في ذلك مثل «إخناتون» حين هجر طيبة ورحل إلى تل العمارنة يؤسس عاصمة جديدة لا يرى فيها صنم آمون، وإنما يرى رع.
وظهرت الكنيسة منذ أول ظهورها بمظهرها الذي عرفت به أيام القرون الوسطى، فأحرقت الكتب وهدمت الأصنام والمعابد؛ ولذلك يجب أن نرد «محكمة التفتيش» التي استطار شرها مدة القرون الوسطى إلى هذه البذرة الأولى التي ألقتها الكنيسة أيام تضعضع الدولة الرومانية.
والقارئ لتاريخ الدولة الرومانية لا يسعه إلا أن يقابل بين تضعضعها ثم سقوطها وبين ما جرى للدولة العباسية في بغداد.
فالجرمان وانسلالهم إلى جسم الدولة، ثم غارتهم الأخيرة، يشبهون الأتراك وانسلالهم إلى جسم الدولة العربية في بغداد ثم طغيانهم ثم محو الدولة على أيدى المغول، وجباية الضرائب وانحطاط الزراعة في العراق لا يختلفان كثيرا عما كانت عليه الحال في إيطاليا، حتى المقابلة في الآداب لتجوز هنا أيضا.
فإن الأدب العربي في القرنين الأول والثاني لا يعرف التزاويق والألاعيب البلاغية، وهو في ذلك مثل الأدب الروماني في القرنين السابق والتالي للميلاد المسيحي، ثم يشترك في التزاويق السخيفة ويذهب اللباب، وينحط التفكير وتبقى القشور والبهارج، وينسى الرومانيون لغتهم اللاتينية، وينسى العرب لغتهم العربية.. ويأخذ أمراء الجرمان في تأسيس الإمارات المستقلة عن رومية، ويأخذ أمراء الأتراك والمماليك في تأسيس إماراتهم المستقلة عن الخلافة.
وكما أعقب الدولة الرومانية قرون من الظلام ساد فيه التنطع الديني، كذلك أعقب الدولة العباسية قرون من الظلام ساد فيه هذا التنطع نفسه.
انحطاط الثقافة في القرون الوسطى
ليس شك في أن السبب الأساسي لانحطاط الثقافة أو ارتقائها أو صبغها بلون خاص، وتوجيهها إلى ناحية معينة دون أخرى هو السبب الاقتصادي، فإن الحال الاقتصادية كما تقرر لون الحضارة الراهنة كذلك هي إلى حد بعيد، تقرر لون الثقافة الراهنة، ويكفي القارئ أن يعرف هنا أن الثقافة في أيامنا لا تفشو وتتفرع، وأن التوليد في الفنون لا يزكو، إلا إذا كثر القراء وتوافرت المدارس، وتعددت المطابع، وراجت سوق الكتب وصار العلم والأدب يدر على العالم أو الأديب ربحا، وهذه حال تحتاج إلى الثروة والسعة والرخاء، أما إذا ضاقت البلاد بعيشها، فلم تستطع إنشاء المدارس للكافة وتغذية المطابع وإعالة العاملين في الأدب والفنون والعلوم فإن ميدان الثقافة يضيق، ويكون من ضيقه ضمور الذهن الإنساني بل ضمور الشخصية الإنسانية.
فعلى القارئ أن يذكر أن وراء كل نهضة ثقافية حركة اقتصادية بعثت عليها ونبهت إليها، ونحن نقنع الآن بأن نشير إلى أن ميدان التجارة أوفق للثقافة من ميدان الزراعة، فميدان الزراعة لركودها يقنع بما يشاكلها من ثقافة راكدة، بينما التجارة تطوف في أنحاء العالم وتفتح الطريق للجغرافيا والتاريخ والملاحة والفلك، بينما الصناعة تحتاج إلى مكتشفات متوالية عن الكيمياء والطبيعيات وغيرهما من العلوم.
كانت ثقافة مصر «الزراعية» في أكثرها عقائد جزمية ومعارف مشتقة تخدم الدين. ولم يكن المصريون يعرفون النظرية أو الرأي، بل يمكن أن نقول إن أدبهم وفلسفتهم لم يستقلا يوما من الأيام عن الدين، ثم ظهرت يونان «التجارية» فظهرت الفلسفة مستقلة من الدين كما استقل الأدب أيضا منه، ثم ظهرت النظرية الهندسية، وعرف شيء من الطبيعيات، ثم ظهرت روما «الصناعية» التي كان يتعجب اليونانيون أنفسهم مما فيها من منشآت هندسية، فزكت الثقافة وبعدت عن الرجم الفلسفي الذي كان يحبه الإغريق، واتجهت نحو المحسومات والعمليات.
ثم جاء الانحطاط مدة القرون الوسطى، وعمت الفاقة الناس، فأقفلت المدارس ولم يعد هناك جمهور قارئ يعيش معه النساخون، فندرت الكتب وزالت الطبقة المتوسطة، وجاءت المسيحية فزادت في تفاقم الكارثة، فإنها كافحت المدارس القديمة وحاربت العلماء، وانحصرت الثقافة عندئذ في صوامع الرهبان، وهؤلاء لم يقصدوا منها سوى غاية واحدة هي خدمة الدين، وهذا هو الانحطاط.
فإذا أنت أردت إن تلخص لنفسك معنى الانحطاط في القرون المظلمة، وكيف هجر الذهن البشري الفلسفة اليونانية والهندسة الإقليدية والنزعة العلمية الصناعية في رومية إلى الدين، والغيبيات في صوامع الرهبان، فاعلم أن هذا المعنى ينحصر في أن الثقافة قد أصبحت تخدم شئون العالم الثاني بدلا من أن تخدم الإنسان على هذه الأرض.
ففلسفة أرسطوطاليس أو أفلاطون لم يعد يقرؤها الناس كي يصلحوا هذا العالم، وينشدوا فيه سعادة دنيوية تزيد أجسامهم صحة وعقولهم نورا، ومدنهم نظافة وحكوماتهم عدلا، وإنما صاروا يدرسونها كي يعرفوا منها كيف يعيشون بعد الموت، وما هي الطبيعة الألوهية، وبعبارة أخرى نقول إن الانحطاط في القرون المظلمة إنما يعني انتقال الثقافة من البشرية والمادية، أي: خدمة البشر ومعالجة المادة، إلى الدينية أي: خدمة الدين والغيبيات.
ولهذا كانت النهضة قائمة على حركات بشرية، أي: النظر إلى هذه الدنيا كأنها الغاية التي ليس وراءها غاية تخدم، وإننا نحن البشر يجب أن تكون لنا آداب وفلسفات وعلوم لا تمت بأي صلة إلى الغيبيات، وإن علينا أن نعتمد على أنفسنا في تحقيق السعادة على هذه الأرض نفسها، وألا نزهد عنها إيثارا عليها للعالم الثاني، كما هي النظرة الغيبية، ومما يضر الشاب المصري ضررا كبيرا جدا أن نخدعه ونوهمه أن النهضة الأوروبية التي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى تعني شيئا آخر.
هذه النهضة تتضح لنا في ثلاث حركات بشرية: (1)
الحركة البشرية الأولى:
وهي التي ظهرت على أشدها في القرن الخامس عشر في إيطاليا ثم انفجرت في أوروبا، وقد اغتذت بدرس الإغريق والرومان، وأخرجت الفنون الجميلة من قيودها الدينية السابقة، فجعلتها تخدم البشر.
ولم يتجه الأدباء إلى الإغريق والرومان كي يحاكوهم، فإن المحاكاة في نفسها انحطاط، وإنما هم اتجهوا إليهم؛ لأنهم رأوا منهم أشخاصا يشبهونهم من حيث الرغبة في مزاولة الفنون والعلوم والصناعات نشدانا للسعادة والاستمتاع في هذه الدنيا، فاتجاههم هذا ليس سببا أصليا للنهضة وإنما هو إحدى نتائجها، أما السبب الأصلي فيرجع على الأرجح إلى عوامل اقتصادية، وقد تستطيع أن تقول بعد ذلك إن وقوف الأوروبيين على ثقافة الإغريق والرومان قد دفعهم إلى الأمام في نهضتهم، وقد يكون هذا صحيحا، ولكننا عندئذ لا نرى في هذا الدفع سوى أن النتيجة السابقة قد استحالت إلى سبب.
وكما اتجه الناهضون من الأدباء إلى الإغريق والرومان كذلك اتجه العلماء منهم إلى العرب، فعرفوا الطريقة الجديدة في درس العلوم بالتجربة ونشدان الفائدة العملية المحسوسة منها. (2)
لحركة البشرية الثانية:
التي ظهرت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، وكان القائمون بها ديدرو، وفولتير، وروسو وغيرهم من الأدباء والفلاسفة، وهي الحركة التي أعدت العدة الذهنية للثورة الفرنسية الكبرى، بل كانت هي نفسها الثورة التي كان منها إعلان حقوق الإنسان، وهي حقوق مازال كثير من الأمم محرومين منها إلى الآن. (3)
الحركة البشرية الثالثة:
هي التي ظهرت عقب ظهور داروين وكتابه «أصل الأنواع» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنها سمت بالإنسان إلى مركز السيادة للدنيا، وجعلته ينظر إلى مستقبله كأنه طوع إرادته، وهي حركة ما زلنا نحن في غمرتها ولم ننته إلى نهايتها.
وإذا تأمل القارئ هذه الحركات الثلاث كما سنفصلها ألفى هذا الذي نقوله صحيحا، وهو أن النهضة لم تعن في الماضي، وهي لا تعني الآن شيئا، سوى «البشرية» أي: إن البشر، أو الإنسان، يجب أن يشتغل ويعتمد على نفسه في هذا العالم، ويعمل لحضارته وسعادته في جراءة وفهم، إذ ليس له في هذا الكون كله ما يعتمد عليه سوى عقله، وليس له خلاف هذا العالم عالم آخر يمكنه أن يطمع في تحقيق سعادته فيه، وأن الانحطاط لم يعن في القرون الوسطى، وهو لا يعني الآن في الشرق أو الغرب، سوى قصر الذهن البشري على خدمة «ما وراء الطبيعة» ونشدان السعادة والهناءة في غير هذه الأرض، والاقتصار من الفنون والعلوم على خدمة الآراء بل العقائد الدينية.
قصة الرقم 4
لو إننا سألنا عن السمة الغالبة للتفكير في القرون الوسطى لكان الجواب إنها السمة الغيبية.
ومعنى ذلك أن المؤلف كان ينظر للأشياء نظرا غيبيا لا يبرره العقل، وإنما تبرره العقائد، أي: إنه كان يرى أو يشعر بقوة خلف الظواهر الطبيعية، وهذه القوة لا تنزل على أصول العقل، فالنظر الغيبي يقتضي الإيمان بالسحر والشياطين وحساب الجمل والتنجيم، وهذه كلها نراها واضحة عند جميع المؤلفين الذين كتبوا في القرون المظلمة.
ولكن هذه السمة تستتبع سمات أخرى منها، إننا نعدم الثقافة المنظمة، ونجد بدلا منها معارف ليست لها غاية أو هدف، ومنها أن المؤلف، وإنما هو يبغي خدمة الكنيسة، يتجه بتأليفه نحو خدمة الشعب، ومنها العناية بالسلف والشعور بأن النقص الذي نراه في العالم سواء في الأخلاق أو الحكومة أو غيرها إنما هو فساد حاضر حديث بعد اصلاح سابق، وأن السبيل إلى معالجته تقتصر على الرجوع إلى طريق السلف دون التفكير في ابتكار طريقة جديدة للمستقبل.
ويجب أن نقول: إننا نحن أنفسنا لم نتخلص إلى الآن من هذا النظر الغيبي كل التخلص، والكتب العربية القديمة وبعض الحديثة تنظر هذا النظر في كثير من النواحي.
وإذا نظرنا نظرة عاجلة في كتاب «حياة الحيوان» للدميري وجدنا أن هذا الموضوع العلمي، أي: الحيوان، ينظر إليه المؤلف نظرة غيبية، ونجد فيه هذه السمات: (1)
أنه يتكلم أحيانا عن السحر والعفاريت كأنها حقائق ملموسة. (2)
أنه ينظر إلى السلف كأنهم المثل الأعلى، ويعتمد في معارفه على رواية الكتب القديمة. (3)
أنه يرى أن الغاية الوحيدة للمعارف هي خدمة الدين، ولذلك لا ينسى عندما يتكلم عن البرغوث أو الصرصور أن يقول هل أكلهما حلال أو حرام؟ (4)
أن المعرفة عنده ليست ثقافة يقصد منها إلى غاية معينة، وإنما هي حقائق تحتشد في ذهنه بلا نظام أو قصد، حتى لقد أدمج في حياة الحيوان تراجم الخلفاء وتكلم فيه عن الطب، والشريعة، والصرف، والنحو، والفلك.
وقد اخترنا «حياة الحيوان» لأن هذا الموضوع، الحيوان، لا يمكن إلا أن يكون موضوعا علميا تدون فيه المشاهدات ويقتصر عليها، ولكن كتاب القرون الوسطى لم ينسوا عند ذكر الحيوان قصة الهدهد مع سليمان يضيفونها جنبا إلى جنب مع مشاهدة علمية دقيقة، فهم ينظرون للدنيا نظرا غيبيا، ويعتمدون في كل ما يكتبون على السلف، وقد يحق لنا أن نقف هنا فنتساءل: لماذا نظر الناس في تلك القرون هذه النظرة الغيبية؟ ولماذا لم يسيروا على النهج الذي نهجه الإغريق القدماء مثل أفلاطون أو أرسطوطاليس؟
وهنا يجب أن ننبه إلى أن هذا النظر الغيبي يرجع في بعض نواحيه إلى الإغريق، كما يتضح من أفلاطون، ثم إن الانحطاط الذي شمل الدولة الرومانية وما أعقبه من فوضى قد حصرا التعليم بين طبقة صغيرة جدا من الناس، وإذا انحصر التعليم كبر في ذهن المتعلم شأن السلف، ثم إن مقاومة الدين للثقافة القديمة وإلغاء المدارس الوثنية جعلا التعليم كله دينيا فأصبح المتعلم، الذي نشأ على الفصل بين الروح والجسم، والإنسان والشيطان، ينظر هذه النظرة نفسها إلى الأشياء الأخرى ويصر، بالعقلية التي اكتسبها من التعليم الديني، على أن يرى في الكواكب والأرقام معاني أخر غير ظاهرهما الطبيعي، ثم لما اعتمد المتعلمون الاعتماد الكلي على السلف زالت ثقتهم بأنفسهم، فكفوا عن التفكير والابتكار واتجه نظرهم إلى الماضي دون المستقبل.
ويمكننا دون أن نخطئ أن نسمي القرون المظلمة، سواء بين العرب أو الغربيين، بالقرون الغيبية، وهي سواء عند الاثنين في السمات، هنالك نجد العلم في الأديان يحمله الرهبان، وهنا نجد الغيبيات تغير على الكيمياء والشعر والتاريخ والأدب عامة.
وارجح الظن أن النظر الغيبي لم يبلغ عند العرب ما بلغه في أوروبا؛ ولذلك يمكننا أن نقول: إن الظلام لم يعم العالم العربي بالمقدار الذي عم به العالم الأوروبي، وإن كنا نحن ما زلنا نتعثر بهذا النظر الغيبي إلى وقتنا هذا.
وقد ذكرنا كتاب «حياة الحيوان» للدميري، ونحن نذكر إلى جنبه كتابا آخر لراهب إنجليزى يدعى «برتفرت» الذي مات سنة 1011 للميلاد حين انحدر الذهن الأوروبي إلى أحط دركاته، والكتاب خليط من المعارف، يكفي القارئ ان ننقل منه هذه النبذة من كلام المؤلف عن الرقم 4 حيث يقول: «إن الرقم 4 هو رقم كامل وهو يتحلى بفضائل أربع هي: الاستقامة، والاعتدال، والجلد، والتصبر، ثم هذا الرقم يتتوج بالفصول الأربعة في السنة، وهذه أسماؤها: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، ثم هو تزينه أيضا مذاهب الإنجيليين الأربعة الذين يقال إنهم الحيوانات الأربعة التي ذكرت في كتاب حزقيال النبي المشهور، ثم هذا العدد هو عدد محترم إذ انه اسم الله «في اللاتينية» وهو أيضا اسم أول إنسان خلقه الله وهو آدم، ثم هو رقم له جاذبية لا يمكن أن نمر بها ونحن سكوت، وأنا أعني بذلك أن هناك زمنين للاعتدال الشمسي، وزمنين للانقلاب الشمسي، وهناك أربع رياح أصلية هي الرياح الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية.
وهناك أيضا أربعة عناصر: الهواء، والنار، والماء، والتراب، وهناك أربع جهات للدنيا هي: الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، وإذا درسنا هذه الأجزاء بعناية وجدناها جميعها في اسم «لآدم» طبقا للأعداء الإغريقية» ا.ه.
وقليل من المؤلفين العرب من انحط إلى هذه الدرجة، بل لا أكاد أعرف واحدا بلغها، وهو، أي: برتفرت، في كل ما يقوله يعتمد على أحد الثقات من السلف حتى جدول الضرب لا يأتمن فيه نفسه بل يرده إلى أحد السالفين، وعنايته بالألفاظ لا تقل عن عناية الدميري.
على أن هذه القطعة التي نقلناها تدل القارئ على النظر الغيبي، وهو أنه يرى علاقة واضحة بين الاسم اللاتيني لآدم وبين ظواهر الكون، أي: إن الإنسان «كما قال ابن سينا» هو العالم الأصغر للعالم الأكبر، ومن هنا تبرير التنجيم لأننا نحن والنجوم من طبيعة واحدة، بل من هنا نسبة الصفات الإنسانية للأرقام والأجسام والإيمان بالسحر والأرواح والشياطين.
وقد تخلصنا من كثير من هذه الثقافة المظلمة، ولكن النور الجديد، نور العلم، لم يقشعها كلها.
فضل العرب في القرون الوسطى
عندما نقرأ كتب التاريخ الأوروبية نجد أخبارا صغيرة تطفو على تيارات الحوادث نفطن منها إلى الدخائل المستورة في الاتقاء الأوروبي وتطور الثقافة، ونلمح فيها عقول العرب وأيديهم.
فمن ذلك مثلا إننا نجد أن الأوروبيين كانوا يرحلون إلى مدن الأندلس كي يتعلموا فيها كما يرحل أبناؤنا هذه الأيام إلى مدن أوروبا لمثل هذه الغاية.
ثم هناك أيضا هذه التهمة التي كان يتهم بها المفكرون مثل «روجر بيكون» فإن هذا الراهب الذي قال بالتجربة العلمية ودعا إلى الاختراع والإيمان اتهم بالإسلام؛ لأن المسلمين كانوا في ذلك الوقت دعاة للعلوم، فكانت كل فكرة جديدة تعزى إليهم ويتهم قائلها بالكفر لهذا السبب، أي: إنه لم يكن مسيحيا مخلصا، إذ هو قد أخذ بعادات المسلمين في التفكير، ولا بد أنه آمن كذلك بدينهم.
حتى جاء «جان دارك» التي حاربت الإنجليز وطردتهم من فرنسا، عندما قالت بأنه يجب ألا يكون هناك وسطاء بين الإنسان وربه «مثل الكهنة» اتهمت أيضا بالإسلام، إذ ليس في الإسلام كهنة.
وكلنا يعرف قصة «روجر الثاني» ملك صقلية الذي استخدم العالم الجرافي المسلم الإدريسي، فإنه استقدمه من إفريقيا الشمالية وكلفه تأليف كتاب في الجغرافيا كما كلفه أيضا أن يصنع له كرة تمثل الأرض، وقد صنعها له من الفضة، وهذا في الوقت الذي لم يكن الأوروبيون يسلمون فيه بكروية الأرض.
وإلى هذا أيضا يجب أن نذكر عشرات الكتب العربية التي ترجمت أي: اللغة اللاتينية التي كانت لغة الثقافة إلى القرن السادس عشر.
وقد كان العرب فيما بين سنة 700 وسنة 1300 ميلادية أرقى الأمم في العالم كله بلا استثناء، وعلة ذلك إنهم كانوا يملكون البحار، وكان البحر المتوسط أقرب إلى أن يكون بحيرة عربية من أن يكون مجازا للملاحة الدولية، ثم كان المسلمون من العرب وغير العرب، يقطنون أقاليم متراحبة من الصين شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا، وهذا التراحب جعلهم يختلطون بالكثير من الأمم ويعرفون الكثير من الصناعات والتجارات.
ولنضرب مثالا على ذلك موسى بن ميمون الفيلسوف المصري اليهودي أيام صلاح الدين، فإنه كان يقيم في القاهرة، وكان له أبناء يتجرون بالجواهر وغيرها فيما بين الهند شرقا والأندلس غربا.
