وتستأذن مديرة إحدى المدارس في الزيارة، ولكنها لا تحضر وحدها، بل يحضر معها اثنتا عشرة فتاة، يفاجئن «العميد» بغناء جميل موضوعه طه حسين، يؤدى بإحساس صادق صادر من قلوب بريئة يتأثر به طه حسين أعمق تأثير.
ويقبل أديب من إيران، يأذن له العميد فيدخل غرفة المكتب، لا يكاد يسلم حتى يأخذ، واقفا، في إلقاء نص الجزء الأول من كتاب الأيام باللغة العربية، وقد حفظ الكتاب كله غيبا، عن ظهر قلب. وعبثا يحاول العميد أن يرجوه التوقف، أو الجلوس، أو أن يقنعه بأنه هو قد سبق أن اطلع على هذا الكتاب!
وفي أول عام 1972 يسعده أن يعلم أن ابنته وأسرتها في طريقهم إلى القاهرة، فقد عين زوجها وزيرا للدولة للإعلام في وزارة الدكتور عزيز صدقي، وطه حسين ينتظر لقاء ابنته وأولادها وقد فارقوا مرحلة الصبا؛ فإن «حسن قد تزوج بهية الترجمان، وحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة كولومبيا، وهو يعمل للحصول على درجة الماجستير من جامعة كارينجي ميلون، وسوسن قد حصلت على الليسانس من كلية سمث، وهي تدرس لدرجة الماجستير من جامعة برنستون، ومنى طالبة مخطوبة لضابط في سلاح الإشارة هو أبو المعاطي عون، وستواصل دراستها، عند عودتها، في الجامعة الأمريكية في القاهرة.» •••
وتعدل الوزارة ويسند إلى صهره منصب وزير الخارجية، وطه حسين يقول له: «لن تكون لنا وزارة خارجية جديرة بهذا الاسم ما بقي جزء من أرضنا يعاني الاحتلال.»
وتستقيل وزارة الدكتور عزيز صدقي ويؤلف رئيس الجمهورية وزارة جديدة برياسته، يعين فيها الدكتور الزيات وزيرا لخارجيته، وذلك للإعداد السياسي للمعركة العسكرية التي ستخوضها مصر في السادس من أكتوبر عام 1973.
ختام
في فجر اليوم الثامن والعشرين من شهر أكتوبر عام 1973 بتوقيت مدينة نيويورك، طلبني مدير مكتبي في وزارة الخارجية بالقاهرة السفير محمد شكري لينعي إلي طه حسين.
كنا في اليوم الثاني والعشرين من أيام الصراع العسكري والسياسي الذي بدأ في السادس من أكتوبر، في العاشر من رمضان، وكان مطار القاهرة مغلقا أمام طيارات المدنيين، ولكن القاهرة أبلغتني أن طائرة عسكرية مصرية ستنتظرني في مطار روما، فركبناها ولم يكن فيها من الركاب سواي أنا وزوجتي وابنتي «منى».
وتحركت الطائرة، ثم حلقت، وأرسلت البصر من نافذتها إلى حقول إيطاليا جرداء بعد موسم الحصاد، وإلى جبالها وقد ابيضت قممها بعد ابتداء موسم الثلوج، ثم لم أعد أرى وقد أصبحنا في سماء البحر الأبيض المتوسط سوى الماء والسحاب، فأغلقت عيني أدعو إليهما النوم دون أن يستجيب، وتزاحمت على جفني المغلقين خواطر الحرب والسلام.
جعلت أتذكر الرحلة التي بدأتها في أول الصيف بالقاهرة وانتهت إلى بكين، وزرت فيها موسكو، وبلجراد، ولندن، وفيينا، وباريس، ثم نيويورك، في جهاد للوصول إلى العدل أساسا للسلام الكامل الذي لن يدوم السلام على أساس سواه، وأرى هذه الرحلة بما صاحبها من صراع تقارب الآن نهايتها، وأتساءل: كيف يكون الختام؟
Unknown page