الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
لؤلؤ وأصداف
لؤلؤ وأصداف
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
كان المستشار عزام أبو الفضل وهو يجلس إلى الكرسي الذي تعود أن يجلس عليه في منزله يفكر في حفل الوداع الذي عاد منه في يومه هذا. كان زملاء المستشار مدكور نبهان يحتفلون بإحالته إلى المعاش عند زميلهم عبد العزيز البرعي، وكان عزام يحب زميله الذي صاحبه فترة طويلة من حياته القضائية، وما هي إلا دقائق من جلوسه حتى وجد نفسه يقول في صوت مرتفع وكأنه يكلم شخصا موجودا معه: كلها كام سنة وتقام لنا نحن أيضا حفلات التوديع. الحمد لله قاربنا الشاطئ ونحن ما نزال أصحاء في ضمائرنا وفي أجسامنا. وكم شهدنا ... كم شهدنا ...
ثم وجد نفسه يمضي مع الذكريات ويستجيب لها. يستعذب الحلو فيها ويشعر بالسعادة أيضا أنه مر من أزماتها وأنه استطاع أن يجتاز عصيبها في صلابة وإباء. وأنه كان قادرا أن يخفي ما يمور في دخيلة نفسه من اضطراب أو قلق.
حتى زوجته مجيدة التي كانت تصل إلى البعيد من أغواره لم تكن تستطيع أن تبلغ مواطن الاضطراب في نفسه عند الأزمة.
فارق كبير بين ابنه ياسر الأصغر الذي تخرج في كلية التجارة وابنه البكر وجدان الذي تخرج في كلية الحقوق. وقد حصل الابنان على الثانوية العامة من كلية فيكتوريا، فكلاهما يتقن الإنجليزية كل الإتقان. وقد جعل هو من نفسه مدرسا لهما في اللغة العربية فأتقناها هي أيضا إتقانا لا يتوفر لكثير من زملائهما حتى أولئك الذين تلقوا تعليمهم بالمدارس المصرية.
وقد كان وجدان هاويا للدراسة لا يؤديها مكرها، وإنما كان شغوفا بها، فلم يكن عجيبا أن يكون متفوقا دائما. ولم يكن عجيبا أيضا أن يحصل على تقدير جيد جدا حين تخرج. وكان من الطبيعي أن يلتحق بالنيابة ويسير في الطريق الذي سار فيه أبوه. ولكن وجدان رغب إلى أبيه أن يكون محاميا، وكان عزام حريصا دائما أن يترك لولديه حق الاختيار المطلق، ولكنه كان أيضا يقدم رأيه وكأنه صديق ثم يترك لمن يناقشه منهما الحرية الكاملة في اتخاذ القرار.
ويوم جلس إليه وجدان ليعلنه أنه اختار المحاماة: لماذا؟ - أنا أملك لغتي العربية وأتقن الإنجليزية ودرست الفرنسية. وأنا أحب القانون، فلماذا لا أنتفع بكل هذا في ميدان المحاماة؟ - لك ما شئت، ولكن ما مصير القضاء في مصر إذا قال كل متفوق ما تقوله؟ - أنت تعرف يا بابا أن القضاء الواقف يخدم العدالة مثل القضاء الجالس. - على أن يكون القضاء الواقف أمينا. - وما رأيك في ابنك؟ - أرى العهد الذي نبدؤه اليوم مليئا بالمغريات المادية. - ألا تراني أهلا أن أقاومها؟ ثم أليس لكل عهد مغرياته، ولكل مهنة أيضا؟ - أنا قاض وعسير علي أن أحكم قبل أن أرى ظروف الدعوى. - ما ظنك بي؟ - إن معرفتي بك تزيدني خوفا عليك. - هل أمانتي هشة؟ - يا ليتها كانت كذلك. - أكاد أفهمك. - ستدخل في صراع عنيف أخاف عليك منه. - وأنت يا بابا حين كنت تجلس على كرسي القضاء وتحكم على إنسان ما بالقتل أو بالحرمان من الحرية، ألم تكن تتعرض لصراع؟ - في أول عهدي بالقضاء نعم، أما فيما بعد ... - بل قد كنت أشهدك وأنت عائد بعد الجلسة ذاهلا تبتلع لقيمات وتسارع إلى غرفتك متظاهرا أنك تريد أن تنام، وكنت أكاد أراك تتقلب في فراشك، وكنت أوشك أن أسمع نبضات قلبك تصيح أنك ربما ظلمت أو تشددت أو قسوت أو تهاونت. - هل كنت تحس هذا جميعا؟ - كنت أحسه أنا وياسر وماما، وينظر بعضنا إلى بعض ولا نتكلم. فقد كنا تعودنا، ولكن التعود لم يستطع أن يجعلنا ننجو من الإشفاق عليك والقلق على صحتك. - لكل مهنة متاعبها، ولكن أخشى أن يغريك المال فتنسى ضميرك. وأنا أعلم أنك تحب ضميرك حبا يكاد يكون قاتلا. - سأجرب نفسي. - الميدان الذي تدخله مليء بالأنياب والأظافر الشرسة القاتلة ويندر أن يجد صاحب الضمير طريقا فيه. - لعلي أشق هذا الطريق. - فشأنك إذن. ولكن ليكن قرارك النهائي بعد أن تؤدي الخدمة العسكرية. - وهو كذلك.
ويذكر عزام هذا الحوار جميعه وينفطر قلبه على ولده وجدان، فها قد مرت سنة وبعض السنة وهو في مكتب إسماعيل العدوي المحامي، وقلما يحدثه عن شأن من شئون قضاياه.
إن وجدان يذكره بنفسه وهو في غضارة الصبا ونضارة الشباب ومطالع الفتوة.
كان أبوه عبد المجيد أبو الفضل عمدة الديدمونة علمه بعض القرآن في القرية، ثم استأجر هو وعمه بيتا أقامت فيه أمه نفيسة وأقام هو معها. فكان الأب يزور أسرته كلما سمح له عمله وكان يصحبه إلى القرية في كل الإجازات. وكان احترام الناس له منذ هو طفل يجعله دائما يشعر بأنه ينبغي عليه ألا يرتكب ما يجلب له الاحتقار. وقد كان هذا في الطفولة والصبا أمرا هينا، ولكنه حين شب عن الطوق وخطت به السنون إلى الشباب كان الأمر عسيرا.
شاب في مقتبل العمر ليس مضيقا عليه في الرزق، يقيم مع أمه في القاهرة، والشباب فتوة وقوة وعرق ينبض، والرغبة سعير، والإغراء لهيب، وما يهفو إليه قريب قريب لو مد يده لناله. وهو بعد فتي السمات جذاب الملامح، فيه أصالة المصري تضيئها براءة السنوات الخضر، ومشاعل الشباب التي تجعل الحياة كلها نورا. وحوله الصحاب، وما أكثر ما يروي الصحاب! منهم الصادق ومنهم المبالغ ومنهم المختلق. ولكن كل ما يرويه الصحاب يثير في نفسه ما يحاول أن يكتمه من رغبات.
إنه يريد. بكل ذرة من ذرات جسمه يريد. وبكل قطرة من قطرات دمه يريد، ولكن شيئا ما يمنعه.
لا ينسى يوم صحبه عثمان صديقه إلى الماخور ودفع الأجر وجلس ينتظر دوره. ولكن ما هي إلا دقائق معدودات حتى وجد نفسه يفتح الباب الخارجي ويجري هاربا ومن ورائه عثمان يناديه وهو لا يلوي عليه ولا يجيب. كان في هذه اللحظة لا يريد شيئا إلا أن يهرب، وهرب.
وفي يوم آخر قال له فريد: أتكون خائبا يا ولد يا عزام؟
ونظر إليه عزام طويلا ثم قال: يا ليت. - فما هذا الذي يرويه عنك عثمان؟ - لا أدري، لا أتصور أن أصنع شيئا إذا عرفه عني أهل بلدتي يحقرون أمري. - الظاهر أن الولد عثمان لم يعرف كيف يتصرف معك. - كيف؟ - المسألة تحتاج إلى تمهيد. - لا أفهم. - وكيف يمكن أن تفهم؟ اسمع، ما رأيك أن نسهر الليلة في الأريزونا؟ - في الأريزونا؟ - في الأريزونا. - وماذا سنفعل؟ - لا، لا تخف. لن تذهب إلى الراقصات هناك. ما زال الطريق أمامك طويلا حتى تصل إلى الراقصات. - فلماذا نذهب إذن؟ - اليوم حفلة خيرية. ومعي تذكرة اعتذر صاحبها. - وماذا في الحفلة الخيرية؟ - سأعرفك بفتيات من رائدات الحفل مثلنا. - فتيات مرة واحدة. - ولك أنت أن تختار.
الليل نهار من كثرة النور. والضياء يخبو مع الجمال الساطع من أولئك الفتيات. كل مليحة منهن بمذاق. رائحات غاديات كأفكار جميلة تخطر على أذهان شعراء. كأملاك السماء إن تجسدت الملائكة في أزياء آدمية. السمراء عذبة رقراقة مشرقة كفرحة، مقبلة كقبلة، مدبرة كحلم. والشقراء أمل تحقق، أو دنيا تغدق بالعطاء، أو موسيقى تعزفها السماء.
عزام في تيه من البهر، وفريد يمسك بيده وكأنه طفل لا يعرف الطريق، وقد كان فعلا في هذه اللحظات طفلا لا يعرف الطريق. وفي لسان متعثر وعقل غائب يقول لفريد: أين نحن؟
ويقول فريد وعيناه تجوسان خلال الحفل جميعا: اسكت. - وهل أنا قادر على الكلام؟ أنحن في مصر؟ - في مكامن أضوائها، بين المصابيح المصرية والجمال الذي لم تره خيبتك من قبل. - ولكن أنا تائه. - طيب اسكت قبل أن أتوه أنا الآخر. - إياك، فلا أمل لي هنا إلا أنت. - اسكت، انتظر، ها هما. - من هما؟ - تعال.
وقاد يده المطيعة وجسمه الذي أصبح بلا وزن إلى مائدة جلست إليها فتاتان؛ إحداهما شقراء والأخرى سمراء. وقبل أن يصلا وقف فريد وسأله: أترى هاتين الفتاتين؟ - ما لهما؟ - أتريد الشقراء أم السمراء؟ - ماذا؟ - انطق قبل أن تراني إحداهن.
وقال دون وعي: الشقراء. - إذن تعال.
ورحبت الفتاتان بهما ترحيبا عجيبا لا مبالغة فيه، ولكنه في نفس الوقت يحمل كل معاني الإقبال. وقالت السمراء: تأخرت.
وقال فريد: أنا أبحث عنكما منذ نصف ساعة، صديقي وزميلي عزام أبو الفضل.
وصاحت الشقراء: أهو أنت؟
وفغر عزام فاه ووقف مشدوها، ثم وجد نفسه يقول: وتعرفينني يا ست؟
وتضحك ضحكة فارهة يضيع صداها في ضجيج الحفل، ويرتجف قلب عزام، وتكمل الفتاة: كل المعرفة.
ويخشى فريد من الربكة التي غمرت عزام، ويسارع قائلا: الآنسة نرمين.
وفي ذهول يقول عزام: تشرفنا.
وتقول الأخرى: أهلا، وأنا سعيدة.
ويقول عزام وكأنه يرد التحية ولكن دون أن يقصد إلى النكتة: سعيدة مباركة.
ويحس الجميع أن الإجابة صدرت منه وكأنه جالس على مصطبة أبيه في البلدة، ودون أن يقصد إلى المفارقة التي وضحت في اللهجة، فينفجر ثلاثتهم في قهقهة عالية ارتفع صداها على صخب الحفل، حتى لقد بدأت بعض العيون تنظر إليهم. فينتبهون إلى ارتفاع ضحكهم، وعزام في غمرته لا يزال، وتضع نرمين يدها على فمها وتصدر عنها تلك «الهش» التي يطالب الناس بها بعضهم البعض بالصمت، أو بخفض الصوت. وينتبهون أيضا أنهم ما زالوا واقفين. وتقول سعيدة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اقعد، اقعدوا.
وتنظر إلى فريد. - هذا موديل لم أره في حياتي.
ويقول فريد: ابعدي عنه فهو ليس قدك. عليك أنت به يا نرمين، فربما فهم لغتك. إنما سعيدة لا يفهمها إلا أنا.
وتفهم الفتاتان أن الصديقين قد اتفقا على هذه القسمة وهما في طريقهما إليهما. ولم تكن الصلة بين أي من الفتاتين وبين فريد وثيقة، إنما هي صلة محددة المعالم لا تسمح لنرمين بالغضب من فريد أنه اختار سعيدة. صلة الفتاتين بفريد صلة محددة المعالم واضحة الأغراض. وليس من بين معالمها حب يثير الغيرة أو حتى يدعو إلى التظاهر بها. وكان عزام يظن أن نرمين ستثير حملة شعواء على فريد، ولكنه دهش أنه وجد الأمور تجري طبيعية. بل وجد من نرمين إقبالا عليه وسعادة للتعرف به جعلته يترك دهشته ويلتفت بجميعه إلى الجديد من تجارب الحياة. وأدرك أنه لا بد أن يكون في كامل استعداده حتى لا يثير سخرية الفتاتين وصديقه فريد.
وقال فريد: هل نشرب شيئا؟
وقالت سعيدة: إذا كنت تريد.
وقال فريد: أظن أن كأسا من الويسكي لا بأس به.
وقالت نرمين: لا يكون هناك بأس مع الويسكي أبدا.
وقال فريد: وهو كذلك يا متر.
وقال عزام: متر! ما متر هذه؟
وضحكوا جميعا. وقال فريد: وكيف أناديه؟
وقال عزام: ولكن متر هذه لقب المحامين.
وضحكوا مرة أخرى. وقال فريد: ولقب الخادم هنا أيضا.
وفي ذهول حقيقي يقول عزام: متر؟!
ويستمر الضحك ويقول فريد: متر.
ويقول عزام: مثل المحامي.
ويقول فريد: ولو أن المعنى مختلف.
ويقول عزام: كيف؟
ويستمر الضحك. ويقول فريد: المتر هنا اختصار لمتر دي أوتيل؛ أي رئيس الخدم أو رئيس المكان.
ويقول عزام: وهل نحن في أوتيل؟
ويقول فريد: هذا لقب اصطلاحي.
ويقول عزام: لقب اصطلاحي يجعل خادم السكارى مثل المحامين الذين نشقى ربع قرن من حياتنا لنصبح مثلهم حاملين لقب متر. يناله هذا النادل القريب في اسمه العربي من النذل دون أي جهد.
ويرتفع الضحك على المنضدة مرة أخرى. ويقول فريد: وأي فارق بين الاثنين؟ - أنت لا ترى فارقا؟ - مطلقا. - فاترك كلية الحقوق يا أخي واعمل هنا. - يا ليت. - هل جننت؟ - أتعرف أن هذا الذي تسخر منه يكسب خمسة جنيهات في اليوم على الأقل. وقد يكسب أكثر؟ - يا نهار أسود من الحبر الكوبيا.
ويضج الثلاثة بالضحك حتى تلتفت إليهم العيون مرة أخرى. ويكمل عزام: مائة وخمسون جنيها في الشهر ... مائة وخمس...
ويقول فريد وهو يغالب الضحك: ماذا يكسب المحامي؟ - إن كسب عشرة جنيهات في الشهر في أول حياته تكون نعمة. - أرأيت؟ - وبئس ما رأيت. - ومع ذلك، أي فارق بين الاثنين؟
ويقول عزام في غضب: يا أخي لا تجنني.
ويقول فريد: أليس كل منهما يؤدي حاجة للمجتمع ؟
ويقول عزام في غضبه لا يزال: شتان، هذا يسقي الناس الخمرة.
وتضحك الفتاتان. ويقول فريد: لا تقل هذه اللفظة هنا أبدا. - لماذا؟ أليست خمرة؟!
ويهمس فريد في جدية: يا أخي اخفض صوتك، لا تفضحنا.
ويخفض فريد صوته: أليست خمرة؟!
ويهمس فريد: ولكننا هنا نسميها مشروب أو الكول؛ يعني الكحول، أو ويسكي ونخلص. - خلاص على كيفك، نسميها مشروب، ونسأل كيف تقارن هذا الذي يحمل المشروب بالمحامي؟ - أليس المحامي يؤدي ما يطلبه الزبون؟
ويقاطعه عزام: الموكل. - لن نختلف، ولكن أليس الموكل زبونا؟
ويصمت عزام قليلا ويقول: لنفرض.
ويقول فريد كأنه ينتصر: وهذا أيضا يؤدي للزبائن طلباتهم.
ويقول عزام: خلاص، انتهى الأمر. لا فارق بين محام درس القانون ويخدم العدالة ويبين للقضاء وجهة النظر القانونية في القضية المطروحة و...
ويقاطعه فريد: نهارك أسود! هل ستترافع؟ خلاص يا سيدي، أنا غلطان. ولكن ماذا أصنع الآن؟ لا بد أن أقول يا متر حتى يأتي ويكون مشكورا لو أتى أيضا. فماذا تريدني أن أناديه؟ آه لو عرفت الوظائف الأخرى التي يقوم بها.
وتنفجر الفتاتان بالضحك، ويقول عزام في دهشة زادت من ضحكهما: وله وظائف أخرى أيضا؟! - هامة كل الأهمية. - غير الخمرة، أقصد المشروب. - أهم بكثير. - مثل ماذا؟ - يوفق بين الرءوس. - في الحلال؟ - ليس هنا حلال. - يا نهار أسود! يعني ... يعني ... - نعم. - وتقول له متر؟ خيبة الله عليك وعليه في لحظة واحدة! - اسمه كذا. - تشرفنا. - هل تسمح أن أناديه؟ - تفضل.
وكانت الفتاتان قد كادتا أن يغمى عليهما من كثرة الضحك. وصاح فريد: يا متر!
وجاء الساقي وقال فريد: أربعة ويسكي.
ويصيح عزام في صوت مرتفع: انتظر، انتظر يا ريس. لمن الرابع يا أستاذ فريد؟
وبحسم يقول فريد: لي أنا! أنا سأشرب اثنين. هل عندك مانع؟
وتنخذل غضبة عزام وهو يقول: إن كان الأمر كذا فأنت حر، اشرب عشرة إذا أردت. أنا أريد ليمونا.
ويقول الساقي: ليس عندنا ليمون يا بك.
يحسم فريد الموقف في خبرة: هات كازوزة يا متر.
وينصرف الساقي وهو يقول: أمرك يا سعادة البك .
وتمسك نرمين بيد عزام بكلتا يديها وهي تقول: شربات، شربات مكرر.
ويقول عزام: وهل أجد هنا شربات؟ يكون أحسن.
ويعود الضحك وتقول نرمين: ليس هنا شربات إلا أنت.
ويسعد عزام ويحس بدبيب نشوة تتسرب في أعراقه: يا ست الله يخليك، كل ما في الأمر أنك أنت دمك خفيف.
وتقول سعيدة: الله! إذن فأنت تشنع عليه يا فريد. إنه يغازل في براعة لا تقدر عليها أنت.
ويقول عزام: أنا والله أقول الحق.
وتقول نرمين: أو الباطل، لا يهمك، المهم أنني أصدقك. قل أنت ما تشاء ولا تهتم بسعيدة، فهي تغار مني لأن فريد لم يقل لها شيئا.
ويقول عزام: فريد، فريد في هذا الميدان أستاذنا. وأين أنا من فريد؟ طيب والله يا ست نرمين أنا لم أكلم حرمة غريبة عني طول عمري إلا ذا الوقت.
ويعود إليهم الضحك وتقول نرمين: الذي يبدو من كلامك أنك قديم في الكار.
ويصيح عزام في شبه سخرية بنفسه: يا ست الله يفتح عليك! أنا والله ما أعرف هذا الكار إلا اليوم.
وتجيء الطلبات. ويضع الساقي أمام كل فتاة كأسا، ويضع كأسين أمام فريد، ويضع الكازوزة أمام عزام، وينصرف.
ويقول فريد: عزام. - أفندم. - لي معك كلمتان. - قل مائة. - بشرط. - وهو؟ - تسكت حتى أنتهي من كلامي. - موافق. - وبشرط آخر. - نعم؟ - إذا اقتنعت تنفذ ما أقوله لك. - وإذا لم ... - ترفض ولن أتكلم في الموضوع أو ألح عليك فيه. - الشرطان عادلان ومقبولان. - إذن قل لي لماذا جئت معي اليوم؟
ويرتج على عزام لا يجد جوابا وينقذه فريد: إنك تمر بتجربة جديدة لتعرف نوعا من الحياة جديدا عليك. أليس كذلك؟ - كذلك. - لا تتم التجربة حتى تكون خضتها إلا بكأس من الويسكي.
وينتفض عزام: أنا. - اسكت حتى أنتهي. - سكتنا. - أليس لكل قاعدة قانونية أركان؟ - طبعا. - من أركان هذه التجربة كأس ويسكي. - وإن سكرت؟ - عيب أن تظهر كأنك مغفل وأنت الذي أوشكت على الانتهاء من دراسة الحقوق، وأنت الذي تقف دائما في الصدارة من دفعتك. - وهل يمنع هذا جميعه أن أسكر. - هل عمرك سمعت أن إنسانا مهما يكن شأنه يسكر من كأس واحدة؟ - أظن لا. - إذن. - واحدة. - واحدة. - اشرب. - عظيم. اشرب رشفة رشفة وانس تماما أنك تشرب ويسكي واتركه يصنع مفعوله دون أن تضايقه.