وأعظم ما يرقى بالثقافة ويزيد المعارف، ويحرك النقد بالمقارنة هو الاختلاط بين الأمم؛ ولذلك كانت الأمم العربية، لاتساع رقعة الأقطار التى كانت تسكنها، ولاختلاطها بالعديد من الأمم، على اتصال بالثقافات وعلى اختمار وتطور لا ينقطعان.
ونستطيع أن نقول إن هذا الاتساع العربي كان أحد الأسباب، بل ربما أعظم الأسباب، للنهضة الأوروبية التي انفجرت في القرن الخامس عشر، ذلك أن العرب نقلوا إلى أوروبا أربع وسائل للثقافة هي: (1)
الأرقام الهندية. (2)
صناعة الورق. (3)
الكتب الإغريقية القديمة. (4)
التجربة العلمية.
ولنبدأ بالوسيلة الأولى وهي الأرقام، فإنهم في أوروبا يسمونها «العربية» ونحن نسميها الهندية، وهذه الأرقام هي الآن لغة العالم، ومن المحال قطعا أن يتقدم العلم بلا أرقام، ونعني بلا أرقام هندية، وقد كانت الأرقام الشائعة في أوروبا قبل ذلك هي الأرقام اللاتينية التي لا تصلح إلا للعد البسيط، أما حيث نريد الآلاف والملايين، فإنها لا تصلح بتاتا.
وبظهور هذه الأرقام في مدن أوروبا شرع العلم يخطو.
ومن عجيب ما نذكره أن الأرقام الأوروبية هي أرقامنا الأصلية التي سلمناها إلى أوروبا، ولا يزال المغرب الأقصى يستعملها، أما أرقامنا الحاضرة فجديدة، ولا تزال كلمة «الصفر» مستعملة بهذا اللفظ في أوروبا للمعنى الذي نقصده منه في حسابنا، وكذلك كلمة «الجبر» وهو اختراع عربي صرف.
وإذا كان فضل الاختراع للهنود في هذه الأرقام فإن فضل نقلها إلى أوروبا وإشاعتها في أنحاء العالم للعرب، وإذا كانت أوروبا تعتز بالعلم، وهو قوتها وحضارتها، فإن هذا العلم ما كان لينشأ أو ينمو بدون الأرقام الهندية.
ثم هناك الورق الذي عرف العرب صناعته في الصين وأقطار المغول والتتار، فنقلوا هذه الصناعة إلى إفريقيا ثم إلى الأندلس، ثم إلى أوروبا.
وهل يمكن أن تكون هناك ثقافة، ونعني ثقافة عصرية تصل إلى أفراد الشعب بالجريدة اليومية مثلا، بلا ورق؟
هذا غير ممكن.
لقد عرفت الأمم القديمة «ورق» البردي المصري، ولكنه لم يكن يكفي الحضارة المصرية، ولم يكن ليتسع لضروب الإتقان والدقة في إبراز الحروف مثل الورق المصنوع، حتى يجعل القراءة ميسورة واضحة تحب ولا تمج.
الأرقام العربية والورق هما بلا شك أعظم الوسائل للثقافة وللحضارة الأوروبيتين أو الغربيتين في العصر الحاضر، والفضل في نقلها إلى القارة الأوروبية يعود إلى العرب، والعرب وحدهم.
بقي هناك فضل ثالث يقول به الأوروبيون ويكبرون من شأنه، هو أن العرب نقلوا بعض الكتب الإغريقية القديمة، مثل مؤلفات أرسطوطاليس أفلاطون وفيثاغورس ونحوهم، إلى العربية، فنقل الأوروبيون هذه المؤلفات من العربية إلى اللاتينية.
واعتقادي أن الفضل هنا ليس كبيرا، وقيمته إنسانية أكثر مما هي ثقافية، أي: إنها ربطت أوروبا بالإغريق القدماء، وفتحت لهم آفاق الماضي وجعلتهم على وجدان بأن الثقافة البشرية موصولة وليست مقطوعة، وبكلمة أخرى نقول: إن قيمة الثقافة الإغريقية التي نقلها العرب، ثم الأوروبيون عن العرب هي تاريخية، ودراسة التاريخ هي دراسة إنسانية أكثر مما هي أدبية أو علمية.
بل نستطيع أن نقول إن دراسة الإغريق القدماء قد عطلت أحيانا الارتقاء الثقافي، فإن «فكريات» أفلاطون جمدت التفكير البشري، بل لاتزال تجمده، كما أن أرسطوطاليس كان عبئا على الثقافة الأوروبية بضعة قرون؛ لأن كلماته كانت مقدسة، حتى أن برلمان باريس عين عقوبة لكل من يخالفه أو يعارضه.
إن الحضارة الأوروبية الحاضرة هي حضارة العلم الذي ينهض على التجربة، وقوة أوروبا هي قوة الصناعة التى تنهض على العلم.
وفيما بين سنة 1000 وسنة 1300 لا نكاد نعرف أمة تؤمن بالتجربة وتقبل عليها غير الأمم العربية، فصحيح أن كثيرا من تجاربها كان مخطئا، إذ كان القائمون بها ينشدون هدفا خياليا هو إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، ولكنهم في غضون هذه التجارب عثروا على معادن ثمينة في الكيمياء كان لها بعض الشأن في الطب وغيره.
ولكن ليست العبرة بما عثروا عليه، وإنما بالأسلوب الذي اتبعوه، وهو الوصول إلى المعارف الجديدة بالتجربة اليدوية، وهذا هو العلم.
لأن العلم ليس تفكيرا مجردا يفكر به العالم وهو على كرسيه أمام منضدته فقط، فهذا التفكير وإن يكن ضروريا يحتاج إلى التصحيح والتطبيق بالتجربة في المعمل ثم المصنع، وهذا هو الأسلوب الذي يعزى إلى علماء العرب.
والأمة العربية في عصرنا الحاضر قد تخلفت عن أوروبا؛ لأنها أهملت العلم والصناعة، ولن تستطيع أن تستعيد مكانتها في قافلة الارتقاء البشري إلا إذا أخذت بالعلم والصناعة.
بذور الحركة البشرية الأولى
كلما ذكر الإنسان القرون الوسطى خطر للذهن تسلط الكنيسة وحجرها على الحرية الذهنية، وليس شك في هذا التسلط وهذا الحجر.
ولكن يجب ألا ننسى أن الانحطاط لا يعني أن هناك أذهانا متنبهة قد حجرت عليها الكنيسة وصارت تمنعها من التفكير الحر؛ لأن هذه الحال هي حال اليقظة والتنبه على الرغم من هذا الحجر، وإنما حقيقة الانحطاط في القرون الوسطى تعني أن الذهن البشري نفسه قد انحط، فصار ينظر إلى الدنيا من زاوية العقيدة والمذهب، وأخذت العقائد مكان الآراء، والجزم مكان الشك والبحث.
فمنذ القرون الأولى للمسيحية أخذ الناس، أو تلك الأقلية التي كانت تقرأ، يدرسون لغاية واحدة هي خدمة الدين، وعندئذ أصبح الرجل المثقف، وهو في الغالب راهب، يدرس السموات السبع كما ندرس نحن الآن جغرافية إفريقيا، وهو يفعل ذلك، لا؛ لأن الكنيسة تمنعه من درس الطبيعة أو العلم بل؛ لأن هذا هو مزاجه الذي اكتسبه بعد مئات من السنين عدم فيها الناس كتب الإغريق والرومان أيام نهضتها وأصبح الكتاب المقدس موضوع درسهم يقرءونه ويغلقون عليه.
وهذا هو «العصر الجليدي» الذي أصاب الذهن البشري في أوروبا، إذ أصبحت الفلسفة غيبيات غايتها إثبات حقائق الدين ورواية الرسل، وزال الروح العلمي تمام الزوال، فإن هذا الروح كان قد ابتدأ بداية ضعيفة جدا في الإسكندرية، ولكنه ما كاد ينهض حتى مات عقب زوال البطالمة، وبقيت الحال على ذلك إلى أن عاد يتعثر على أيدي العرب في الأندلس.
والمشهور عن القرون الوسطى أن النقل فيها أخذ مكان العقل، ولكن هذا القول ليس صادقا بأكمله، فإنه إذا كان من المسلم به أن العلماء الرهبان كانوا يعتمدون كثيرا على الرواية وما يشبه العنعنة، فإنهم كانوا يعتمدون في أواخر القرون الوسطى على العقل، وذلك إنهم كانوا يفكرون، ولكن تفكيرهم لا يخرج عن حدود الدين؛ ولذلك جعلوا الفلسفة الأوروبية لاهوتا، ولذلك أيضا نجد في النهضة الأوروبية ثلاث نزعات ذهنية مختلفة تناقض نزعات القرون الوسطى. (1)
النزعة الأولى:
هي الرجوع إلى القدماء في الفنون، وتكاد هذه الحركة تكون نزعة وثنية، فإننا نرى الرسام أو المثال، مع رغبته في خدمة الدين، لا يتقهقر أمام موضوع وثني، فإنه يرسم أو ينحت الآلهة كما يرسم أو ينحت الملائكة أو العذراء؛ لا يشعر وهو يفعل ذلك أنه قد تلبس بالكفر والإثم كما كان يشعر أسلافه بين القرنين الثالث والعاشر. (2)
النزعة الثانية:
هي درس الكتب التي لا تتصل بالدين، كأن الإنسان قد يشعر في النهضة أن آفاق الذهن تتسع لغير الدين، وأنه يجب عليه أن يحقق السعادة في هذه الدنيا، وهذه الحركة تسمى «الحركة البشرية»؛ لأن الناهضين اعتمدوا فيها على درس المؤلفات البشرية زيادة على درس المؤلفات الدينية. (3)
أما النزعة الثالثة:
فهي الحركة العلمية، وهذه لقيت بذرتها الأولى في الأندلس عند العرب، وتكاد تكون اكتشافا جديدا للدنيا؛ لأنها اعتمدت على التجربة.
والقرون الوسطى لم تنته بتاريخ معين، فإن سنة 1453 هي حد عرفي لنهايتها، ولكنها كانت في الحقيقة تنزاح عن الأذهان كما ينزاح الليل رويدا رويدا؛ ولذلك نجد بعد القرن الحادي عشر اضطرابات ذهنية، كأنها ارتكاض الجنين في الرحم، تنذر بالميلاد القادم، ونحن نذكر هنا رجلين عاش كلاهما في القرون الوسطى ونزع كلاهما نحو النهضة.
وأولهما هو أربيلا (1079-1142) فإنه كان رجل دين قبل كل شيء، ولكنه دعا إلى الشك وجعل منه أساسا للإيمان الصحيح، وعنده إننا إذا اصطدمنا بشيء لا يتفق مع العقل وجب علينا أن نعود للضمير، وهو يعتقد أنه ليس شيء في الدين لا يتفق والعقل، ولكن إذا استبهم علينا شيء من ذلك فإن علينا أن نلجأ إلى ضميرنا، ومع أنه قال ذلك في حذر، بل في اعتذار، فإن مؤلفاته حرمت بأمر من البابا.
وأما الثاني فهو توماس الاكويني (1225-1274) فإنه ألف في التوفيق بين العقل والدين، وهذا التوفيق هو في النظر الحديث تلفيق.
ولكنه مع ذلك محاولة من المحاولات الأولى للخروج من قيود الجزم إلى ميدان الرجم أو الخروج من النقل إلى العقل، فهو مثلا يعصر ذهنه كي يصل إلى استنتاجات منطقية تثبت وجود الله، ثم يبرر وجود الدين بأثره في الأخلاق، بما فيه من زواجر تزجر عن الشر والعدوان.
ففي كلا الرجلين نرى جراءة على التفكير، ولكنا نرى ما هو أحسن من الجراءة في ذلك الزمن، وهو الرغبة في درس الكتب الأخرى التي لا تمت إلى الدين، فكلاهما يدعو إلى الثقافة البشرية وإلى درس الكتب الوثنية القديمة.
وهنا إذن نوى بذرة هذه الحركة البشرية التي ترى على أقواها في النهضة، وخلاصتها أن الثقافة يجب ألا تقتصر على درس الدين بل يجب أن تتجاوز ذلك إلى ما ألفه الناس أيضا، وأن الإنسان يجب عليه أن ينشد السعادة الدنيوية بدرس الثقافة البشرية، كما عليه أن ينشد السعادة الأخروية بدرس الثقافة الإلهية.
وكما كانت «الغيبيات» مزاج المثقفين في القرون الوسطى أصبحت «البشرية» مزاج المثقفين في أيام النهضة، ومن هنا هذه الحركة، بل هذه الحمى، التي أصابت العقول في أيام النهضة، فإن المدارس والمجامع والأفراد نهضوا فجأة يبحثون عن الكتب القديمة بين مخلفات الإغريق والرومان، ويدأبون في درسها ومناقشة آرائها لا يبالون بما فيها من كفر أو وثنية. •••
ونحن إلى الآن ما زلنا نعيش في سياق النهضة التي انفجرت في النصف الثاني من القرن الخامس عشر في أوروبا، وبقيت في انفجارها هذا إلى نهاية القرن السادس عشر حين اتزنت وسارت سيرا وئيدا مطمئنا، إلى أن عادت فانفجرت مرة أخرى في فرنسا في آخر القرن الثامن عشر.
وفي إسكتلندا وغيرها من الأقطار الأوروبية لا تزال تسمى دراسة الكتب الإغريقية واللاتينية «البشريات» ومن هذه التسمية التي ترجع إلى ما قبل أربعة قرون يدرك القارئ هذا الفرق الذي ميزته أذهان الناهضين في القرن السادس عشر، فإنهم شعروا أن أسلافهم كانوا يدرسون الموضوعات التي تتعلق بالدين، وهي التي كانت تسكن الديور في صوامع الرهبان أي: «الإلهيات» من الفلسفة واللاهوت والصوفية، وتفسير الكتب المقدسة والتعليق على شرح القدماء فيما يتعلق بالدين، ولكن الناهضين انحرفوا عن هذه الثقافة، أو كفروا بها، وعمدوا إلى الوثنيين من الإغريق واللاتين يدرسونهم، فكانت دراستهم لهذا السبب «بشرية» وليست «إلهية».
وهذه الجراءة على الدراسة البشرية كانت أشبه الأشياء بالدعوة إلى تقرير المصير للذهن البشري، أي: إن للإنسان الحق في أن يقرأ ما يشاء، ولو كان المؤلف من كفار الإغريق أو الرومان القدماء، بل له أيضا أن ينتقدها، فسقطت بهذا الحق الجديد مكانة «أرسطاطاليس» وصار لأمثال «جاليل» أن ينقده وأن يجرب التجارب لكي يثبت خطأه، وأصبحت «التجربة» طريقة جديدة للاقتراب من الحقائق وبحثها.
وأول ثمرات الحركة البشرية الأولى هو «لوثر» المصلح الألماني، وهو نفسه كان بذرة لنهضة أخرى هي الحرية الدينية، فإنه ورث من النهضة حرية الذهن فأورث الناس حرية أخرى هي حرية الضمير، وقد كان هذا الرجل راهبا زار روما سنة 1511 فرأى من نظام البابوية وأخلاق البابوات ما أسخطه، ولكنه صمت وعاد إلى وطنه، فلما كانت سنة 1517 بعث البابا برهبانه لكي يجمعوا من المؤمنين ثمن الغفرانات، وكان على الراهب أن يعرض الغفران من العقاب في الآخرة فيشتريه الموسر ويناله الفقير بالمجان، ولكن لوثر لم يطق هذه النخاسة الدينية فعمد إلى لوحة كبيرة وكتب عليها 55 اعتراضا على بيع الغفرانات وعلقها على باب الكنيسة.
وعلم البابا بهذه الفعلة فاستدعاه لسؤاله أو محاكمته، ولكن لوثر أيقن أنه إذا سافر إلى روما فإنه لن يبرحها حيا؛ ولذلك بقي في مكانه يدعو إلى مذهبه فيجد المؤيدين كما يجد المعترضين، وعقدت له هيئة حاكمته وحكمت بحرمانه، ودعت الجمهور إلى مقاطعته وألا يؤاكله أو يعامله أحد، وأرسل إليه البابا «حرمانا» يجعله مطرودا من بركة الكنيسة ونعيم الآخرة، فأخذ لوثر ورقة الحرمان وأحرقها علنا بين الجمهور المعجب بجراءته، ولم يقف عند هذا الموقف السلبي، بل خالف الرهبانية وتزوج، ثم خالف قواعد الكنيسة وترجم الكتاب المقدس إلى الألمانية، ومات سنة 1546 بعد أن ملأ أوروبا بالخلاف الديني وهيأها لحروب مذهبية دمرت مدنها وخربت ريفها، ولكنها أحيت نفوسها.
وأحيت نفوسها لأنها قررت مبدأ آخر إلى جنب حرية الذهن، هو حرية الضمير، و«تقرير المصير للنفس الإنسانية» وأن خلاص الإنسان ليس قضية يحكم عليه فيها الكهنة والكنيسة، وإنما هو مسألة خاصة بين الإنسان وربه، ولا شأن لحكومة أو فرد أو أي هيئة أخرى أن تتدخل فيها.
فانظر إذن في هذه الحركة البشرية الأولى، فإنها قررت استقلال الذهن البشري وحقه في أن يقرأ المؤلفين الذين ألفوا أو يؤلفون في غير «الإلهيات» حتى ولو كانوا كفارا من الإغريق أو اللاتين، ثم قررت استقلال الضمير وحق الإنسان في أن يناجي ربه دون أن يتوسل لذلك بالكهنة والكنيسة.
ومن هذا الحق الثاني نشأت حركات أخرى اتصلت بالحقوق السياسية والاقتصادية، بل لقد رأى لوثر نفسه أن حركة حرية الضمير أدت إلى ثورة الفلاحين على الأمراء، وأصبحت «حرية الضمير» كلمة مفيدة تقال في وجه الملوك لمنع الاضطهاد، وفكرة تبعث على التفكير الاجتماعي، بلا خوف من العرف الشائع والعادات الفاشية، وإذا كان لوثر نفسه قد احتفظ بعفونات ورواسب من القرون المظلمة جعلته يكره ثورات الفلاحين وحملته على الدفاع عن حقوق الأمراء والنبلاء، فقد أثمرت هذه الفكرة أيضا حرية السعي الاقتصادي والمزاحمة الحرة بين الأفراد، هذه الحرية التي بلغت قمتها في عصرنا حتى استحالت من الفائدة إلى الضرر، وحتى قامت الحكومات الحديثة تحد منها وتأخذ بالآراء الاشتراكية كي تحول دون ضررها، ولولا حرية الضمير هذه لما أمكن العلماء أن يكتشفوا ما كشفوا من حقائق علمية.
التفسير الاقتصادي للنهضة الأوروبية
كان التاريخ يكتب كي يكون معرضا، تسير فيه مواكب العظماء من الملوك والقواد والساسة والعلماء أو الأدباء، تروى فيه سيرهم وما اشتبكوا فيه من المعارك الحربية أو المناضلات الدينية، فلما ظهرت نظرية «التفسير الاقتصادي للتاريخ» أصبح المؤرخون يبحثون العوامل والعلل الاقتصادية لإحدى الثورات أو الحروب كما يبحثون عنها لتعليل أحد المستكشفات أو المخترعات.
وهذه النظرية تقول بأن العلاقات الاقتصادية بين طبقات الشعب وأفراده هي الأساس الذي ينبني عليه سائر ما في الأمة من علاقات اجتماعية أو حقوق سياسية، وأن ما يصدر عن الأمة من فلسفات أو مذاهب أو نزعات أدبية إنما يعبر في الحقيقة عن الحالة الاقتصادية التي في الأمة، وذلك؛ لأن المركز الاقتصادي للفرد يقرر له المركز الاجتماعي، وأولئك الحاصلون على السيادة الاقتصادية هم أيضا الحاصلون على السيادة الاجتماعية أو السياسية. وما عند الأمة من نظم اجتماعية أو سياسية أو ثقافية انما هو في الحقيقة ثمرة النظام الاقتصادي الأساسي؛ لأن غاية هذه النظم في النهاية صيانة الحقوق أو الامتيازات الاقتصادية.
والقائلون بهذه النظرية لا ينكرون اعتبارات أخرى في تطور الأمة ولكنهم يضعون هذا الاعتبار الاقتصادي في المقام الأول، وقد يجد المتأمل خروقا في هذه النظرية تجعلها لا تستوعب جميع التغييرات الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، ولكنه لا يتمالك من الاعتراف بأنها على وجه العموم صحيحة، وليس المعنى المقصود من التفسير الاقتصادي للتاريخ أن الناس لا ينبعثون إلى العمل والنشاط والسعي إلا للفائدة الاقتصادية التي تعود عليهم، وإنما المقصود أن الحالة الاقتصادية العامة في الأمة تقرر سائر الأحوال فيها، إذ هي بمثابة الشجرة وهذه بمثابة الثمرات التي تنبت عليها، ووسائل الإنتاج وطرق الارتزاق تعين الطبقات وتبعث العواطف.
