كان وجدان حائرا، ولكنه لم يكن رافضا للحكم. فهو لم يعرف غيره حتى يرفضه، بل ربما تصور أن دول العالم كلها تحكم على هذا المنوال. ولم يكن أبوه يتصور أنه يستطيع أن يناقشه. ولكنه كان يفهم من أحاديث أبيه مع أمه أن أباه رافض. وكان يسمع من زملائه في المدرسة أن آباءهم رافضون هم أيضا. واقتنع هو وزملاؤه أنهم جيل الثورة، وأن آباءهم جيل متخلف يدين بالولاء للملك الفاسد وللأحزاب المستغلة المؤلفة من الساسة المحترفين.
وحين أعلن الحكم الثورة الثانية على الإقطاع كان وجدان قد بلغ سنا تسمح له بالمناقشة، ولهذا تصدى لأبيه حين وجده ثائرا ثورة عارمة، غاضبا كل الغضب، لا يكف عن مهاجمة ما يحدث لأعراض الناس وحياتهم وكرامتهم.
قال لأبيه: أليس من حق الثورة أن تحمي نفسها؟! - تحمي نفسها من ماذا؟! - من أعدائها. - أين هم؟ - هؤلاء الإقطاعيون. - ماذا يملكون؟ - المال. - ألم تأخذ الثورة أموالهم؟ - ولكنها وجدت عندهم غيره. - وإن كان هذا صحيحا ، فما الذي يستطيعون أن يصنعوه به؟ - يستطيعون أن يحاربوا الثورة بالمال. - ثورة يحميها جيش بأكمله يحاربها بضعة أفراد ببقايا مال تتوهم الثورة أنهم يملكونه. - أهي تتوهم؟! - لا شك، بعد قوانين الإصلاح الزراعي والمصادرات والتأميم والاستيلاء، أي ثروات يمكن أن تبقى؟ - بابا، أنا أعرف أنك قمة في العدل، ولست أنا فقط الذي يقول عنك هذا، بل كل من يعرفك. ثم إن الثورة لم تمس شيئا من أرضك ولا من أرض أمي. - أرضنا معا أقل من كل القوانين. - ولكني مع ذلك أخاف أن يكون كرهك للثورة سببه أنها جعلت الفلاحين أصحاب كرامة.
وأوشك عزام أن يغضب، ولكنه مال إلى بعض الهدوء وهو يرى ابنه يحاول أن يستنتج ويحاول أن يناقش: الفلاحون أصحاب كرامة طول حياتهم. وكانت صلتهم بأصحاب الأرض صلة مشاركة. والكرامة لا يعطيها أحد لأحد. الكرامة بذرة في النفس لا تزول عن صاحبها مهما ناله من ظلم. والبلاء الذي يقع اليوم يقع على الفلاحين؛ لأن كل المصريين فلاحون. ولم يكن بينهم أحد لا يعتبر فلاحا إلا الأسرة المالكة؛ لأنها أسرة غبية، لم تحاول أن تلتحم بالشعب، بل كونت لنفسها طبقة مستقلة، وأحاطت نفسها بسور من العظمة الكاذبة، وابتعدت عن الشعب، حتى اللغة العربية لغة الشعب لم تحاول أن تتعلمها. تعلمت لغات العالم أجمع ولم تحاول أن تتعلم لغة البلاد التي جعلت منها أسرة مالكة.