ويقول عزام: وهل الويسكي أيضا يتضايق؟ - مثلي ومثل نرمين ومثل سعيدة، إذا كنت رفضت أن تشرب هذه الكأس. - وهل أجرؤ على مضايقة الست نرمين والست سعيدة؟
وتقول سعيدة: أنا ونرمين نتضايق ونتعب ويصيبنا الغم من كلمة الست التي تمسك بها هذه.
ويقول عزام: ولا أقول ست؟ ولكن يعني ... أهذا يصح؟
وتقول نرمين: بل لا يصح إلا هذا يا أخف دم في الدنيا.
الفصل الثاني
عجيبة تلك الصلة التي تقوم بين مجيدة زوجته وزوجة ابنها ميرفت. فلو كان لمجيدة ابنة ما أحسنت معاملتها وأحبتها قدر ما كانت مجيدة تحب ميرفت. حتى إذا اختلف وجدان مع أمه كانت ميرفت تقف إلى جانب حماتها لا إلى جانب زوجها، وتدافع عنها بشتى وسائل الدفاع، فتلجأ إلى وجدان بالحق والمنطق أحيانا. فإن خذلها حق أو وقف بها منطق لجأت في ذكاء إلى عاطفة البنوة وما تنتظره الأم عند ولدها. وقد كانت أم ميرفت سعدية هانم النبوي تكاد تغار من حب ابنتها لحماتها. إلا أنها لم تحاول أن تفسد هذه العلاقة أو تمسها. عن فضل منها كان ذلك أو عن يأس أو عن كليهما معا، لا أحد يدري.
وكان عزام سعيدا بهذه العلاقة غاية السعادة. وكان حين يحاول أن يقدم الحيثيات لهذا الواقع المضيء في بيته يجد الأسباب حاضرة من قريب.
فزوجته مجيدة ابنة عمه عزت أبو الفضل. وقد كانت صلة عمه عزت بأخيه عبد المجيد والد عزام صلة أخوة وثيقة، حتى إن عزت أقام بالزقازيق المدينة تاركا لأخيه الإشراف الكامل على الأرض جميعا. أما عزت فقد تفرغ للجلوس مع الأصدقاء في قهوة باروخة في الصباح، والجلوس في النادي بعد الظهر يلعب النرد أو الضمنة سعيدا بفراغه هذا غاية السعادة، لا يسمح بشيء في العالم أن يعكر صفوه أو يفسد متعته. وقد كانت متعة بريئة لا يشوبها منكر. فقد يلعب مع أصدقائه برهان، ولكنه رهان هزيل، لا يخيف ولا يهدد أية ثروة مهما يكن مقدارها ضئيلا. كان إذا خسر عشرة في النرد يدفع عشرين قرشا، فإذا حمي الوطيس وغلت الدماء في العروق وطغى حب الانتقام عليه إذا وقعت عليه الغلبة ارتفع مقدار الرهان وارتفع، ثم لا يعدو الخمسين قرشا فقط.
أما في الضمنة فقد كان يخسر عشرين قرشا إذا خسر. فإذا ذكرنا أن اللاعب في هذه الميادين لا يخسر دائما ولا يكسب دائما، نجد أن نفقات عزت في متعته هذه كانت لا تمثل شيئا بالنسبة إلى ثروته.
ولم يرزق عزت من زوجته مبروكة النمر ابنة عمدة ميت ركاب الحاج طه النمر إلا ابنته مجيدة. وقد أسماها مجيدة تقربا من اسم أخيه وحبا فيه. وكأنما أراد أن يقول له: إن كنت لم تنجب إلا الأولاد فقد رزقك الله بالابنة في بيت أخيك.
وقد أدخل عزت مجيدة مدرسة الراهبات بالزقازيق، وظلت بها حتى حصلت على البكالوريا، فهي مثقفة ثقافة فرنسية عالية. وكان أبوها يصحبها شهرا أو شهرا وبعض الشهر إلى الإسكندرية أو رأس البر في المصيف، أما بقية الإجازة فقد كانت تحب أن تقضيها في العزبة عند عمها، وقد تزور جدها وجدتها في ميت ركاب، ولكن أغلب الوقت كانت تقضيه في بيت عمها.
وكان عزت كثير الزيارة للقاهرة حتى لتذكر مجيدة أن كل الإجازات التي كانت تحل أثناء العام الدراسي كانوا يقضونها في القاهرة في تلك الشقة التي أجرها عمها لتكون محل إقامة لوجدان أول الأمر، ثم أصبحت موئلا لأسرتي الأخوين، كلما قصد أحدهما أو كلاهما إلى القاهرة. وقد كان الحاج عبد المجيد بعيد النظر دائما؛ ولهذا فقد اختار الشقة واسعة غاية السعة، تستطيع أن تحتوي الأسرتين جميعا، لا تضيق بالسادة أو الخدم في وقت معا. وهكذا وجد من الطبيعي أن يستجيب لأخيه حين طلب إليه أن يشاركه في إيجارها. هكذا نشأت مجيدة في الزقازيق، ولكنها كانت على صلة وثيقة بالحياة، فقد كانت تذهب إلى السينما وتشاهد المسارح وتتابع بما وفره لها تعليمها الحركة الأدبية، فهي متفتحة الذهن رهيفة الحس. تعتبر البواكير الأولى للمرأة المتعلمة في العصر الحديث. وإن كان سخف العصر الحديث قد طغى على تعليم المرأة في بعض الأحيان، فإن أصالة تلك الفترة هي التي كانت تحيط بمجيدة في هاته الأيام. وأي أصالة أعظم من واقعها يمكن أن تحيط بها وهي ترى أسرة أبيها وأسرة عمها واحدة يجمعهم الحب الصادق لا زيف فيه ولا مين ولا خداع. ولماذا الخداع؟ وطلب كل فرد مجاب من الأسرتين جميعا بلا تفرقة، ولا حتى تفكير ما دام الطلب معقولا لا مبالغة فيه ولا تعسف. ولم يكن العنت يعرف طريقا إلى البيتين جميعا، فأبوها رجل سمح طيب المعشر ألوف، يحب الناس ويحبونه. وعمها رجل له وقاره ومكانته في قريته وعند الذين يعرفونه.
وهكذا كان عزام يجد أن مجيدة كان يستحيل عليها أن تكون غير هذه السيدة العظيمة في تربيتها لأبنائها، وفي حبها لزوجة ابنها ميرفت التي تقوم معها وزوجة ياسر أيضا سوسن التي تقيم مع زوجها في بيت خاص بهما.
أما مجيدة الزوجة فقد كان حبها لزوجها أمرا مقررا لا يحتاج إلى أي تفكير، فقد نشأ كل منهما في منبع واحد، وإن كان هو يكبرها بخمس سنوات وبضعة أشهر، فالذي لا شك فيه أن كلا منهما شهد طفولة الآخر وعرفه أوثق معرفة منذ بدأ كل منهما يعي الحياة والأسماء والأشخاص.
كان عزام قد أجمع أمره على الزواج من مجيدة منذ بدأت مراهقته وعرف كما يعرف الناس جميعا أن الشاب ينبغي أن يتزوج.
ويخيل إليه أن مجيدة كانت تدرك ما أجمع عليه أمره دون أن يشير إلى ذلك بكلمة. وكانت الأسرة جميعا تدرك هذا المصير، ولكن أحدا منها لم يذكره لآخر، كان أمرا مقررا في داخل كل فرد من أفراد الأسرة، حتى لقد ظنوا أن الحديث في شأنه عبث لا معنى له. ولا يستطيع عزام أن يذكر الآن وهو في غمرة هذه الذكريات إن كان أحب مجيدة ذلك الحب الجارف الذي قرأه عنه والذي شهده يحيط بإخوانه وزملائه، أم أن اعتبار مجيدة هي زوجته المقبلة جعل حبه لها من نوع آخر لا يعرفه إلا قليل من الناس، أولئك الذين تشابهت ظروف حياتهم وظروف الحياة التي نما فيها عزام. كان حبه لها أمرا مفروغا منه ليس في الوجد، وفيم الوجد وهو يعلم أن شيئا لن يقف في سبيل زواجهما؟ ولا فيه الهيام ولا السهد، فما كان هناك داع إليهما. ربما كان يتشوق لرؤيتها، ولكن أليس الشوق أمرا طبيعيا بين أفراد الأسرة الواحدة؟
وهكذا كان يعيش حياته في القاهرة في اطمئنان على مستقبل البيت الذي سيقيمه للزوجية. وكان يسعى حياته في طهر؛ لأنه كان يرى أن هذا هو الأولى به والأخلق.
ثم ظهرت نرمين. فإذا الحياة عنده تسفر عن وجه من المتعة لم يتصور مقدارها قط قبل ليلته هذه في الأريزونا.
ذهب مع نرمين إلى شقتها. وحين حان موعد انصرافه تحير ماذا يفعل. وبخبرة المرأة المتمرسة قالت له: فلوس لا أقبل منك، ولكن أحضر لي هدية معك في المرة القادمة.
مرة قادمة، فكر قليلا وما لبثت متعته الجديدة أن صاحت به: ماذا بك؟ وهل في هذا تردد؟
وقالت نرمين: أم تراك لم تنبسط ولن تكون هناك مرة قادمة!
وصاح من فور الغريزة: بل مرات ومرات. المهم ألا تصرفيني أنت. - لا، اسمع، أنا أعرف أنك في السنة النهائية، وأعرف أنك دائما من الأوائل. وحتى أضمن دوام الصلة بيننا لا أحب أن أكون سببا في تأخرك عن التفوق.
وصمت عزام قليلا، فقد واجه العقل الغريزة وقال: كلام معقول.
وأكملت نرمين: من الطبيعي أن ترفه عن نفسك في كل يوم خميس. - معقول. - إذن فموعدنا الساعة الثامنة كل يوم خميس.
استمرت العلاقة كما اتفقا أن تكون. وكان يغدق عليها الهدايا، ولكنها هدايا طلاب على أية حال وإن كانت لا تخلو من ذكاء. فكان يحاول دائما أن تكون هديته من الذهب، وبدلا من أن يأتي لها كل أسبوع بهدية هزيلة يأتي لها كل شهر بما يوازي أربعة جنيهات ذهبية. وكان الجنيه الذهبي في ذلك الحين بخمسة جنيهات. وكثرت مطالبه بعض الشيء من أبيه، وكان الأب ذكيا يدرك ما قد يحتاج إليه الشباب من بعض الإنفاق. ولم يكن الأب واسع الثراء. ولكن المال لم يكن مشكلة بالنسبة إليه على كل حال، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأخيه أيضا.
كان يوم خميس. لا يزال عزام يذكره وكأنه مر بالأمس القريب. وذهب في موعده إلى نرمين. وكانت الجلسة تبدأ بينهما بالحديث مع كأس ويسكي، وكان لا يزيد عن الكأس قط، وكان الحديث يتناول أمورا خلقتها الزيارات المتكررة. ولم يكن بينهما في الحديث جسور مشتركة، فلكل منهما حياته البعيدة كل البعد عن حياة الآخر. كان هو يذاكر بجدية كاملة، وإذا أراد أن يروح عن نفسه فديوان شعر لشاعر من القدماء أو شوقي أو حافظ. وكان معجبا بشوقي غاية الإعجاب، وكان يعتبره أعظم شاعر في التاريخ العربي قديمه وحديثه. وكان يقرأ كل ما يظهر لأدباء عصره، أولئك الذي نشأ الأدب العربي الحديث على أيديهم: طه حسين، ومحمد حسين هيكل، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، والزيات، والرافعي. وكان جيل عزام يتلقف أدب هؤلاء نقطة نقطة، أو كتابا كتابا. كان جيله أشبه ما يكون بالجالسين على أبواب المطابع يختطفون كل كتاب يظهر. وهكذا كان الماء يصل إليهم رذاذا غير منهمر. فلم يكن العمالقة قد أكملوا أدبهم بعد، وإنما كانوا يصنعونه. وفي هذه الفترة التي يعيش عزام في ذكرياتها ظهرت مطالع روايات نجيب محفوظ وقصصه وقصص محمود البدوي ويوسف جوهر وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي القصيرة، وبدأ جيل عزام يتعرف عليهم. ولكن كل هذا كان لا يمد هواة الأدب بمدد الينبوع الدائم الجريان، فكان عزام يقرأ مع هؤلاء كتب التراث مثل الأغاني والعقد الفريد والعمدة وغيرها، ويقرأ الشعر العربي القديم والحديث وهو مدد لا ينفد. والشعر ليس كالرواية. فقد يستطيع الهاوي أن يقرأ القصيدة مائة مرة، ثم يعود إليها، أما الرواية فهي مرة واحدة، فإن أعجبته غاية الإعجاب فمرتين.
كانت هكذا حياة عزام . ففيم كان يمكن أن يجري الحديث بينه وبين نرمين وهي لا تعرف اسما واحدا من كل هذه الأسماء إلا ربما هيكل باشا؛ لأنه كان وزيرا. وكانت طبعا لا تدري لماذا أصبح وزيرا، ولا تعرف أي صلة بينه وبين الأدب. بل هي لا تعرف عن الأدب شيئا إلا ما تقوله عنه مجلات تلك الأيام مثل المصور وآخر ساعة وروز اليوسف. ومع هذا التنافر في الاهتمامات نشأ نوع من الحديث بين عزام ونرمين. وكان الحديث ممتعا لكليهما. فقد كانت تروي له عن صديقاتها وصلاتهن وأصدقائهن. وكان يروي لها عن زملائه وعن بيته وعن أبيه وعن أمه وعن مجيدة وعن عمه عزت.
في ذلك الخميس الذي لا ينساه صنعت له كأس الويسكي وصنعت لنفسها كأسا وجلسا، وبدأت تقول: هيه، ما الأخبار؟ - أخبار السياسة؟ - أعوذ بالله! لا أكره شيئا قدها. - الأخبار يا ستي أن عمي عزت كان يزورنا من يومين. - وهيه، وما أخباره؟ - الحظ يحالفه في هذه الأيام ويتغلب على كل منافسيه في الطاولة. وكسب الشهر الماضي خمسة جنيهات من الطاولة وحدها. - أصبح ثريا إذن. - أضاعها في الضمنة.
وضحكت نرمين وهي تقول كلمتها المأثورة: شربات.
وقال عزام وعلى وجه غلالة من الجدية: أتعرفين يا نرمين، أنا لا أحسد أحدا في حياتي إلا عمي عزت! - أعوذ بالله! أنت قلبك لبن حليب، لا يمكن أن يحسد أبدا. - لا، فعلا أنا أحسده. - أنت تحسد؟ - نعم. عمي عزت. - أنت تحبه؟ - لا أفرق بينه وبين أبي مطلقا، ولكني أحسده. - أنت تعني شيئا لا أفهمه، فحب وحسد لا يجتمعان. - ربما كان المعنى الذي أقصده لا تعبر عنه كلمة الحسد التعبير الدقيق. - إذن. - أتمنى أن أكون مثله. - يا شيخ لا قدر الله. - ولماذا؟ - بل قل لي أنت، لماذا تريد هذا الذي تريد؟ - لا أحمل هما، طيب، لا أزعل من أحد ولا أجعل أحدا يزعل مني، الدنيا عندي طاولة وضمنة وتسلية. زوجتي تحمل هم البيت، وأخي يشرف على الأرض، وأنا أسعد خلق الله.
ونظرت إليه نرمين مليا وبدأت مطالع دموع تفور إلى عينيها وهي تقول: أهذه حياة؟ - وما الحياة؟ - أي شيء إلا هذا. - أرى في عينيك ... - نعم. - هل ذكرك حديثي بشيء؟ - كان أبي مثل عمك، إلا أنه كان يغامر بمبالغ طائلة حتى أضاع ثروته كلها. - بالطبع ليس هذا الذي أقصده. - وكانت النتيجة ما ترى. وهو على قيد الحياة ويعرف المهنة التي أحترفها. - ولكن عمي شيء آخر. - عمك لن يضيع ثروته، ولكنه يضيع حياته.
وتماسكت نرمين وغاضت الدموع. - ولكنه سعيد ولم يؤذ أحدا في حياته، وربما أعان بعض الناس. - لا تؤاخذني، الحمار أيضا سعيد، والثور سعيد. في الحياة لا بد أن يكون هناك فرق بين الإنسان والحيوان. والحيوان أيضا لا يؤذي أحدا، وإن كان عمك أعان أحدا فربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة في حياته. أتراها تكفي؟! - عمي شخص محترم بين الناس، وهو صديق لصديقه، يعينه عند الحاجة، ورجل طيب بمعنى الكلمة.
وصمتت نرمين لحظات قصارا وقالت: عندما يقترب أجله - أطال الله عمره - ويحتويه الفراش الذي يقدمه إلى السماء، وينظر خلفه، بماذا يستطيع أن يلقى في نفسه سعادة؟ إنه صنع شيئا ذا قيمة. كل ما سيذكره المارس الذي تغلب به على أحد أصدقائه. - لحظة ويصبح عند الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون. - هذه اللحظة هي العمر كله، هي وداع حياة بأكملها.
وكان الذهول يستولي على عزام كلما تحدثت نرمين، حتى إذا انتهت إلى جملته الأخيرة وجد نفسه يحتضنها في قوة: أنت تخفين بكأس الويسكي الذي نشربه ثروة من الإنسانية. - لا أطلع عليها إلا من أحب. - إذن ... - نعم أحبك، ولكن أرد نفسي عن حبك.
ولم يسأل لماذا وإنما يطرق ثم يرفع رأسه: نرمين، أنا نلت اليوم من المتعة ما يزيد على كل الأيام التي التقينا فيها. كأنما تجمعت أيامنا كلها وتضاعفت مئات المرات اليوم. أنا سأنصرف.
واحتضنها كما لم يحتضنها من قبل، وقبل جبهتها وخديها وانصرف. وتركها في نفسها مشاعر ليست غريبة عليها، ولكنها لا تريد أن تصدقها. •••
نزل إلى الشارع وبحث عن تليفون، ووجده عند بائع سجائر، وكلم والدته: نينا. - أين أنت ؟ - أنا في الشارع. - ما لك؟ خير؟ أنت قلت إنك ستتأخر؟ - اسمعي ولا تستغربي. - خير، خوفتني؟ - ليس هناك شيء مطلقا، ولكني أريد أن أرى أبي. - ماذا به؟ هل سمعت عنه شيئا؟ - من أين أسمع؟ التليفون بجانبك، ولو كان هناك شيء لا قدر الله لعرفت أنت قبلي. - أنا لا أفهم. - أتأتين معي إليه؟ - الآن؟ - الآن. - كيف ستذهب؟ - سأستأجر سيارة. - أمرك عجيب. على كل حال، وما له، خذني معك. - هذا فعلا أحسن. - لكن يا عزام الامتحان اقترب وهذا ليسانس، وأخشى أن يغضب أبوك الحاج. - إنه سواد الليل وبكرة نتغدى هنا في مصر. - الأمر لله، وتقول لي لا تستغربي. - ستعرفين كل شيء هناك. - هناك؟! - هناك. •••
حين وصل إلى بيت أبيه في البلدة كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بدقائق، وتعجب الحاج عبد المجيد، ولكن حين رأى ابنه وزوجته سالمين لم يمس مشاعره قلق. انفرد بهما فورا، ولم يتمهل عزام، بل سارع قائلا: أبي، أريدك أن تخطب لي. - أخطب لك! من؟ - مجيدة طبعا. وهل يمكن أن أخطب إلا مجيدة؟
وازداد تعجب الحاج: تجر أمك في عز الليل وتأتي إلي الساعة الحادية عشرة من مصر لأخطب لك مجيدة! - ولم لا؟ - وهل علمت أنها ستخطب الليلة إلى أحد آخر؟ - طبعا لا. - الكل يعلم أنها لك وأنت لها. - أعرف. - فما هذا الهبل الذي تصنعه؟
وكأنما كان عزام في غمرة وأفاق. ماذا صنع؟
وماذا يقول لأبيه الآن وهو يعلم أن أباه يعهده دائما عاقلا متزنا لا يأتي شيئا في غير روية وتفكير.
أيقول له إنه وجد نفسه في لحظة حاسمة من حياته أن عليه أن يختار بين أن يكون إنسانا ذا قيمة في المجتمع يحترم إنسانيته، وما وهب الله له من عقل ومن حرية في الاختيار، وبين أن يكون إنسانا يبحث عن المتعة وحدها.
أيقول له إنه أحب تلك الصلة بينه وبين نرمين، وخشي أن يتمادى فيها فيحس دائما أن ضميره غير راض عنه، فهو من نفسه في عذاب، وهو من متعته في هناء. وإنه أراد الليلة وفورا أن يختار الهناء النفسي لا الهناء الحسي.
أيقول له إنه يعد نفسه لأن يكون قاضيا، وإن القاضي إذا لم يكن شريفا في داخله فهيهات له أن يكون شريفا في أحكامه.