وفي ضوء هذه النظرية نستطيع أن نقول: إن القرون المظلمة التي أعقبت سقوط الدولة الرومانية في أوروبا إنما كانت نتيجة لغارة الهمج من القبائل الجرمانية على المدن الرومانية وتخريبها، وهؤلاء الهمج لم يخرجوا من أقاليمهم إلا لأسباب اقتصادية، فلما خربت المدن الرومانية عاد الوسط الأوروبي وسطا ريفيا قرويا بعد أن كان وسطا عالميا مدنيا، والوسط الريفي يلازمه الانحصار والجمود والتأخر وقلة الثقافة والاستبداد، في حين يلازم المدينة رقي في الصناعات وتوسع في التجارة وثقافة تتعلق بالتجارة والصناعة؛ ولذلك تفشو الآراء والانتقادات في المدينة كما يفشو التسليم والعقائد في الريف.
ثم جاء العرب في القرن السابع فمنعوا أوروبا من الإتجار مع آسيا، فلم تعد الآفاق الفكرية تنبسط للأوربي؛ لأن وجدانه الكوكبي زال وأخذ مكانه وجدان قروي محدود يعيش في السكان بالمقايضة.
والقرون المظلمة سواء في الشرق أم في الغرب، بل سواء في الزمن الحاضر أم الأزمنة الماضية، هي قرون الوسط الريفي كما نفهمه في مصر، أي: هذا الوسط القائم على الزراعة اليدوية، ولسنا نعني ذلك الوسط الريفي الجديد في الولايات المتحدة مثلا حيث العمل يجري بالآلات الضخمة، فإن عقلية المزارع هنا لا تختلف عن عقلية الصانع.
فلما بلغت أوروبا سنة ألف أو حواليها بدأت المدن تتكون وتجذب إليها عمال الريف أو عبيد الريف، فعاد التاجر والصانع إلى الظهور، وأخذت فنون المدينة تظهر رويدا رويدا بعد أن كانت قد ماتت نحو 700 سنة في الريف، فإذا كان القرن الخامس عشر، فإننا نجد المدينة عامرة بالصناعات، وفي كثير منها كليات ومدارس، ونرى للتاجر مقاما كبيرا، ونرى للمدينة أثرا في تركيز الحكم، فإن الريف من طبيعته - وخاصة إذا كان جبليا - أن يوزع الحكم ويعمل للاستقلال الإقطاعي فيعود صاحب الأرض وهو «كونت» أو «دوق» له حكومته المستقلة التي يمكنه أن ينازع بها الملك نفسه، أما المدينة فإنها تحصر السكان في بقعة معينة فلا يمكن الأمراء أن يستقلوا بجزء منها.
وحاجات الوسط الزراعي قليلة؛ لأن كل زارع يمكنه أن يستغني بقليل جدا من الصناعات البدائية عن شراء الملابس والأحذية والأطعمة؛ لأنه يمكنه أن يستخرج كل هذه الأشياء من أرضه، وقد كانت هذه حاله مدة القرون المظلمة، بل الوسطى؛ لأن الغزل والنسيج كانا عامين في جميع القرى، أما في المدينة فإن التخصص ضروري، ومن هنا تنشأ الصناعات على الاختراع والاكتشاف والثقافة الفنية، ومتى كبرت المدينة عظم شأن التجارة فيها وعندئذ تعرف البحار ويخرج تجارها لمبادلة السلع مع الأقطار الأخرى، فينشأ من ذلك الاكتشاف الجغرافي ثم الحروب ثم الاستعمار، ثم تتجمع الثروات فينشأ الترف ويبعث الفنون الجميلة والصناعات الأنيقة.
وعلى ذلك إذا أردنا أن نعين الفرق بين القرون الوسطى وبين النهضة أمكننا أن نقول: «إن النهضة هي انتقال الناس من سكنى الريف، حيث كان الجمود وحكم النبلاء، والصبر على القائد، إلى سكنى المدن حيث التجارة والصناعة وتجمع السكان في بقعة واحدة، وحيث الرأي فوق العقيدة، بل حيث الفرصة للاكتشاف والاختراع».
وهذه الحركة التي فشت في مدن أوروبا في القرن الخامس عشر، في الدرس العلمي الجديد والتنقيب عن المؤلفات الإغريقية واللاتينية، إنما كان مبعثها ظهور التاجر والصانع في المدن بعد غيابها نحو ألف سنة، وامتداد أوروبا بالملاحة إلى القارات الثلاث ثم الأربع الأخرى، فأصبح للأوربيين وجدان بالتاريخ في الجغرافيا، وأصبحوا يعيشون على كوكب الأرض بعد أن كانوا ينحجزون في القرى ولا يعرفون غير التفكير القروي المحدود، بل يمكن أن نفسر الجمود الذي يغشى الشرقيين أو بعضهم الآن بأنهم لا يزالون يعيشون في وسط زراعي قروي يشجع الإنسان على أن يكون أبله، يحترم جميع التقاليد ويسلم بجميع العقائد ويقنع بعيشه، كما يمكن أن نفسر رقي الغربيين بأن معظمهم يعيشون في المدن التي يجبرهم مجرد السير في شوارعها على أن يكونوا أذكياء متنبهين، وهم في هذا الوسط المدني يرتئون الرأي وينقضونه، ويرون في التقاليد شبهات، وفي الجمود كارثة.
رجل العلم ورجل الأدب
لا يزال العالم الأوروبي من حيث الثقافة يندفع في تيار النهضة التي اضطرمت في القرن الخامس عشر حتى ما نكاد نجد الآن حركة ثقافية إلا ولها بذرة أصلية في تلك النهضة.
وما زلنا نجد عادات وتقاليد ونزعات ثقافية ترجع إليها، وليس لها من أسباب البقاء غير أنها تتصل بالنهضة، حتى إني لأجد أدبيا عصريا مثل «ه. ج. ولز» الذي مات في 1947، يؤلف آخر ما يؤلف من الكتب كتابا ضد البابا والديانة المسيحية. كأنه لا يزال يحس بأنه في الصراع القائم في القرن الخامس عشر بين الغيبيين والناهضين.
وقد كان في النهضة الأوروبية موجتان تعلوان تيارها:
إحداهما:
تنحو نحو التاريخ والنقد الديني وفنون الإغريق والرومان - نعني بها موجة الآداب التي كان يمثلها «أرازموس» الهولندي (1466-1536).
والموجة الثانية:
كانت تنحو نحو العالم وكان قوامها التجربة وكراهة التقاليد، أو قلة الإيمان بفائدتها، ثم الجراءة على الابتكار وبحث النظريات العلمية و«الحقائق» الموروثة بروح الشك والرغبة في الإصلاح والاهتداء إلى سبل جديدة للوصول إلى استخدام الطبيعة، وكان يمثل هذه الموجة «دافينشي» الإيطالي (1452-1519) وه. ج. ولز كان في سياق هذه النهضة.
وما زلنا إلى الآن نجد هذين الطرازين من رجال الثقافة وقد تشتد أحيانا بينهما الكراهة فيتبادلان السباب، وكل منهما يتهم الآخر بأنه لا فائدة منه للعالم، وقل أن تجد من يجمع بين النزعتين، أي: الأدب والعلم، وليس ذلك فقط؛ لأن المجهود يتجاوز قدرة الفرد بل أيضا؛ لأن المزاج العلمي يختلف، بل أحيانا يناقض المزاج الأدبي، فإن الأديب لتعلقه بالتاريخ والتقاليد والمأثور من الشعر والنثر، واحترامه للكتب، يحب الماضي ويفكر فيه كثيرا ويميل إلى الاجترار الذهني والبحث عن الحقائق الذاتية، أما العالم فإنه يتشكك في النظريات والفروض القديمة ولا يبالي التاريخ أو الكتب، وعنده أن كثيرا من جد الأدباء إنما هو لهو وسمر، ثم هو لا يبحث عن كنه الحقائق، وإنما ينشد فوائدها كي يستخدمها لمصالح الناس.
ولو أن مؤرخا شاء أن يشرح النهضة الأوروبية واقتصر على ترجمتي أرازموس ودافينشي لكان له منهما ما يكفي لإيضاح النزعتين الكبيرتين اللتين غمرتا النهضة، ولإخراج تاريخ مفيد عنها ولتمييز النزعات المتناقضة أو المتساوقة.
فقد كان أرازموس يمت إلى القرون الوسطى، كما يمت جميع الأدباء الآن سواء في الشرق أم في الغرب، إذ تعلم في دير ونشأ راهبا ثم صار بعد ذلك قسيسا، ويعرف القارئ أن الثقافة كانت طوال القرون الوسطى مقصورة على الأديرة ورجال الدين، أي إنها رجعت إلى ما كانت عليه في الأمم القديمة مثل المصريين والبابليين القدماء ، ولم يكن رجال النهضة قد تخلصوا من هذه العادات، وتعين أرازموس سكرتيرا لأحد الأساقفة، ثم اشتغل بعد ذلك بتحرير الكتب القديمة اللاتينية والإغريقية تجهيزا للطبع، وكان يعلق عليها بالشروح.
ومن الأقوال المألوفة إن أرازموس حضن البيضة التي فقسها «لوثر» المصلح الألماني وزعيم البروتستنتية، وذلك بما كان يؤلفه عن الفضائح في الديورة، وعن جهل القسوس وتعصبهم، وعن سخافات الرهبان ونحو ذلك، حتى إذا جاء لوثر وجد الحنق عاما في قلوب الجماهير، فاستطاع أن يعمم بينهم دعوته على البابا والكهان، وكل من أرازموس ولوثر هو في حقيقته داعية إلى الديمقراطية الدينية.
فالعلم الذي عاش فيه أرازموس هو عالم الكتب القديمة، والموضوع الذي اختاره للتأليف هو الإصلاح الديني، وتقويم الأخلاق في أسلوب يلهي ويسلي، ولا يزال لأرازموس سلالة تنتمي إليه بصلة الثقافة وتعيش على طريقته وتهتم لهمومه.
أما الطراز الثاني فهو طراز دافينشي الذي لم يؤلف كتابا، ولعله أيضا لم يقرأ كتابا قديما، ولكنه كان موسوعي الثقافة فيما عدا ذلك، يرسم وينحت ويبحث الرياضيات ويخترع، فقد اخترع طواحين تدور رحاها بتيار الماء، واخترع دبابات حربية ومدافع، وبحث عن البارود وكيف يؤلف، وحاول أن يستعمل قوة البخار للسفن، وفكر في خرق نفق تحت الجبال، وأوشك أن يهتدي إلى نظام الدورة الدموية في الإنسان، واخترع طيارة وجربها بالفعل ثم كف عن هذه المحاولة الخطرة بعد أن أصيب منها أحد تلاميذه، واستطاع أن يقسم المملكة الحيوانية إلى فقاريات وغير فقاريات، وبحث واهتدى قبل «كوبرنيكوس» إلى حركة الأرض.
هذان هما طرازان بارزان لرجال النهضة: أحدهما رجل الأدب والكتب، والتاريخ والسمر والقصص، والوعظ والنظر إلى الماضي، والآخر رجل العلم الذي لا يقرأ إلا قليلا ولا ينظر إلا إلى المستقبل، وهو دائب في الاختراع، والعالم بالطبع في حاجة إلى الاثنين، وإن كان أبناء المستقبل سيبالون رجل العلم أكثر جدا مما يبالون رجل الآداب.
من موضوعية بيكون إلى مادية هوبز
إذا ذكرنا النهضة الأوروبية مثل للذهن رجلان، كلاهما يعرف باسم بيكون وكلاهما إنجليزي: الأول هو «روجر بيكون» الذي ولد في 1214 وهلك في 1294. والثاني هو «فرانسيس بيكون» الذي ولد في 1561 وهلك في 1626.
ومع الزمن الطويل الذي يفصل بين الاثنين نجد تشابها في النزعة أو اشتراكا في الطريقة يوهمنا الاتصال الذهني بينهما، وقد كان هذا الاتصال توهما فقط لا يزيد عن الرجم والظن، ولكن اتضح من الأبحاث التاريخية الحديثة أن بيكون الثاني قد عرف سميه الأول، وقرأ مؤلفاته على استاذه «جلبرت». وأولئك الذين يؤمنون بتسلسل الثقافة يجدون في هذا الاتصال دليلا جديدا يؤيد نظريتهم في هذا التسلسل، فإنه قلما يحدث أن يشترك اثنان في اكتشاف أو اختراع، فإذا وجدنا مثل هذا الاشتراك وجب علينا أن ننظر إليه نظرة الريبة والشبهة.
ونحن عندما نتكلم عن النهضة الأوروبية نقصد إلى تلك الثورة التي أصابت الذهن الأوروبي فوقف فجأة عن متابعة السير في ثقافته، وأخذ يتساءل هذا السؤال المؤلم: هل الطريقة التي أتبعها في الدرس حسنة أم سيئة؟
هذا هو الموضوع الذي شغل أذهان رجال النهضة من الأدباء والعلماء، فإن الشك فشى على أذهانهم فشرعوا ينتقصون من قيمة ما يدرسونه من المعارف ويصرحون لأنفسهم بأن طريقة جمع المعارف التي ألفوها منذ الصغر هي طريقة مخطئة، وأنه يجب ابتكار طريقة جديدة.
وقبل أن نبسط الكلام في الطريقة الجديدة، التي هي أساس النهضة، بل أساس الثقافة الحديثة، يجب أن نشرح في كلمة مختصرة تلك الطريقة القديمة التي ثار عليها رجال النهضة.
فقد كانت غاية العلوم والمعارف خدمة الدين والدين فقط، وما عدا ذلك فهو عبث أو كفر، وإذن اتجهت النهضة في ناحية من نواحيها إلى الاستقلال من الدين، حتى علم السياسة ظهر له من يدافع عنه في شخص «ميكافلي» الذي كان يطلب لهذا العلم استقلالا كي يبحث في نزاهة فلا يخضع الباحث فيه للدين أو الأخلاق، وإذن يمكن أن نقول إن أول واجب قام به الأدباء والعلماء في بداية النهضة كان الاستقلال من سلطان الدين.
وناحية أخرى اتجهت إليها النهضة هي الإقلاع عن الرجم الفلسفي والمنطق الذهني إلى التجربة، فقد كان المألوف عند العالم من علماء القرون الوسطى أن يبحث الموضوع الذي يتناول درسه بحثا فلسفيا، وكأنه يضارب بذهنه مضاربة، فهو يرجم بالفلسفة ويحاول أن يصل النتائج بالأسباب، ولكن رجال النهضة رأوا خطأ هذه الطريقة فقاموا يدعون إلى التجربة.
فيجب ألا نؤمن بشيء حتى نجربه في ظروف مختلفة وعلى أيدي أناس كثيرين، ومن هنا يمكن أن نقول: إن النهضة كانت إلى حد ما، وفي تعبيرها الحديث، ثورة العلم على الفلسفة. أو ثورة التجربة على التفكير المنطقي الفلسفي.
ثم نجد إلى هاتين النزعتين حركة جديدة اكتسبها الأوروبيون من عرب الأندلس هي الرغبة في تحويل المعادن والبحث عن إكسير الحياة، فقد اشتغل العرب بنوع غريب من المعارف مزجوا فيه الغيبيات بالكيمياء، فصاروا يتكلمون عن الحياة الأبدية في الوقت الذي يتكلمون فيه عن تحويل الرصاص إلى ذهب، والكيمياء الآن أبعد العلوم من الغيبيات ولكن بذرتها الأصلية نبتت في تلك التربة الأندلسية العربية، وقد نستطيع أن نرجع بهذه البذرة إلى المصريين القدماء الذين أكبروا من شأن الذهب ونسبوا إليه صفات الخلود، وكلمة كيمياء معناها مصر أو العلم المصري، وهو التحويل للمعادن الذي أفشى روح التجربة بين العلماء.
وبعد هذه المقدمة المختصرة يجب أن ننظر الآن في حياة هذين العالمين الإنجليزيين فقد كان روجر بيكون راهبا انجليزيا، مثل معظم العلماء في وقته، إذ كان الدير موئل الثقافة، ومما يدل القارئ على روح العصر أن بيكون هذا كان يبرر درس الرياضيات بأنها تساعد على فهم الدين، وهو من هذه الناحية يعد من رجال القرون الوسطى وليس من رجال النهضة، إذ كان يظن أن الغاية من المعارف الإنسانية هي خدمة الدين، وليس هذا غريبا منه، فقد مات في 1294 والتاريخ الرسمي لبداية النهضة هو سنة 1453.
أما الناحية التي خدم بها النهضة فتنحصر في دعوته إلى جمع المعارف بملاحظة الطبيعة دون جمعها من الكتب، ثم كان ينتقص الذهن فيقول: إننا إذا فكرنا في موضوع فيجب ألا نأتمن ذهننا، ولا نثق بالنتيجة التي وصلنا إليها إلا بعد أن نمتحن هذه النتيجة بالتجربة، لنرى هل هناك افتراق بين قياس الذهن وقياس اليد، أو بين التفكير المجرد والتجربة العلمية.
ثم كان يدعو الأوروبيين إلى درس اللغة العربية، وقد كان علماء العرب في ذلك الوقت قد اتجهوا، كما قلنا، نحو التجربة، عندما تكلموا عن الكيمياء التي مزجوها بالغيبيات، وقد اتهم بالهرطقة لهذه الدعوة كما كان يتهم المجددون في مصر بالكفر عندما كانوا يدعون إلى الطريقة الأوروبية في التثقيف.
وقد حبس روجر بيكون 14 سنة، وجمد البابا مؤلفاته، وفي هذه المؤلفات نرى كلاما غريبا من هذا الخارج من ظلمات القرون الوسطى عن سفن تجري في الماء بقوة البخار، وعن آلات تكبر وتصغر مثل التلسكوب والمكروسكوب، وعن أشياء أخرى اتهم من أجلها بالسحر.
ويجب أن نذكر أن «كولمبوس» الذي اكتشف أمريكا سنة 1492 قد قرأ جملة مؤلفات كانت هي التي أوحت إليه هذا الاكتشاف، ووجد فيما قرأه كولمبوس مقتبسات من هذا المفكر الإنجليزي الذي أومأ إلى النهضة وأن لم يبلغها، وهذه الكلمات التالية التي نقتبسها من أقواله تدل على الروح الجديد الذي حاول أن يخلقه في أوروبا حوالي منتصف القرن الثالث عشر: «إني أعتقد أن البشر سوف يعتنقون المبدأ الذي أرصدت له حياتي، مبدأ البحث كما لو كان، أي البحث، من البدهيات؛ لأن البحث هو مذهب الأحرار، إذ ينطوي على إتاحة الفرصة للتجربة وعلى حقنا في أن نخطئ ونتشجع ونعود إلى التجربة، ونحن العلميين في الروح البشري سنجرب ونجرب ودائما نجرب، وعلينا في القرون القادمة مع المحاولات والأخطاء، ومع آلام البحث ومتاعبه أن نجرب في القوانين والعادات وفي نظم النقود ونظم الحكومات، حتى نرسم الطريق الوحيد إلى أبعادنا البشرية، كما اهتدت الكواكب إلى أفلاكها ... ثم نسير معا في وفاق بحافز إنشائي عظيم نحو الاتحاد والنظام والقصد». •••
لما ظهر بيكون الثاني كان الزمن قد تغير وتطور كما نرى من الحرفة التي احترفها، إذ كان محاميا وسياسيا بينما بيكون الأول كان راهبا، وهكذا انتقل العلم من الدير إلى المدرسة والكتب.
ومعنى هذا الانتقال أن الدين كان في المقدمة يغمر كل شيء في القرن الثالث عشر، ولكنه تراجع في القرن السادس عشر وأصبحت هناك حرف جديدة غير الدين يحترفها العلماء والخاصة، وليس بيكون الثاني سوى بيكون الأول قد بولغ في نزعته الأولى، وهي الاعتماد على التجربة، وقد وجد في عصره قبولا لم يجده سميه السابق.
ألف بيكون الثاني في 1605 كتابين في الطرق التي يمكن أن تتقدم بها المعارف البشرية، دعا فيهما إلى ضرورة التجربة باعتبارها الأساس لهذه المعارف وإلى الاعتماد على الطبيعة دون الكتب، وإليك كلمات منه تدلك على الغاية التي وضعها نصب عينيه، فهو يقول مثلا: «الإنسان خادم الطبيعة ومفسرها».
ثم يقول: «هناك عدة أدلة تدل على أنه لا يزال في جوف الطبيعة أسرار كثيرة لها قيمتها العظمى، وليس لها شبه أو قرابة مما نعرفه نحن الآن، وهي بعيدة عن خيالنا لم نقف على كنهها بعد».
ثم يقول في انتقاد الطب: «ولنا هنا أن نلاحظ كيف أن الأطباء قد كفوا عن استعمال تلك الطريقة المفيدة التي كان أبقراط يتبعها حين كان يدون العلاجات الخاصة بجد ودقة حيث كان يصف طبيعة المرض وظروفة». «... وهذا التدوين للتقريرات الطبية نجده الآن ناقصا وخاصة من حيث إيجاد مجموعة منظمة قد هضمها البحث والتمييز».
