عجيبة تلك الصلة التي تقوم بين مجيدة زوجته وزوجة ابنها ميرفت. فلو كان لمجيدة ابنة ما أحسنت معاملتها وأحبتها قدر ما كانت مجيدة تحب ميرفت. حتى إذا اختلف وجدان مع أمه كانت ميرفت تقف إلى جانب حماتها لا إلى جانب زوجها، وتدافع عنها بشتى وسائل الدفاع، فتلجأ إلى وجدان بالحق والمنطق أحيانا. فإن خذلها حق أو وقف بها منطق لجأت في ذكاء إلى عاطفة البنوة وما تنتظره الأم عند ولدها. وقد كانت أم ميرفت سعدية هانم النبوي تكاد تغار من حب ابنتها لحماتها. إلا أنها لم تحاول أن تفسد هذه العلاقة أو تمسها. عن فضل منها كان ذلك أو عن يأس أو عن كليهما معا، لا أحد يدري.
وكان عزام سعيدا بهذه العلاقة غاية السعادة. وكان حين يحاول أن يقدم الحيثيات لهذا الواقع المضيء في بيته يجد الأسباب حاضرة من قريب.
فزوجته مجيدة ابنة عمه عزت أبو الفضل. وقد كانت صلة عمه عزت بأخيه عبد المجيد والد عزام صلة أخوة وثيقة، حتى إن عزت أقام بالزقازيق المدينة تاركا لأخيه الإشراف الكامل على الأرض جميعا. أما عزت فقد تفرغ للجلوس مع الأصدقاء في قهوة باروخة في الصباح، والجلوس في النادي بعد الظهر يلعب النرد أو الضمنة سعيدا بفراغه هذا غاية السعادة، لا يسمح بشيء في العالم أن يعكر صفوه أو يفسد متعته. وقد كانت متعة بريئة لا يشوبها منكر. فقد يلعب مع أصدقائه برهان، ولكنه رهان هزيل، لا يخيف ولا يهدد أية ثروة مهما يكن مقدارها ضئيلا. كان إذا خسر عشرة في النرد يدفع عشرين قرشا، فإذا حمي الوطيس وغلت الدماء في العروق وطغى حب الانتقام عليه إذا وقعت عليه الغلبة ارتفع مقدار الرهان وارتفع، ثم لا يعدو الخمسين قرشا فقط.
أما في الضمنة فقد كان يخسر عشرين قرشا إذا خسر. فإذا ذكرنا أن اللاعب في هذه الميادين لا يخسر دائما ولا يكسب دائما، نجد أن نفقات عزت في متعته هذه كانت لا تمثل شيئا بالنسبة إلى ثروته.
ولم يرزق عزت من زوجته مبروكة النمر ابنة عمدة ميت ركاب الحاج طه النمر إلا ابنته مجيدة. وقد أسماها مجيدة تقربا من اسم أخيه وحبا فيه. وكأنما أراد أن يقول له: إن كنت لم تنجب إلا الأولاد فقد رزقك الله بالابنة في بيت أخيك.
وقد أدخل عزت مجيدة مدرسة الراهبات بالزقازيق، وظلت بها حتى حصلت على البكالوريا، فهي مثقفة ثقافة فرنسية عالية. وكان أبوها يصحبها شهرا أو شهرا وبعض الشهر إلى الإسكندرية أو رأس البر في المصيف، أما بقية الإجازة فقد كانت تحب أن تقضيها في العزبة عند عمها، وقد تزور جدها وجدتها في ميت ركاب، ولكن أغلب الوقت كانت تقضيه في بيت عمها.
وكان عزت كثير الزيارة للقاهرة حتى لتذكر مجيدة أن كل الإجازات التي كانت تحل أثناء العام الدراسي كانوا يقضونها في القاهرة في تلك الشقة التي أجرها عمها لتكون محل إقامة لوجدان أول الأمر، ثم أصبحت موئلا لأسرتي الأخوين، كلما قصد أحدهما أو كلاهما إلى القاهرة. وقد كان الحاج عبد المجيد بعيد النظر دائما؛ ولهذا فقد اختار الشقة واسعة غاية السعة، تستطيع أن تحتوي الأسرتين جميعا، لا تضيق بالسادة أو الخدم في وقت معا. وهكذا وجد من الطبيعي أن يستجيب لأخيه حين طلب إليه أن يشاركه في إيجارها. هكذا نشأت مجيدة في الزقازيق، ولكنها كانت على صلة وثيقة بالحياة، فقد كانت تذهب إلى السينما وتشاهد المسارح وتتابع بما وفره لها تعليمها الحركة الأدبية، فهي متفتحة الذهن رهيفة الحس. تعتبر البواكير الأولى للمرأة المتعلمة في العصر الحديث. وإن كان سخف العصر الحديث قد طغى على تعليم المرأة في بعض الأحيان، فإن أصالة تلك الفترة هي التي كانت تحيط بمجيدة في هاته الأيام. وأي أصالة أعظم من واقعها يمكن أن تحيط بها وهي ترى أسرة أبيها وأسرة عمها واحدة يجمعهم الحب الصادق لا زيف فيه ولا مين ولا خداع. ولماذا الخداع؟ وطلب كل فرد مجاب من الأسرتين جميعا بلا تفرقة، ولا حتى تفكير ما دام الطلب معقولا لا مبالغة فيه ولا تعسف. ولم يكن العنت يعرف طريقا إلى البيتين جميعا، فأبوها رجل سمح طيب المعشر ألوف، يحب الناس ويحبونه. وعمها رجل له وقاره ومكانته في قريته وعند الذين يعرفونه.
وهكذا كان عزام يجد أن مجيدة كان يستحيل عليها أن تكون غير هذه السيدة العظيمة في تربيتها لأبنائها، وفي حبها لزوجة ابنها ميرفت التي تقوم معها وزوجة ياسر أيضا سوسن التي تقيم مع زوجها في بيت خاص بهما.
أما مجيدة الزوجة فقد كان حبها لزوجها أمرا مقررا لا يحتاج إلى أي تفكير، فقد نشأ كل منهما في منبع واحد، وإن كان هو يكبرها بخمس سنوات وبضعة أشهر، فالذي لا شك فيه أن كلا منهما شهد طفولة الآخر وعرفه أوثق معرفة منذ بدأ كل منهما يعي الحياة والأسماء والأشخاص.
كان عزام قد أجمع أمره على الزواج من مجيدة منذ بدأت مراهقته وعرف كما يعرف الناس جميعا أن الشاب ينبغي أن يتزوج.
Unknown page