ماذا يقول؟ أطرق طويلا ثم رفع رأسه إلى أبيه: أنا آسف يا بابا. - لا بد أن تكون آسفا. - فعلا آسف.
وقالت الأم: أتأتي بي في الظلام لهذا؟! الله يخيبك يا عزام يا ابن بطني!
قال عزام مرة أخرى: يا نينا اعتبريها جنونة وقامت بدماغي.
وقال الأب في تؤدة: ثم أنت الآن داخل على امتحان الليسانس. فلماذا لا تنتظر حتى تأخذ الشهادة؟
وقال عزام في حسم: أنت تعرف أنني سآخذها. - وهل تريد أن أخطبها لك الآن أم أنتظر حتى الصباح؟ - هذا إليك. - الأمر سيان.
ومد يده إلى التليفون وطلب أخاه في الزقازيق وصاح: عزت! - خير يا أخويا الحاج، هل هناك شيء؟ - أنت نمت؟ - أنا داخل من النادي الآن فقط. - طيب اسمع يا سيدي.
وروى له ما صنع عزام. وتمت الخطبة. •••
حين عاد عزام إلى القاهرة اشترى هدية ثمينة بخمسين جنيها وذهب إلى بيت نرمين في وقت كان واثقا أنه لن يجدها فيه. وفتح الباب بالمفتاح الذي معه، وترك الهدية في مكان لا تخطئه العين في البهو، ومع الهدية المفتاح، ولم يكتب شيئا. وحين عادت نرمين ووجدت الهدية والمفتاح عرفت كل شيء، وأدركت أن مشاعرها يوم تركها لم تخادعها. •••
منذ ذلك الحين البعيد وعزام يحن إلى تلك الأيام غير البريئة، ويحس بها تدغدغ في حواسه، ويحس في نفسه شوقا إليها تواقا إلى مرحها. حتى إذا جلس على كرسي النيابة الذي أصبح كرسي القضاء أصبح عزام الذي يعرفه الناس، ولا يعرفون عنه إلا البعد كل البعد عن موطن الشبهات.
كان إنسانين في إنسان، ونفسين في نفس، وقلبين في قلب، وضميرين في ضمير. ضمير يهون عليه اللهو والمتعة حتى وإن تبعها سكوت على الباطل ورضا بالخطيئة على أي لون لها. وضمير هو الأصيل فيه، طريقه الحق، وسبيله أني أخاف الله رب العالمين.
وكانت آراؤه في كل شيء تنشد المثل الأعلى، ولكنه كان يغفر في نفسه لمن يحيد عنها حتى وإن حكم عليه بأحكام القانون. فالإنسان فيه يعرف ضعف الإنسان ويرحمه ويغفر له. والقاضي فيه يعرف حق القانون ويستقر في نفسه في ثقة تقترب من ثقة الإيمان بالله أن العالم بغير قانون فوضى، الغابة خير منه. فالغابة - وهي الغابة - لها قانون، أما إذا غفا القانون في دولة أو ناله مساس من استهانة فالحياة كلها ضياع.
الفصل الثالث
ولد وجدان في عام 1950، فحين جاءت الثورة كان طفلا يحملونه على الأكتاف. وحين بلغ السادسة رأى الشعب في حالة ثورة لا يعرف أسبابها، ورأى أباه في حالة حزن وأسى لم يكن أيضا يعرف لهما سببا في ذلك الحين، ثم رأى الشعب يتحول من ثورة في الشوارع والطرقات إلى جنون فرحة تعم الجميع إلا أباه الذي ظل حزينا دون أن يدري وجدان لماذا يجد أباه دائما في حالة تختلف عما يراه في المدرسة والشارع. يذكر طبعا أن المدرسين قالوا لهم شيئا عن تأميم القناة، ويذكر أنه كان هناك أمر للجميع أن يفرحوا، ففرحوا. ثم قالوا لهم العدوان الثلاثي وتحالف قوى الشر. وكان يسمع الألفاظ ويرددها دون أن يدري ماذا يقال له؟ حتى لقد دخل أبوه عليه مرة في البيت ووجده يقول لمربيته: يحيا التحالف الثلاثي.
وتسمر أبوه مكانه ووجم هنيهة، ثم انطلق يقهقه وهو يقول له: وقعتك سوداء. - هكذا علمونا في المدرسة.
ويصيح الأب وهو يضحك: لا يمكن. - التحالف الثلاثي يا بابا. - يسقط يا وجدان، علموك في المدرسة أنه يسقط ولا يحيا. - وهل أعرف يا بابا؟ نقول يسقط كثيرا ولا نعرف لماذا. ونقول يحيا كثيرا ولا نعرف لماذا. حاجة تلخبط.
ويقول أبوه وهو يضحك لا يزال: نعم، لكن اللخبطة في هذه المسائل تؤدي إلى مصائب لا يعلمها إلا الله. - مصائب لمن يا بابا؟ - طبعا لك أنت لا يمكن. كل المصائب ستكون على دماغي أنا. - إذن يسقط التحالف الثلاثي. - أتعرف أحسن شيء يا وجدان؟ - نعم يا بابا؟ - نحن يا بني لا شأن لنا. - أليست بلدنا؟ ألسنا الشعب؟ - لم تعد بلد الشعب يا بني. إنها بلد شخص واحد. ونحن لا شأن لنا. - إذن فلا أقول يسقط؟ - ولا يحيا.
وقال وجدان في براءة وفي غير مبالاة: أحسن، واحنا ما لنا، بلاش أحسن، واحنا ما لنا.
وذهل يومذاك عزام، فقد أحس أن الذي قاله الطفل في براءة من غير فهم، والذي ردده كأنه ببغاء، كان ضمير الشعب بأكمله، حتى أولئك الذين يصرخون في الشوارع بالهتافات الموضوعة على ألسنتهم.
وحين بلغ وجدان الثامنة رأى فرحا مجنونا يندلع في المدرسة والشوارع، وتحيا الوحدة، وتحيا سوريا. وكانت سن وجدان تجعله يعي بعض الشيء، ولكن الكلمات لم تكن واضحة المعالم بالنسبة إليه.
وحين وقع الانفصال بدأ رأسه يدور وهو يرى تناقضا عجيبا في بيانات الانفصال. كان يعجب كيف يحدث الانفصال في سوريا وينزل الحاكم عقابه على مصر؟!
وحين أعلنت حرب اليمن كان قد بدأ يقرأ الجرائد. وكان في أشد الحيرة، الأفراح تملأ الجرائد بالانتصارات. والأحزان تملأ بيوت مصر على القتلى وعلى مصير مصر.
كان وجدان حائرا، ولكنه لم يكن رافضا للحكم. فهو لم يعرف غيره حتى يرفضه، بل ربما تصور أن دول العالم كلها تحكم على هذا المنوال. ولم يكن أبوه يتصور أنه يستطيع أن يناقشه. ولكنه كان يفهم من أحاديث أبيه مع أمه أن أباه رافض. وكان يسمع من زملائه في المدرسة أن آباءهم رافضون هم أيضا. واقتنع هو وزملاؤه أنهم جيل الثورة، وأن آباءهم جيل متخلف يدين بالولاء للملك الفاسد وللأحزاب المستغلة المؤلفة من الساسة المحترفين.
وحين أعلن الحكم الثورة الثانية على الإقطاع كان وجدان قد بلغ سنا تسمح له بالمناقشة، ولهذا تصدى لأبيه حين وجده ثائرا ثورة عارمة، غاضبا كل الغضب، لا يكف عن مهاجمة ما يحدث لأعراض الناس وحياتهم وكرامتهم.
قال لأبيه: أليس من حق الثورة أن تحمي نفسها؟! - تحمي نفسها من ماذا؟! - من أعدائها. - أين هم؟ - هؤلاء الإقطاعيون. - ماذا يملكون؟ - المال. - ألم تأخذ الثورة أموالهم؟ - ولكنها وجدت عندهم غيره. - وإن كان هذا صحيحا ، فما الذي يستطيعون أن يصنعوه به؟ - يستطيعون أن يحاربوا الثورة بالمال. - ثورة يحميها جيش بأكمله يحاربها بضعة أفراد ببقايا مال تتوهم الثورة أنهم يملكونه. - أهي تتوهم؟! - لا شك، بعد قوانين الإصلاح الزراعي والمصادرات والتأميم والاستيلاء، أي ثروات يمكن أن تبقى؟ - بابا، أنا أعرف أنك قمة في العدل، ولست أنا فقط الذي يقول عنك هذا، بل كل من يعرفك. ثم إن الثورة لم تمس شيئا من أرضك ولا من أرض أمي. - أرضنا معا أقل من كل القوانين. - ولكني مع ذلك أخاف أن يكون كرهك للثورة سببه أنها جعلت الفلاحين أصحاب كرامة.
وأوشك عزام أن يغضب، ولكنه مال إلى بعض الهدوء وهو يرى ابنه يحاول أن يستنتج ويحاول أن يناقش: الفلاحون أصحاب كرامة طول حياتهم. وكانت صلتهم بأصحاب الأرض صلة مشاركة. والكرامة لا يعطيها أحد لأحد. الكرامة بذرة في النفس لا تزول عن صاحبها مهما ناله من ظلم. والبلاء الذي يقع اليوم يقع على الفلاحين؛ لأن كل المصريين فلاحون. ولم يكن بينهم أحد لا يعتبر فلاحا إلا الأسرة المالكة؛ لأنها أسرة غبية، لم تحاول أن تلتحم بالشعب، بل كونت لنفسها طبقة مستقلة، وأحاطت نفسها بسور من العظمة الكاذبة، وابتعدت عن الشعب، حتى اللغة العربية لغة الشعب لم تحاول أن تتعلمها. تعلمت لغات العالم أجمع ولم تحاول أن تتعلم لغة البلاد التي جعلت منها أسرة مالكة.
وفي فرحة غامرة صاح وجدان: الله! بابا، إذن فأنت لا تحب الملك. - وما الذي جعلك تظن أنني أحبه. - زملائي يقولون: إن آباءنا جيل ملكي يرفض الثورة. - بل إنني أكره الملك، وأعتقد أنه هو السبب الرئيسي فيما حل بنا. ولكني يا بني أكره الظلم. ليس لأنني قاض، ولكن لأنني إنسان. - أترى في الاستيلاء على بعض الأموال ظلما؟
وقال القاضي: الاستيلاء على مليم ليس لك ظلم. هكذا شرع الله، ومن شريعة الله جاء القانون، والقانون يطبق لينشر العدالة، وما لا يتفق مع العدالة ظلم. ويا ليت الأمر وقف عند الاستيلاء على الأموال، وإنما تعداه إلى الاعتداء على أعراض الناس . أتتصور أن ترى أمك عارية أمام شهود يهددك أحدهم بالاعتداء عليها؟
وانتفض وجدان قافزا صائحا: لا، لا، لا! - ألم تسمع أنهم يصنعون هذا؟ - إنه تشنيع. - يا ليت يا وجدان يا بني، يا ليت! ولكني أنا أعرف، فأعضاء النيابة في هذه الأماكن هم الذين يخبرونني. إنهم يعرفون كل ما يقع في البلاد، في الأرياف والسجون والمعتقلات. - لا يمكن، غير معقول، لا يمكن. - والاعتداء على الأرواح، والاعتداء على الكرامات، وبيد من؟ بيد الحكم الذي قال إنه وهب الكرامة للشعب المصري. - ولكن أننكر يا أبي أن اسم مصر أصبح على كل لسان؟ - قل لي يا وجدان أيهما المهم، الشهرة أم نوع الشهرة؟ - لا أفهم. - أقصد هل هو شيء عظيم أن تصبح لصا شهيرا وقاتلا شهيرا؟ - طبعا لا. - إذن المهم هو نوع الشهرة. إن تشتهر بالأمانة، بالحق، بالخلق. انظر إلى شهرتنا، قلنا لرئيس أمريكا إذا لم يعجبه البحر الأبيض يشرب من البحر الأحمر. وترجموه هناك بالإنجليزية: فليذهب رئيس أمريكا إلى الجحيم. ورئيس الدولة هو رمزها. والاعتداء عليه اعتداء على الدولة كلها. وهكذا هاجمنا أقوى دولة في العالم، وربما في التاريخ، ولم نترك زميلتها في القوة، فهاجمنا رئيس الاتحاد السوفيتي، وقلنا عن الشعب الإنجليزي تحكمه امرأة، وقلنا للشعب الألماني ينفلق، لن ندفع له دينه، وقلنا: إن موقف المدين أقوى من موقف الدائن. وفي الساحة العربية عيرنا الملك حسين باسم والدته. ولا أدري أي عيب أن يكون اسمها زين. واعتدينا على ملك بلاد الإسلام المقدسة الرجل الوقور الذي يحظى بالتقدير من كل العالم وتحدثنا عن ذقنه. وبهذا يا وجدان يا بني نلنا الشهرة. ولم نكتف بهذا، بل أقحمنا أنفسنا في حروب لا شأن لنا بها، ونحن شعب فقير، ولكننا مع ذلك أخذنا الأموال التي يجب أن تنفق على مرافقنا من كهرباء وماء وصرف وتليفونات، ننفقها في حرب اليمن والكونغو ومالي. وبهذا يا بني نلنا الشهرة. أتعجبك هذه الشهرة؟!
وأطرق وجدان لحظات في وجوم شديد، ثم قال: يا أبي، إنني من جيل نشأ في هذه الثورة. وهي أملي، وإن فقدت أملي فيها فقدت أملي في مصر. أنا أصغر من أن أناقشك، ولكنني ما زلت مقتنعا أن الثورة ورئيسها هما أملنا الوحيد. - وأنا يا بني لن أحاول أن أخيب أملك. ولكن أرجو أيضا ألا تخيب الثورة نفسها ثقتك فيها، فليس هناك أبشع من جيل بلا أمل.
وحين وقعت كارثة 67 قال وجدان لأبيه: اليوم يا بابا أصبحنا جيلا بلا أمل.
ونظر إلى أبيه فوجد الدموع تجري مدرارا على وجنتيه. - تبكي يا أبي. ألم تكن تتوقع؟! - فرق كبير يا وجدان يا بني بين توقع الكارثة ووقوعها.
منذ ذلك الحين لم تعد السياسة تشغل وجدان، بل إنه في كثير من الأحيان كان يقرأ الجرائد من آخرها ولا يكاد يلقي نظرة على الصفحة الأولى فيها.
وسار وجدان طريقه في الدراسة وحصل على ليسانس الحقوق في عام 1971، وكان لا بد أن يؤدي الخدمة العسكرية.
وارتمى مع زملائه خريجي المدارس على شاطئ القنال، يرون الممر المائي العظيم الذي حفره أجدادهم، والذي سالت من أجله الدماء منذ قريب، والعدو اليهودي على الشاطئ الآخر منه ينعم به. وتشتعل في نفوس الشباب نيران لا يعرفها إلا من زار هذه المناطق في تلك الأيام السود الداكنة السواد. إذا تمثل الخزي في أرض ما فهو هذا المكان، وإذا تجسد العار محسوسا ملموسا فهو هذا المكان، وإذا اجتمع الجهل والغباء والحمق والفجور لتكون أشياء ترى بالعين، فهي هذا المكان.
خيانة القيادة للشعب كانت هذا المكان، استهانة صاحب القرار بأصحاب المصير كانت هذا المكان.
جملة قرآنية كانت دائمة الوجيب في قلب وجدان في هذه الأيام، حين يصف سبحانه وتعالى من شاء له عذاب جهنم بقوله: لا يموت فيها ولا يحيا. كان الشاب هناك في جهنم من الخزي والعار والجهل والغباء والحمق والفجور والخيانة، ثم هو لا يموت هناك ولا يحيا. وكان كل شاب قد أصبح والموت في سبيل مصر حين عاد إليها اسمها مصر أملا. وأعجب شيء أن يصبح الموت وهو الموت أملا، وأعجب من ذلك أنهم يعلمون أنه أمل مستحيل التحقيق، ويذكر منهم من يحب الشعر بيت المتنبي الخالد العملاق:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
سيناء أرض مصر، ومسرى النبيين، والمتشرفة بذكر كتاب الله، ومجلى روحانية مصر، ومبعث الفخر لنا نحن المصريين. إن أرضنا مصر أثيرة عند صاحب العرش ذي الجلال والإكرام، يدنسها شراذم كانت في الأرض بددا، تتسول الانتماء إلى وطن، أي وطن. والشباب من جيل وجدان يشهدون بأعينهم كيف تنتهك أعز حرماتهم؟ وكيف تدنس الأرض الطهر؟ وهم يعرفون التاريخ، ويا ليتهم كانوا لا يعرفون. فالجرح في نفوسهم يزداد في كل لحظة عمقا حتى يبلغ الأغوار البعيدة من كرامتهم المصرية، وحتى يدمر أحلامهم الوردية التي موهتها عليهم الدعاية الكاذبة والهتاف الصارخ واللافتات التي يتبينون اليوم أنها كانت مرفوعة على فراغ فنكستها الكارثة. ويسخرون من أيامهم الماضية، ويقول قائلهم للآخر: لم تكن الحرب هي النكسة، وإنما كانت نوعا من الخزي والعار لا تعرف اللغة له وصفا؛ لأن اللغة لم تشهد له مثلا. إنما النكسة كانت تنكيس هذه اللافتات ليتضح أنها كانت تخفي وراها اللاشيء إلا الاعتداء على أعراض الناس وحرمات الدين وكرامات الإنسان وأمجاد مصر. ويجد الشباب نفسه يصلي، ويتجه إلى السماء يسألها العون على ما يلاقون، فقد ضاقت بهم الأرض أن تنبت لهم أملا ولو كان من سراب.
هناك يتجه الشباب إلى الله وقد رسخ في الثوابت من يقينهم أنه لا يردهم إلى كرامة الإنسانية إلا معجزة. وهو وحده سبحانه القادر أن يصنع هذه المعجزة.
سنتان والشباب من زملاء وجدان في هذا الجحيم يموت بما يرى ويحيا بلا إله إلا الله وبمحمد رسول الله. سنتان كلمة تكتب في خمسة أحرف، وتنطق في هنيهة من زمن، ولكنهما مرتا بهم هناك واللحظة تزحزح اللحظة فلا تتزحزح، والدقيقة تدفع الدقيقة فلا تمضي.
ثم أصدر السادات القرار. ثم جاءت الأوامر بالحرب، ثم صدق الله عباده أبناء مصر وعده، وتم العبور من تاريخ إلى تاريخ ومن زمن إلى زمن ومن هوان إلى كرامة. ودوت «الله أكبر» بالنصر لتظل طنينا عاليا في أسماع الحاضر والمستقبل، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها. •••
كان عزام في أثناء الحرب ملهوفا لهفة أب يحب ابنه ويعجب به ويعتبره وأخاه أمله الوحيد الذي يعيش له. وكان في الوقت نفسه فخورا أنه يشارك في هذه الحرب التي بدأت تباشيرها بعلامات الانتصار.
أما مجيدة فكانت بين الأمهات عجبا. كان الذعر يفتت نفسها. وكان الرعب يسد عليها أقطار الحياة، وكان قلبها لهفة ولحظات أيامها قلقا مبيدا آخذا. إنها الأم. ولكنها بكل قوة المرأة وبكل ثقافة العلم وبكل عزم مصر لا تبدي لزوجها إلا الثبات والإشراق والأمل والرضاء بحكم الله، مرحبة بما يأتي به. وعند ثباتها يجد عزام المرفأ، ويخفي وقد كان عاجزا أن يخفي، ويتماسك وقد كان أضعف من أن يتماسك لولا زوجته مجيدة.
أما ياسر فقط كان مذعورا لا يخفي ذعره. وكلما شهد ثبات أمه وقناع الصلابة على كيان أبيه عجب من أمرهما. أتراهما لا يحباننا؟! أترانا وأخي عندهما عبئا يسرهما أن ينزاح نصفه؟! ولكن إنهما فيما نرى منهما هما الحب والإشفاق والإيثار والتضحية في سبيلنا وتكليف النفس بما لا تطيق في سبيل ابتسامة مني أو من أخي.
وغاب عن ياسر أن الإيمان في نفس أمه وأبيه يفعل من العجائب التي يحسبها أمثاله ممن يحسبون الحياة أرقاما ما لا يستطيع هو أن يفهم وما يستحيل عليه أن يصل إلى أسراره.
الفصل الرابع
عمل وجدان في مكتب الأستاذ إسماعيل العدوي، وهو مكتب من أكبر مكاتب المحاماة. فما كاد ينهي خدمته العسكرية حتى راح يعمل في المكتب، وكان أبوه متفقا مع الأستاذ إسماعيل من قبل أن يقضي وجدان فترة التمرين عنده.
وبدأ وجدان يكتب المذكرات، وبدأ يتذكر القانون شيئا فشيئا. فسنتان في الميدان كفيلتان بأن تجعلاه ينسى الكثير. ولولا أنه كان يصحب معه بعض كتب القانون لكان قد نسي أنه تخرج في كلية الحقوق.
وممارسة المحاماة أمر مختلف كل الاختلاف عن الدراسة النظرية التي يتلقاها الطالب في الكلية. ولكن فضل الكلية يتضح في أن المحامي تحت التمرين ما يلبث في بضعة شهور أن يلم بأسرار العمل ويتقن مبادئ العمل في المحاكم. وقد قصد إسماعيل العدوي أن يجعل وجدان يكتب المذكرات حتى يخفف عنه رهبة لقاء المحكمة. فهي رهبة يعرف كل من عمل بالمحاماة مداها.