فمن هذه المقتبسات يتضح للقارئ أنه يريد الاعتماد على التجربة، ثم جمع التجارب وتدوينها لاستخراج النتائج، وقد اقترح إيجاد كلية أطلق عليها اسم «بيت سليمان» تجمع فيها طوائف العلماء للدرس والتجارب، وبهذه الكلية آلات وأجهزة وأفران لهذه الغاية، ويمنح المشتغلون فيها إجازات طويلة مع النفقات الضرورية لكي يرحلوا إلى الأمم الأخرى، ويجمعوا منها بالمشاهدة ما يزيد معارفهم.
ثم نجد في جميع مؤلفاته أقوالا تشبه ما كان يقوله روجر بيكون لدعوته إلى التجربة المباشرة بدلا من القياس المنطقي، وأخيرا نرى في ختام حياته رمزا للغاية التي نشدها إذ إنه أصيب بالإنفلونزا؛ لأنه وقف يحشو طائرا ميتا بالثلج كي يرى أثر البرودة في منع العفونة.
وليس كل من بيكون الأول ولا بيكون الثاني عالما، بالمعنى الذي نفهمه الآن من هذه الكلمة، ولكنهما كانا يدعوان إلى الطريقة العلمية وهي التجربة ، فكلاهما يدعو إلى المذهب العلمي ولكن لم يكن أحدهما «عمليا» أي: إنه لم يتخصص في تجارب عملية.
وميزة فرنسيس بيكون إنه نقل أوروبا من التفكير الفلسفي الإغريقي إلى التفكير العلمي التجريبي، والفرق بين الاثنين عظيم جدا؛ لأن الفيلسوف الإغريقي كان يضع المذهب ثم يجمع الحقائق التي توافقه، أي: توافق هذا المذهب، كأنه كان يعتقد أن في الكون أصولا ومبادئ يجب التسليم بها قبل دراسة الأشياء، ولكن التفكير العلمي يعتمد أولا، وفقط، على التجربة، أو ما يقابل التجربة من الاختبارات ثم يستنتج من التجارب مبادئ وأصولا، وقد تبلور هذا الأسلوب في فلسفة هوبز (1588-1679) المادية حتى قصر موضوع الفلسفة على المادة وحركتها.
وبكلمة أخرى نقول: إن الإغريق اعتمدوا على التفكير ولم يعتمدوا على المشاهدة، ومن هنا عنايتهم الكبيرة بالمنطق؛ لأنه حركة ذهنية محضة، وكتاب بيكون «نوفوم اورجانوم» أو «الوسيلة الجديدة» هو دعوة إلى التجربة، وإننا لن نفهم أكثر مما نعاين، ولكن حتى بعد المعاينة يجب ألا نثب إلى الاستنتاج، إذ يجب أن نعيد المعاينة والتجربة قبل أن نصل إلى الاستنتاج، أما اجترار المنطق ونحن بعيدون عن المشاهدة والتجربة فعقم وضرر.
ومن أحسن ما التفت إليه بيكون في كتابه هذا هو التنبيه إلى الخطأ السيكولوجي في التفكير الشائع في عصره وقبله، وهو نقل المنطق البشري بل المقاييس الاجتماعية إلى الطبيعة، وهذا هو ما وقع فيه الإغريق، حتى إنهم ظنوا أن الكون منتظم في دوائر؛ لأن الدائرة هي الشكل الكامل، وما دام الكون كاملا فيجب أن يسير في دوائر.
وكذلك التفت إلى ضرورة ايجاد لغة خاصة للتفكير بحيث لا تتحمل كلماتها التباسات اللغة الدارجة بين العامة أو بين الكتاب، وهذا هو ما انتهى إليه العلميون في أوروبا، إذ إنهم يتخذون كلمات خاصة للعلوم يتعارفون عليها مهما اختلفت لغات الكلام بينهم، بل هذا ما نحتاج إليه في مصر حيث نجد مشقة كبيرة في استقطار معنى علمي من كلمات مشتبهات، كقولنا: الشعور بمعنى الاحساس، والكبت بمعنى الكظم الخ.
وفى كتابه هذا نصح بيكون أيضا أن نتجرد من أهوائنا واستغراضاتنا.
وأخيرا نصح بأن تتلخص الفلسفة من الدين حتى تنطلق حرة بلا عائق من العقائد. •••
ولم يكن بيكون مع ذلك مكتشفا أو مخترعا، ولم يكن له معمل للاختبار والتجربة؛ لأن مهمته لم تكن مهمة الاكتشاف أو الاختراع، وإنما كانت مهمة وضع الخطط ورسم المناهج للوصول إلى الاكتشاف والاختراع.
وذلك بأن لا نبحث العلم من حيث إنه دراسة الكرسي والمكتبة والتأمل والفلسفة، وإنما ندرس العلم بحيث نقصد منه إلى نتيجة عملية في الصناعة؛ لأننا بالصناعة نزيد الثراء والرفاهية للبشر؛ ولذلك يقول: «إن الحقائق تكشف وتعرف بما تؤدي إليه من عمل وليس لأنها تتفق مع المنطق، وقولنا هذا يعني في النهاية أن تحسن حظ الإنسان، وتحسين عقل الإنسان كلاهما شيء واحد».
ومعنى هذا أن معارفنا لا قيمة لها إلا من حيث إننا ننتفع بها في الرقي البشري؛ ولذلك حمل على فلاسفة الإغريق لأنهم استخدموا عقولهم للتفكير المجرد وليس للاختراع والاكتشاف، فهو يقول عن «أرسطوطاليس» إنه «سوفسطائي متعوس، وكتابه في المنطق هو كتاب في الجنون، وغيبياته هي نسيج العنكبوت الذي يبنيه على أساس واه».
ويقول عن «أفلاطون»: إنه «مفكر غيبي أبله زائف».
ولسنا نجد هنا أكثر من النزعة والاتجاه اللذين يلخصان في قولنا: «دعونا من القدماء، دعونا من التفكير في المكتبة بين الكتب، واخرجوا إلى الورشة والمصنع، وإلى الطبيعة، جربوا واخترعوا، استخدموا ما تعرفونه في زيادة الخير والرفاهية للبشر».
داعية الشك الفلسفي
نستطيع أن نقول إن «فرنسيس بيكون» الإنجليزي قد وضع المنهج للتفكير العلمي بالإكبار من شأن التجربة، أما «ديكارت» الفرنسي (1596-1650) فقد وضع المنهج للتفكير الفلسفي بالإكبار من شأن الشك، حتى لا نسلم بشيء إلا بعد أن نعالجه كما لو كان مسألة أو نظرية من نظريات «إقليدس».
وقواعد التفكير السليم عند ديكارت هي: (1)
لا اعترف بصحة شيء ما لم أجده كذلك بلا تعجل أو استغراض. (2)
تجزئة الصعوبة إلى أجزاء، وحل كل منها على حدة. (3)
ثم التأمل بالترتيب ابتداء من الأشياء البسيطة التي يسهل فهمها، ثم الانتقال خطوة بعد خطوة إلى الأشياء الصعبة. (4)
الإحاطة والتعميم بحيث أثق أني لم أترك شيئا.
وهذه القواعد الأربع تشبه بل تطابق التدليل في نظريات إقليدس، ولكن هنا الفرق الأساسي بين بيكون التجريبي وبين ديكارت التفكيري؛ لأن البرهان عند ديكارت عقلي مهما قلنا إن منهجه يحوط هذه البراهين بما يمنع الخطأ، ولكن البرهان عند بيكون تجريبي، يجري باليد كما يجري بالعقل، أي: يجب أن نجرب أكثر مما نفكر، وهذا هو منهج المدرسة الإنجليزية على وجه عام، إذ هي مدرسة العلم وليست مدرسة الفلسفة، فقد حدث أن «جينر» الطبيب الذي اهتدى إلى لقاح الجدري أرسل إلى «هنتر» خطابا يقول فيه: «أنا أرتأي أن ...» فرد عليه هنتر بقوله: «لا ترتأي ولكن جرب».
منطق ديكارت يقول: «أقعد على كرسيك، وتأمل، وفكر بعقلك، واحترس من الخطأ بالقواعد الأربع التي ذكرت».
ولكن منطق بيكون يقول: «انهض، وشاهد بعينيك وافحص بسائر حواسك، ثم جرب بيديك».
وقد انتفعت الأبحاث التجريبية العلمية من منطق ديكارت من حيث النفور من التسليم بصحة الأقوال أو العقائد أو الفروض التي لم يفحص عنها، ولكن حضارة أوروبا القائمة هي ثمرة المنهج البيكوني، أي التجربة أو التفكير بالعقل واليد معا.
وعندما نتعمق مؤلفات ديكارت تتأكد لنا صحة القول بأنه ينزع إلى الفلسفة، وليس إلى العلم، فإنه يقول مثلا: إن هناك ثلاثة أنواع من التفكير هي: (1)
التفكير الأصلي أو اللدني:
مثل بديهيات الرياضة: 6 أكبر من 5. (2)
التفكير الاستنتاجي من الحواس:
وقد شك هو في قيمة هذا التفكير، ولكنه عاد فقال إن هذا التفكير يجب أن يكون سليما، فإذا قلت مثلا: إن هذا المنزل موجود مع إنه غير موجود، ففي هذه الحال يكون الله الذي خلق لي الحواس التي أعاين بها هذا المنزل قد غشني، وهذا غير معقول. (3)
التفكير الكاذب أو الخرافي:
كالإيمان بالجن الخ.
والحقيقة الأولى عند ديكارت تكاد تكون بمثابة الامتحان العلمي؛ ولذلك يضع شروط هذا الشك الواقية من الخطأ. أي إنه شك منهجي أو شك منظم.
وفي تفكير ديكارت كثير من الغيبيات، تراث القرون الوسطى، التي حاول هونفسه بمنهجه أن يصفيها أو يكسبها شيئا من المنطق. اعتبر مثلا قوله: إن الكائنات ثلاثة هي: (1)
أرواح مخلوقة:
مثل نفس الإنسان التي تفكر، وهي متصلة اتصالا غير وثيق بالأجسام. (2)
روح غير مخلوق:
هو الله وهو عنده بالطبع رب المسيحية. (3)
أجسام مخلوقة مادية:
لها خاصة التحيز مكانا وزمانا، وهي خارجة عن تفكيرنا مستقلة منه، وهذا التقسيم، بل هذا الإدمان على «مخلوق» و«غير مخلوق» ثم «روح» و«مادة» هو بعض تفكير الرهبان في الدير أيام القرون الوسطى، وقد وجد ديكارت نفسه في مأزق عندما حاول أن يفهم كيف يحرك الجسم «= مادة» النفس «= روح» ...
وصعوبات ديكارت هي صعوبات سيكلوجية؛ لأن محاولاته فلسفية عقيمة؛ ولذلك لم يستطع تفسير المعرفة بعد أن ربك نفسه بالفصل بين المادة والروح.
وعندما نتعمق مؤلفات ديكارت تتأكد لنا صحة القول بأنه ينزع إلى الفلسفة، وليس إلى العلم.
وكي نزيد الوضوح في الفرق بين منهج ديكارت التفكيري، ومنهج بيكون التجريبي نضرب مثلا بالأسلوب الذي اتبعه في إثبات الله: (1)
فإن ديكارت يقول: «إن الله كائن كامل أبدي غير محدود، وهو الذي خلقني، وأنا محدود؛ ولذلك لا أستطيع أن أخترع كائنا غير محدود زمانا ومكانا». (2)
إذا كنت أعرف شيئا أكمل مني فهذه المعرفة قد جاءتني من الخارج، ولست أنا أصلها، جاءتني من كائن كامل هو الله. (3)
إنه يمكن بالاعتماد على الصفاء والوضوح أن نجد الله.
فهنا نجد أن منهج ديكارت هو منهج المفكر القاعد على الكرسي يعالج المشكلة كما لو كانت سيكلوجية فقط خاصة به.
ولكن منهج بيكون التجريبي في هذه المشكلة يطالبنا ببحث الأديان جميعها كما عرفها الإنسان، والفكرة الخاصة بالله عند جميع الأمم القديمة والحديثة، ثم البحث عن حلقات التطور في سلسلة العقائد إلى أن نصل إلى الإيمان العصري، أي: إننا نعتمد على المشاهدة والاختبار اللذين يقومان هنا مقام التجربة باليد بدلا من أن نعتمد على التفكير المجرد، ونحن قعود على كراسينا.
وقد أوذي التفكير الأوروبي بالفصل الذي أقامه ديكارت بين العقل والمادة، أو الروح والجسم، ولكن ديكارت وهو يحاول الوصول إلى اليقين عن سبيل الشك المنظم قد زاد الشكوك وحطم الثقافة التقليدية، أي: ثقافة القرون الوسطى، وقد احتاجت أوروبا إلى سبينوزا (1632-1677) كي تحقق اتزانا جديدا يجعل الروح، أي: العقل والنفس، خاصة من خواص المادة والجسم، فقد ناقض سبينوزا ديكارت ووحدت فلسفته بين المادة والعقل، ولكنه اتفق مع ديكارت أن الفلسفة لا تكون صحيحة إلا إذا استطعنا التعبير عن حقائقها بالرياضيات ...
أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية
من الحقائق المسلم بها، أن النزعة العلمية التي شاعت في أوروبا في عصر النهضة، ترجع أصولها إلى التجارب الكيمائية التي كان يجريها العرب لتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، إذ أن تلك التجارب كانت بمثابة البذرة أو الخميرة «للمنهج العلمي» الحديث.
ولذلك يرى الأوروبيون أن للعرب فضلا كبيرا على العلم الحديث، فهل نستطيع أن ننسب لهم فضلا كذلك على الأدب الغربي؟ الرأي السائد في أوروبا أن الأدب العربي بعيد كل البعد عن الأدب الغربي، وقد لا يخطر ببال واحد من ألف من قراء الأدب الأوروبي أن لهذا الأدب علاقة بالأدب العربي، فقد استقر في الأذهان، أن الأدب الغربي ترجع أصوله إلى الأدبين اللاتيني والإغريقي، وقليل من المستشرقين والباحثين يرى في الأدب العربي أصلا من أصول الآداب الأوروبية الحديثة، ولعل أبرزهم جميعا المستشرق «جيب» أستاذ اللغة العربية بجامعة لندن الذي نلخص له هذه السطور من كتابه «تراث الإسلام». «في آخر القرن الحادي عشر ظهر فجأة طراز جديد من الشعر الغزلي في جنوب فرنسا، كان طرازا جديدا في موضوعه وفي أسلوبه ومعانيه، ولم يكن لهذا النوع من الشعر أساس في الأدب الفرنسي القديم: وهو يشبه الشعر الأندلسي شبها قويا جدا، إذ هو ضرب من الموشحات والأزجال الأندلسية الغنائية التي تدور موضوعاتها على الغزل والحب العذري. «أليس من المعقول إذن أن نرد هذا الضرب من الشعر الفرنسي الجديد، إلى الشعر العربي الأندلسي، وخاصة إذا علمنا أن نظرية «الحب العذري» التي يدور عليها هذا الشعر الفرنسي الجنوبي، ليس لها أصل في الأدبين اللاتيني والإغريقي؟».
لقد دلل المستر جيب على هذا الرأي في الكتاب الذي أشرنا إليه تدليلا قويا لا يدع مجالا للشك في صحته. •••
ليس الأمر مقصورا على الشعر الفرنسي، ولكن الشعر الإيطالي أيضا تأثر تأثرا قويا بالشعر العربي في صقلية، وخاصة في عهد «فريدريك الثاني» الألماني.
وقد يشك في أن الشعر الأوروبي قد تأثر قليلا أو كثيرا بالشعر العربي، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن نثر القرون الوسطى في أوروبا يرجع في كثير من أصوله إلى النثر العربي، فقد كان الأدب التقليدي في القرون الوسطى أدبا صارما جامدا، يخاطب الخاصة ولا ينزل لأفهام العامة، ومن هنا كانت الحاجة العامة إلى ذلك الضرب من الأدب الخيالي الذي يعنى بإشباع الحواس أكثر مما يعنى بالمنطق والعقل، فلما نقلت إلى أوروبا بعض «الحكايات» ذات المغزى، وبعض القصص الخرافية كقصة السندباد البحري وما إليها، وجد فيها الشعب حاجته المنشودة، وأقبل عليها إقبالا شديدا، فأصبحت بمثابة الخميرة للأدب «الخيالي» الجديد الذي أخذ ينازع الأدب التقليدي القديم مكانه، ومن ثم ذاعت القصص الخيالية الرومانتية ذيوعا عظيما، ولو فحصنا عن هذه القصص، لوجدنا أن كثيرا منها يرجع إلى أصل عربي بحت، وهناك قصة فرنسية يسمى بطلها «القاسم» وهو اسم عربي لا شك فيه.
يتضح من هذا أن التيارات الشعبية في الأدب الأوروبي في القرون الوسطى كانت أقرب إلى روح الأدب الشرقي منها إلى الأدبين اللاتيني والإغريقى اللذين كانا بطبيعتهما أميل إلى الأرستقراطية، ذلك أن الأدب الشرقي في جملته ينزع إلى الخيال والألوان الزاهية الجذابة، فكانت أوروبا كلما احتكت بالشرق استلهمت روحه، وتأثرت بأدبه أشد تأثر، فتأصل الأدب الخيالي الجديد في أوروبا وترعرع حتى كاد يزحزح الأدب التقليدي من مكانه.
حدث هذا في القرون الوسطى، فلما بدأت النهضة العلمية، نزعت أوروبا إلى درس الحضارة الإغريقية، فأهملت الشرق، وأصبحت مقاييس الأدب الإغريقي القديم هي السائدة في أوروبا في عصر النهضة، ومن ثم تغلبت النزعة التقليدية القديمة في الأدب على النزعة الخيالية الجديدة بعض الزمن غير أن النزعة الخيالية الجديدة، وهي نزعة شعبية خالصة، لم تخمد تماما ، ولكنها كانت تحاول الظهور من حين إلى آخر، وهذه القصة الرومانتية الفرنسية، والفولكلور الألمانية، والدراما الإنجليزية، التي فشت في القرن السابع عشر، كانت من آثار النزعة الخيالية التي بدأت في القرون الوسطى، والتي حاولت النهضة العلمية أن تقتلها فلم تفلح، ثم كان القرن الثامن عشر، فتم النصر للأدب الخيالي.
وقد كانت قصص ألف ليلة - التى ترجمت سنة 1704- أقوى عامل على هذا النصر، فقد أقبلت الجماهير على قراءتها في شعف شديد وراح الكتاب يقلدونها في قصصهم.
ويرجع نجاح كتاب ألف ليلة إلى حالة الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر، فإن انتشار القراءة قد أنشأ جمهورا جديدا من القراء لم يكن الكتاب يحسبون له حسابا من قبل، وهذا الجمهور الجديد كانت له مطالب وحاجات جديدة؛ فأخذ الكتاب يحاولون أرضاءه واشباع حاجاته.
ولكنهم كانوا في حيرة شديدة، يتحسسون طريقهم إلى معرفة حاجات الجمهور فلا يكادون يصلون إليها، فلما ظهرت قصص ألف ليلة، ورأى الكتاب إقبال الجمهور الغربي عليها ذلك الإقبال الشديد، تنبهوا لهذه الظاهرة الجديدة وأخذوا يدرسونها لعلهم يقفون على السر في شغف الجمهور الأوروبي بذلك الأثر الشرقي الطارئ، فتبين لهم بعد طول التمحيص أن قصص ألف ليلة وليلة، وإن تنقصها مقومات العمل الفني الكامل، إلا إنها تنفرد بخاصة من أهم الخواص التي تحبب الجماهير في القصص، هي روح المجازفة والاقتحام، فعمل الكتاب على إدخال هذا العنصر الجديد في قصصهم، ومن هنا كانت قصة روبنسن كروزو، وأسفار جوليفر، وما إليها من القصص التي ما كانت تظهر لولا قصص ألف ليلة.
أما في القرن التاسع عشر فقد تأثر الأدب الألماني إلى حد كبير بالآداب العربية والفارسية والهندية، وكان «جوته» يستلهم روح الشرق في كثير من قصصه التي مزجها بالخيال الشرقي، و«هيني» الذي لم يسلم الأدب الشرقي من سخريته اللاذعة، لم تخل قصائده الغنائية من روح الشرق.
وقد كان «شوبنهور» يتوقع اشتداد النزعة نحو الأدب الشرقي، وامتدادها من ألمانيا إلى فرنسا وإنجلترا، ولكن حدث ما لم يكن في حسبانه، فقد وقفت الآداب الفرنسية والإنجليزية في وجه تلك الحركة، فقضت عليها، ذلك أن العقل الغربي تحول فجأة عن الشرق، فقد انصرف عنه إلى فلاسفته الجدد، وما ظهر وقتئذ من أفكار سياسية جديدة، ومخترعات جديدة، وتطور صناعي سريع، فلم يكن في حالة تسمح له بالالتفات نحو الشرق فضلا عن الانكباب على دراسته.