وفي فرحة غامرة صاح وجدان: الله! بابا، إذن فأنت لا تحب الملك. - وما الذي جعلك تظن أنني أحبه. - زملائي يقولون: إن آباءنا جيل ملكي يرفض الثورة. - بل إنني أكره الملك، وأعتقد أنه هو السبب الرئيسي فيما حل بنا. ولكني يا بني أكره الظلم. ليس لأنني قاض، ولكن لأنني إنسان. - أترى في الاستيلاء على بعض الأموال ظلما؟
وقال القاضي: الاستيلاء على مليم ليس لك ظلم. هكذا شرع الله، ومن شريعة الله جاء القانون، والقانون يطبق لينشر العدالة، وما لا يتفق مع العدالة ظلم. ويا ليت الأمر وقف عند الاستيلاء على الأموال، وإنما تعداه إلى الاعتداء على أعراض الناس . أتتصور أن ترى أمك عارية أمام شهود يهددك أحدهم بالاعتداء عليها؟
وانتفض وجدان قافزا صائحا: لا، لا، لا! - ألم تسمع أنهم يصنعون هذا؟ - إنه تشنيع. - يا ليت يا وجدان يا بني، يا ليت! ولكني أنا أعرف، فأعضاء النيابة في هذه الأماكن هم الذين يخبرونني. إنهم يعرفون كل ما يقع في البلاد، في الأرياف والسجون والمعتقلات. - لا يمكن، غير معقول، لا يمكن. - والاعتداء على الأرواح، والاعتداء على الكرامات، وبيد من؟ بيد الحكم الذي قال إنه وهب الكرامة للشعب المصري. - ولكن أننكر يا أبي أن اسم مصر أصبح على كل لسان؟ - قل لي يا وجدان أيهما المهم، الشهرة أم نوع الشهرة؟ - لا أفهم. - أقصد هل هو شيء عظيم أن تصبح لصا شهيرا وقاتلا شهيرا؟ - طبعا لا. - إذن المهم هو نوع الشهرة. إن تشتهر بالأمانة، بالحق، بالخلق. انظر إلى شهرتنا، قلنا لرئيس أمريكا إذا لم يعجبه البحر الأبيض يشرب من البحر الأحمر. وترجموه هناك بالإنجليزية: فليذهب رئيس أمريكا إلى الجحيم. ورئيس الدولة هو رمزها. والاعتداء عليه اعتداء على الدولة كلها. وهكذا هاجمنا أقوى دولة في العالم، وربما في التاريخ، ولم نترك زميلتها في القوة، فهاجمنا رئيس الاتحاد السوفيتي، وقلنا عن الشعب الإنجليزي تحكمه امرأة، وقلنا للشعب الألماني ينفلق، لن ندفع له دينه، وقلنا: إن موقف المدين أقوى من موقف الدائن. وفي الساحة العربية عيرنا الملك حسين باسم والدته. ولا أدري أي عيب أن يكون اسمها زين. واعتدينا على ملك بلاد الإسلام المقدسة الرجل الوقور الذي يحظى بالتقدير من كل العالم وتحدثنا عن ذقنه. وبهذا يا وجدان يا بني نلنا الشهرة. ولم نكتف بهذا، بل أقحمنا أنفسنا في حروب لا شأن لنا بها، ونحن شعب فقير، ولكننا مع ذلك أخذنا الأموال التي يجب أن تنفق على مرافقنا من كهرباء وماء وصرف وتليفونات، ننفقها في حرب اليمن والكونغو ومالي. وبهذا يا بني نلنا الشهرة. أتعجبك هذه الشهرة؟!
وأطرق وجدان لحظات في وجوم شديد، ثم قال: يا أبي، إنني من جيل نشأ في هذه الثورة. وهي أملي، وإن فقدت أملي فيها فقدت أملي في مصر. أنا أصغر من أن أناقشك، ولكنني ما زلت مقتنعا أن الثورة ورئيسها هما أملنا الوحيد. - وأنا يا بني لن أحاول أن أخيب أملك. ولكن أرجو أيضا ألا تخيب الثورة نفسها ثقتك فيها، فليس هناك أبشع من جيل بلا أمل.
وحين وقعت كارثة 67 قال وجدان لأبيه: اليوم يا بابا أصبحنا جيلا بلا أمل.
ونظر إلى أبيه فوجد الدموع تجري مدرارا على وجنتيه. - تبكي يا أبي. ألم تكن تتوقع؟! - فرق كبير يا وجدان يا بني بين توقع الكارثة ووقوعها.
Unknown page