لاحظ وجدان أن بعض المذكرات التي يطلب إليه أن يكتبها لا تتفق دائما مع الحق. ووجد نفسه في صراع. وكان في كل مرة ينشب في نفسه هذا الصراع يقصد إلى الأستاذ إسماعيل ويناقشه في القضية. ولم يكن إسماعيل يجشمه عناء المناقشة، وإنما كان في كل بساطة يقول له: اترك لي هذه القضية وخذ هذه.
وتكرر هذا الحوار القصير فوجد وجدان نفسه يقول لإسماعيل بعد أن طلب إليه أن يترك قضية حاول أن يناقشه فيها: أتراك يا أستاذ إسماعيل تعاملني معاملة خاصة، لأن أبي صديقك؟ - مطلقا، أنا لا أعاملك معاملة خاصة. - إذن فلماذا لا تناقشني في القضايا التي أعرضها عليك؟ - هذه هي أصول العمل. - هذه هي الأصول؟ - أولا: أنت في أول عهدك بالمحاماة، ولا بد أن تقتنع كل الاقتناع بالقضية التي تترافع فيها، حتى ولو كانت المرافعة مكتوبة. - ولماذا لا تحاول أن تقنعني أنت؟ فلا بد أنك وأنت من أكبر المحامين في مصر قبلت هذه القضية لأسباب قانونية تجعلها مرجحة الكسب. - هذه هي الخطوة التالية. حين تتقن كتابة المذكرات من ناحية الشكل، وأجد مذكراتك قد أحاطت بكل النقاط القوية في القضية، وردت على مواطن الضعف فيها بالنسبة لنا، تأتي مرحلة مناقشتك. - أشكرك، أنا فعلا اقتنعت. - إن كونك ابن صديقي سيجعلني أضغط عليك بما لا أفعل مع المحامين الآخرين الذين يعملون معي، فلا تخف. - شكرا.
استراح وجدان لما قاله له أستاذه، ووجده معقولا يتمشى مع منطق الأمور. وهكذا أصبح يكتب المذكرات التي يطمئن فيها إلى العدالة المطلقة، فسعد بأيامه هذه سعادة لا مثيل لها. واطمأن بها ضميره لا ينازعه ولا يثير عليه ثائرة من شك. •••
كان وجدان جالسا في مكتبه المخصص له في مكتب الأستاذ إسماعيل العدوي حين طرق الباب ودخل عبد السميع وكيل المكتب: أهلا عبد السميع. - أهلا بك يا سعادة البك. بالخارج آنسة عندها قضية في الإصلاح الزراعي، استأذنت لها البك فأمر أن تقابلها أنت. - عجيبة. - لا عجب هناك. - لماذا؟ - يبدو أن والدها كان صديق البك، ويبدو أن المكتب سيطلع بالقضية بلا شيء. - بلاش. - آه من القضايا التي نسميها قضية مكتب. - وهل هذا يعني ألا يقابلها الأستاذ إسماعيل؟ - هو عادة يقابل للاتفاق على الأتعاب. والقضية هذه بلا أتعاب، ففيم المقابلة ووجع القلب؟ - ألم تقل إن أباها صديقه؟ - أقول كان صديقه. - يعني ... - يعني أبوها تعيش انت. - ما زلت لا أرى معنى ألا يقابلها، بل لعل مقابلتها أصبحت أكثر وجوبا. - هذا عند المحامين الطيبين أمثالك. - تقصد تقول السذج أمثالي. - العفو يا سعادة البك. - وبلا عفو أيضا. عبد السميع، لا بد أن أرى الأستاذ أولا قبل أن أقابل الآنسة التي تنتظر. فأنا لا أتصور أن أقابل زبائن، فهذا من شأن صاحب المكتب وحده في المقابلة الأولى، وأخشى أن تكون أنت قد فهمت خطأ.
وابتسم عبد السميع ابتسامة ساخرة مستخفة وحاول أن يخفيها وقال: أنا يا وجدان بك وكيل محام من أكثر من عشرين سنة، ومثلي لا يخطئ الفهم أبدا. وعلى كل حال سعادتك تفضل قابل البك.
وقصد وجدان إلى مكتب إسماعيل: مساء الخير، أهلا وجدان. هيه، هل قابلت الآنسة ميرفت؟ - إذن فعبد السميع لم يخطئ. - ولماذا تصورت أنه أخطأ؟
وقال وجدان في تردد: موكل جديد، وطبيعي أن تقابله حضرتك. - عجيبة، إنك مع حداثة عملك في المحاماة تعرف آداب المهنة هذه المعرفة. على كل حال أشكرك، أولا: أنت إنسان شريف غاية الشرف، بل لعلك مبالغ بعض الشيء في الشرف، ولا يمكن أن يحاول مثلك أن يأخذ موكلا من المكتب لحسابه الخاص مثلما يفعل بعض المحامين تحت التمرين، وثانيا: والد الآنسة ميرفت رحمة الله عليه كان صديقي، وقد كلمتني والدتها أمس واتفقت معها أن تأتي ميرفت إليك وتسلمك أوراق القضية. والمكتب لن يتقاضى أتعابا على القضية. - حسنا، سأذهب لمقابلتها إذن. - اقرأ الملف وأخبرني عن رأيك فيه .
وخرج وجدان من مكتب الأستاذ إسماعيل وقصد إلى مكتب عبد السميع، وبهره وهو على عتبة الباب وجه ملاك يشع فيه نور فيه مصالحة مع الحياة وتملكته نورانية شفيفة وردد في نفسه: سبحان الخلاق العظيم. وأوشك أن يلحظ الجالسون جميعا ما ارتسم على وجهه من بهر. أما عبد السميع فقد أدرك في اللحظة الأولى ما أصاب الأستاذ، ووقف عبد السميع، ومرت لحظات قبل أن يقول وجدان: عبد السميع. - أفندم يا وجدان بك. - الآنسة ميرفت تتفضل في مكتبي.
واستقر به المقام في الكرسي، ولكن ذرات كيانه جميعا كانت مشغولة بهذا الجمال الذي رآه عند عبد السميع، والذي لا يعرف عنه شيئا، والذي منعه مكانه في المكتب وحياؤه أن يحاول التعرف به.
وطرق الباب ودلفت ميرفت إلى حجرة المكتب. إنها ... - أنت؟! - أتعرفني؟
وتلعثم لحظات ثم قال: لا، أبدا، مطلقا! ولكن الحقيقة يا آنسة أنت حين رأيتك الآن في مكتب عبد السميع لم أتمالك نفسي من الإعجاب والتسبيح بصنع الله جل جلاله. أنا لم أقل هذا الكلام لأحد قط. ولا أظن أنني سأقوله لأحد أبدا؛ ولذلك أرجوك أن تنسيه وتعتبريه مجرد إبداء رأي لا شك أنك سمعت مثله كثيرا.
ابتسمت، فكأن السماء أرسلت إلى قلب وجدان لحنا لم يسمعه أحد من قبل. وتماسك. وقالت ميرفت: أكذب عليك لو قلت لم أسمع مديحا من قبلك، ولكن الحقيقة لم أشعر أنه صادر عن صدق وشرف مثلما أشعر الآن. وأكذب أيضا إذا لم أقل لك إنني سعيدة بما أرى وما أسمع. - الحمد لله، والآن هل أنت مجرد رسول أم موكل؟ - لا أفهم. - أعني هل ستسلمينني أوراق القضية وأقرؤها أنا، أم ستشرحين القضية؟ ربما تكون الوالدة هي التي تعنى بهذه الشئون وأنت لا شأن لك. - ماذا تظنني يا أستاذ؟ إني محامية مثلك. - صحيح؟ غير معقول. - أنا تخرجت في آخر دفعة وبتقدير أيضا. - ولماذا لا تعملين؟ - سأعمل طبعا، فقط أعطي نفسي بعض الوقت. - ألف مبروك. وما القضية؟ لا شك أنك تعرفين أسرارها جميعا. - إنها شغل البيت الشاغل منذ ست سنوات، وربما دخلت أنا كلية الحقوق من أجل هذه القضية. - هل هي معقدة؟ - هي بسيطة بساطة تجعلها في غاية التعقيد. - لقد بدأت شغل المحامين فعلا. - حين صدر القانون 50 لسنة 1969 كان أبي وأمي يملكان أكثر من المائة فدان بحوالي مائة وسبعين فدانا. - يا خبر! - منها عشرون فدانا لأمي والباقي لأبي. أجروا التنسيق وأبقوا لأمي أرضها. وقبل أن تتم الإجراءات توفي أبي. - البقية في حياتك. - شكرا. وهنا تبدأ القضية التي ستضطلع بها. - وأين كانت القضية طوال هذه السنوات؟ - في مكتب محام يعلم أننا أصبحنا فقراء، أهمل القضية غاية الإهمال. كان دائم التأجيل لها بينما أعتقد أنا أنها تنتهي في جلستين. - ولماذا قلت جلستين ولم تقولي جلسة واحدة ولو على سبيل المبالغة المعروفة في هذا السياق؟ - لأن القضية لا بد أن تنظر في لجان الطعن في مصلحة الضرائب وفي محاكم الإصلاح الزراعي. - كيف؟ - استولى الإصلاح الزراعي على الأرض الزائدة. - معقول. - وقعت مصلحة الضرائب الحجز على بقية الأرض المحتفظ بها وفاء لضريبة التركات معتبرة أن أبي حين مات كان يملك الأرض كلها التي احتفظ بها والتي استولى عليها الإصلاح الزراعي. - ما هذا؟ أهذا معقول؟! - لم تعترف مصلحة الضرائب بالاستيلاء وقدرت ضريبة التركات على هذا الأساس. - هناك سؤال يفرض نفسه. - طبيعي، ولك أن تسأله. نعيش من العشرين فدانا التي تملكها أمي. وخالي أعزب، فجعلنا نعيش معه وأجرت أمي شقتنا مفروشة. - سبحانه لا يقفل بابا إلا فتح آخر. - الحمد لله. •••
لم تعمل ميرفت، وإنما تزوجت من وجدان بعد أن عرف عنها كل شيء. •••
استمر وجدان في العمل بالمكتب، ولكن الأمور راحت تنكشف له، ومرت السنتان اللتان لا بد منهما للتمرين، إلا أن وجدان في السنة الأخيرة كان في صراع قاتل مع نفسه.
لقد أصبحت قضايا المكتب جميعا أو أغلبها على الأقل بين يديه. لا، ما هكذا ينبغي أن تكون المحاماة.
وقال أبوه: ولكن من يدافع عن المجرم إذا لم يدافع المحامي؟! - يدافع بالحق. - أيمكن هذا؟ - هذا ما يجب. - أتظن أنك تستطيع أن تستمر؟ - في مكتب غير مكتبي، مستحيل. - ماذا تريد من المحامي؟ أن يرفض القضية الخاسرة. - هذا ممكن. - أليس من واجبه أن يحاول إقالة عثرة المخطئ لعله يستقيم؟ - يطلب التخفيف ولا يغير الحقائق. هذا في القضايا الجنائية، أما في القضايا المدنية فعليه أن يقف في جانب الحق. وإذا رأى موقف موكله ضعيفا فعليه أن ينصحه بالصلح، أو يتخلى عن القضية. - ما هو عمل المحامي في رأيك؟ - أن يقدم للقضاء وجهة النظر الأخرى، سواء كان ذلك في القضايا الجنائية أم القضايا المدنية. - هذا تعريف دقيق. - على أن يكون شريفا. فالقاضي إنسان، وعمل النيابة والمحاماة في الجنايات أن يقدما وجهتي النظر. أما في القضايا المدنية فعلى كل محام أن يفتح أمام القاضي جوانب القضية من وجهة نظر موكله. بالحق، على هذا أقسمنا، وبهذا ينبغي أن نلتزم. - أتريد أن تكون نبيا؟! - أنا جزء منك. وأنا لا أحاول أن أصلح الآخرين، ولكن أحاول أنا أن أكون شريفا. النبي يصلح الآخرين، أنا لا أفكر في هذا، كل ما أحاوله ألا أقوم أنا بعمل وأنا غير مقتنع به. - قبل أن تؤدي الخدمة العسكرية كنا اتفقنا أن تعيد التفكير. - أذكر هذا الحوار، ولكنني كنت مصمما. ومن أين لي أن أعرف سراديب المحاماة! - أنا كنت أعرفها. - وأنت خير من يعرف أن الإنسان يجب أن يخوض تجربته بنفسه. - لو أن الأبناء انتفعوا بتجارب الآباء لأصبحت الدنيا نعيما مطلقا. - وبما أنها دنيا وليست عليا، فلا بد فيها من الخطأ، ولو انتفع الناس بتجارب من قبلهم لانتفى الخطأ وأصبحت جنة لا أرضا. - هذا حق. والآن ماذا ترى؟ - لو فتحت مكتبا فلن يدخله أحد. فمن يعرفني حتى يأتي إلى مكتبي. - وهذا ذكاء منك. - إذن فليس أمامي إلا النيابة، فأنا الآن محام ابتدائي، فلأعمل في النيابة بأقدميتي مؤقتا ثم أعود للمحاماة. - لا أظن أن هناك صعوبة في ذلك، فالنيابة والقضاء في حاجة دائمة إلى عناصر جديدة مستوفية لشروطها. - أعلم ذلك. - أتحب أن أكلم أحدا؟ - أطال الله عمرك. لا أظن الأمر محتاجا إلى كلام من سعادتك؛ سأتولى أنا الأمر، وأعتقد أن تقديري في التخرج ومشاركتي في المعركة وعملي في المحاماة ستكون جميعا شفيعا لي. وطبعا اسم سعادتك سيفتح لي جميع الطرق. وأنا لن أستعمله ولكنه هو سيعمل وحده. فالانتساب إلى قاض شريف شرف في ذاته. - على بركة الله.
الفصل الخامس
النيابة خصم شريف. هكذا تعلم المتخرجون في كلية الحقوق. وقد وجد فيها وجدان مكانا يتفق وأخلاقه، وهكذا لم يكن عجيبا أن يقبل على عمله الجديد في حماس ورضا. وبدأ يعمل في التحقيقات وتبين له أن عمل يوم واحد في النيابة يكسبه من الخبرة قدر ما يكسبه في مكتب المحامي مهما يكن شهيرا في شهور عدة.
تواءمت نفس وجدان مع عمله، وازدادت سعادة أن ميرفت بشرته بأنها حامل. فالدنيا أمامه كلها جميلة. لا ينغصها إلا مناقشاته المستمرة مع ياسر حول نظرة كل منهما إلى الحياة، إلا أنه سرعان ما يزيح عن نفسه ما يستشعره من ضيق في نقاشه مع ياسر. فهو يعلم أن الآراء المطلقة شيء يختلف كل الاختلاف عن تصرفات الإنسان.
فإذا تحدث وجدان مع أبيه عن ياسر رآه يصمت ويسبح بعينيه في فراغ، ويخيل إلى وجدان أن أباه انتقل إلى زمن آخر. ويقول وجدان: ولكنك تعرف أن الآراء المطلقة لا تعبر عن الخلق الحقيقي للإنسان، فقد يكون الإنسان شريفا كل الشرف ومع ذلك يدافع عن التصرفات غير السليمة، وياسر الآن في عصر نجح فيه كثيرون بوسائل غير كريمة.
ويصمت الأب طويلا ويعجب بوجدان، ومن أين له أن يدرك ما يدور بنفس والده؟ ويقول الأب: لا أرجو من الله شيئا إلا أن يكون رأيك هذا صحيحا مع ياسر يا وجدان.
ويصمت عزام مرة أخرى، ويعود وجدان إلى العجب، ومن أين له أن يعلم هذه الهاجسة التي تلح في نفس أبيه؛ أن يكون ياسر هو الوجه الآخر له الذي عاش عمره يحن إليه ويقمعه حتى نجح في محوه من حياته؟ من أين لوجدان أن يعرف ماضي أبيه مع نرمين وحنين أبيه في هذه السنوات الطويلة إلى هذه الأيام العربيدة في حياته ، هذا الحنين الذي ينتهي دائما بأن يصبح عدما مع ذكريات كثيرة وآمال فاسقة وأفكار رعناء كلها حمق تراود النفس الإنسانية الدائمة التقلب ثم ما تلبث أن تمحى، ومضة من خاطر ما لاح حتى اختفى.
فإذا طال صمت عزام قال له وجدان: إن ياسر ابنك. ولا بد أن يكون ابنك شريفا.
وتصيب الكلمة عزام في المكان الذي يخشاه. وكم كرر وجدان المسكين هذه الكلمة وهو يظن أنها تسعد أباه ولا يدري أنه بها يزيد أباه خوفا على ابنه. فلم يكن أحد يعلم أن عزام كان في وقت ما شخصين في شخص، وضميرين في ضمير، وإقبالا وإحجاما في وقت معا، وعربدة وتعبدا في لحظة واحدة.
ويقول عزام: ماذا ترى مفهوم الشرف عندك؟ - نقاء النفس وتوافق العمل مع الضمير. - لقد ضيقت على نفسك وعلى الناس. كان الله في عونك. - فماذا تراه أنت؟ - ربما أكون أنا الجاني عليك يا بني يا وجدان، فأنا أيضا أراه كما تراه. ولكن هناك كثيرون يرون أن الدوران حول الحياة، وقبول الحيلة، والبحث عن الأحسن من الناحية المادية؛ هو الحياة. ويطمئنون أنفسهم أنهم ما داموا هم لا يسرقون ولا يرتشون ولا يرتكبون ما يحرمه القانون فهم شرفاء، وأنهم أذكى الناس في هذه الحياة، وأنهم فهموها في حين جهلها مثلك ومثلي. - وماذا ترى في هؤلاء؟ - لو عرضت علي قضاياهم في محكمة القانون برأتهم، ولو عرضت علي قضاياهم في دنيا الضمير حكمت عليهم بالعقاب. •••
كان ياسر قد تخرج في كلية التجارة وأدى الخدمة العسكرية، وقد استطاع بصداقته مع رؤسائه من الضباط والجنود أن يجعلها خدمة هينة لا تعب فيها ولا نصب. وكان يبيت أغلب الليالي في بيته. وكان وهو في الخدمة العسكرية يخطط لمصيره. وانتهى به الرأي أن خير مكان له بنك من البنوك الأجنبية الجديدة، ولن يجد عسرا في العمل به بما له من أبوة، فليس المستشار وظيفة هينة في الحياة، وبما يملك أيضا من لغة أجنبية يتقنها كل الإتقان.
وصح ما توقعه، وتسلم عمله في البنك البريطاني الدولي فور انتهائه من الخدمة.
البنك الأجنبي حياة مستقلة عن الحياة في مصر. المرتبات خيالية، ولكنهم يأخذون من الموظف عملا أكثر بكثير من مرتباتهم الهائلة، فالمواعيد محددة، والعمل طوال اليوم. لا يجد الموظف لحظة خالية، فهم حين قدروا مرتباتهم كانوا يعلمون أنهم الكاسبون. وهم يختارون لوظائفهم في حرية مطلقة، وبطبيعة الحال كثيرا ما تكون للوساطة يد في هذا الاختيار. ولكن البنك أيضا يقدر أن يكون صاحب هذه الوساطة شخصا يستطيع أن يستفيد منه البنك الفائدة المرجوة. ••• - فإذا أودع شخص ما - مثلا - مليون جنيه في البنك، وطلب أن يعين ابنه أو ابنته في البنك، فكيف يجرؤ البنك أن يرفض له مطلبه؟!
وهكذا كان زملاء ياسر من نوع خاص، يستحيل أن يجتمعوا في مكان واحد، فكلهم هناك صاحب شفيع، إن لم يكن شفيعا من مال فهو شفيع من منصب. والمال دائما يكون مالا جما. والمنصب غالبا ما يكون منصبا ذا خطر. وهكذا وجد ياسر نفسه محاطا بقوم أغلبهم أغنى منه مئات إن لم يكن آلاف المرات، أو هو محاط بمن آباؤهم لا يقلون عن أبيه مكانة وخطر شأن.
الفصل السادس
الحاج خليل المعلاوي نشأ في قرية منشأة البكري في محافظة الغربية، والعجيب في شأنه أنه نفر من الفلاحة مع أن أباه ترك له فدانين وست قراريط باعها وفتح في طنطا محلا لقطع غيار سيارات الحرث. وهو عمل نادرا ما يقبل عليه فلاح؛ لأنه يحتاج إلى خبرة ميكانيكية. ولكن يبدو أن الحاج خليل كان هاويا لسيارات الحرث في صغره. وكان يمشي مع السائقين أينما حرثوا، فعرف هذه القطع واتخذ خطوته الجريئة هذه دون أن يستشير أحدا وفتح المحل. ودهش أبناء القرية جميعا حين وجدوا أن خليل المعلاوي الذي أصبح الحاج خليل نجح في عمله نجاحا باهرا وعادت عليه هذه التجارة بالمال الموفور.