وقد كان «جوته» يحلم بجعل الأدب الألماني أدبا إنسانيا عالميا، فتحطم هذا الحلم الجميل بظهور الحركات القومية واشتداد النعرة الوطنية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل مكان الأدب الشرقي من الآداب الغربية في جميع العصور.
وقد يظهر لنا لأول وهلة أنه مكان ضيئل، ولكننا إذا لاحظنا أن الأدب الشرقي لم يكن إلا بمثابة الخميرة للنزعات الأدبية الجديدة في أوروبا، أدركنا مبلغ ما كان له من أثر في تكييف الأدب الغربي وتوجيهه، ويكفي أن نقول إن الشرق كان كلما اتصل بالغرب عمل على تحرير الخيال الغربي من القيود، وتخليصه من كابوس الأدب التقليدي القديم.
فأثر الأدب الغربي في الغرب ليس أثرا عاديا ملموسا يمكن إدراكه في سهولة ويسر، وإنما هو أثر معنوي، إن صح هذا التعبير؛ لأنه في حقيقة الأمر لم ينقل إلى الغرب نماذج أو أساليب أدبية معينة، وإنما نقل إليه روح الشرق، فكان أثره في بواعث الأدب وغاياته أكثر مما كان في أساليبه وأشكاله الظاهرة، ثم يجب أن نذكر أن الغرب لم يأخذ عن الشرق نزعات أدبية جديدة لم يكن له بها عهد من قبل، فإن البذور كانت موجودة في الغرب، ولكنها كانت في حاجة إلى حافز يحفزها حتى تنمو وتترعرع، فكان الروح الخيالي الشرقي هو الحافز المنشود، ومن هنا يصعب على الباحث أن يميز بين عناصر الأدب العربي التي طرأت على الأدب الغربي في مختلف العصور؛ لأن تلك العناصر قد اندمجت في الآداب الغربية اندماجا تاما، وطغت عليها الألوان المحلية فغمرتها.
العرب أصل النزعة العلمية
أقدم الجامعات في أوروبا هي جامعات طليطلة وقرطبة وإشبيلية، وهي التي ازدهرت في أيام العرب، ثم كان أقدم الجامعات التي ظهرت في أوروبا المسيحية بعدها جامعات دينية أنشئت في باريس وأكسفورد، وكانت المدارس في سالرنو وبولونيا ومونبيلييه في إيطاليا وفرنسا ثغورا للثقافة العربية.
وكان من ميزات الثقافة العربية أنها عنيت بعلوم الإغريق دون آدابها، فنقلها العرب وزادوا عليها ونقحوا فيها، فقد أخذوا الكيمياء المصرية فجعلوها علما تجريبيا لم يختلط بالصوفية إلا في أواخر تاريخهم، أما الطب والفلك والبصريات والميكانيات فقد برعوا فيها، وأخذوا الجبر الهندي الممزوج بالبلاغة، فاستعملوه في الرياضة كما أخذوا الأرقام الهندية.
وهذه العلوم هي أصل النهضة الأوروبية، وقد كان يسايرها أدب الإغريق وثقافتهم في الفلسفة والمنطق وما إليهما، ولكن هذه الثقافة كانت تؤخر أوروبا بينما هذه العلوم كانت تعمل لتقدمها، ولكن نرى «روجر بيكون» في القرن الثاني عشر يراقب هاتين الحركتين، حركة الأدب والفلسفة من الإغريق وحركة العلوم التجريبية من العرب، فيقول: «لو كان لي أن أفعل ما أشاء لأحرقت جميع الكتب التي ألفها أرسطوطاليس؛ لأن درسها لا يؤدي إلا إلى ضياع الوقت ولا ينتج غير الجهل».
وقد ولد روجر بيكون، ومات خلال القرن الثالث عشر، وكان يدرس في جامعة أكسفورد، وهو يمثل لنا الفرق بين الطريقة الإغريقية، طريقة التفكير الفلسفي، والطريقة العربية، طريقة التجربة التي اندفع إليها العرب بتجاربهم الكيماوية، ونحن ننقل هذه القطعة التالية منه؛ لأنها تمثل صراعا بين طريقتين في زمنه. «أما وقد شرحنا المبادئ الأساسية لحكمة اللاتينيين كما هي موضحة في اللغة والرياضة والبصريات، أرغب الآن في أن أشرح مبادئ العلم التجريبي، وذلك لأنه بدون التجارب لا تمكن معرفة شيء على وجه الكفاية، وذلك أن هناك طريقتين للتعلم أو اكتساب المعرفة هما: طريقة التفكير، وطريقة التجربة، فبالتفكير نستنتج النتائج ونسلم بها، ولكن التفكير لا يجعل النتائج يقينية ولا هو يزيل الشكوك حتى يسكن العقل إلى الحقيقة ما لم يهتد العقل إلى هذه الحقيقة عن سبيل التجربة.
ومن الناس كثيرون يستطيعون المناقشة فيما يمكن معرفته ولكنهم لا يناقشون؛ لأن التجربة تنقصهم وبذلك لا يتجنبون الضرر ولا يتبعون المفيد، وذلك أنه إذا كان ثم رجل لم ير النار يمكنه بالتفكير أن يثبت أن النار تحرق وتتلف الأشياء، فإن عقله لا يقنع بذلك، وهو أيضا لا يتجنب النار بذلك ما لم يضع يده أو يضع شيئا يحترق في النار فيثبت بالتجربة ما قاده إليه تفكيره، وبعد أن يجرب هذه التجربة العلمية بالنار تتضح له الحقيقة، وعلى ذلك نقول: إن التفكير لا يغنينا وإنما الغناء في التجربة».
ويجمع الآن المؤرخون حوادث تلك القصة التي سبقت «كوبرنيكوس» بنحو أربعمائة سنة، وهي قصة تسرب المعارف العلمية إلى أوروبا قبل النهضة الكبرى.
وخلاصة هذه القصة: إنه عقب إحراق المكتبة الثانية التي كانت بالإسكندرية انتشرت الثقافة الإغريقية في الشرق الأدنى، وذلك؛ لأن البلاط الفارسي رحب بالعلماء اليهود والنسطوريين الهراطقة والأفلاطونيين فتوافدوا إلى فارس، وترجمت الكتب العلمية الإغريقية إلى اللغة السريانية ثم بعد ذلك إلى العربية.
ولما استتب الإسلام صارت بغداد ملتقى الدراسات الإغريقية لبطليموس وأرخميدس وأقليدس وأبقراط، وأيضا للدراسات الهندية التي عرف العرب بوساطتها الجبر، هذا العلم الذي صار بعد ذلك أكبر معوان لتقدم الميكانيات في القرن السادس عشر في أوروبا، وكانت الأزياج الهندية في الفلك قد أدخلت في فارس قبل تأسيس مدرسة بغداد بنحو خمسين سنة، ومعها الحساب الهندي، وكلاهما دخل بعد ذلك بغداد.
وقد افتتحت مدرسة بغداد بترجمة المجسطي لبطليموس، وهندسة أقليدس، ومؤلفات أبقراط، نقلها إلى العربية مترجمون من اليهود، وكانت أزياج طليطلة «سنة 1080» والأزياج الألفونسية طلائع البحث في الفلك وأساس الملاحة مدة الاكتشافات الكبرى، ولما أخرج المسلمون من إسبانيا بقي اليهود فكانوا يختصون بالفلك في برتغال وبالطب في إسبانيا، وكان الطب في ذلك الوقت يدرس باعتباره ثقافة وليس باعتباره موضوعا؛ ولذلك فإنه كان ينتظر من الطبيب أن يعرف الرياضيات.
وقبل أن يخرج العرب من إسبانيا كان اليهود الإسبانيون المتعربون قد انتشروا في أوروبا يحملون معهم ترجمة العلوم الإغريقية ومؤلفات الخوارزمي وابن سينا وابن رشد، ونرى في القرن الثاني عشر بل قبله طوائف من اليهود ينشئون في أوروبا مدارس للطب ويستعملون الكتب العربية أو المنقولة من العربية إلى اللاتينية، وكان النقل أحيانا من العبرانية التي بقيت مدة ما لغة التعارف والثقافة بين الأمم، ونرى في نهاية القرن الحادي عشر أن العالم اليهودي «إبراهيم بارشيا» وهو من المترجمين الذين أدخلوا الرياضيات الجديدة في أوروبا، يلوم اليهود الفرنسيين لأنهم يجهلون الرياضيات.
وفي سنة 1134 نجد كتابا عظيما يؤلفه في الفلك عالم يهودي يدعى «إبراهيم بن حيا» في مارسليا، وفي ذلك الوقت بينما كانت جامعة أكسفورد تقرر تدريس جزء صغير من الكتاب الأول لأقليدس نجد أن علماء قرطبة وطليطلة يؤلفون الكتب في نظرية الأعداد، وفي حساب المثلثات الكروي.
وفي سنة 1158 نجد رجلا يدعى «ربى بن عزرا» يسافر إلى إنجلترا ومصر، وينقل إلى أوروبا الجبر والكسور العشرية، وفي القرن الثالث عشر نجد أسماء أخرى مثل «موسى بن طبون» و«يوحنا هسبالنسس» وهما من اليهود الذين كان ينقلون من العربية إلى اللاتينية مؤلفات: أقليدس، وبطليموس، وأرخميدس، وأبقراط، وجالينوس.
وكان جميع الناقلين من اليهود ما عدا قليلين من المسيحيين مثل «ادلهار» الذي ادعى الإسلام ليتعلم في قرطبة و«ليوناردو بيزو» و«ليوناردو فيبوناكي» و«جريجوري كريمونا».
وكما قلنا آنفا: إن الفلك ارتقى عند العرب أكثر مما ارتقى عند الإغريق، ونعرف أن «رجيبومونتانس» الذي سبق «كوبرنيكوس» تعلم الفلك من مصادر عربية.
وفي نفس السنة التي ظهر فيها مؤلف كوبرنيكوس في الفلك ظهر فيها أيضا كتاب ألفه فساليوس عن «مصنع الجسم الإنساني» فكان رائدا جديدا للطب الحديث، وفي هذا الكتاب نجد أن فساليوس يعتمد كثيرا على المؤلفات العربية والعبرانية، ويدعو إلى التجربة والتشريح اللذين بدأ بهما الطبيب اليهودي «موندينو» في بولونيا حوالي سنة 1300، ومدرسة بولونيا الطبية تأسست سنة 1156 والذي قام بتأسيسها يهود أسبانيون، وهذا ما حدث أيضا في المدرسة الطبية في مونبلييه سنة 1228.
وفي مدينة سالرنو أيضا قبل هذا التاريخ، وفي سالرنو هذه استخدم فريدريك الثاني طائفة من العلماء اليهود في ترجمة الكتب العربية الطبية والرياضية إلى اللغة اللاتينية.
وكان نقل الفلسفة الإغريقية من العربية إلى اللاتينية قد بعث رجال الدين في أوروبا منذ سنة 1350 إلى البحث عن الكتب الإغريقية القديمة لكي يعتمدوا عليها في البلاغة والجدل الديني، وذلك؛ لأن العرب لم يبالوا بهذه الكتب، وإنما كانت عنايتهم متجهة نحو درس العلوم الطبية والرياضية الإغريقية.
وعلى كل حال نجد أنه عندما شرعت أوروبا في درس الإغريق القدماء كانت الثقافة العربية قد وجهتها نحو درس العلوم التي رقي بها العرب إلى مستوى أعلى من مستواها السابق أيام الإغريق القدماء.
ومن هنا نعرف أن أساس النهضة العلمية في أوروبا هي النزعة التجريبية التي نزع إليها العرب ونقلها اليهود إلى أوروبا، فكانت البذرة الصالحة للحضارة الصناعية الراهنة.
الحركة البشرية الثانية
كانت إيطاليا البادئة بالنهضة في القرن الخامس عشر؛ لأنها كانت مركز البابوية الحافل بالديورة والمكتبات، وكان للمطبعة أثرها في بعث الكتب القديمة وتحريك الأذهان بمناقشتها والتفكير في موضوعاتها، ويمكن أن يقال على وجه الإجمال أن هذه النهضة الإيطالية بدأت أدبية ثم انتهت علمية «بجاليل» الفلكي وغيره من أساتذة الطب الذين شرعوا يدرسون الجسم البشري بالتشريح.
وتفشت هذه الخميرة الإيطالية في أقطار أوروبا الكبرى فظهرت في ألمانيا نهضة دينية على يد «لوثر» وظهرت نهضة علمية محضة في إنجلترا على يد «بيكون» ثم «نيوتن» الذي ولد يوم وفاة جاليل، كأن الأقدار تواطأت على أن تبقى السلسلة متصلة الحلقات، ثم ظهرت نهضة أدبية أخرى في فرنسا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر على يد فولتير، وديدرو، وروسو.
إذا تأملت هذه النهضات جميعها ألفيتها حركات بشرية غايتها الاستقلال الذهني، والاعتماد على التفكير البشري في مواجهة هذا الكون، فإن لوثر يفصل النفس من حكم الكنيسة، ونيوتن يجرؤ على قياس الكواكب ووزن الأرض، ثم يأتي هؤلاء الأدباء الفرنسيون فيدعون إلى «بشرية» لا تزال فروعها تمتد في الثقافة الحديثة، كما لا تزال النزعة الآلية التي نزع إليها نيوتن واضحة في النهضة الصناعية الآلية الحديثة.
والنهضة الفرنسية تشبه في مجموعها نهضة أدبية محضة، ولكنها في آثارها وصميمها كانت أكبر من ذلك، كانت دعوة حارة إلى تحرير الذهن البشري والإكبار من شأنه والاعتماد عليه، وكان جميع أبطالها ينظرون إلى أوروبا، بل إلى الدنيا، كأنها وطنهم الأصلي، وقل أن تجد نزعة حديثة في أيامنا في الأدب أو العلم أو الفلسفة لا ترجع إليهم إيحاء أو تعيينا؛ ولهذه النهضة ثلاثة أبطال بارزين هم: (1)
فولتير:
الذي دعا إلى الاعتماد على الذهن البشري دون التقاليد فخدم الروح العلمي الحديث، وفسح الميدان للتفكير الفلسفي الحر، ولم يكن عالما ولكنه كان بعد نيوتن أعظم إنسان في العالم. (2)
روسو:
الذي دعا إلى تحرير الذهن من التقاليد، ولكن دون الاعتماد على العقل وحده كما فعل فولتير، بل يعتمد روسو على القلب. (3)
ديدرو:
الذي شرع يجمع المعارف ويدونها في موسوعة؛ اعتمادا على أن معارف القدماء لا قيمة لها وعلى أن الذهن البشري جدير بأن تجمع آثاره وتدون.
وكانت نتيجة هذه النهضة، التي يمكن أن توصف بأنها الحركة البشرية الثانية في أوروبا، أن ثارت الثورة الكبرى في فرنسا، وهي ثورة تجد فيها أثر «فولتير» في الدعوة إلى الذهن والمنطق، وأثر روسو في الحملة على التقاليد والظلم.
وقد عاشت أوروبا في القرن التاسع عشر وهي تستظل بهذه النهضة الفرنسية في ثقافتها أو نزعتها الثقافية، فإن روسو هو الذي حرك الأذهان إلى درس «الرجل الفطري» حين قال بأن الطبيعة حسنة والاجتماع سيئ، فكان بذلك سببا لدرس الأتنولوجية، والأنتروبولوجية، والسيكلوجية، والطبيعة، ولا شك في أن البحث العلمي قد نقض آراءه في أن الرجل الفطري خير من الرجل المدني، ولكن هذا لا يعني أنه ليس الأساس لهذا البحث نفسه، ثم لا ننسى هذه الثورة التي بعثها في الآراء التعليمية وهي ثورة لم تنته بعد إلى نتيجتها.
ومع أن فولتير قد بالغ في حملته على الأديان، فإن هذه الحملة نفسها كانت من الأسباب التي بعثت رجال الذهن على درس الأديان القديمة والحديثة والاهتداء إلى كشف كثير من الأسرار والعقائد التي انعقدت وتراكبت في النفس الإنسانية، وما يسمى الأديان «المقارنة» انما هو درس خصب يعزى إليه الفضل فيه.
ولولا هذه الحركة البشرية الثانية لبقي الاستبداد السياسي مسلطا على أوروبا، وكان يكون منه هذا الوليد الذي تراه مرافقا له في كل مكان وزمان وهو الاستبداد الذهني في الأدب والعلم، فإن الجامعة الحرة التي تدرس العلوم وتمارس الكشف العلمي لا يمكنها أن تعيش في ظل الاستبداد، وهذه النهضة الفرنسية عندما حطمت الاستبداد تناولته من جميع وجوهه، وأطلقت الذهن من جميع قيوده وأوغلت في هذا الانطلاق وارتطمت بعقبات أوقعتها في جرائم، ولكنها بعد كل ذلك استقرت على الاعتراف بحرية الذهن في التفكير، فجعلت الأدب والفلسفة موضوعا منفصلا عن اللاهوت كما جعلت العلم ممكنا بل مندوبا إليه من كل إنسان.
ولا نكاد نستطيع التمييز بين النهضة الإيطالية «القرن الخامس عشر» والنهضة الفرنسية «القرن الثامن عشر» فإنهما تنزعان نزعة بشرية واضحة، ولكن النهضة الإيطالية تسير في تردد وتعثر ومراقبة، أما النهضة الفرنسية فتجرؤ وتصادم وتتحدى، وبأي شيء تتحدى؟
بالذهن البشري الذي ليس فوقه سلطان سوى سلطان القلب أو سلطان الإنسانية.
الحركة البشرية الثالثة
في تحليل النهضة الأوروبية الحاضرة، بل في تحليل أزمات أوروبا الحاضرة، نستطيع الاهتداء إلى البذور أو الجذور الأولى، ونستطيع أن نتبين الاتجاهات التي تتجه إليها فروع هذه الشجرة في الوقت الحاضر.
فقد عرفنا كيف نشأت النهضة في إيطاليا بدرس القدماء والتنقيب عن مؤلفاتهم، وهؤلاء القدماء كانوا وثنيين قاطعتهم أوروبا لما عمها الظلام قبل سنة 1000 للميلاد، وكان الكشف عنهم تحريرا للذهن البشري وتوسعة له في الآفاق، وكان لوثر المصلح الديني إحدى ثمرات هذه النهضة التي زادت على تحرير الذهن تحرير الضمير.
ثم ظهرت النهضة الثانية في فرنسا قبيل الثورة الفرنسية، وكانت كفاحا صريحا للاستبداد بألوانه المختلفة، ويمكن أن يقال: إنها كانت نهضة أدبية واجتماعية وسياسية ودينية.
ثم جاءت النهضة الثالثة أو الحركة البشرية الثالثة في منتصف القرن الماضي حين ظهر كتاب داروين «أصل الأنواع» سنة 1859، فجعل التفكير في الأصل والحال والمصير للإنسان تفكيرا بشريا، وهنا يجب أن نلتفت إلى سمات النهضة أو النهضات الإنجليزية، فإنها كانت في الأغلب تنزع نحو العلم وليس نحو الدين أو الأدب، فقد ظهر فيها روجر بيكون قبل 700 سنة فتنبأ بالميكانيات، حتى الطائرات، وذكر قيمة التجربة المتكررة كأنها الأساس الذي يجب أن تنبني عليه المعارف، ثم جاء سميه اللورد بيكون في بداية القرن السادس عشر فوضع برنامجا للنهضة العلمية، ثم بعد ذلك جاء نيوتن فصبغ الذهن صبغة ميكانية «آلية» وهو الأصل في هذه الأزمة الحاضرة؛ لأنه هو الذي أوجد النزعة إلى اختراع الآلات، هذه الآلات التي طردت وما زالت تطرد العمال من المصانع وتحدث العطل.
وهذا العطل هو في نظر العالم فراغ ونعمة، وهو في نظر الجاهل فاقة ونقمة، ولكن رويدا رويدا سيعرف السياسيون أن الإنسان يمكنه أن يحيل على الحديد والنار أو على البترول والفحم والقوة الكهربائية الكد والعناء للإنتاج، وأنه يمكنه أن يستمتع بالفراغ دون أن يشعر بهوان العطل.
ولكن داروين أحدث نهضة جديدة تختلف من النهضة التي أحدثها نيوتن، وإن كانت كلتا النهضتين علمية، ولكن الأولى للميكانيات والثانية للبيولوجيات، الأولى تعالج الحديد وتؤثر بذلك في مقدار الإنتاج من المحصولات الزراعية والإنتاج الصناعي. أما الثانية فتعالج، أو سوف تعالج، الجسم البشري لا بل الذهن البشري، وموضوع كتاب داروين يتلخص في أن الإنسان والحيوان يرجعان إلى أصل واحد، والموضوع يبدو بسيطا لنا الآن، ولكن الحرب القلمية التي قامت بين رجال الدين وبين الداروينيين مدة أربعين سنة تقريبا في جميع أنحاء أوروبا تدل على أن القرون الوسطى لم تكن قد ماتت حتى في نهاية القرن الماضي.
ونحن الآن في غمرة هذه النهضة، وفي أوروبا الآن بدايات فجة للانتفاع بها، ولكنها مع فجاجتها تومئ إلى مستقبل حافل بالاحتمالات التي قد ترفع السلالات البشرية إلى مستويات من السعادة والكفاءة الصحية والاجتماعية لم نحلم بها من قبل.
فما هو إن استفاض المذهب القائل بأن الإنسان والحيوان من أصل واحد حتى أخذت الأبحاث تنتشر عن مصيره في المستقبل؛ لأن منطق النظرية في الماضي يجب أن تكون له دلالته في المستقبل، وما دام الإنسان كان حيوانا ثم ارتقى، فلماذا يقف عن الارتقاء، ولماذا لا ندرس الوسائل التي استخدمت لهذا الارتقاء في الماضي وننتفع بها في المستقبل؟
ومن هنا رأينا الخياليين الذين يدعون إلى «السوبرمان» أو الإنسان الذي يرجى أن نستنتجه، فيكون منا كما نحن من القردة مثلا، كما رأينا العلميين الذين اخترعوا علما أو فنا جديدا هو «اليوجنية» وهو البحث عن الوسائل السلبية والإيجابية التي تعمل لرقي الذريات القادمة وحمايتها من الأمراض وزيادة كفاياتها.
ومن هنا أيضا نشأ الرأي القائل بالتعقيم، فصارت الحكومة تعقم الرجل أو المرأة إذا اعتقدت أن بهما مرضا جسميا أو عصبيا قد يرثه نسلهما، بل بعض الحكومات استعملت التعقيم لحسم المنازعات الإجرامية في بعض الأفراد الذين يثبت عليهم العجز عن السلوك الحسن.
وواضح أن هذا المنطق الجديد، منطق ترقية النسل واليوجنية والتعقيم، يرجع إلى نظرية التطور التي قال بها داروين؛ لأن هذه النظرية جعلتنا ننظر نظرا «بشريا» لمصير الإنسان، ونأخذ بيدنا معالجة ذهنه وجسمه، وتخيل الأخيلة عنهما، لا بل تعيين صفاتهما في المستقبل، وقد أصبحنا نجرب التجربة السيكلوجية في الكلب لكي نستنتج منها النتيجة في تلميذ المدرسة، ونلقح الحيوان بالأمصال لكي نستخرج منها العقاقير للإنسان.
ونحن من هذه «الحركة لبشرية الثالثة» في خلط واضطراب، نتخبط في الموازنة في الموازنة بين الوراثة والوسط، أو نقسو بدعوى تنازع البقاء، أو نكسب العصبية السياسة لونا بيولوجيا، أو نقف موقف الحيرة بين المادية والحيوية، وكل هذا لأننا ما زلنا في غمرة هذه النهضة الجديدة.
ولكنا عندما نؤرخ يجب ألا نتعامى عن التجانس في هذه النهضات المتوالية في أوروبا منذ القرن الخامس عشر، فإنها جميعا تتسم بسمة البشرية.
اللغة والنهضة
كانت أوروبا مدة القرون الوسطى تحت سيطرة الكنيسة، وكانت هذه السيطرة على أشدها في النواحي الثقافية، فلم يكن أرسطوطاليس يقرأ أو يدرس إلا لخدمة الكنيسة، ولم تكن الكتب تؤلف، أو الأطفال يعلمون في المدارس، إلا لهذه الغاية، وكان للكنيسة لغة واحدة تعم أوروبا كلها هي اللغة اللاتينية، وهي لغة لم يكن يتكلم بها الناس وإنما يكتبونها فقط.
ولكن نزعة الاستقلال التي فشت في النهضة، وجعلت ميكافيلي يستقل بالسياسة ويفصلها من الكنيسة، وجعلت جاليل يستقل بالفلك ويفصله من الكنيسة، جعلت لوثر يفصل الدين نفسه من الكنيسة.
ومن لوثر هذا نشأت القوميات الأوروبية، فإنه حين ترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية جعل الدين المسيحي «قوميا» ورفع بذلك من شأن اللغات القومية التي لم تكن تكتب أو تدرس، ونزلت اللغة اللاتينية عن مكانتها وظهرت اللغات الوطنية، وأصبحت كل منهة لغة الدين والعلم والأدب، وهي الظاهرة، المدروسة، في حين صارت اللاتينية مغمورة مهملة.
ولا يظن القارئ أن هذه المعركة بين اللغات القومية وبين لغة الدين اللاتينية كانت من المعارك الخفيفة، فإن بقاء هذه اللغة في الجامعات الأوروبية، وإلزام طلبة المدارس الثانوية على تعلمها في فرنسا وألمانيا وغيرهما، بل بقاء التعابير والمصطلحات القانونية بألفاظها القديمة، يدل على إنها كانت قوة كبيرة جدا، وأن الأمم الأوروبية عندما تحدت الكنيسة ولغتها كانت تكافح أوعر المشاق في حياتها الاجتماعية والدينية والثقافية، وإلى قبل مئة سنة كانت اللاتينية لغة التخاطب في البرلمان الهنغاري.
وقد يقال إن أوروبا لم تكتسب بترك اللاتينية التي كانت لغة الكتابة عند جميع المثقفين، واعتماد كل منها على نفسها واتخاذها لغتها بدلا منها، فإن اللاتينية كانت تربط بينها، وتجعلها أمة واحدة دينا ولغة، ولكن المتأمل لتاريخ الحروب يجد أن هذا الاعتبار لا قيمة له، فإن الإنجليز حاربوا الأمريكيين وكلاهما ينتمي إلى لغة واحدة ودين واحد، ولم تكن الحروب في القرون الوسطى حين كانت اللاتينية عامة أقل مما كانت عقب النهضة.
ونحن في أيامنا قد اصطبغت أذهاننا بصبغة عالمية، فصرنا ننظر نظرة الرجاء لمنظماتنا الدولية ونفكر في إيجاد لغة عالمية؛ ولذلك لا نستطيع إلا الأسف على ضياع اللاتينية أو انحدارها إلى زوايا الجامعات والديورة والكنائس، ولكن الشعور بالنهضة هو نفسه شعور بالاستقلال، والناهضون الذين دعوا إلى العلم والأدب والتجديد في الأخلاق والسياسة شعروا بكرامة قومية تبعثهم على الإكبار من شأن اللغة القومية، واتجه نظرهم إلى المستقبل دون المبالاة للروابط التاريخية في الماضي، ولو أن الأوروبيين وضعوا الدين ولغة الدين فوق القومية لكانت أوروبا الآن دولة واحدة عاصمتها روما.
وقد لقيت أوروبا صعوبات كبيرة في كل دولة بلغتها استقلال، وبقيت أكثر من مئة سنة عقب النهضة، وهي تؤلف مؤلفاتها باللاتينية وتنقل إليها المؤلفات العربية والإغريقية القديمة، ولكن رويدا رويدا تغلبت الشخصية القومية حتى أصبحت لكل أمة كرامتها وكيانها، واستقلالها ولغتها.
ثم أخذ هذا الانفصال من الكنيسة الأوروبية، كنيسة روما، يتفشى، وأخذت النفس الإنسانية في الاستقلال حتى فصلت الدولة من الدين، وأصبح الدين بعد أن كان يسيطر مدة القرون الوسطى على كل شيء مفصولا من كل شيء.
وقد يسوء هذا بعض القراء، ولكننا هنا نحاول أن نقرر الحقائق التي تبدو لنا كما نقرأها في تاريخ النهضة الأوروبية.
كلماتنا العربية الأوروبية
تقارضت الثقافات وتلاقحت وأخصبت، ولم تنفصل أمة عن العالم وتحيا في عزلة قط إلا إذا كانت أمة الصين، وعاد الضرر عليها هي وحدها، وسار العالم في موكب الارتقاء حتى إذا فتحت أبوابها بعد عزلتها كانت قد تخلفت عن هذا العالم نحو ألف سنة.
وتقارض الثقافات يخصبها كما لو كانت جسما حيا يتلاقح مع جسم حي أجنبي، فتخرج منه السلالات الجديدة، ثم على مدى التطور، الأنوار الجديدة
وهذا الذي نسميه «القرون المظلمة» والذي نصف به السنين التي عاشت فيها أوروبا فيما بين سنة 500 وسنة 1100 ميلادية إنما كان مرجعه انعزال أوروبا أيضا حين انقطت مواصلاتها مع العالم في آسيا وإفريقيا، وحين أصبحت القرية استكفائية في اقتصادياتها، فلم تعد روما تعرف الهند، ولم تعد أثينا تسمع عن الصين.
وفي هذه القرون نفسها لم تكن الأمة العربية منعزلة؛ ولذلك كانت متمدنة، إذ كانت تعرف الصين وإسبانيا وما بينهما، وكانت تتقارض الثقافة مع الهند والصين وإيران، فنقلت صناعة الورق من الصين إلى أوروبا، ونقلت الأرقام من الهند إلى أوروبا أيضا.
ولولا الورق والأرقام لما كانت أوروبا على علومها وصناعاتها الحاضرة.
ومن قبل ذلك بنحو ألفي سنة أدخل الفينيقيون، وهم أمة سامية مثل العرب، حروفهم، التي نقحوها من الخط الهيروغليفي المصري، إلى أوروبا أيضا.
ونحن في مصر، في الوقت الحاضر، نحس إننا مظلومون مرهقون بالاستعمار الأوروبي؛ ولذلك ننفر من الثقافة الأوروبية، وليس شك إننا نعذر في هذا الأساس؛ لأن أوروبا تمارس الاستعمار بكل ما فيه من وحشية مع الأمة العربية وغير العربية، ولكن في هذه الأمم الأوروبية طوائف تعرف ولا تنكر أن الاستعمار جريمة، وقد كتبت عن الطلبة الذين احتفلوا في باريس بيوم 21 فبراير، وهو يوم نهوض الطلبة المصريين وانضمام العمال المصريين إليهم حين هبوا في تظاهرة تستنكر الاستعمار، وتطالب بالاستقلال إلى أن وصلوا إلى ميدان قصر النيل فخرج إليهم الجنود الإنجليز فقتلوا منهم وجرحوا.
وقد أصبح هذا اليوم عيدا عالميا، هو رمز الكفاح من أجل الحرية والاستقلال ضد الأمم الاستعمارية.
إن في أوروبا أناسا طيبين يستنكرون الاستعمار، وأنا هنا أحاول أن أبين للقراء، وخاصة لأعضاء المجمع اللغوي المصري الذين يكرهون الكلمات الأوروبية، إن لغتنا العربية تحتوي مئات الكلمات الأوروبية، كما أن اللغات الأوروبية تحتوي كذلك مئات الكلمات العربية، وإننا نحن والأوروبيين يجب أن نجد في هذه الظاهرة مجالا للتعاون والحب، وميدانا للوحدة البشرية التي يهفو إليها كل إنسان إنساني. •••
لقد سبقت الأمم السابقة أوروبا في الحضارة؛ ولذلك لا تستغرب أن تكون كلمة أوروبا سامية «أروب أي غروب»؛ لأن الفينيقيين كانوا يصفون الأقاليم الأوروبية بأنها غرب بلادهم على الجانب الآخر من البحر المتوسط.
ولولا أن انهزم هني البال القرطجني، وصهره أسدروبال، في محاربته للرومان لكانت أوروبا الآن في اشتراك لغوي مع الأمم السامية.
وكما اقترض الأوروبيون منا اقترضنا منهم، فقد كانت هناك دولة عربية حول دمشق أو بالقرب منها، هي دولة تدمر أو دولة زينب، وهي التي يسميها العرب الزباء، فقد كانت هذه الدولة عربية يونانية، ومن هنا مئات الكلمات التي دخلت لغتنا قبل الإسلام، ومما يلاحظ أن كثيرا من هذه الكلمات اليونانية يدل على أن الطبقة السائدة، طبقة الحاكمين، كانت عربية يونانية.
اعتبر مثلا كلمة السيف، فإنها يونانية، وقد كنت أشك في ذلك وخاصة؛ لأن السيف كان يوصف بأنه مهند أو هنداواني، أي: من الهند التي اشتهرت بصهر المعادن، ولكن اتضح لي أن السيف كلمة يونانية لفظا ومعنى.
ثم اعتبر الخطأ المشهور حين يقولون: «خرجوا للصيد والقنص» فإن المعاجم تفسر «القنص» بأنه هو الصيد، فكأنهم خرجوا للصيد والصيد، وهذا سخف.
وإنما التفسير الصحيح أن قنص كلمة لاتينية بمعنى الكلبة «كانيس»، وإذن تكون صحة الجملة «خرجوا للصيد بالقنص» أي: بالكلاب.
وأذكر أني كنت أقرأ كتاب الحيوان للجاحظ، فوجدته يقول: إن العقاب تنكدر على الذئب، وتنشب مخالبها فيه فتقطع ظهره، وأعجبتني كلمة «انكدر» وبحثت عنها فلم أجد لها أصلا عربيا ثلاثيا، وإنما وجدت لها أصلا لاتينيا هو «انكيديرا» أي: انقض عليه.
ثم وجدت أيضا أن هناك كلمات ثقافية عديدة تعود إلى اللاتينية أو اليونانية؛ مثل القلم، والقرطاس، واللغة، والأدب، والرقص، والموسيقى، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والسفسطة، والزخرفة.
وكل هذه الكلمات، عندما نضيفها إلى كلمات الصين، تدل على أن الطبقة الحاكمة، التي كانت تمارس رياضة الصيد ورياضة الفنون الجميلة، إنما كانت يونانية لاتينية عربية، كما كان الشأن في مصر عند دخول العرب حين كانت الطبقة الحاكمة يونانية رومانية مصرية.
بل هناك ما يزيد هذا الرأي تأييدا، وهو أن كلمات الفضاء والامتلاك يونانية لاتينية أيضا.
اعتبر كلمات: القانون، والقسط، والقسطاس، والقاضي والميراث، والفدان، والعقار، ثم الجرن أو الجران.
وهي لا تزال تستعمل كما هي الآن في أوروبا، وربما يلتبس بعضها على القارئ العربي مثل كلمة ميراث، فإن المعاجم العربية تقول: إن الأصل هو الإرث، وهذا الأصل يوناني «ارس» ويبدأ بحرف الهاء الصامتة، ومنه كلمة «هيريدتيه» الإنجليزية الفرنسية.
وأما كلمتا جرن وجران فعاميتان، ومعناهما الحبوب «جرين وجران».
وأما كلمة قاض فترجع إلى اللاتينية جوديك اللاتينية.
وأما كلمتا قسط وقسطاس فهما بلفظهما يستعملان في اللغات الأوروبية.
وواضح أن كلمات البناء مثل قصر، وقرميد، وبلاط وافريز، وبرج، هذه كلها لاتينية،
ومن الحسن أن ندرس هذه الدولة التدمرية لعله يكون في ذلك كشف جديد لعلاقات عربية إغريقية لاتينية ما زلنا نجهلها.
هذا بعض ما أخذته من الكلمات.
ونستطيع أن نذكر من الكلمات العربية التي دخلت أوروبا، والتي تستعمل الآن في لغاتها عشرة أضعاف ما ذكرنا هنا.
وكل هذا يدل على أن الثقافات تتقارض بأخذ بعضها من بعض ، وهذا التقارض هو في النهاية تلاقح وإخصاب وزيادة في التفاهم والإنسانية.
وليس علينا لذلك أي ضرر من الأخذ بالكلمات الأوروبية للمخترعات والمكتشفات الأوروبية.
قبل خمسمائة سنة
في مثل هذه الأعوام، منذ خمسمائة سنة، دخل محمد الفاتح القسطنطينية، وانتهى بذلك تاريخ الدولة الرومانية الشرقية، وقام مقامها وملأ مكانها العثمانيون، أي الدولة العثمانية.
وكان هذا كسبا عظيما للإنسانية.
ونحن العرب الذين كابدنا من الحكم العثماني ما لا نحب أن نذكره، قد لا نسيغ هذا القول، ولكن حقائق التاريخ تنطق وحوادثه تشهد، بأن دخول الأتراك في أوروبا، قد بعث حوافز جديدة في التطور العالمي.
فهو أحد الأسباب الكبرى للنهضة الأوروبية.
وهو أحد الأسباب الكبرى لاكتشاف القارة الأمريكية.
وليس هناك ما يمكن أن نأسف عليه في زوال الدولة الرومانية الشرقية في سنة 1453، فقد كانت تحيا في ظلام القرون الوسطى لم يبق عندها من ثقافة الإغريق القدماء سوى تلك الغيبيات السخيفة التي كان رهبانها يتراشقون بها ويقتتلون عليها، إذ كانوا يحاولون أن يعرفوا العالم الآخر، ويرسموا خارطته ويعينوا حدوده الجغرافية دون أن يتكلفوا مشقة الوقوف على هذا العالم.
كانوا في انحلال يحيون في مجتمع ينهض على أساس من العقائد يدرسون الكتب القديمة، فيحفظون كلماتها ولا يكادون يفهمون معانيها، يعرفون الحرف ويجهلون الروح.
كانوا أمة شائخة وكان الأتراك أمة ناشئة. •••
وكان هؤلاء الأتراك، على الرغم من سذاجتهم، يقبلون على الدنيا ولكن في غير استهتار أو انغماس؛ ولذلك لا نستغرب أن الإغريق في القسطنطينية كانوا يصفون الرجل المستقيم الذي يوثق بكلمته بأنه «تركي».
واذا كان الأتراك قد تغيروا بعد ذلك وانغمسوا في الملاهي والملذات فإنما جاءتهم هذه العدوى من العادات الإغريقية السابقة، وكثيرا ما نجد المثال والعبرة في الشعب القوي الفاتح يخضع لعادات الانحلال واللهو التي كان يمارسها الشعب المغلوب والتي كانت سببا لهزيمته.
ولو أن الدولة الإغريقية، أي الرومانية الشرقية، أتاح لها التاريخ أن تحيا إلى الآن لكان في بقائها إلى عصرنا هذا امتداد للظلام وليس زيادة في النور. •••
نحن الأمة العربية لنا الحق في القول بأن التاريخ قد ظلمنا باستيلاء الأتراك على أوطاننا؛ لأن هذا الاستيلاء كان استعمارا بكل ما تحمل هذه الكلمة من المعاني السيئة، بل هو كان يزيد على مساوئ الاستعمار العصري بأنه لم يكن نيرا، أي لم يكن يحسن إدارة الحكومة كي يحسن الاستغلال للأمم المحكومة.
وقد كنا نحن في مصر إلى سنة 1517، وهي السنة التي دخلت فيها بلادنا في حوزة الاستعمار التركي، من أعظم الأمم في العالم حضارة، وكانت التجارة العالمية بين آسيا وبين أوروبا تلتقي في القاهرة والإسكندرية، وكنا على اتصال بأوروبا، وهو اتصال كان جديرا بأن ينقل إلينا نهضتها، ولكن الاحتلال التركي حال دون ذلك، واحتجنا إلى قرابة ثلاثة قرون، ونحن في عزلة إلى أن جاءنا نابليون فشرعنا نستأنف اتصالنا بأوروبا والحضارة العصرية.
ثم لم نكسب من الأتراك لغة حية أو ثقافة ناهضة كما كسب الهنود مثلا من الإنجليز، حين أخذوا بلغتهم وثقافتهم اللتين جعلتا منهم أمة عصرية.
كنا نحن الأمة العربية فيما بين 1715 و1800 نعيش في ظلام لا يختلف من ظلام القرون الوسطى، بل ربما يزيد، بسبب الاحتلال العثماني.
وإلى هنا تنتهي الزاوية السيئة من الاكتساح العثماني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. •••
ولكن سقوط القسطنطينية قبل خمسمائة سنة، في أيدي الأتراك، بعث هجرة اللغة الإغريقية إلى أوروبا، فإن كثيرين من المثقفين الإغريق، أي: الرومان الشرقيين، وجدوا أن العيش في ظل الأتراك لم يعد يلائمهم، فتركوا بلادهم ونزحوا إلى روما وباريس وغيرهما، ولم يكن الأوروبيون يعرفون اللغة الإغريقية القديمة فتعلموها من هؤلاء النازحين، واتصلوا عن سبيلها بالفلاسفة والأدباء والعلميين من الإغريق القدماء، وأخصب هذا الاتصال أذهانهم التي لم تكن تعرف من الثقافة سوى تلك الثقافة الدينية التي لم تكن تتجاوز ديورة الرهبان، والتي كان من المحرم في كثير من الأحوال أن تتجاوز دراسة الكتب المقدسة.
وسمي هذا الاتصال بالإغريق القدماء بالحركة البشرية، والمعنى هنا أن الثقافة الجديدة لا تعتمد على الإلهيات والكتب الدينية فقط، وإنما تعتمد أيضا على «البشر»، على المعارف، وليس على العقائد.