وكان في القرية ابن عمه نجيب المعلاوي، وكان يعمل سمسارا في الحبوب، وسمسار الحبوب أقل السماسرة دخلا. فالحبوب ليست مرتفعة الثمن عادة، ثم إن المدى الذي تتراوح فيه أثمانها محدود. ولهذا فما يناله السمسار أيضا محدود. يكفيه ذل السؤال ولا يصل به أبدا إلى حال من الغنى أو مشابه للغنى. وكان لنجيب ابن هو صفوت، وكان نجيب حريصا غاية الحرص على أن يعلم ابنه هذا. ولكن صفوت أيضا كان حريصا على اللعب حرصا لم يجد معه إصرار أبيه. وبين تنافر الحرصين من الأب وابنه حصل صفوت على الابتدائية وهو في السابعة عشرة من عمره، وقد كانوا يحصلون على الابتدائية في ذلك الحين في سن تتراوح بين العاشرة والثالثة عشرة على الأكثر. وهكذا لم يجد نجيب مناصا من أن يفقد الأمل تماما في تعليم صفوت وصحبه إلى الحاج خليل المعلاوي. - يمسك حساباتك وهو خير من الغريب. - أنا عندي كاتب حسابات، ولكن لا أستطيع أن أرفض لابن عمي طلبا؛ سأجعله يقف معي في المحل ويناول الزبائن. - افعل ما تشوفه. المهم ألا يقعد في البيت كالعمل الردي.
وعمل صفوت مع الحاج خليل، وما هي إلا سنوات قلائل حتى أدرك سر الصنعة وعرف كل المشترين، بل لقد تعرف أيضا على التجار الذين يشتري منهم عمه خليل. وبدأ هو نفسه يمارس تجارة صغيرة من حجرته التي استأجرها في طنطا. ومرت سنوات قلائل أخرى، واختفى صفوت من طنطا تماما دون أن يعرف أبوه أو الحاج خليل أين ذهب.
كان مع خيبته في المدرسة شعلة من الذكاء في التجارة. فما إن وجد في يده مبلغا من المال يصلح رأس مال صغيرا حتى قصد إلى القاهرة. ونزل من القطار الذي ركبه باكر الصباح إلى وكالة البلح. وكان يعرف طريقه كل المعرفة. ذهب إلى المعلم أخنوخ حنا: صباح الخير يا معلم. - أهلا صفوت. - تذكر حديثنا عن المحل الذي وعدت أن تجده لي. - هل جهزت المبلغ؟ - كله. - تعال معي.
واستأجر شبه حجرة في وكالة البلح، وكانت تجارة قطع الغيار في هذه السنوات قد انتقلت إلى وكالة البلح بعد أن أقفل النظام منافذ الاستيراد.
وانتعشت حال صفوت، وراح ماله يزداد زيادة جنونية. وكان من بين زبائنه رياض البحراوي، وهو شاب في كلية التجارة. كان أبوه زكريا صاحب عمائر، وحين ضاقت الحياة على أمثاله ضاقت عليه معهم، إلا أنه لم يقع تحت طائلة الحراسة ولا انتزع منه ملك، فاستطاع أن يشتري لابنه رياض سيارة صغيرة قديمة، فكان طبيعيا أن يشتري لها رياض قطع غيار لإصلاحها؛ فهي دائما في حاجة إلى إصلاح.
ومع كثرة تردده على صفوت تعرف صفوت على العائلة، وما كانت سيارة الأب بأحسن حالا من سيارة الابن؛ فهي أيضا تحتاج إلى كثير من الإصلاح وإلى كثير من قطع الغيار.
دعا رياض صفوت إلى البيت، وهناك رأى أخت رياض حنان، وتمنى أن يتزوجها. وكان صفوت حسن الملامح، وكان يحاول دائما أن يبدو في ملبس نظيف، فهو منذ أصبح صاحب تجارة يحرص أن يبدو في أحسن صورة، ينتقم بحسن ملبسه من أيام عمله مع الحاج خليل حين كان يلبس الجلباب والطاقية في الصيف. ثم لا يزيد هذا الملبس شيئا في الشتاء إلى جاكتة متهرئة. أما اليوم فهو يشتري أحسن الأقمشة، بل إنه أيضا يحرص أن يكون عماله في أحسن مظهر؛ فمعطف أصفر خفيف في الصيف، ومعطف أزرق ثقيل في الشتاء. أما العمال الذين لا يراهم الزبائن فحال ملابسهم شر من حال ملبسه هو حين كان عند الحاج خليل المعلاوي.
زيارة، ثم زيارتان، ثم قال صفوت لزكريا: أنا حاصل على الابتدائية.
وقال زكريا: وأنا حاصل على الابتدائية.
وقال صفوت: لعلك لم تتصور كم أكسب اليوم؟ - بل أكاد أتصور. - لا تستطيع. - لهذه الدرجة! - أنا لولا القوانين التي تحكمنا لبنيت عمارة في الزمالك أو جاردن سيتي. - لهذه الدرجة! - ولكن الظروف التي نحن فيها تحتم علي أن أعيش في شقة قديمة وأضع أموالي في خزينة حديدية في بيتي لا يستطيع أحد أن يراها أو يعرف مكانها، حتى ولو كان العفريت ابن العفريتة. - هذا الكلام طريق إلى كلام آخر؟ - ما رأيك؟ - أكمل الكلام. - لقد فهمته. - في مثل هذه الحالة لا يكفي الفهم، لا بد من التصريح. - حنان. - والله ... - طبعا أنا لن أستطيع أن أقول إنني ابن بك أو ابن باشا . وإذا حصل نصيب فستعرف عني كل شيء. أنا أبي سمسار حبوب في منشأة البكري في الغربية. لم أنفع في التعليم ونفعت في تجارتي هذه. ماذا ترى؟ - وهل أنا ابن بك أو ابن باشا؟ أنا أيضا كنت تاجر جملة، أقفلت تجارتي بعد الثورة بسنتين، وأعيش على ريع ثلاث عمارات. - أنا الحمد لله في غنى عن مالك. - اسمع يا بني، إن كان الرأي لي وحدي لقرأت معك الفاتحة الآن. ولكن البنت متعلمة. - أهي متعلمة؟ - يعني مثلنا كذا أنا وأنت. - الحمد لله. - ولا بد من أخذ رأيها. - الأمر لك.
وتم الزواج، وأنجب صفوت من حنان سوسن عام 56، وتخرجت سوسن عام 1976 في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية.
وبين مولدها وتخرجها كان أبوها أصبح يملك ما يزيد عن العشرين مليونا من الجنيهات، فإنه ما إن رأى بوادر الخير تهب على السوق حتى عمل في استيراد السيارات وتصدير الأحذية. وراحت ثروته تتضاعف بصورة سرطانية في جنون، فكل الأموال التي كانت حبيسة مثل أمواله في خزائن الظلام عرفت طريقها إلى الحياة، وانفجرت الثروات وفجرت في وقت معا. وعلماء الاقتصاد يقولون: الجنيه في الخزنة ورقة، ولكنه في السوق حياة. وهكذا دبت الحياة في الورق بصورة وحشية. وأصبحت الألوف من الجنيهات لا يملكها إلا الفقراء المساكين الذين يحاولون بها في جهد مستميت أن يعيشوا مستورين.
وهكذا كان من الطبيعي أن تصبح سوسن صفوت المعلاوي زميلة لياسر عزام أبو الفضل في البنك البريطاني الدولي، يحرسها في وظيفتها ويمكن أقدامها في البنك ثلاثة ملايين من الجنيهات الإسترلينية مودعة باسم أبيها في خزائن البنك. وهي من بعد ومن قبل موظفة لتشغل فراغها، فالصباح بالنسبة إليها فارغ، وهي تحب أن تشغله بشيء. وما دامت ابنة صفوت بك تريد أن تشغل فراغها، فلا بد أن يكون ما يشغل فراغها أمرا يتفق وكرامة صفوت بك المالية. وليس أقل من البنك البريطاني الدولي.
الفصل السابع
سأله وجدان: أهي جميلة؟ - في نظري. - وفي المقاييس العامة؟ - مقبولة. - ولماذا لا تتزوج من جميلة؟ - جميلة وعشرون مليونا في وقت واحد ؟ أنا لست طماعا إلى هذا الحد. - وما شأنك أنت بهذه الملايين. إنها ملك أبيها، أليس كذلك؟ - سترى حين أتزوجها أنه لا يملك منها شيئا. - ألم تفكر في جمعها؟ - إذا لم يكن جمعها عن طريق شريف فهذا شأنك أنت بصفتك وكيل نيابة وليس من شأني. - قد يكون الطريق غير شريف والأدلة على الجريمة غير موجودة. - إذن فهو ذكي أذكى من القوانين العاجزة. - وهو أيضا بلا ضمير. - مسألة الضمير هذه من اختصاص الله وحده سبحانه وتعالى. - ونحن. - لنا ما نراه. - فأنت مطمئن. - أنا أعطي لكل ذي حق حقه. هو صاحب عشرين مليون جنيه، فهو عبقري، هو غير شريف هذا من شأن القانون. هو استطاع أن يتغلب على القانون هو ذكي. ضميره أمر لا يعلمه إلا الله. أهذا منطق فيه شك؟ - إذن فغير الشريف الذي يسرق ويهرب من القانون شريف عندك؟ - حتى يصدر ضده حكم. - وهل ستعيش على حساب زوجتك؟ - وأي بأس في ذلك؟ - ألا ترى في ذلك بأسا؟ - لقد عشنا أنا وأنت على حساب أبينا، أليس كذلك؟ - أترى إنفاق الزوجة على زوجها مثل إنفاق الأب على ابنه؟! - ألا يربطني بها رباط شرعي؟ - هذا الرباط الشرعي يحتم عليك أن تنفق أنت عليها لا أن تنفق هي عليك. - لا فرق. - هذا رأيك؟ - واضح أنه رأيي، وإلا ما قلته. •••
وسأله أبوه: هل تحبها؟ - الحب يأتي بعد الزواج. - وإذا لم يأت؟ - سأجعله يأتي غصبا عنه. - نعم أعرف. وهل تحبك؟ - لم أسألها. - وكيف ستتزوجها؟ - ستطلبها لي سعادتك. - وإن سألها أبوها ورفضت؟ - عرفت أصل أبيها وجدها. إنها أسرة يهمها كل الأهمية أن تناسب مستشارا. - أنا أعد نفسي للمعاش. - هذا لا يهم في شيء، المهم اللقب. - إن كان هذا صحيحا بالنسبة لأبيها وأسرتها، فماذا يكون موقفك إذا لم يكن هذا رأيها؟ - تقصد ...؟ - نعم أقصد أن تكون مرتبطة عاطفيا بشاب تعرفه قبلك مثلا. - مستحيل. - تبدو واثقا! - لو كان كذلك ما قبلت تقربي منها وتلميحي لها. - لقد أعددت لكل شيء عدته؟ - أعتقد ذلك. - أنا لست مرتاحا لهذا الزواج. - ولكن هل تمانع فيه؟ - هل سألتك والدتك؟
وقالت مجيدة: لو كان وجدان هو الذي يطلب هذا الزواج ما ترددت في قبوله. أما أنت ... - ما الفرق؟ - الفرق بعيد. - مثل ماذا؟ - أنت الموازين عندك كلها فلوس. - وهل في هذا عيب؟ - عيب كبير. - أي عيب في هذا؟ - الفلوس خائنة. - والقلوب خائنة. - ولكن الشرف لا يخون والضمير لا يخون. حين أراد وجدان الزواج تزوج فتاة مستورة، ولكن كان واثقا من كل شيء حولها. - ومن قال لك إنني لست واثقا من كل شيء حول سوسن؟ - أنت سألت عن مالها وعن الطريقة التي توصلك إليها ولم تسأل عن شيء آخر.
وذهل ياسر لحظات هو يقول دون وعي: كيف عرفت؟ - أنت ابني. إذا لم أعرفك أنا، فمن يعرفك؟! - إذن فأنت لا توافقين على الزواج؟ - وهذا أيضا لا أستطيع أن أقوله، فأنا لا أعرف عن البنت شيئا يسيء إليها إلا أن ثروة أبيها غير طبيعية، وإن رأى غيري هذا حسنة فأنا أراها شيئا يثير الخوف، ولكنه على كل حال لا يصلح سببا للرفض. - إذن. - نتوكل على الله.
وصح كل ما توقعه ياسر. سعدت سوسن بالزواج من ياسر، فهو جميل الطلعة ممشوق القوام، وهو ابن سعادة المستشار. وما دامت هي تفتخر بأنه ابن المستشار ففخر أبيها وأمها أكبر وأعظم. فالمال موفور، وما كانت الأسرة في حاجة إلا إلى نسب مرموق يرتفع به مكانها في المجتمع، وتم لها ما أرادت.
دفع ياسر المهر خمسة آلاف جنيه، فإذا بهذه الآلاف الخمسة تصنع المعجزات؛ شقة ثمنها مائة وعشرون ألف جنيه ملك أبيها وخصصت لهما، وفرش وديكور يفوق المائة ألف جنيه بآلاف أخرى لا تستحق أن تذكر في زحام هذه المبالغ الفلكية.
وبعد أن تم الزواج بشهرين تقدم عزام بطلب إجازة المعاش، وكأنما أحس أن لقبه أدى المطلوب منه أو ربما أحس أن ابنه تاجر بهذا اللقب، فأحب أن يصبح المستشار السابق بدلا من المستشار فقط.
الفصل الثامن
أنجبت ميرفت لوجدان ولدهما الأول بعد أن تأخرت في الإنجاب بعض سنوات، وسمى ابنه عزام، وسعد الأب بالإنجاب والتسمية معا. أما مجيدة فكانت تقول: أنا جدته من ناحيتين؛ ميرفت بنتي مثلما وجدان ابني.
وحزم وجدان أمره على شيء، ولكنه أبى أن يفاتح فيه أباه أو أمه في الشهور الأولى من مولد عزام الصغير حتى لا ينغص عليهما الفرحة، ثم انتهز فرصة خلوه بأبيه وقال له: أريد أن أبحث عن شقة.
جزع الأب جزعا حقيقيا وقال له: ولماذا يا بني لا قدر الله؟ - عزام الآن لعبة لك ولسته، ولكنه ما يلبث أن يكبر ويصبح مصدر إزعاج لكما، وأنتما الآن لا تحتملان طفلا في سنه يعيش معكما بالبيت. - هل طلبت منك ميرفت هذا؟ - أنت تعرف أنني لا أكذب. - نعم أعرف هذا. - إذن فميرفت لا تعرف أنني سأطلب هذا الطلب أو أفكر فيه. - وإذن فاسمع، أنا منذ خرجت على المعاش وأنا أترقب مولد ابنك هذا، وحين جاء أحسست أن حياتي تجددت به، فلماذا تريد أن تحرمني من هذا الشعور؟
وطفرت الدموع إلى عينيه، ودخلت مجيدة فجأة ورأت الموقف الحائر من وجدان والحزين من عزام: ماذا، كفى الله الشر؟
وتمالك عزام نفسه وهو يقول: تعالي شوفي ابنك ماذا يقول.
وقال وجدان: لا داعي. نتكلم في هذا في وقت آخر.
وقالت مجيدة: لماذا؟ أكنت زوجة أبيك؟ ماذا قلت لأبيك حتى جعلته بهذه الحالة؟ - يريد أن يترك البيت.
ودقت صدرها وهي تقول: ماذا؟
وقال وجدان: أخشى أن يزعجكما عزام. - إذن اترك البيت وحدك إن كنت تريد، أما ميرفت وعزام فباقيان معي.
وعلا صوتها وهي تقول: أهكذا يا وجدان؟ ألأني أحب زوجتك كل هذا الحب تريد أن تحرمني منها ومن ابنها؟
وسمعت ميرفت الصوت المرتفع الذي لم تتعود سماعه في هذا البيت، وسارعت إلى مصدره وعرفت موضوع النقاش، والتفتت إلى وجدان: ماذا تظنني عندك، قطعة من أثاث؟ كيف سمحت لنفسك أن تتكلم في هذا الموضوع دون أن تستشيرني؟
وأطرق وجدان وقد أحس أنه أخطأ في حق زوجته: أنا آسف.
وقال الأب: وهذا الموضوع لا يفتح مرة أخرى.
وقال وجدان: أمرك. •••
وحين خلت ميرفت بوجدان قالت له: أليس معنى طلبك أنك تريد عشرة آلاف جنيه أو ثمانية على الأقل لتدفعها خلو رجل؟
وذهل وجدان وأوشك أن يصيح: أنا أدفع خلو رجل. أنا وكيل نيابة. - عجيبة. إذن فكنت تريد أن تشتري شقة.
وعجب وجدان من نفسه وقال: ولا فكرت في هذا أيضا. ومن أين لنا بثمنها؟ كل ما فكرت فيه أنني خفت أن يزعج عزام أبي أو أمي.
وقالت ميرفت: يا ليت الدنيا كلها مثل أبيك وأمك! إنهما يحبان عزام أكثر من حبك له. والحقيقة أنني لا أستطيع أن أترك نينا أبدا، أمي وهي أمي لا تعاملني معاملتها لي. إنني إذا تركتها تجد نفسها لائصة في البيت. إنني أنا الذي أقوم بكل شيء هنا.
ضميرك هذا يرتكب أخطاء كبيرة دون أن يفكر. وأنت الآن البك وكيل النيابة، والبك وكيل النيابة لا يجوز له أن يخطئ.
وابتسمت.
ونظر إليها طويلا وابتسم وهو يقول: أطال الله عمرك لي ولعزام، ولست عزام، ولجد عزام.
الفصل التاسع
بدأ وجدان مرافعاته وسمع القضاة لغة يندر أن يسمعوا مثلها. عربية واضحة بينة الملامح، وفي نفس الوقت دقيقة في التعبير حادة في الإشارة، لا تلجأ إلى الحلية لمجرد الحلية، ولا تحاول الاستعراض. التهم جلية الملامح أسانيدها القانونية مستقيمة، ليس فيها تعنت أو تحيف على النص أو الواقعة.
وسرعان ما أصبح أعضاء النيابات يتنادون في الجلسات التي يترافع فيها وجدان. وأصبحت مرافعاته حديث المستشارين والقضاة وإخوانه من أعضاء النيابة.
وبدأ المختصون يندبونه للقضايا التي تحتاج إلى مرافعة ذات شأن، وأحس وجدان أخيرا أنه يحقق ذاته. فلا شيء يخالف ضميره، وإذا لم يرض عن اتهام في قضية طلب حفظها. ونسي وجدان ما كان ينتويه من عودة للمحاماة، أو تناساه. وأصبح المجرم إذا عرف أن وجدان سيترافع ضد زميل له يقول له: ضمنت السجن حتى وإن كان محاميك الهلباوي. وتبلغه هذه الأقوال فيعتز بها، وتبلغ عزام فيشعر بزهو وتوشك الدموع أن تطفر إلى عينيه من الفرح، ويقول لنفسه: الآباء وحدهم في الحياة هم الذين يتمنون أن يكون أبناؤهم خيرا منهم، ولعلهم بهذا يحسون بأن أجمل أجزاء فيهم أصبحت خيرا منهم، فمشاعر الأب تتعاظم حتى يحس أنه وابنه جسم واحد مثلما هم روح واحدة.
الأم تفرح وتنتشي وتفاخر بمن أنجبت، ولكن الأب يشعر وكأنه هو الذي صنع ما يمتدحه الناس في ابنه، ويكاد يحس أنه أحق بالتهنئة من ابنه نفسه، أليس ابنه هذا جزءا من روحه؟ فليكن هو جزءا من روح ابنه. وعزام معذور حين تحيط به الفرحة بهذه الصورة، فأن يبرع وجدان في نفس الميدان الذي كان يعمل فيه أبوه أمر يجعل فرحة الأب مضاعفة لأنه يعرف أسرار هذا الميدان ويعرف المواهب المتعددة والجهد الخارق والحرص على اللفظة والإشارة والانتباه إلى نغمة الصوت من غلظة إلى رقة ومن لين إلى قسوة، وإلى درجة ارتفاع الصوت ودرجة انخفاضه التي يجب أن يلم بها جميعا وكيل النيابة المترافع حتى يصل إلى تلك المكانة التي تجعله مثار إعجاب منصة القضاء وأعضاء النيابة ومثار رعب المجرم ومصدرا من مصادر يأسه.
ولم يكن عجيبا أن يسمع صفوت حمو ياسر بهذا النجاح الذي حققه وجدان.
ويدق جرس التليفون في مكتب وجدان: نعم، من؟ - أنا يا أخي نسيبك الذي لم تشرفه في البيت حتى الآن. - من يا أفندم؟ - أنا صفوت. - أهلا صفوت بك، مرحبا، أنا تحت أمرك. - نتعشى معا هذا الأسبوع. مرت شهور على النسب ولم تشرفنا. - لا مانع مطلقا، من سيكون معنا يا صفوت بك؟ - كثيرون ممن سمعوا عن مرافعاتك وقرءوها في الجرائد وأعجبوا بها ويتمنون أن يتعرفوا بسعادتك. - ما رأيك يا صفوت بك أن تكون العزومة عائلية ما دامت المرة الأولى التي نتشرف فيها بدعوة منك والأيام جائية كثيرة. - أمرك، سعادة الوالد والوالدة سيشرفان طبعا. وإذا أذنت لي، صديق أو صديقان أعتبرهما كإخوة. - أمرك. - العزومة على شرفك بمناسبة القضايا العظيمة التي ترافعت فيها. فمتى تحب أن تشرف؟ - والله يوم الخميس غالبا هو أنسب الأيام بالنسبة لي. - علم وينفذ يا سعادة البيه. يوم الخميس. وسأكلم سعادة الوالد، وحنان ستكلم الهانم والست الوالدة.
لم يكن وجدان يكثر من الذهاب إلى ياسر، فوكيل النيابة بطبيعة عمله قل أن يجد وقت فراغ، ولكن العجيب أن زوجته ميرفت أيضا كانت قليلة الزيارة لسوسن. لم يكن وجدان قد تنبه إلى هذه الحقيقة إلا حين كلمه صفوت هذه المكالمة، وحين عاد إلى البيت أراد أن يخبر ميرفت بالدعوة، فإذا بها تخبره أن الست حنان قد دعتها فعلا كما أكدت سوسن الدعوة، وذكره اسم سوسن لما انتبه إليه وسألها: أراك قليلة الزيارة لسوسن؟ - فعلا. - لماذا؟ - أنت تعرف أنني لست من هواة الزيارة، وهي تعمل كل صباح في البنك. - ميرفت، ليس هذا هو السبب! - هل ستعمل وكيل نيابة في المحكمة وفي البيت؟ - لا والله إنما فقط أردت أن أعرف. - الحقيقة أننا لم نرفع الكلفة بيننا تماما، فهي على كل حال جديدة علينا والزيارات الكثيرة تبدأ قليلة حتى يتعود بعضنا على الآخر. - ولا هذا هو السبب؟ - حتى أكثر من الزيارة لا بد أن أشعر حين أزورها أنني في بيتي، وأنها لا تفكر في مواعيد أخرى تجعل الزيارة محددة الزمن، وهذا أمر يحتاج إلى وقت. وسوسن مشغولة دائما بمواعيد أخرى إن لم يكن الكوافير فصديقات أخريات في النادي. وهي تلعب إسكواش أيضا. أما في الصباح فهي موظفة في البنك كما تعلم. - هذا هو السبب. إنها نوع آخر غيرك. - لا تخش شيئا سنتعود على بعضنا البعض. - كل ما في الأمر أنني عارضت ياسر في زواجه ولا أحب أن يشعر من ناحيتي الآن بما يضايقه. لقد تزوج وقضي الأمر. والزيجة في ذاتها حتى الآن ليس فيها عيوب واضحة، فليظل ياسر أخي، فأنا واثق أنه سيحتاج إلي، ولا أحب أن يتردد إذا احتاج إلى أن يفاتحني. - معقول. حاضر. •••
ذهب عزام ومجيدة ووجدان وميرفت إلى دعوة العشاء. وتساءل في نفسه وهو يصعد المصعد: فيم سيكون الحديث؟ وسرعان ما جاء الجواب؛ هذا رجل صنع الملايين، ألا يستطيع أن يجد موضوع كلام يعجب جماعة من السذج أمثالنا. لن يعدم وسيلة لخلق موضوع إذا لم نتكلم نحن.
كان الترحيب حارا بسعادة المستشار وبالسيدة حرمه وبسعادة وكيل النيابة والسيدة حرمه. وبدا ياسر وهو ينظر إلى المفروشات الفاخرة والثريات الهائلة والتهاويل على الحائط والتحف على المناضد أنه يريد أن يقول لأخيه ولأبيه ولأمه: هيه، أرأيتم أن ابنكم وقع واقفا!
وكان بين المدعوين غريبان قدمهما صفوت على أنهما صديقان له لصيقان، ثم عرف وجدان بعد ذلك أنهما يملكان شركة للتصدير، وأنهما كانا بسبيلهما إلى توقيع عقد مع صفوت، فأراد أن يتفاخر أمامهما بنسبه الجديد.
ودار الحديث في كل شيء. وبطبيعة الحال بدأ بمديح من عزام للمفروشات، وحين أجاب صفوت أدرك وجدان أنه شخص غاية في الذكاء قال: تعرف سعادتك الأبيسون الذي تجلس إليه هذا كان لقطة لا مثيل لها، ملك لتاجر صديقي كان معروضا عند عبد اللطيف شهدي، وحين عرضه علي عرفته، فقد زرت صاحبه عدة مرات وجلست عليه عنده. طلب في الطقم عشرة. قلت ثمانية آلاف، وأنا أعرف أن صديقي كان داخلا في صفقة يحتاج فيها إلى مال سائل من أي طريق، واشتريت الطاقم.
لعلك تتعجب يا سعادة البك كيف عرف فلاح مثلي بدأ في وكالة البلح الأبيسون والكريستوفل وما أشبه؟ أنا كنت صديقا لتاجر لبناني اسمه عطار. كان الله يرحمه لا يفيق من السكر، وأنا والحمد لله لا أشرب، كنت أجلس معه دائما يشرب هو وآكل أنا المزة، ويتكلم عن هذه الأشياء، ولم أكن سمعت عنها، أبيسون مركيت ري كريستوفل، والخشب المطعم بالنحاس، ويسمونه البول، كله عرفته منه.
وقالت حنان: أكان لا بد أن تذكر وكالة البلح؟ - اسمعي يا بنت زكريا بك. الذي يتنكر لأصله لا حاضر له. ولا تعملي نفسك ذكية يا أختي؛ عزام بك سأل عنا قبل الزواج، وإن لم يكن هو سأل، فوجدان بك وأعضاء النيابة يعرفون التائه، فما بالك بالشيء الذي يعرفه الجميع. وإن لم يكونا قد سألا فهما مخطئان، وحاشا لله أن يخطئ سعادة المستشار وهو يزوج ابنه، أو يخطئ سعادة وكيل النيابة وهو يزوج أخاه الأصغر.
وقهقه الجميع بالضحك، فالحديث بسيط وفيه صدق وفيه ذكاء . ذلك الذكاء الذي يخفي نوعا خطيرا من المكر، فشر المكر ذاك الذي يخفيه الحديث الساذج الواضح الطيبة. وأكمل صفوت: تعرف سعادتك كل هذه التحف أعرف أصلها وفصلها بعد الذي تعلمته من عطار الله يرحمه وهو يسكر. ولذلك فتجار التحف يتعاملون معي معاملة الند للند، ولا يحاولون أن يضحكوا علي أبدا.
وقالت حنان زوجته وهي تضحك في فرح شديد: يا أخي دوشتنا بالتحف، وأنا عندي بشرى عظيمة للست مجيدة وسعادة البك المستشار وسعادة وكيل النيابة.
وابتسم عزام في وقار وفرح: البشرى التي تجمعنا لا بد أننا سنصبح أنا ومجيدة جدين، وسيصبح وجدان عما.
وقهقهت حنان: اسم النبي حارسك وضامنك مستشار، عرفها قبل أن ننطق بها. - ولم تستطع مجيدة أن تخفي فرحها. - هكذا بسرعة يا بنت يا سوسن. - وماذا أعمل يا تنت؟
وقامت الأسرة تقبل الأم المنتظرة وزوجها.
الفصل العاشر
كان من الطبيعي أن يضع وجدان التليفون في حجرته في المساء، فقد كان كثيرا ما يستدعى في أعماق الليل للتحقيق في حوادث، وكان الأب والأم في غنى عن التليفون في مثل هذه الساعات من الليل، بل لعلهما كانا في حاجة إلى من يبعده عنهما.
ودق جرس التليفون في حجرة نوم وجدان، وصحا كما صحت ميرفت، وأجاب هو: سعادتك وجدان بك أبو الفضل؟ - نعم أنا. - أنا وهبي رشوان من قسم الهرم. - أهلا وسهلا. - أخو سعادتك ياسر أبو الفضل؟ - نعم. - هل تسمح بتشريفنا؟ - مسافة الطريق. - شكرا.
ولم تسأله ميرفت إلى أين، ولكنه قال لها: حادثة.
وكأنما خشي أن تكون سمعت اسم أخيه. وقالت ميرفت دون اهتمام: شيء تعودنا عليه. •••
كيف ذهب ياسر إلى الشرطة؟ أمر يحتاج إلى أن نعود إلى بضعة أسابيع، يوم كان ياسر وسوسن مدعوين للعشاء والسهرة عند صديقهما حمدي السلولي، وقبلا السهرة، واشترت سوسن الفستان الذي ستذهب به، حتى كان اليوم المحدد، عاد ياسر من البنك ليجد سوسن تقول له: ياسر، اذهب وحدك إلى السهرة. - لماذا؟ - لا أدري، ربما للحمل دخل في الأمر. ليس لي مزاج وأشعر بدوخة وصداع. - أعتذر؟ - لا ، إذا اعتذرت ستجعلني أذهب غصبا عني. حمدي شاب ممتاز وأحب أن تكون علاقتك به طيبة. - أمرك، أروح وأمري إلى الله.
وذهب ياسر، وكان عشاء كالذي تعود أن يراه منذ عرف هذه الدعوات. شرب للويسكي غالبا أو لغيره من العوامل المساعدة من الجين أو الكمباري إلى قرب الحادية عشرة أو بعدها بقليل، ثم العشاء. أما السمر والحديث فطول السهرة طبعا. إلا أن هذا العشاء بالذات تميز بشيء لا يتكرر كثيرا في الدعوات الأخرى. كانت الراقصة الناشئة التي بدأت تلمع أخيرا مها رمزي مدعوة إلى الحفل. بطبيعة الحال التف حولها الشبان وراحت توزع عليهم القليل الذي تعلمته في عالم الليل. ألم أقل لك إنها ما زالت في أول الطريق؟
وقال لها حمدي: الآنسة العظيمة مها رمزي هي وحدها صاحبة الأمر في تحديد الموعد الذي تتناولون فيه العشاء.
وقالت أصوات مازحة: هذا تحيز. وآخرون: هذا استبداد، وهذا طغيان. وقالت مها: ألا تحبون أن أكون أنا المستبدة وأنتم الرعية؟
وتعالت الأصوات: ونعم الاستبداد، وأهلا وسهلا، ويحيا الاستبداد.
وقالت: خلاص، أنا التي أقول متى نأكل.
وتعالت الأصوات: الأمر مطاع، وتحت الأمر. ولا لزوم للأكل كله. وصاح أحدهم بصوت طغى على الجميع: بشرط.
وقالت مها: ليس لأحد أن يشترط علي.
وقال الصوت: إذن برجاء.
وقالت مها في دلال ساذج: تقبل الرجاوات إذا أعجبتنا.
وصاح صاحب الصوت ولم يكن إلا ياسر: رقصة، نرى رقصة.
ونظرت إليه مليا. وكانت قد عرفت عنه كل شيء. عرفت أنه أخو وكيل نيابة مهم، وعرفت أنه نسيب مليونير فاحش الثراء. عرفت كل شيء. وحين قدمه إليها حمدي في العشاء أعجبت بصورته وقوامه وملبسه. فحين طلب إليها الرقص نظرت إليه مليا ثم غمزت له بعينها وهي تقول: لأجل خاطرك أنت بالذات أرقص.
وهتفت أصوات: تحيا المحسوبية، تحيا الخواطر! وسارع ياسر إلى ملفعته وذهب إليها وقام بربط الحزام حول وسطها وعدلت رباطه وأدير التسجيل، وراحت مها ترقص على تصفيق الحضور أكثر مما ترقص على موسيقى المسجل.
وانتهى الرقص، وبدأ الإعداد للعشاء، وراحت العيون السكرانة تتطلع إلى حجرة المائدة. وفي خبرة أدرك كل من ياسر ومها أنهما يستطيعان أن يختلسا بضع كلمات، فإن تكن مها قليلة خبرة بمهنة الرقص فما هي بقليلة خبرة بمهنة المرأة. - متى ستتركين العشاء؟ - عندما تحب. - الآن. - قد يلحظون. - نتظاهر بأننا معهم على العشاء وننصرف. - معقول.
وتم الأمر على ما اتفقا عليه. وفي المصعد: معك سيارة؟ - معي. - وأنا معي سيارة. - تتركها أنت؟ - وهو كذلك.
وحين أصبحا في الطريق قال لها: هذه سيارتي. - مرسيدس آخر موديل طبعا يا عم. - تحت أمرك. - هي من الليلة تحت أمري فعلا. - فعلا. - بكم اشتريتها؟
وركبا سيارتها ولم تكن قد أصبحت مرسيدس بعد، وإنما هي تحبو نحوها. وأجاب السؤال: أنا لا أشتري. - طبعا، يا بخت من كان النقيب خاله. - أو حماه.
وضحكا وهي تقول: هدية منه؟ - يوم الصباحية. إلى أين أنت ذاهبة؟ - إلى الشقة عندي. - حلو. - ما زال أمامي أكثر من ساعة نقضيها معا. •••
في البيت قبيل خروجهما قال لها: أترين أن أؤجر شقة لنا؟ - كم كنت ستدفع في الإيجار؟ - مائة جنيه؟ - قل مائة وخمسين. - مثلا. - أؤجر لك شقتي هذه وتدفع لي المبلغ. ألم تكن ستؤجرها لي. - أنا وأنت فقط؟ - طبعا. - إن عرفت أخرى قتلتك. أنا لست مثل زوجتك تضحك علي. الخادمة تأتي في الصباح ومن بعد الظهر إلى اليوم التالي وحدي. - عظيم، تبقى المسألة في بيتها. - إذن اتفقنا. - وهذا هو المقدم.
وأعطاها مائة وخمسين جنيها. فقد كانت الأموال تجري في يده لا يعرف كيف ينفقها. فبعد الشهر الأول من الزواج أخبرته زوجته: أبي سيعطينا ألفي جنيه في الشهر. - يعطيك أنت؟ - ألست أنا وأنت واحدا؟ - طبعا. - إذن أنا سأضع المبلغ في هذا الدرج، ويكون معك مفتاح، وما تريده خذه، وما أريده آخذه. - وإن نفد؟ - يأتي غيره.
وهكذا أصبح مرتبه الكبير الذي يتقاضاه من البنك شيئا ضئيلا لا يستحق الذكر. فقد أدرك صفوت أن حالة ياسر المالية لن تحتمل المظاهر التي يفرضها عليه زواجه بابنته، وطلب إلى ابنته أن تقول له ما قالت متصورا أن إعطاءه مالا لياسر بطريقة أخرى قد تغض من كرامته.
وهكذا لم يكن في إعطاء ياسر مائة وخمسين جنيها لمها أي عسر عليه.
وأصبح ياسر يتردد على مها في أغلب أيام الأسبوع قبل أن تذهب إلى الكباريه. إلا أن هذا لم يكن يمنعه أن يذهب إلى الكباريه مرة في الأسبوع أو مرتين، فقد كانت سوسن من هذا النوع الذي لا يحاسب زوجه وكان يكفيه أن يقول لها إنه سيسهر ليلته مع بعض أصدقاء حتى توافق دون حتى أن تسأله عن هؤلاء الأصدقاء.
وكانت مها في كل ليلة يأتي فيها إلى الكباريه تخرج معه، فهو لا يأتي فجأة، وإنما يتفقان على ألا تأخذ سيارتها وتكون واثقة أنها ستجد سيارته أو سيارة حميه، لا فرق، لتصل بها إلى منزلها. •••
بعد هذه المقدمة نستطيع الآن أن نروي الحادث الذي أقض مضجع وجدان المسكين.
كان الكباريه زاخرا برواده. وكانت هناك منضدة يجلس إليها جماعة من المصريين. يتصدر أحدهم المائدة وينفق ببذخ واضح. وحين ظهرت مها لتؤدي رقصتها تركها ترقص بضع دقائق، ثم قام إليها وألبسها عقدا من العقود الجديدة التي لم تعدها الحياة إلا في هذه السنوات الأخيرة. كان عقدا بألف جنيه موزعة أوراقه ذات المائة جنيه على دائر العقد، وقبلته مها وخلعت العقد وأعطته للطبال واستمرت في الرقص، بين تصفيق المنضدة وزياطها.
ومضت دقائق أخرى وقام إليها المعلم تيسير أبو العزم وألبسها عقدا آخر من نفس النوع. وتقاضى القبلة وزياط المنضدة وقعد.
وانتهت مها من الرقص ودخلت إلى حجرتها لتغير ملابسها وتقاسمت الألفي جنيه مع صاحبة الملهى والموسيقيين، وخرجت قاصدة إلى المنضدة التي يجلس إليها ياسر الذي قام وهو يقول لها: أنا غير مرتاح لهذه الجماعة، هيا بنا. - ولا أنا، هيا بنا.
وهما بالخروج، وإذا بالمعلم تيسير أبو العزم وجماعته يعترضون طريقهما. - إلى أين يا ست؟
وقال ياسر محاولا أن يحميها: وأنت ما لك!
وقال تيسير: يا أفندي، أنت الذي لا مال لك، أما أنا فقد قدمت ألفي جنيه نقوطا، كل مائة تنطح مائة، وأنا يا أخي لا أكلمك.
وقال ياسر: وهل معنى هذا أن تمنعها من الخروج؟ - لا، العفو، إنما أظن أنه من باب الذوق أن تأتي وتجلس مع الثور الذي دفع لها ألفي جنيه في خمس دقائق. - وهل هذا أمر؟ وهل ما دمت دفعت نقوطا تتحكم فيها؟ - إنت كل كم يوم تأتي إليها ولا تدفع قرشا ولا عشرة، ثم تأخذها جاهزة آخر الليل، ونحن نرمي الآلاف ولا ننال ولو جلسة. طيب كلمة، طيب ضحكة!
طبعا كل الناس قد تجمعوا حولهم. وكان المشرف على الكباريه الخبير خبرة واسعة بهذه الأحوال قد أبلغ الشرطة، ولكن قبل أن تأتي الشرطة قال ياسر: هذا تهجم، هذه وقاحة.
وقال تيسير: أما عجائب يا إخواننا. الوقاحة أن تدفع وتطلب الأخذ، أم تأخذ ولا تدفع؟
وتصايحت جماعة تيسير، وضرب أحدهم ياسر صفعة حاسمة. وهكذا أصبح من الحكمة أن يتدخل فتوات الكباريه في شكل محاولة للصلح هيأت الفرصة للشرطة أن تأتي في الوقت المناسب وتأخذ الجميع إلى القسم.
وعرف الضابط ياسر من بطاقته وسأله عن تليفون أخيه. وهكذا دق جرس التليفون في حجرة وجدان، وهكذا وجد المسكين نفسه في قسم الشرطة.
وكان الضابط قد صرف تيسير أبو العزم بعد أن هدده بالحبس إذا عاد لمثل ما فعل. فحين جاء وجدان حياه الضابط في تلطف. - المسألة لم تكن محتاجة تشريف سعادتك. مجرد خناقة عادية، إلا أنني حين عرفت شخصية ياسر أحببت أن أقول له شيئا أمامك.
وكان وجدان في حالة من الألم غاية في الحدة؛ فهو لم يتصور نفسه قط قادما إلى قسم الشرطة ليتسلم أخاه، وهذا التباعد بين منهجه في الحياة وبين ما هو فيه جعله يوشك أن ينهار. قد يتصور أن يذهب إلى ياسر في حادثة مرور بسيارته الجديدة، أو في مشكلة روتين، أما تشابك في كباريه بينه وبين سكارى من أجل راقصة. كان في دوار، ولكن ما قاله الضابط بعد ذلك جعله يفيق على حقيقة أبشع. قال الضابط: يا وجدان بك، أنا أقول لأخيك ياسر أمامك إن حماه كل ليلة يظل يدخن الحشيش في شقته إلى الصباح. ولولا أننا نعلم أنه لا يتاجر في المواد المخدرة لألقينا عليه القبض، ولكن الرائحة فاحت، وأصبح سكوتنا أمرا في غاية الصعوبة بالنسبة إلينا.
وارتج على ياسر وازدادت حيرته وهو يرى الأثر المروع الذي ارتسم على وجه أخيه، وساد الصمت لحظات، ثم قال وجدان: أشكرك يا وهبي بك، وأرجو أن تترك لي أنا هذه المسألة. - شكرا يا وجدان بك وآسف لإزعاجك. مع السلامة.
وحين خرج وجدان من القسم ومعه ياسر ومها لم يلتفت إليهما، وإنما ركب سيارته الصغيرة التي أهداها له أبوه بعد أن عاد من الميدان. وتوجه إلى البيت والفجر يؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة.
وفي الصباح كان من الطبيعي أن يذهب ياسر إلى وجدان في عمله. وكانت الحجرة خالية بهما. - هل أحست زوجتك بشيء؟ - لا. - أتأخذ أموالها لتنفقها على الراقصات؟ - ولماذا خلقت أموالها إذا لم تكن للإنفاق على الراقصات؟ - أهذا منطق؟ - إنا اخترت زواج المال لأتمتع به. - لأول مرة أضطر أن أقول لك إنك أوقح بكثير مما كنت أعتقد. - أنت تعيش في دنيا خاصة بك. لم يعد باقيا من معالمها إلا أنت وقلة ساذجة لا تدري شيئا مما يحيط بها.