ومن هذه الحركة نشأ «العلم » لأنه معارف وليس عقائد، وهو الذي قرر للأوربيين السيادة على غيرهم من الأمم التي كانت لا تزال تحيا بالعقائد دون المعارف.
لقد بسطت اللغة الإغريقية القديمة، التي حملها النازحون من الإغريق أمام الأوروبيين، أمة عجيبة هي أمة الإغريق القديمة، فرأى الأوروبيون هنا شعبا وثنيا ولكنه لا يعرف التعصب الديني، إذ كانت حرية التفكير مباحة إلى حدود بعيدة، وكان المفكرون يكتبون ويخطبون كما لو كانوا لا يخافون أية سلطة، وعرفوا من الإغريق معارف فلكية كان الأوروبيون قد نسوها فأحيوها.
ولكن هذه المعارف لم تكن كبيرة في قيمتها أو مقدارها، وإنما الكبير الخطير الذي عرفه الأوروبيون منها هو المنهج الذي أنتج هذه المعارف، وهو منهج التفكير الحر. •••
هذه الحركة البشرية، وهذا التفكير الحر، هما إحدى ثمرات الاكتساح التركي الذي أدى إلى نزوح اللغويين الإغريق من القسطنطينية إلى أوروبا الغربية؛ لأنهم أصبحوا قوة تحريرية للعقل الأوروبي.
وكان من أثر هذه القوة التحريرية أن فشا الاجتراء على اختراع النظريات العلمية، فشرع العلميون يقولون بأن الأرض كرة، واتجه الجغرافيون إلى فكرة الوصول إلى الهند عن طريق الغرب بدلا من طريق الشرق.
وكان هنا حافز أيضا على هذا التفكير من استيلاء الأتراك، وقبل الأتراك السلاجقة؛ لأنهم جميعا منعوا اتصال الأوروبيين بالهند وآسيا عن طريق مصر والبلاد العربية الأخرى.
والحافز إلى اكتشاف أمريكا هو بالطبع حافز سلبي من الأتراك، كما كان الشأن أيضا في هجرة اللغويين الإغريق إلى أوروبا الغربية عقب سقوط القسطنطينية بدخول محمد الفاتح.
ولكن النتائج كانت بعيدة الأثر: (1)
حرية الفكر والنظرة العلمية في أوروبا. (2)
اكتشاف أمريكا ونزوح الأوروبيين إليها.
ومن هذا الوقت إلى الآن، والأوروبيون، أو بالأحرى الغربيون، يسودون العالم. •••
كان الأتراك من حيث لا يقصدون، سببا للنهضة في أوروبا، ولكن لنا الحق في أن نسأل هنا:
لماذا كان الأتراك في القرن الخامس عشر، عندما فتحوا القسطنطينية، رمزا للشرف والقوة حتى كان الإغريقي، حين يجب أن يطري أحد إخوانه من الإغريق، يقول إنه «تركي»، ثم لماذا انهاروا حتى صاروا في السنين الأخيرة التي سبقت نهضة أتاتورك يوصفون بالضعف والتأخر والرجعية والاستكانة؟
أعتقد أن السبب واضح، وهو أن الأتراك بعد أن علموا من حيث لا يدرون على إخراج أوروبا من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، وقعوا هم أنفسهم في القرون الوسطى.
إذ ما هي القرون الوسطى؟ أي ما دلالتها؟
هي التقيد بالنصوص التي في الكتب الموروثة دون مباشرة الطبيعة بتسليط العقل عليها، واستخراج المعارف منها.
هي سيادة العقائد على المعارف، والتليد على الطريف.
هي الاكتفاء بالثقافة الدينية دون الثقافة المدنية.
هي ثيوقراطية الدولة، أي: الدولة الدينية دون الدولة المدنية.
وكل هذا يؤدي إلى سيادة الرجعية، أي: الرجوع بالشعب في عاداته وأسلوب عيشه وتفكيره إلى ما كان عليه أسلافه قبل ألف أو ألفي سنة.
ومعنى هذا: الجمود والوقوف عن التطور.
وهذا ما نجت منه أوروبا في القرن الخامس عشر بفضل الاكتساح التركي، وهذا هو ما وقع فيه الأتراك أنفسهم وبقوا في هاويته إلى أن جاء أتاتورك العظيم، فنهض بالشعب وأخرجه إلى القرن العشرين، إلى النهضة. •••
هذه القرون الوسطى، التي اصطلح المؤرخون على أنها انتهت بدخول الأتراك في القسطنطينية في 1453، أي: منذ خمسمائة سنة، كانت بالطبع تجد حوافز أخرى لافتتاح عصر النهضة.
إننا، نحن الأمة العربية، نسمع ونقرأ كثيرا عن النهضة، ولكن هل ندري دلالتها أو هل ندري شروطها؟
هل نحيا حياتنا العربية الحاضرة في نهضة أم في قرون وسطى؟
هذا هو السؤال المتعب الممض، ولكن مسئولية المفكر تقتضيه أن يجيب عليه في صراحة.
وجوابي: إننا ما زلنا إلى حد بعيد نحيا في ثقافة القرون الوسطى، نؤثر العقائد على المعارف، والقديم على الجديد.
ولكن نور الفجر الجديد قد بزغ. •••
ما زال إخواننا اليونانيون يتشاءمون من يوم الثلاثاء؛ لإنه هو اليوم الذي دخل فيه محمد الفاتح القسطنطينية، وما زالوا يتغنون بالأغاني التي تصبوا إلى الإمبراطورية القديمة، وما زال عامتهم يذكرون أن أيا صوفيا كانت كنيسة ثم صارت مسجدا.
ولكنهم مخطئون؛ لأن التاريخ لا يعود، وأيا صوفيا ليست الآن كنيسة وليست كذلك مسجدا، إذ هي متحف يجمع تحف التاريخ المسيحي والتاريخ الإسلامي.
طبيعة الحضارة الأوروبية
كلمتا أوربي وغربي لا تعنيان في عقولنا العصرية دلالة جغرافية فقط، إذ هما تحملان أيضا ما يشبه الدلالة القديمة لكلمة «هيلين» فإن هذه الكلمة كانت تعني في الأصل الشعب الإغريقي، ولكن عندما تفشت حضارة الإغريق، وسادت ثقافتهم، صار لكلمة هيلين معنى النزعة والفلسفة وأسلوب الحياة؛ ولذلك كان المصري أو العربي أو المراكشي يعد نفسه هيلينيا إذا كان ينزع النزعة الإغريقية في هذه الأشياء.
وهذا هو الشأن في أيامنا في كلمة أوربي أو غربي، فإن الأمريكيين غربيون، وكذلك يوجد في أقطار الشرق غربيون من العرب والهنود والصينيين قد آمنوا بالنزعات الأوروبية في الأدب والفن والفلسفة، وأخذوا بعادات الأوروبيين في العيش، وبالنظم الدستورية والمدنية في القوانين: الحكم البرلماني، والمساواة بين الجنسين، والنظرة الموضوعية لهذه الدنيا، والإحساس الاجتماعي في مسئولية الفرد.
والحضارة الأوروبية تتغلب وتسود أينما وجدت في هذا العالم، ولا يمكن أمة أن تحيا إذا خالفتها، ونعني بالحياة هنا حياة القوة والعلم والثراء.
حتى اليابان، هذه الأمة الآسيوية العتيقة، لم تنهض وتبلغ مستواها العالي قبل الحرب الأخيرة إلا بعد أن أخذت بأصول الحضارة الأوروبية.
وليس «نهرو» زعيم الهند العظيم سوى رجل أوروبي يتكلم باللغة الهندوكية، ولا أستطيع أن أتصور نهضة عصرية لأمة شرقية ما لم تقم على المبادئ الأوروبية للحرية والمساواة والدستور مع النظرة العلمية الموضوعية للكون.
وهنا سؤال:
ما هو الأساس أو الأسس التي تبنى عليها الحضارة، ثم الثقافة، الأوروبية؟
ليس الأوروبيون أصلح الناس للإجابة على هذا السؤال.
ذلك لأنهم لم يروا غير حضارتهم وثقافتهم، أي: إنهم يجهلون المقارنة التي تعد الأساس الأول للنقد المثمر والفهم الناضج.
واعتقادي أننا نحن الغرباء عن هذه الحضارة، وعن هذه الثقافة الأوروبيين، أقدر على فهمهما؛ لأننا نستطيع المقارنة.
ولقد قرأت كتابا للزعيم «الروحي» للفاشية أو النازية الألمانية في هذا الموضوع، وهو «هوستون ستيوارت تشمبرلين» الذي يقول: إن هناك ثلاثة أسس لأوروبا العصرية، وهي: منطق الإغريق أو فلسفتهم، ثم نظام الرومان أي: القوانين الرومانية، وأخيرا التراث المسيحي الأخلاقي.
ولست أنكر أن لأوروبا شيئا من هذه التقاليد، وأن لها بعض الأثر في توجيهها، ولكن هذا الأثر ضعيف جدا، وقد انتهى المؤلف بعد أن شرح هذه الأسس الثلاثة إلى أن التعصب العنصري ضروري لأوروبا، وأعجب الإمبراطور فيلهلم بهذا الكتاب، واشترى آلاف النسخ منه، ووزعه بالمجان على موظفي الحكومة الألمانية، والتعصب العنصري هو في النهاية، سيادة الألمان على جميع البشر.
وكان «هتلر» لذلك من المعجبين به أيضا، وقد عمل به. ولقى النتيجة المحتومة لهذا المذهب، وهي تألب الدنيا عليه.
واعتقادي أن تشمبرلين وهتلر كانا من أبعد الناس عن فهم الروح الأوروبي العنصري: روح الحرية والمساواة والدستور، والنظر الموضوعي، أي: العلمي، للدنيا ناسا وأشياء.
وأنا أفهم شيئا واحدا، واحدا ليس له ثان، هو أن الأوروبيين سادوا في الماضي، ويسودون في الحاضر؛ لأنهم قد أخذوا بالصناعات الآلية.
جعلوا الآلات تعمل بدلا من الأيدي. والحديد والنار يعملان بدلا من القوة البشرية.
وكل ما نعرفه من الأخلاق الأوروبية والعلوم الأوروبية والحرية والمساواة والدستور، هذه كلها هي ثمرات هذا الوسط الصناعي الجديد الذي لا يزيد تاريخه على مئة وسبعين سنة.
كانت أوروبا إلى سنة 1780 زراعية مثلنا، متأخرة مثلنا.
ليس للمرأة فيها حقوق وليس للعامل فيها رأي، بل ليس له عقل غير هذا العقل الزراعي الذي يستسلم للخرافات، وكانت فقيرة مثلنا، بل كان كثير من عمالها الزراعيين «عبيدا» يعملون مكرهين في النظم الإقطاعية السائدة وقتئذ.
ثم جاءت الصناعة، وهي فحم وحديد: وظهرت المصانع التي أحالت المواد الخامة إلى أشياء مصنوعة، والفرق كبير في الثمن بين الاثنين، فإن قنطار القطن الذي يباع خاما بعشرين جنيها يباع مصنوعا منسوجا بأكثر من مئة جنيه، وطن النحاس أو الحديد أو النيكل الذي يباع بخمسين جنيها وهو خام قد يبلغ ثمنه وهو مصنوع ألف جنيه.
اعتبر صناعات الساعات في سويسرا، فإن المواد الخامة في الساعة قد لا تزيد على خمسين قرشا ولكنها، أي: الساعة، تباع بخمسة جنيهات.
هذا من ناحية الثراء في الأمم الصناعية، فإن الأوروبيين أثرياء؛ لأنهم صناعيون.
أما من ناحية الثقافة فإن العلم التجريبي يغلب عليها؛ لأن المصنع يحتاج إلى العمل للتجربة، وليس العكس، أي: ليس العلم هو الذي أوجد الصناعات، وإنما الصناعات هي التي احتاجت إلى العلم، وأرصدت العلماء للبحث، وأصبحت النظرة العلمية عامة تكافح النظرة التقليدية التي كانت سائدة في العهد الزراعي السابق.
وليس في عالمنا شيء يحرر العقل من الخرافات، ومن التفسيرات التقليدية للأشياء المادية التي هي ثمرة العلم الذي يطلب تجربة اليد إلى جانب تفكير العقل.
ومن هنا هذه المادية الأوروبية التي تغلب على تفكير الأوروبيين، هذه المادية التي هي ثمرة العلم الذي جلبته الصناعة والمصانع.
وكرامة العامل الصناعي واستقلاله، ثم أيضا حريته الفكرية ثم المساواة بين الجنسين، ثم احترام الدستور والقوانين، كل هذا من ثمرات الوسط الصناعي، وسط المدينة التي تنأى عن وخامة القرية، وسط العلم التجريبي.
ولا أنكر أن لهذا الوسط عيوبا، ولكن ما أتفهها إلى جانب هذه القوة العظمى التي يتسلط عليها الإنسان باستخدام الحديد والنار في زيادة ثرائه ورفاهيته، وامتداد ثقافته إلى النظرة الاستيعابية للكون، وأخيرا هذه الحرية، الاجتماعية والفكرية، التي لم تعرفها أمة زراعية، أي: أمة شرقية، تعيش بالزراعة. •••
وهنا سؤال:
لماذا يؤدي الوسط الريفي أو القروي إلى البلادة والاستسلام في حين يؤدي الوسط الصناعي إلى الذكاء والاستطلاع؟
الجواب:
لأن الزراعة تمارس بالتقاليد وليس بالعلم، وهذا على الرغم من أنها يجب أن تكون علمية، والفلاح يعيش في قرية منعزلة لا تصطدم بأحداث العالم، والمباراة فيها محدودة، وليست كالمباراة في المدن، حيث الآفاق للذهن والقلب أرحب وأبعد، ثم أن تسلط الطبيعة بجوها المتقلب على نمو النباتات يجعل الفلاح على إحساس دائم بأنه رهن الحظ، ودرجة القراءة في القرية معدومة أو محدودة، وكذلك التساؤل والاستطلاع.
أما الوسط الصناعي فيكسب الصانع إحساس السيطرة والقوة، إذ ليس للحظ في الصناعة شأن، فهو يدير الآلة أو يصهر المعدن وهو يعرف النتيجة قبل أن يشرع في العمل.
وهو يكسب من هذه الممارسة إحساسا بالمنطق فضلا عن القوة، ولا يمكنه أن يؤمن إلا بالتجربة العلمية كما إنه كذلك يمارس النظرة الوضوعية في حياته الاجتماعية والسياسية.
ثم هو يعيش في مدينة تتحمل أعصابه منها صدمات متوالية من الأحداث المنبهة؛ لأنها، أي: المدينة، على اتصال صحفي بكوكب الأرض كله، وهو يكسب النظرة العالمية لهذا السبب في حين يقنع عامل الزراعة بالنظرة القروية.
ثم عامل الصناعة يرى ويقارن كثيرا، وليس شيء يحرك الذكاء مثل المقارنة، فهو يرى الحاكم والمحكوم، والبذخ والفاقة، والعلم والجهل، وكل هذا بعيد عن العامل في الزراعة.
ولكلمات الحرية، والمساواة، والدستور، والبرلمان، والسياسة معان عميقة مقلقة عند العامل في المدينة، أي: في الصناعة، ولكنها لا تقلق عامل الزراعة، ولذلك لا تنبهه.
ويمكن أن نقول: إن الديمقراطية كلمة تحمل معنى خطيرا عند عامل الصناعة، ولكنها لا تكاد تحمل أي معنى عند عامل الزراعة.
ونستطيع أن نقول: إن الوسط الزراعي يبعث على القناعة والطمأنينة في نفوس الفلاحين، وهذا صحيح. ولكن إلى جانب القناعة والطمأنينة نجد الذهول والركود. ثم تستطيع أن تقول: إن الوسط الصناعي، وسط المدينة، يبعث على القلق والتوتر، بل ربما الجنون والانتحار، في نفوس العمال، في المصانع، وهذا صحيح أيضا، ولكن إلى جانب القلق والتوتر نجد الاستطلاع والاستقلال بل ربما العبقرية والاختراع.
وحضارة أوروبا هي حضارة القلق والتوتر وأمراض النفس التي لا تحصى، ولكنها أيضا حضارة الاستطلاع والاستقلال والديمقراطية والعلم والاختراع، أي: حضارة المصانع، وليست حضارة المزارع. وبعد كل هذا، المدافع تصنع في المصانع ولا تزرع في الحقول.
الثقافة تؤدي إلى الحضارة
أحسن ما يقال في إيضاح الفرق بين الثقافة والحضارة أن الثقافة هي ما نتكون به، والحضارة هي ما نعمل به.
الثقافة علوم وفنون وفلسفات وعادات وتقاليد واتجاهات، تكسبنا جميعها مزاجا معينا نتجه به في سيرتنا ومعاشنا ونؤسس بها مجتمعا يتفق ومبادئ هذه المعارف ولا يتنافر معها، أما الحضارة فهي ما نعمل به من أدوات سواء أكانت هذه الأدوات حسية؛ مثل آنية الطبخ، أو مواد البناء، أو آلات، أو مصنوعات، أم كانت معنوية مثل المؤسسات الاجتماعية المختلفة كالحكومة، والمجلس النيابي، والمجلس البلدي، ونظام الادارة، وجباية الضرائب ونحو ذلك .
والثقافة تسبق الحضارة وتؤدي إليها؛ لأنها هي بمثابة الفكرة والحضارة بمثابة المادة، وتلك القاعدة السيكلوجية التي نسلم بها جميعا، وهي أن التعرف يؤدي إلى التأثر، والتأثر يؤدي إلى التحرك، هذه القاعدة تنطبق أيضا على الثقافة والحضارة، فنحن نتعرف الأشياء، ثم نتأثر بهذا التعرف فنتحرك به إلى عمل ما.
وهذا العمل قد يكون اختراع آلة أو اكتشاف عقار أو إيجاد نظام، وهذه هي الحضارة، ويمكن أن نقول: إن الحضارة الصناعية القائمة التي تمثل في المصانع الكبرى للنسيج أو لمركبات النقل، أو للبواخر والبوارج، أو للطائرات، هذه المصانع إنما هي الثقافة الرياضية والفيزيائية قد تجمدت في حضارة الآلات والحديد والفولاذ، ولا يمكن لأمة أن تعيش في حضارة صناعية ما لم تحذق الثقافة العلمية التي أدت إليها، وهي إذا أهملت هذه الثقافة العلمية فأنها سرعان ما تعود إلى الحضارة الزراعية التي تنتكس إليها كل أمة حين تتقهقر ثقافتها.
وكل تحرك اجتماعي يحتاج إلى تحرك ثقافي، وليس هناك غير الأمم الزراعية التي تستطيع أن تعيش على ثقافة راكدة لا تتحرك ولا تتباين ولا تتنوع؛ لأن المجتمع المتحرك يحتاج إلى ثقافة متحركة متباينة متنوعة. ومن هنا ضرورة الانقلاب الثقافي لإيجاد انقلاب في الحضارة، وهذا هو ما فعلته الصين واليابان وتركيا وإيران، فإنها حين أرادت أن تأخذ بالحضارة العصرية، أي: حضارة الصناعات والآلات اضطرت إلى أن تأخذ قبل ذلك بثقافة العلوم العصرية، وليس من المستطاع أن تأخذ أمة بالحضارة العصرية إذا كانت تعيش على ثقافة قديمة لم تستطع في تاريخها الماضي إلا أن تثمر الحضارة الزراعية فقط؛ لأن كل حضارة تحتاج إلى ثقافة تنشئها ثم تفسرها وتلائمها وتماشيها.
وإلا حدث التزعزع الاجتماعي الذي ينشأ من التنافر بين وسط حضاري جديد ووسط ثقافي قديم، وأقل النتائج التي يثمرها هذا التنافر أن الفرد الذي يعيش فيه ويعانيه لا يؤمن بتقاليده وعقائده وتراث آبائه من أخلاق، ثم هو مع ذلك لم يتهيأ بثقافة جديدة تزوده بميزات جديدة من العقائد والأخلاق، وهو هنا يعيش بلا ضمير.
ولعل مما يزيد بصيرتنا بهذا الموضوع تواتر الاختبار التاريخي بشمول الفوضى الأخلاقية أيام الثورات والانقلابات؛ لأن الثورة أو الانقلاب تعني تغيرا في الثقافة وتحركا في الاجتماع، وكلاهما يعني تغيرا في الضمير. وليس من الميسور على كل إنسان أن يتغير ضميره بالسرعة التي تقتضيها الثورة؛ لأنه حين يترك تقاليده وميزان الفضائل والرذائل الذي ورثه يحتاج إلى أن يستبدل بهما تقاليد جديدة وميزانا جديدا، لكن الثورة لا تسعفه بهما، فهو لذلك يعيش سنوات في فوضى أخلاقية.
وقد قلنا بأن الثقافة تعني العلوم والفنون والعقائد والعادات.