ووجم وجدان. يبدو أن كلام أخيه حقيقة كانت خافية عنه. إنه لا يريد إلا أن يكون إنسانا سويا لا يعتدي على حق أحد ولا على كرامته، ولا يعتدي أحد على حقه أو كرامته، ولكن يبدو أن هذا المطلب الذي يراه يسيرا غاية اليسر بسيطا كل البساطة مستحيل التنفيذ. ماذا صنع هو حتى يذهب ليرى أخاه في موقف الأمس ولا شك أن الضابط يعرف كل الحقائق عن أخيه وعن زواجه وعن تصرفاته وعلاقاته؟ وماذا صنع هو حتى يكون نسيبا لشخص لم يتدخل في اختياره، بل كان يعارض في نسبه ويصبح بسببه موضع احتقار من الشرطة والمجتمع.
أفاق من خواطره وقال لأخيه: ماذا تريد الآن؟ لماذا جئت؟ - لا شيء. مجرد أن أراك وأعتذر عن إزعاجك. - لا عليك. هذا إزعاج أنا متعود عليه، وليس الإزعاج ما يؤلمني، ولكن الذي روعني أن أراك حيث رأيتك بالأمس، وروعني أيضا ما قال الضابط عن حميك. - ماذا ستفعل معه؟ - هذا شأني. - أرجوك، لا تغضبه. - أيضا هذا شأني. وعلى كل حال لا تخف؛ هذا نوع لا يغضب أبدا. - على كل حال، السلام عليكم. - مع السلامة. •••
طلب وجدان التليفون: صفوت بك؟ - أنا. - أنا وجدان، هل أستطيع أن أراك؟ - تحت أمرك طبعا. هل هناك شيء؟ - حين نلتقي أقول لك. - تشرفني في البيت؟ - لا. - أجيء إليك في النيابة؟ - ولا في البيت. - إذن. - نلتقي في مكان عام. - في الهيلتون؟ - الساعة السادسة اليوم. ••• - يا سعادة الوكيل، نحن تجار ولنا أعداء كثيرون في السوق، وهذه إشاعات. - يا صفوت بك، الشرطة لا تخلق إشاعات، ولا تتصرف بناء على إشاعات. والذي فهمته أنهم يراعون النسب الذي بيننا. وأنا لا أستطيع أن أتحمل هذا ولا أقبله. نحن أسرة عشنا محترمين ولا نرضى أن يمس أحد سمعتنا التي قدمنا عمرنا لنحافظ عليها. - يا سعادة البك. - اسمع، أظن ليس من المعقول أن أستقيل من النيابة لتشرب سعادتك الحشيش! أصبح الناس يقولون لك يا بك. يا أخي احترم نفسك على الأقل قدر احترام الناس لك. - يا بك هذا كلام كبير. وواضح أن سعادتك تعيش في دنيا أخرى. الحشيش لا يشربه اليوم إلا أمثالي البكوات. كلمة بك اليوم ليس مصدرها المرسوم، وإنما مصدرها الباكو. - الباكو؟! - باكو الآلاف من الجنيهات. - هذه دنياكم. - دنيا الناس اليوم، ولكنك أنت تعيش في دنيا أخرى، ولا داعي للكلام. - فهل أنت مصمم إذن أن تظل على ما أنت عليه؟ - طبعا من أجل خاطرك لن أجعلك تسمع عني شيئا من هذه الناحية. وإنما كل ما في الأمر أنني لاحظت أنك تتكلم بمنطق أصبح غريبا على الزمن، وأحببت أن أكسب فيك ثوابا حتى تصحو على الزمن الجديد. - وفر عليك ثوابك. أنا عضو في النيابة وقضايا الرشوة والسرقة والتهرب من الضرائب والتحايل على القانون هي عملي. ولكن ليس هذا هو المجتمع. والذين يفعلون كذلك كانوا موجودين في كل زمان، وهم موجودون الآن في كل دولة. - ليس بهذه الصورة. - بل ربما بصورة أبشع. ولكن أؤكد لك أن الشرفاء هم الأغلبية. إننا نسمع عن القلة؛ لأن القلة هي التي تخرق العرف العام. أما الذين لا نسمع عنهم شيئا فهم الأغلبية الساحقة وعددهم لا يقارن بالمجرمين والحشاشين. لا تطمئن نفسك أنك ابن زمنك، أنت شذوذ في الزمن، ولم يخل زمن من شذوذ. كل ما يؤلمني أن الصالحين وهم الكثرة يتعثرون أثناء سيرهم عبر الحياة في الأشرار وهم القلة، وهكذا يقع الظلم على المجتمع بأسره مع أنه في مجموعه بريء. عن إذنك يا صفوت بك. سلام عليكم.
وقام وانصرف.
الفصل الحادي عشر
لم يذكر وجدان شيئا من كل هذا الذي حدث لأبيه ولا لأمه ولا لزوجته، وقصد وجدان أن يكثر من زيارته لياسر، وكان يصحب معه ميرفت بأمل منه أن يحاول ياسر أن يجعل علاقاته في طي الكتمان، على الأقل فلم يكن وجدان من السذاجة إلى درجة يعتقد معها أن ياسر سينقلب إلى شخص آخر لمجرد مشاجرة في كباريه. فما هكذا ياسر. فالأمر بالنسبة إليه ليس تجربة عابرة، وإنما هو طريق حياة. إنه يحب أن يعيش هكذا، وإن كانت قلة المال قبل الزواج تحول بينه وبين أحلامه فها هو ذا المال يجري في يده مجرى الماء. فأي شيء يمكن أن يقف في سبيله الآن.
كان وجدان يحب أن يجلس إلى أبيه، فقد كان الحديث معه متعة. كان التفاهم بينهما تاما، وكانت اللغة التي يتحدثان بها واحدة، وكانت والدته وزوجته تشاركانهما في الجلسة. وكانت أمه بذكائها وبطول معاشرتها لأبيه تشاطرهما الحديث مشاطرة واعية، أما ميرفت فقد كانت بطبيعة ثقافتها تعلق على ما يدور بين المستشار المتمرس ووكيل النيابة الحديث من مناقشات توشك أن تكون مدارسات.
التأمت الجلسة في يوم كان وجدان فيه متخففا من العمل، وكان عزام غير راغب في الخروج. وكانت الأحاديث الجارية في هذه الأيام حول محاكمة الذين أثروا ثراء مروعا مستغلين ظروف قراباتهم أو مقدمين رشاوى إلى المسئولين.
قال وجدان: هذه ظاهرة خطيرة.
وقال عزام : أتراها كذلك؟
وقال وجدان: بل أراها في غاية الخطورة يا بابا.
وقال الأب: لا أعتقد ذلك.
وسكتت ميرفت واثقة أن وراء كلام عزام ما يؤيده، فهي تعلم أنه لا يلقي الكلام على عواهنه. ولكن مجيدة بطبيعة مناقشة الزوجة لزوجها قالت: كيف هذا يا عزام؟ لا. أنا من رأي وجدان.
وقال عزام في هدوء: الجرائد جعلت هذه القضايا أشياء خارقة للعادة، وجعلت منها انهيارا لاقتصاد الوطن، وجعلت منها جرائم لم يسبق لها مثيل. فالذي أقصده أن الأمر ليس بالخطورة التي تصورها به الصحافة.
وقال وجدان: كيف؟ أتعرف سعادتك أنني منتدب في المرافعة في قضية تهرب من الضرائب؟ - أكذا؟ عظيم، سأحضر المرافعة. - طبعا يهمني جدا أن تحضرها سعادتك. وأنا الآن أعدها، ولن أعرضها عليك حتى تصبح مفاجأة لك وأنت تسمعها. - وهو كذلك. - ولكن هذا لا يمنع أن أرجع إليك في بعض الوقائع لتعاونني في التكييف القانوني. - الوقائع سأعرفها من الجرائد، وحديثك معي فيها لن يقلل من جمال المفاجأة عندما أسمع مرافعتك. - أرجو أن تجد هذا الجمال. - المؤكد أنني سأجده، بقلب الأم إن لم يكن بخبرة المستشار. - وأنا أحب عندك الشعورين معا. نعود لموضوعنا، ألا ترى سعادتك أن عدد الذين يقدمون للمحاكمة أعظم كثيرا مما كنا نتوقع؟ وأن في هذا تهديدا لاقتصاد مصر؟ - أنت محق في أن فيها تهديدا لاقتصاد مصر، ولكن ليس لما تراه أنت. - كيف؟ - أين تجد التهديد؟ - أجده في أن هناك كثيرين انتهزوا فرصة الانفتاح وانقضوا على أموال الدولة وحقوقها واستغل بعض منهم قراباته. وهذا بلا شك يضيع على الدولة أموالا ضخمة. - هنا أختلف معك. أولا وقبل أن أذكر لك موضع الخلاف بيني وبينك لا بد أن نتفق أن كل دولة فيها الكثيرون من أمثال هؤلاء، ويتواءم العدد مع كبر الدولة وصغرها وضخامة اقتصادها وضآلته. فهؤلاء موجودون في أمريكا وفي إنجلترا وفي فرنسا وفي كل دولة، بل هم موجودون أيضا في روسيا التي لا انفتاح فيها. - نعم لا شك في ذلك. - الفارق بيننا وبينهم أن النظام الاقتصادي الذي بدأنا الأخذ به يخالف النظرية الشيوعية التي سار عليها اقتصادنا طوال الفترة الماضية. قبل الانفتاح كانت سرقات أضخم من هذا تقع، وإنما تقع بأيدي الحكام وحدهم، فهي تقع في السر، وإذا عرفها واحد فإنه يعلم مصيره إن هو حاول إذاعتها أو الكلام عنها. - هذا صحيح. - ولهذا فسرقة الأفراد من غير الحكام أصبحت بالنسبة إلينا شيئا جديدا لا يعرفه الجيل الحالي. قد كان قبل الثورة موجودا بصورة ضعيفة باهتة؛ لأن البرلمان كان رقيبا عنيدا يصعب مع وجوده الفجور في السرقة. - وهذا حق أيضا. - ثم إننا نحن حتى اليوم ليس لنا نظام اقتصادي واضح، فلا نحن نماثل حرية الدول الديمقراطية كل المماثلة، ولا نحن أبقينا على النظام المغلق الذي تمثله الدولة الشيوعية. نحن نظام لا نظام له واضحا. ومجيء التجربة الاقتصادية جعل الذي يقع الآن أمرا غريبا لمن عاش في وضع اقتصادي مغلق قرابة عشرين سنة. - كل هذا صحيح. - من طبيعة النظام الجديد أن يوجد معه أمثال هؤلاء المستغلين. ومن الطبيعي أن يحاكموا ويحكم على المذنب فيهم، والقانون كما تعلم مانع رادع. فهذه الأحكام كانت من طبيعتها ستجعل الآخرين يفكرون كثيرا قبل أن يقدموا على هذه الجرائم مرة أخرى. - أنا أوافق. - الذي أختلف معك فيه أن تهديد الاقتصاد ليس آتيا من الجرائم نفسها؛ لأن مرتكبيها سينالون جزاءهم، وإنما هو آت من الضجة التي تثيرها الصحف حول هذه القضايا مما يجعل رأس المال الأجنبي يخاف ويجعل العاملين في الاقتصاد عندنا سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص في حالة رعب أن يقعوا في خطأ غير مقصود يؤدي بهم إلى هذه الفضائح التي لا يصلح منها بعد ذلك الحكم ببراءتهم.
ونظر وجدان إلى والدته وقال لها: أرأيت يا نينا أن سعادة المستشار كان قد فكر كثيرا قبل أن يصدر حكمه؟ وإنني أنا وأنت تعجلنا في المعارضة، بينما ميرفت الماكرة تروت في الأمر وانتظرت الحيثيات.
وضحكوا، وأكمل عزام: وهكذا أظهرت الصحف بما صنعت أنها تستغل الانفتاح الاقتصادي لتنقض به على الانفتاح السياسي، ولم يلتفت كثير من الكتاب وفي غمرة اندفاعهم أن البديل عن الانفتاح الاقتصادي هو النظام الشيوعي.
ولهذا كنت تراني أرى كتابة الشيوعيين متفقة تماما مع مذهبهم حين يهاجمون الانفتاح. وكنت أضحك كثيرا وأنا أرى كتابا كبارا من أصحاب الرأي الحر أوقعهم الشيوعيون في الفخ وجعلوهم يهاجمون الانفتاح، وهم لا يدرون أنهم بما يكتبون إنهم يهاجمون الحرية التي عاشوا يدافعون عنها، والتي عانوا من غيابها القهر والهوان وسفك الدماء.
وأراد عزام أن يستطرد لولا أن دق جرس التليفون واستدعى وجدان إلى مكتبه.
الفصل الثاني عشر
متولي عبد القادر هو وكيل أعمال صفوت المعلاوي في جميع أعماله. وقد بدأ يعمل معه منذ أنشأ مكتبه. ولم يكن صفوت يضيق عليه، وإنما كان يكرمه ويعطيه ما يعتقد أنه يكفيه ويزيد.
وكان ابن متولي الأكبر حسان قد نال بكالوريوس الصيدلة، وخطب أيضا فتاة من زميلاته. فوجد الأب متولي نفسه محتاجا إلى مبلغ خيالي يواجه به مطلبين أساسيين لابنه حسان: المطلب الأول ثمن شقة، فلم تعد هناك شقق بخلو رجل بعد المحاكمات المتتالية لأصحاب العمارات الذين يتقاضون خلو الرجل. ومعنى ثمن شقة ثلاثون ألفا من الجنيهات.
أما المطلب الثاني وهو طبيعي أيضا فخلو رجل لدكان كبير في شارع رئيسي ليفتح الدكتور حسان صيدلية، وخلو الرجل هنا ممكن؛ لأن الذي سيتقاضاه هو المستأجر لا المالك. والمستأجر يستطيع دائما أن يتهرب من عقوبة الخلو. ومهما يكن التناقض يدعو إلى الضحك المرير في هذا الشأن فهو واقع. المستأجر يستطيع أن ينال خلو الرجل لتركه لمكان لا يملكه، والمالك لا يستطيع الإفلات من عقوبة الجريمة نفسها إذا هو تقاضى خلو رجل لعقار يملكه. وكلا الشخصين مستغل لا شك في استغلاله، ولكن يظل التناقض مع ذلك يدعو إلى الضحك المرير.
وهكذا وجد متولي عبد القادر نفسه في حاجة إلى مائة ألف جنيه ليتزوج ابنه، وهذا حق له مشروع، وليفتح لنفسه صيدلية، وهذا أيضا حق له مشروع.
ولو كان حسان يجد أباه مضيقا عليه في الرزق، ولو لم يكن حسان يعلم أن أباه يعمل عند من تفوق ثروته عشرات الملايين، لرضي أن يبحث عن شقة في هذه العمائر التي يسمونها الإسكان الشعبي. ولرضي أيضا أن يظل كما هو أجيرا في صيدلية. ولكن وأبوه وكيل لصفوت المعلاوي فإن من حقه أن يطمع إلى ملك بيت وصيدلية. فإن أباه الذي استطاع أن يشتري له سيارة وهو في أول عهده بالجامعة لا بد قادر على أن يشتري له كل ما تطوف حوله آماله.
ومتولي يدرك هذا جميعا. وهو ذئب عجوز مرن على العمليات المالية من كل لون لها. وهو يعرف صفوت المعلاوي كما لا يعرفه أبوه أو أهله وذووه! فهو يراه حيث لا يراه أحد. ويعرف كيف ينقض على السوق انقضاض وحش كاسر لا يرعى حرمة ولا يقف به خلق، ولا يرده شرف أو تعطف قلبه رحمة. وفي أثناء العمليات التجارية لا يكون الحديث من صفوت إلا إلى متولي. وفي هذه الأحاديث تتضح نظرية صفوت في الحياة وفي التجارة وفي المال، وهي نظرية لا حداثة فيها، وهو حين يقولها لا ينشئ فكرا اقتصاديا أو إنسانيا أو اجتماعيا جديدا، وإنما هو يسفر فقط عن انتمائه إلى هذه الأفكار التي عرفتها البشرية منذ قتل قابيل أخاه هابيل. وقد رأى متولي أنه ما دام وكيل صفوت، فمن الطبيعي أن يكون من حزبه، وما دام الأمر كذلك فمتى تنقلب النظرية إلى عمل إذا لم تنقلب وهو في موقفه هذا من ابنه الذي يحرص دائما على أن يرضيه شأن كل أب يحب ابنه. وإن كان هو يختلف عن الآباء الآخرين فهذا الاختلاف سببه صفوت. فهو قد تعود أن يجد المال ليستجيب لرغبات ولده. وقد كان ما يحتاجه ابنه قبل الموقف الأخير هذا أمرا يدخل في دائرة الاستطاعة دون أن يحتاج متولي إلى طريق فيه غدر. أما اليوم فهيهات، فإنه إذا لم يلجأ إلى النظريات التي يعتنقها صفوت فلا خروج له من مأزقه هذا.
وفكر متولي أن يواجه صفوت ويشرح له الموقف. ولكن هذه الفكرة ما لبثت أن أصبحت موضع سخرية من متولي نفسه. أيقول لصفوت : أريد مائة ألف جنيه؟ فيقول له: وما له تفضل. أيتصور هذا؟ أيدخل هذا الرأي في حيز المعقول؟ إنه لو فعل ذلك فإن الأمر لن يعدو واحدة من اثنتين: إما أن يطرده صفوت من العمل فورا ويصدر أوامره في الشركة ألا يقترب منها متولي أو يتصل بأحد يعمل فيها. هذه واحدة، وهي بصفوت خليقة وبه أشبه. أما الأخرى فهي أن يتظاهر صفوت بالقبول وأنه على استعداد لشراء الشقة وفتح الصيدلية لحسان الذي هو بمثابة ابنه، ويظل يماطله حتى يحصل على ما عنده من أوراق هو يعلم مدى خطورتها، ثم يعصف به بعد ذلك. وقد تصلح هذه الفكرة لصفوت إذا قدر أن متولي لا يجسر على طلب هذا المبلغ الجسيم إلا بعد أن يكون قد أعد عدته وتسلح بكل ما يصل به إلى غايته.
ومتولي يعرف أن صفوت لن تفوته خطورة ما يحتفظ به متولي من أسرار. ولكن متولي مهما تكن حاجته إلى المال شديدة إلا أنه يخاف المواجهة ولا يشك لحظة أنه إذا واجه صفوت الذي عاش معه هذه السنوات - وهو بموقف منفذ الأوامر في حين صفوت في مكان مصدر هذه الأوامر - فإنه لن يلبث أن تنهار منه العزيمة وربما انقض عليه صفوت واستخلص من بين براثنه كل ما يحتاج إليه ليحصل على هذا القدر من المال.
رجل عجوز متولي. يجيد إحكام الخطة، وقد كان يشارك صفوت في الإعداد للعمليات التجارية. بل إنه كان أحيانا يقوم بالإعداد الكامل للضربة المالية. فإذا كان يصنع هذا ويصيب النجاح وهو يفكر لغيره، فكيف يجوز له أن يخطئ أو يقعد به السعي وهو يعمل لنفسه؟! وهل ابنه إلا نفسه وأعز؟!
رأى متولي الصحف تنقض على الذين يتاجرون باقتصاد الدولة. ورأى بين المتهمين أشخاصا لم يكن يتصور أن أحدا يجرؤ على المساس بهم. إذن فالأمر جد لا هزل فيه. وإذن فالمعتدون على أموال الدولة مصيرهم الوبال والسجن أو يردون للدولة حقها.
وعرف أن أجهزة الأمن والنيابة العامة لا ترحم أحدا، وأن الإشارة العابرة تكفي حتى تبدأ أجهزة المحافظة على أموال الدولة في التحري. فإذا وجدت بصيصا من حق أو شعاعا من احتمال صدق واجهوا المتهم وتركوا عليه أن يثبت عكس ما هو متهم به إذا كان يملك إلى هذا الإثبات سبيلا.
وحين دق جرس التليفون ليستدعي وجدان لم يكن يعلم أن الأمر يتصل بصفوت من أي سبيل. وحين وصل إلى مقر النيابة قدم إليه زميله البلاغ الذي قدم إلى الجهات المختصة ومعه التحريات التي تثبت أن صفوت قد قام بعمليات تجارية قدم عنها معلومات غير صحيحة كان من نتيجتها أنه حجب نصف مليون جنيه هي حق الدولة كضريبة أرباح تجارية. واستولى هو على المبلغ بدلا من الدولة. وقرأ وجدان الأوراق في عناية، ثم رفع رأسه إلى زميله: ولماذا استدعيتني؟
وابتسم زميله: لا تغضب، هذا عرف بيننا. إذا وجهنا التهمة إلى شخص له صلة بواحد من أسرة النيابة فإننا نخطره من باب الذوق، فلا تعجب. - ألف شكر، وماذا أملك أن أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل. ولكن هذه الصلة موهومة. - كيف؟ - هذا الشخص حمو أخي. فأنا لم أختره ليكون حماي، وإنما اختاره أخي. ثم هو نسيب وليس قريبا والحمد لله، فمع شكري الموفور لك، اسمح لي أن أعود إلى بيتي وسعادتك تتخذ من الإجراءات ما تراه.