ولكنا لم نقل إن الأهم من هذا كله اللغة التي يتفاهم بها الشعب؛ لأن أعظم تراث اجتماعي لأية أمة هو لغتها، وهي أعظم مؤسساتها وأقدرها على خدمتها، وإذا استعصت هذه اللغة على الفهم، أو إذا صعب تعلمها، أو إذا عجزت عن الأداء العصري واستيعاب العلوم والفنون العصرية، فإن كل شيء بعد ذلك يستعصي على الأمة ما لم تنبذ لغتها وتتخذ لغة أجنبية، ولكن هذا العمل ليس من الهينات؛ لأن الأمة تحتاج إلى مئات السنين لكي تستطيع نسيان لغتها واتخاذ لغة أخرى، وهي في هذا الاستبدال تتعرض لألوان من الخطر لا تحصى، وقد تنحدر إلى هوات لا تنهض منها.
وقد قيل: إن الكلمات هي بذور الأفكار، ولكننا ننسى أن الكلمات أيضا هي بذور الأعمال، فإن ألفاظ الحرية والمساواة والإخاء التي ترددت على أقلام الكتاب الفرنسيين في القرن الثامن عشر كانت بذورا لأفكار وأعمال لما ننته منها حتى الآن، وقد تكهرب العالم سنة 1919 ب «كلمات» ألقاها عليه الرئيس «ولسون» بشأن حقوق الأمم الصغيرة وتقرير المصير.
ونشأت من هذه الكلمات «عصبة الامم». وقس على ذلك.
فقاعدة الثقافة هي اللغة، ولا يمكن بتاتا إيجاد ثقافة راقية بلغة منحطة ولا ثقافة متحركة بلغة جامدة؛ لأن تحرك الثقافة ورقيها يحب أن يستتبعا رقي اللغة وتحركها، أي: تطور ألفاظها القديمة وتلبسها بالمعاني الجديدة، أو اصطناع ألفاظ جديدة أجنبية أو وطنية، ومن هنا هذه الظاهرة التي يوضحها لنا التاريخ، وهي أنه عندما وجدت الأمم الأوروبية أن اللغة اللاتينية التي كانت وسيلتها الثقافية مدة القرون الوسطى قد أصبحت لا تتفاعل مع المجتمع الأوروبي في نهضته الجديدة ولا تسايره تأثرا وتأثيرا عمدت إلى نبذها واتخاذ لغاتها العامية، وهذا أيضا هو تفسير الانقلاب الثقافي الجديد في الصين، إذ إنها بقيت آلاف السنين وهي تعتمد على لغة أو كتابة قديمة حجبت عنها الحضارة العصرية، فلما استقر رأيها على الأخذ بهذه الحضارة عمدت إلى لغتها فاستحدثت منها طرازا جديدا للآراء يتفق وضرورات هذه الحضارة.
ومهما كتبنا فإننا لن نبالغ في قيمة اللغة للأمة، نعني اللغة العصرية التي تقبل التطور وتقدر على الاستيعاب للفنون والعلوم واصطناع الألفاظ الجديدة، اللغة التي لا يجد فيها المفكر حرجا يضيق عليه تفكيره ويضلله باتخاذ ألفاظ لا تؤدي أغراضه، أو تمنعه من أن يتناول بعض الموضوعات العلمية أو الفنية أو الفلسفية لأنه يجد عجزا في اللغة عن أداء معانيها.
الديمقراطية: نظام المجتمع
كلمة الديمقراطية تعني حكم الشعب، أي: إن الشعب يحكم نفسه.
وكان الإغريق القدماء يعرفون الحكم الديمقراطي في المدن فقط، وكانت وقتئذ مدنا صغيرة.
فلما زالت دولة الإغريق لم نعد نجد هذا الحكم الديمقراطي إلا منذ مئة سنة أو أقل في أوروبا وأمريكا؛ وذلك لظروف يسهل إيضاحها، فإن الشعب الذي يحكم نفسه يحتاج إلى أن يكون كله، أو على الأقل الناخبون فيه، متعلمين، وإذا عرفنا أن التعليم لم يصر إلزاميا في إنجلترا مثلا إلا في 1870 فإننا نستطيع أن نفهم أن كلمة الديمقراطية كانت من الكلمات التي تدل على معنى المستقبل وليس الحاضر الراهن، أي: إنها كانت أملا يرجى حين يعم التعليم، ولكننا في الوقت الحاضر نذكر هذا النظام في الحكومة وليس بمعناه الكامل المرجو، ولكن بما وصل إليه من الاقتراب من هذا المعنى الكامل المرجو.
ففي سويسرا نجد الديمقراطية على أعلاها في الأمم الغربية، ولا يستطيع سويسرى أن يعقل أن أحد زعماء وطنه يمكنه إيجاد نظام نازي أو فاشي؛ لأن هذا النظام يفرض طغيان طبقة تزعم أنها ممتازة على الشعب في الكفاية والأمانة للحكم، وهذا مالا يفهمه السويسريون؛ لأنهم كلهم سواء في التعليم، وعلى مقدار حسن من الرخاء، ولهم حريات مكفولة بالدستور، بل مكفولة بما هو فوق الدستور، وهو الإحساس العام بالحقوق والواجبات. •••
كان الحكم في العصور القديمة ملكيا، بل كان الملك عند المصريين والرومان بعد الآلهة، ولما جاء الإسكندر المقدوني إلى مصر في القرن الرابع قبل الميلاد، جعله الكهنة ابنا للرب آمون، وواضح أنه حين يكون الملك إلها فإن الشعب لا يمكن أن يكون شيئا، بل إن الثورة على الملك عندئذ تعد كفرا وإلحادا.
ثم نجد في القرون الوسطى ملوكا ليسوا من الآلهة، ولكنهم يحكمون كما لو كانوا منها، وكان النظام الإقطاعي يؤيدهم في حكمهم المطلق الذي لم يكن يحد منه سوى قوة الأمراء والنبلاء، وكثيرا ما نقرأ عن «الحق الإلهي للملوك» في الثورات التي قامت بها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وهذا الحق هو التراث الفرعوني الإمبراطوري من مصر وروما.
فلما ظهرت الطبقات المتوسطة، المؤلفة من الصناعيين والتجاريين والزراعيين، وحطمت النظم الإقطاعية، وألغت الرق الزراعي، وهدمت العروش التي كان يزعم متبوئوها هذا الحق الإلهي، شرعت الديمقراطية في الظهور، شرعت في الظهور على أيدي رجال الطبقات المتوسطة، وكانت الدائرة محدودة والمعنى مقصورا على هذه الطبقات، أما العمال فلم يكن لهم من الشأن ما يبرزهم إلى الوجود السياسي.
ولكن منذ منتصف القرن الماضي شرع العمال في أوروبا يحسون الوجدان السياسي ويطالبون بالتمثيل النيابي، ومنذ ذلك الوقت والدائرة تتسع رويدا رويدا إلى الشعب كله. •••
وهذا الذي قلت ينطوي على معنى أكبر مما تفيده كلمة الديمقراطية ... فإن الديمقراطية نظام في المجتمع قبل أن تكون نظاما في الحكم، بل هي نظام في الحكم؛ لأنها نتيجة لنظام معين في المجتمع؛ ذلك أن النظام الإقطاعي لا يمكن أن يهيئ للحكم الديمقراطي.
بل كذلك نظام الزراعة الإقطاعي أو شبه الإقطاعي الذي ما زلنا في كثير من الأمم العربية لا يمكن أن يهيئ للحكم الديمقراطي؛ إذ كيف نطالب الفلاحين في قراهم النائية، في فقرهم المدقع، في اعتمادهم الأعمى على مالك الأرض الثري، وأخيرا في جهلهم التام بشئون الشعب ، وأميتهم الكاملة في المعاني السياسية والاقتصادية، كيف نطالبهم بأن يكون لهم رأي في نظام الحكم وبرامج السياسة ومقدار الضرائب وحقوق الصحافة وحرية الخطابة؟
إن هذا محال، وقد كان محالا في أوروبا إلى أن نقلت الفلاحين من مزارعهم إلى المصانع أو إلى أن منحت فلاحيها حقوق عمال المصانع مثل تأليف النقابات؛ ذلك أن عمال المصانع يتكتلون، وقد عاشوا في المدن، وتعلموا، وطمحوا، فصاروا يطالبون التمثيل السياسي وصار لهم نواب في البرلمانات، وأصبحت كلمة الديمقراطية كلمة حية تروح وتغدو على ألسنتهم، فتكسب الغافل تنبها، والذليل كرامة، والذاهل وجدانا.
ونحن نعرف مثلا أن الملك فؤاد ألغى الدستور في 1930، فلم نثر عليه، بل إنه وجد من ساستنا وصحفيينا من عاونه على ارتكاب هذه الجريمة العظمى، لسبب واحد، هو أن الوجدان السياسي لم يكن عاما في الأمة، ولو كان عاما قويا لشنق الملك فؤاد وجميع من عاونه من الوزراء والساسة والصحفيين على إلغاء الدستور.
ولا أنكر هنا يد الاستعمار المدمرة التي كانت تعين المستبدين على تحطيمنا وتفتيت قوانا في مشاغبات ومصارعات داخلية حتى لا نستطيع مواجهة مشكلتنا الكبرى وهي الاستعمار، ولكن قوة الاستعمار كانت تضعف إزاء الوجدان السياسي في الأمة ... لو أنه كان موجودا. •••
وثم مثال آخر، فإن مجلس الشيوخ الذي كان مؤلفا من الباشوات والبكوات وأعوانهم رفض منح الفلاحين حق تأليف النقابات، وكذلك فعل مع الخدم.
ولم يثر عليه أحد للسبب نفسه، وهو أن الوجدان السياسي بين الفلاحين والخدم كان معدوما أو كالمعدوم؛ إذ كانوا في فقرهم وأميتهم بعيدين عن العناية أو الاهتمام بحقوقهم السياسية.
ولذلك يجب أن نعترف بأن كلمة الديمقراطية كانت في السنين الثلاثين الماضية أمنية في مصر، ولم تكن قط تدل على نظام في الحكم.
بل إن ساستنا أنفسهم كانوا إقطاعيين في إحساسهم، وإن لم يكونوا كذلك في مجتمعهم، فكان سلوكهم سلوك الإقطاعيين من النبلاء والأمراء، وكانوا جميعا يتطلعون الى:
شراء عزبة.
اقتناء سيارة.
قصر في الزمالك.
قصر في الإسكندرية.
إدارة الشركات.
فصوص من اللؤلؤ والماس.. الخ..
أفكار إقطاعية بعيدة كل البعد عن روح العصر، وهي أبعد عن روح الديمقراطية. •••
إن في أوروبا الديمقراطية وزراء يقصدون إلى وزاراتهم على الأوتوبيس، وقد رأيت أنا بنفسي، بعيني «كليمنصو» وهو رئيس وزارة، ينتظر الأوتوبيس ويركبه.
إحساس ديمقراطي لا يمكن أن نتصوره عند وزرائنا السابقين أصحاب الضياع، بل كذلك نجد الفرق العظيم بيننا وبين أوروبا حين نقارن بين أصغر المهن وأعلاها، ففي أقطار أوروبا على اختلافها لا يزيد مرتب الوزير على خمسة أو ستة أمثال مرتب الكناس.
الكناس والوزير هما محك الديمقراطية. فإذا تقاربا في الأجر كانت الديمقراطية. وإذا تباعدا في الأجر كان النظام الإقطاعي في الروح، وإن لم يكن في الواقع والقانون، إن الثورة التي قمنا بها في مصر هي ثورة الطبقة المتوسطة، ثورة الرجل «اللي في حاله»، الرجل الذي يمد رجليه على قد لحافه، وهذا الرجل ليس من العمال، وكذلك ليس هو من النبلاء والأمراء، وإخوانهم الباشوات والبكوات.
ولكنه يحس قرابته من العمال؛ إذ هو يعمل مثلهم، وإن يكن عمله هنا بعقله وليس بيديه، فهو عامل يتعب ويعرق.
ويعرف أنه إذا لم يتعب ويعرق فإنه لن يجد لقمة العيش، ومن هنا التفات هذا الرجل، رجل الطبقة المتوسطة إلى العمال، إلى الفلاحين والخدم واعترافه لهم بحق تأليف النقابات، وسعيه لأن يكفل لهم العيش الشريف بتحديد الأجور والإيجارات ومحاولته إلغاء الرواسب الإقطاعية في امتلاك الأرض، بل كذلك محاولته تطهير الإدارة الحكومية حتى ترعى الضعيف والفقير ولا تقتصر على خدمة الأثرياء والأقوياء.
يجب أن نساعد هذا الرجل، رجل الطبقة المتوسطة، على أن يغرس في بلادنا هذه الشجرة، شجرة الديمقراطية، والفرصة الحاضرة هي خير الفرص لتحقيق ذلك، فإن لجنة الدستور تستطيع أن ترى رؤيا جديدة لوطننا بأن تهيئ للمجتمع الجديد الذي يحيا على المصانع ويأخذ بالأخلاق الديمقراطية.
ورجل الطبقة المتوسطة هو في النهاية عامل تقتضيه مصلحته رعاية العمال سواء أكانوا عمال اليد أم عمال الذهن.
إني أخاف على وطني..
التاريخ لا يعيد نفسه، ولو فعل لدار حول نفسه، فلا يكون هناك ارتقاء إلى أعلى أو تقدم إلى الإمام ، وإنما تكون هناك حركة دائرية تنتهي إلى حيث ابتدأت، وإنما التاريخ يعيد المشكلات التي تشبه المشكلات القديمة ويقدم لها الحلول التي تشبه أو لا تشبه الحلول القديمة، ولكنها لا تطابقها؛ إذ هي تجري على مستوى أعلى، أي: إن التاريخ يدور، ولكن في حركة لولبية، كلما انتهى من دورة صعد درجة إلى أعلى وقام بدورة أخرى.
ونحن في هذه الأيام نعاني مشكلة بل مشكلات فلسفية كتلك التي عانتها أوروبا في نهضتها الأولى في إيطاليا ونهضتها الثانية في فرنسا.
وقد ظهر بيننا نحن المصريين، ناهضون مثل قاسم أمين الذي دعا إلى تحرير المرأة، ومثل محمد عبده الذي قال: إنه يعتقد أن كلمة «زندقة» ليست عربية وأنها في الأغلب محرفة عن «هرطقة» اللاتينية، وأنه ليس في الإسلام زندقة.
وكلاهما عمل لتحريرنا؛ الأول: حرر المرأة من الحجاب. والثاني: حرر أفكارنا من القيود، ونحن في حاجة إلى أن نذكرهما هذه الأيام.
ماذا كان يقول محمد عبده في ظروفنا الحاضرة؟
ماذا كان يقول قاسم أمين في هذا الخبر الذي ذكرته الصحف وهو أن حكومة لبنان قد قررت تعيين ثلاث سيدات في المجلس البلدي وتعيين سيدتين للقضاء؟
ولكن فوق محمد عبده، وقاسم أمين. أحس كأن ذكرى فولتير تصدم رأسي كما لو كانت حجرا يشجه. «أيكرازيه لاتفام». اسحقوا الخزي. صحية مدوية صاح بها فولتير قبل أكثر من مئتي سنة.
أي خزي هذا؟ هو خزي الاضطهاد لمن يخالفوننا في الرأى ...
إننا في أزمة فلسفية من حيث أسلوب الحياة، ومن حيث نظام المجتمع الذي يجب أن نعيش فيه. ونحن أيضا في تنازع بقاء مع أمم كبيرة وصغيرة.
هل نحيا أحرارا نفكر كما نشاء، وكما يهدينا إليه تفكيرنا، أم نتقيد بقيود الماضي. وإلى متى تبقى هذه القيود؟ ألف سنة قادمة أم مليون سنة قادمة؟ ثم هل نحيا في مجتمع انفصالي مختلط، يختلط فيه الجنسان، وتعمل فيه المرأة أعمال الرجال أم نحرم المرأة حقها الإنساني فلا تكون نائبة في البرلمان أو وزيرة أو سفيرة أو قاضية؟
هذه الأزمة الفلسفية التي نعانيها ، أي : فلسفة العيش، قد وجدت أخيرا من التفكير والتعبير في موضوع الأدب والعلم ما حملنا على المناقشة التي تشبه الملاكمة، والذي حملني على كتابة ما تقدم وعلى الكلمات التالية هو فولتير؛ ذلك أن هذا الأديب العظيم الذي علم أوروبا، وعمم حرية التفكير، سئل ذات مرة: من هو أعظم رجل في العالم؟ فأجاب: هو إسحق نيوتن.
ولم يكن إسحق نيوتن من رجال الأدب الذين استطاعوا أن يعرفوا أن رجل العلم أيام النهضة خير من رجل الأدب وأنفع منه، وبكلمة أخرى، لو أن فولتير كان قد سئل أيهما أنفع لأبناء فرنسا كي يدرسوه وينقلوا مؤلفاته إلى لغتهم ... «شكسبير» مؤلف روميو وجولييت أم «اسحق نيوتن» صاحب مبدأ الجاذبية؟ لقال فورا: إنه إسحق نيوتن.
وقد درس فولتير شكسبير وكان يتقن اللغة الإنجليزية التي تعلمها في إنجلترا، ولكنه كان يفهم أن الحضارة علم وصناعة، ولذلك آثر إسحق نيوتن عليه؛ لأنه فهم من العلم أنه ارتقاء وحضارة.
وهذا هو ما حملني في أول المناقشة الخاصة بالمفاضلة بين العلم والأدب على أن أقول بأفضلية العلم؛ لأننا في نهضتنا الحاضرة نحتاج إليه؛ إذ هو وسيلة التمدن، ولا تمدن ولا قوة بلا علم، وإننا نستطيع أن نؤجل «الترف الذهني» أو الأدب كما يفهمه بعضنا، و«ماكبث» و«الملك لير» بلا ضرر، وعندنا ما يكفينا من الترف الذهني، الحسن والفاسد، في أبي تمام وابن الرومي والمتنبي وأبي نواس، وإذا كان لا بد من الأدب فليكن أدب الكفاح والرسالة، وليس هذا أدب شكسبير.
إن القراء العرب يحتاجون إلى موسوعة مثل الموسوعة التي كان يشرف على تحريرها «ديدرو» وكان يشترك فيها فولتير، والتى هيأت الشعب للثورة الفرنسية الكبرى، وهذه الموسوعة هي 99 في المائة علوم وصناعات.
والقراء العرب يحتاجون إلى التنوير الغربي لعقولهم الشرقية، ولو قرأوا كتاب الأمهات لبريفولد، وكذلك كتاب العلم في التاريخ لبرنال، لتغيرت الدنيا أمامهم.
ما هي نهضتنا؟
ما هي القيم التي ننشدها؟
ما هي الرؤيا التي نحب أن نراها لبلادنا بعد عشر سنوات أو مئة سنة؟
هل هي رؤيا الحجاب للمرأة؟
هل هي رؤيا أدب أبي نواس وروميو وجولييت؟
هل هي رؤيا القيود والحدود للفكر البشري؟ هذا يجاز فيه التفكير وهذا لا يجاز فيه؟
إن الذهن العربي في حاجة إلى أن يتغير، أي: إلى أن يتطور.
إن قلب إفريقيا الأسود يتغير في عصرنا، حتى إن الناهضين في مستعمرات بلجيكا وفرنسا وبريطانيا يسمون أنفسهم «متطورين»، وهم يفهمون من هذا الوصف أنهم قد تغيروا وأنهم دائبون في التغير والبعد عن الجمود.
ولو أننا كنا متطورين لما كان يمكن أن يفكر أحد منا في محاكمة «الشيخ بخيت»؛ لأن له رأيا خالف الكثرة، ولو كنا متطورين لما كانت هذه المناقشة بشأن المفاضلة بين العلم والأدب، ولو كنا متطورين لكان لنا نساء قاضيات ونائبات ...
ولو أن فكرة التطور كانت تسود العقلية العربية، ولو أن كتب العلم، من داروين - وداروين خطير هنا - إلى برنال إلى فريزر إلى بريفولد، كانت منشورة تقرأ وتناقش، لما وصلنا إلى هذه الحال الأسيفة من جمود، بل تعفن الذهن.
وأي شيء أكبر دلالة على تعفن الذهن من أن تؤلف لأبي نواس، وعنه، نحو عشرة كتب، ثم نقول بعد ذلك: إننا لسنا في حاجة إلى العلم؟ وإنما نحن في حاجة إلى الأدب؟ وأي أدب؟ أدب روميو وجولييت وماكبث وهامليت.
اذكروا يا ناس هذا الدق لأبوابنا في غزة، إننا لا نحتاج إلى مسرحيات شكسبير، ولا نحتاج إلى تقييد الفكر، وإنما نحتاج إلى إنشاء كليات لدروس العلوم.
ونحتاج إلى ترجمة مئة كتاب في العلوم والمناهج العلمية ... إني أخاف على وطني ...
Unknown page