وقد كان صفوت مشغولا في هذه الساعة مشغولية غاية في الضخامة، فقد كان يعد مع زوجته حنان وابنته سوسن - وليس مع ياسر - أسماء المدعوين والطلبات التي يحتاجون إليها بمناسبة الاحتفال بمولد الحفيد الأول لسعادة صفوت بك المعلاوي، والذي استقر الأمر على تسميته صفوت تخليدا لاسم رأس الثراء في العائلة التي تفضل فسجل شقة سوسن باسم حفيده، كما أودع باسمه شهادة استثمار بنصف مليون جنيه. وحين دق جرس الباب لم يكن يتصور بحال من الأحوال أن يد العدالة هي التي تدق الجرس.
الفصل الثالث عشر
في هذه المرة لم يستطع وجدان أن يخفي عن أبيه السبب الذي ذهب من أجله إلى النيابة. ولم يعجب وجدان حين استقبل أبوه النبأ وكأنه لا يعرف شيئا عن صفوت بك يتصل به بأسباب مصاهرة.
كان كالطود الراسخ وهو يقول في وقار: أمر كنت أنتظره بين لحظة وأخرى.
بل إن وجدان لم يعجب أيضا حين قالت أمه: وماذا كنا ننتظر من نسب كهذا! أتظنني فرحت بالشقة وشهادات الاستثمار؟ لا وشرفك، لا أنا فرحت ولا عرفت هذه الأموال أن تعطيني أي طمأنينة.
صنف آخر من الناس أمه وأبوه. صنف رأى الكرامة في الشرف، ولم يتصور أن المال يصنع كرامة.
وهكذا وجدان، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يكون في هدوء أبيه وأمه، فإن السن وانتساب الأسرة إلى منصة القضاء جعل الأبوين كالجبال الرواسي. كانت التجارب بالنسبة إليهما قد جعلت منهما حجارة كريمة كالماس لا تخف ولا يضيع لها وقار.
أما هو، فهو لم يبلغ بعد ما بلغاه من رسوخ وشمم، فوجد الغم يملأ نفسه.
لماذا كتب عليه أن يختار أخوه هذه الأسرة؟ بل ولماذا كتب عليه أن يكون أخوه بهذه النظريات التي لا يرى لها أثرا في بيت أبيه.
ما موقفه أمام زملائه؟ ربما قدروا أنه هو لا شأن له وأن ما يصنعه حمو أخيه لا صلة له به. وهذا حق، ولكنه هو كان يتمنى أن يكون كل ما يحيط به شريفا. ومتى أعطت الحياة الإنسان كل ما يتمنى؟!
أحست ميرفت ما يعانيه زوجها: أعرف أن كل ما يمكن أن أقوله لك تعرفه. - لا شيء يقال يا ميرفت. - فقط كلمة واحدة. انظر إلى عمي عزام بك وإلى نينا. - كنت أتمنى أن أكون مثلهما. - فكن. - أتظنين أنني أستطيع؟ - إذا لم تستطع اليوم فإن الأيام ستجعلك تستطيع شئت هذا أم أبيت.
دق جرس التليفون في حجرة وجدان وأجاب: نعم أنا.
وجاءه صوت لا يعرفه يقول له: يا سعادة البك، أنا متولي عبد القادر، وكيل أعمال صفوت بك. - ولماذا تطلبني؟ وكيف تجرؤ على الاتصال بي؟ أقفل السكة فورا. - يا بك، اهدأ واسمع الكلام لآخره. - أنا ليس بيني وبين كلام. - أنا أكلمك بصفات كثيرة، ومن المصلحة العامة والخاصة أن تسمع. - لا أريد أن أسمع. - حتى لو عرفت أنني أنا الذي بلغت عن صفوت. - ماذا؟ - اسمع إذن، صفوت متهرب من مبالغ أكبر من هذه بكثير، وعندي المستندات. وعندي مستندات أيضا أنه يهرب أموالا إلى الخارج وعنده حسابات في بلدين في أوروبا. - يا جدع أنت، هل جننت؟ ولماذا لا تبلغ رسميا؟ وأنا ما شأني؟ - يا سعادة البك اسمع الكلام لآخره. عليك أن تبلغ أخاك أنه إذا لم يدفع لي مائة ألف جنيه في ظرف أسبوع فستصل هذه الأوراق للنيابة فورا. - أنا سأبلغ عنك أنت. أنت قاطع طريق وتستعمل وكيل نيابة في معاونتك. - ولهذا كلمتك في التليفون. إذا بلغت عني فسأقول إن آخرين أحبوا أن يستغلوا الفرصة ويدخلوني في موضوع لا شأن لي به. وإذا لم تخبر أخاك أصبحت جريمة نسيبك تهربا من الضرائب وتهريب أموال إلى الخارج، وأنت أشرف واحد أعرفه في كل المتصلين بأخيك. وهذه التهم لن تمس أحدا منهم؛ لأنهم جميعا والحمد لله بلا شرف إلا أنت وطبعا السيد الوالد. - أتريدني أن أدافع عن شرفي بارتكاب جريمة. - أي جريمة يا سعادة البك؟ - أساعد مجرما على الابتزاز، وهو في نفس الوقت يتستر على جرائم من واجبي التبليغ عنها. - تبلغ عن ماذا؟ إذا بلغت عنها دون أن أقدم مستنداتي من يثبت أي شيء على صفوت. هذه جرائم أنا وحدي الذي أملك الدليل عليها. وأظن لا يصح أن يقول سعادة وكيل النيابة كلاما لا يستطيع إثباته ولا يملك أي دليل عليه. السلام عليكم يا سعادة البك أنا آسف. ولكني محتاج إلى هذا المبلغ في أشياء شريفة وربما يجعلك هذا مرتاح الضمير بعض الشيء. السلام عليكم. •••
ضاقت الدنيا بي؛ لأن نسيب أخي متهم، فكيف أفعل الآن وأنا على وشك ارتكاب عدة جرائم؟ اشتراك في ابتزاز وتستر على جريمة تهرب من الضرائب؟ أتستر على جريمة تهريب أموال إلى دول أجنبية.
أستقيل.
أستقيل.
أستقيل. - وماذا أعمل إذا أنا استقلت؟
محاميا، محاميا؟! محاميا؟!
هل أنسى يوم جاءني الزبون ليوكلني في قضية ضرائب كان سيعطيني مقدم أتعاب ألف جنيه ومثلها مؤخر أتعاب، وقد رفض أن يوكل صاحب المكتب وأصر على توكيلي أنا بالذات؟ ويومها استأذنت إسماعيل بك وقبل، وحين اطلعت على القضية قلت للوكيل: لماذا جئت لي أنا بالذات؟ - شهرة سعادتك. - أنا لا شهرة لي. أنت تعلم أن مأمور الضرائب الذي عنده أوراقك صديقي. هذه قضية وساطة. أنا لا أقبل قضية وساطة.
وأريد أن أعمل محاميا.
والحكاية الأخرى، الألعن، والأدهى؛ يوم اشترك عبد المطلب ابن مربيتي دادة رئيفة في جريمة قتل، وجاءني أخوه فوزي لأترافع عنه مقدرا طبعا أنني لن أتقاضى أتعابا، وكانت قضية شهيرة، وكان من شأنها أن تعطيني فرصة ليذيع اسمي. وقرأتها ووجدت القرائن جميعا ضد المتهم ووجدته معترفا في محضر الشرطة وإن كان رجع عن اعترافه في محضر النيابة. وكان إسماعيل العدوي يقول لي دائما أنت لا شأن لك بالمتهم. إن صلتك بالدوسيه، هو الذي يتكلم معك. إياك أن تسأل متهما إن كان ارتكب الجريمة أم لا؛ فهو إما سيكذب عليك وحينئذ لن تستفيد شيئا، وإما أن يقول لك إنه ارتكب الجريمة وحينئذ سيصبح العبء عليك في المرافعة أكبر من أن تطيقه، وخصوصا مع ضميرك اليقظ هذا. ولم أكن مقتنعا بهذه النصيحة. فأنا لا أتصور نفسي أترافع عن باطل أبدا، وحين جاء فوزي ليسألني رأيي سألته: لماذا لم تعط القضية للأستاذ إسماعيل العدوي نفسه؟ - ومن أين لنا بأتعابه؟
وفكرت قليلا، وكنت أتمنى أن أترافع في هذه القضية. وقد قبل الأستاذ إسماعيل أن تكون القضية لي، بل كان سعيدا أن تكون أول قضية أترافع فيها في محكمة الجنايات، جناية قتل مع سبق الإصرار، ووعدني أن يعاونني في القضية.
لو كنت أتغاضى عن ضميري قليلا لقلبت القضية، ومن يدري ربما كنت بها اليوم واحدا من كبار المحامين. فقد كنت محاميا موفقا في المحكمة دائما. أما في التعامل مع الزبائن وجدت نفسي أسأل فوزي: هل ارتكب أخوك الجريمة؟
وتردد قليلا ثم قال: نعم.
ودون تفكير قلت له: إننا أقسمنا اليمين ألا نكذب، فأنا مستعد أن أترافع في قضية أخيك وأطلب تخفيف الحكم، لا البراءة، فإذا قبلت هذا أنت ووالدتك فأنا مستعد. - أرد عليك.
ولم يرتد إلي بعد ذلك قط.
أي محام أريد أن أكون؟ إنني حين قلت إنني لا أريد أن أفتح مكتبا لم أكن خائفا من عدم الشهرة أو من بطء البداية، وإنما كنت خائفا من نفسي. واليوم وأنا أفكر في الاستقالة من النيابة لا بد لي أن أواجه نفسي. لا أستطيع مخادعة نفسي. أنا لا أصلح محاميا. وما كنت لأترك النيابة حتى ولو لم أوفق فيها هذا التوفيق.
أستقيل من النيابة؟!
ماذا أعمل؟ أجلس في البيت؟ أبحث لي عن مقهى؟
ماذا أعمل؟ أذهب إلى الأرض؟ وماذا أعمل فيها؟ إنها الآن أقل من أن تحتاج إلى إشراف. وماذا أفهم أنا في الزراعة؟ إذا ذهبت ضاع الريع.
ماذا أعمل الآن مع هذا المجرم الذي يريد أن يورطني في جرائم أنا لا شأن لي بها؟ أنا أعرف ماذا أعمل.
نعم أعرف ماذا أعمل.
إن أحدا لم يكلمني. من أين أعرف أنا متولي هذا، وكيف أعرف أن هذا صوته. هل أستطيع التجاهل؟ هيهات.
أنا أعرف ماذا سأفعل.
أنا لن أبلغ أخي شيئا، فليست هذه وظيفتي، وإنما سأبلغ رئيس النيابة غدا بهذا الحديث وأترك له التصرف. هذه هي وظيفتي كممثل للعدالة.
وكان الفجر قد طلع، فقام وجدان من جوار ميرفت التي لم تعرف شيئا عن الدوامة التي ألقي إليها زوجها بهذا الرنين الذي أصدره التليفون قبل أن تتهيأ هي وزوجها للنوم. نامت هي وواجه وجدان الليل كله وحده.
صلى وجدان الفجر. واتخذ سمته إلى مكتب رئيس النيابة.
الفصل الرابع عشر
صنع متولي ما صنع وأدرك أنه لا بد أن يترك القاهرة بضعة أيام على الأقل. فقد كان على يقين أنه أثار على نفسه ثائرة النيابة العامة والأمن كما أودى بصفوت في داهية. وواجه صفوت النيابة بجراءة يحتاجها الشرفاء فلا يجدونها. لا شيء عندي أخاف عليه، إذا ضاع المال أستطيع أن أعيده في أقل من سنة. والحمد لله لا شرف ولا مجد ولا شيء أخشاه. البنت الوحيدة عندها ما يكفيها وزيادة، وإن أخذوا مالها يكفيها هي وزوجها وابنهما صفوت الشقة ونصف المليون التي أودعتها باسمه. وهذا اسمه صفوت ياسر أبو الفضل، فلا شأن له بالمعلاوي ولا شأن لي به. وزوجتي عندها ما يكفيها، فإن أخذوا ما أعطيته لها فيكفيها مال أبيها.
فأي شيء يمكن أن يهز مني شعرة؟!
جلس في التحقيق، وعرف التهمة، وبعد أسئلة وأجوبة قال وكيل النيابة المحقق: أنت متهم بالتهرب من ضرائب تقدر بنصف مليون وخمسة وستين ألفا من الجنيهات؟
وأجاب في هدوء ثابت وكأنه يتحدث عن ملاليم: أنا أعمل في مبالغ كبيرة، وهذه أخطاء حسابية يمكن مراجعتها، وأنا مستعد أن أقدم أوراقي مع المحاسب إلى النيابة، وفي نفس الوقت أنا مستعد لأن أدفع المبلغ موضوع الخلاف جميعه للضرائب، فإن ثبتت التهمة فهو لها، وإن لم تثبت يخصم المبلغ مما قد يستحق للضرائب بعد ذلك.
وجد وكيل النيابة نفسه أمام حجة لا مناقشة لها وسأله: متى تدفع المبلغ؟ - الآن. - هل هو معك؟ - في بيتي. - تذهب في الحراسة وتأتي به؟ - فورا.
وأفرج عن صفوت وعاد في اليوم التالي إلى مكتبه، وبعد الظهر كان يقيم الحفل لصفوت الحفيد. أدرك أن متولي وراء كل هذا، فقال لياسر في الحفل: حين ينتهي الحفل ابق، أنا أريدك. - أمرك.
وخلت بهما الغرفة. - أتعرف من وراء هذا جميعه؟ - أنا لم أر متولي في مكانه اليوم بالمكتب حين زرتك، ولم يأت إلى الحفل. - لا يخشى عليك. هو متولي أصله في هذه الأيام محتاج لمبلغ كبير وكان يخشى أن يطلبه مني لضخامته. - كم؟ - حوالي مائة ألف. - كم؟! - يريد أن يزوج ابنه حسان ويفتح له صيدلية يعمل بها هو وزوجته التي تزوجها من الكلية. - وهل كنت ستعطي له هذا المبلغ لو طلبه؟! - طبعا المال كله مستحيل، ولكنني كنت سأعاونه بمبلغ وأشتري له الشقة بسلفة من البنك بضمان الشقة وضمانتي. - ولماذا لم تقل له هذا قبل أن يتصرف هذا التصرف؟ - أولا: أنا أردت أن أعرف كيف سيتصرف، فمثلي إن لم يكن واثقا من الذين يعملون معه يتعرض لخطورة فظيعة. وثانيا: المبلغ الذي دفعته اليوم للضرائب كنت أنوي أن أدفعه؛ لأن المحاسب الذي يعمل معي لم يكن مطمئنا للمستندات المقدمة في هذه العملية، وقلت له: سيكون المبلغ جاهزا وفي اللحظة التي ستخطرني فيها أن أدفعه سأدفعه. وهكذا ترى أنني لم أخسر شيئا. المبلغ حق الضرائب فعلا، ولم أكن أستطيع أن أخفي أمره. كسبت أنني عرفت متولي. - وماذا أنت صانع به؟ - لي وسائل كثيرة. إن حماك لا تتوقف صلاته برجال الأعمال. بل إن له صلات قوية بجماعات أخرى تقوم حياتها على وسائل لا تتصورها. - بالطبع الأسرار التي عند متولي. - تودي في ستين داهية. يعرف أموالي في الخارج ويعرف كل العمليات الأخرى التي لم أدفع ضرائبها. - فلماذا لا تحاول أن ترضيه؟ - وهذا ما أردتك له. يا أخي ما الذي يعجبك في المدعوق البنك الذي تعمل به؟ أنا تارك سوسن هناك لتلعب وتشغل نفسها. إنما أنت لماذا لا تتركه وتعمل معي؟ - ولماذا لا أعمل معك دون أن أتركه؟ أنت تأتي إلى المكتب في الصباح وأنا آتي بعد الظهر. وتكون أسرارك في يدي أنا يعني في يدك أنت، ولا يتحكم فينا كلب مثل متولي هذا. - أنا في عرضك. - توكل على الله. - والآن كيف ستعثر على متولي؟ - في بيته. - وهل تتصور أن يكون في بيته؟ - أين إذن؟ - تأخذ حسنين السائق وسيقودك إلى بيته في السنبلاوين. قطعا هو مختبئ هناك. - متى؟ - الآن. - الآن يظن أننا خائفون، وأنك مقبوض عليك. ألا ترى أن نؤجل الأمر للصباح؟ - الآن أفضل، فهو سيعرف أنه تم الإفراج عني قطعا. فلا شك أن له أعوانا في المكتب أبلغوه. وقد يترك السنبلاوين في الفجر إن لم يكن تركها الليلة. - وأين تظنه ذهب؟ - إلى بيته بالإسكندرية وحسنين يعرفه. - وماذا تريد أن تقول له؟ - ما رأيك أنت؟ - نقول له كل طلباته مجابة. - أولا: هو لن يصدق، ثانيا: لن يكتفي. - إذن فماذا نقول له؟ - قل له ... •••
وجده في السنبلاوين واختلى به: لماذا لم تقل لصفوت بك ما تريده؟ - أبعد هذا العمر كله أتصور أن صفوت بك أطلب منه مبلغا كهذا يعطيه لي في هات وخد؟ - وهل ما تفعله أنت يصح بعد العمر الذي تتكلم عنه؟ - هو يعرف كل شيء عن الموقف الذي أنا فيه. لماذا لم يفتح معي الموضوع؟ إنه أراد أن يذلني ويمرغني تحت رجليه. - لعله اعتقد أن عندك الوسائل لمواجهة هذا الموقف. - إنه يعرف كم كوبا من الماء أشربه في اليوم، فكيف لا يعرف أنه ليس أمامي أي وسيلة؟! لن أنسى له موقفه هذا أبدا. - وتكون النتيجة أن تخون العمر. - لا خيانة ولا يحزنون. المسألة أنني قدمت له عمري، فلا أقل من أن يقف إلى جانبي لأقيم حياة ابني، ولا ينتهز الفرصة ليعتصر كرامتي أمام ابني الشخص الوحيد الذي أريد أن أظل أمامه ذا كرامة. - وإذا وافق؟ - إذن فيا دار ما دخلك شر. - هو موافق. - نعم ولكن هناك شروط. - ما هي؟ - أنا أعرف صلات صفوت بك بالمجرمين والقتلة، أوافق أنا من هنا وآخذ المبلغ ويقتلني حتى يستولي على الأوراق الأخرى التي عندي. - ماذا تقول؟ - ما سمعت يا ياسر بك. ولهذا أنا أبلغك أنني أمنت نفسي. - أمنت نفسك! - ألم يقل لك أخوك وجدان بك إني كلمته؟ - وجدان! وما دخل وجدان في هذا؟ - أنا تظاهرت أنني أريده أن يتدخل في الموضوع ويكلمك، وأنا أعرف أنه رجل شريف وأنه لن يصنع شيئا من هذا، ولكني أردت من هذا الرجل الشريف أن يكون على علم بكل شيء، حتى إذا حدث لي حادث وضربتني سيارة أو وقعت من فوق عمارة يكون وجدان بك أبو الفضل وكيل النيابة على علم بكل شيء، وهو في هذه الحالة لن يهمه إلا الحق، ولن يفكر لا في نسب ولا في خلافه. بل أنا متأكد الآن أنه أبلغ الأمر للنيابة. - يا نهارك أسود. - لا تغضب هكذا يا ياسر بك، أنت لا تعرف ماذا صنع نسيبك في حياته لكي يكون هذه الثروة. ضرب السيارات والرمي من أعلى العمارات أشياء ليست جديدة عليه. - هل أنت جاد؟ - وهناك أشياء أخرى سأقولها لك في وقتها. - متى وقتها؟ - أنا أعرفه. أنا صاحي جدا يا ياسر بك. اطمئن لي تكسب. تكسب مني أكثر مما تكسب من نسيبك. - ما هذا الكلام يا متولي؟ - اسمع كلامي. المهم، نتكلم في الشروط. - قل. - عقد عمل بيني وبينه بنفس المرتب لا يزيد إلا مائة جنيه في الشهر. - بسيطة. - تقول له كل ما قلته لك وتزيد عليه أن المستندات عنده في المكتب. إنما صورها عندي. - طبعا. - تخبره أنني أبلغت وجدان بك. وإذا وصل إلي المبلغ غدا فسأكلم وجدان بك وأكذب نفسي في كل ما قلته. وأريدك أنت أن تكون الواسطة بيني وبين صفوت حتى تنتهي هذه الحكاية. - هل ستبقى هنا؟ - لا، تجدني بكره في بيتي بعد الظهر.
صفوت الذي لم يهتز ولم تنخلع له إصبع وهو يدفع للضرائب نصف مليون وخمسة وستين ألفا من الجنيهات انقلب أمام ياسر إلى وحش كاسر حبيس في الحديد. - يريد أن يذلني الولد متولي. ولا مليم، والله العظيم ثلاثة ولا مليم.
وتركه ياسر ليهدأ وراح يحدثه عن أشياء بعيدة كل البعد عما هما فيه، وصفوت مدرك ما يحاول ياسر أن يقوم به من تهدئته حتى إذا رأى أن الوقت أصبح مناسبا ضحك في وجه ياسر وهو يقول: أصدقت ثورتي؟
وفزع ياسر منتفضا عن الكرسي وهو يصيح: ماذا؟ - هذا شغل. - شغل. - يا بني الذي يثور لا يكون الثروة التي كونتها. تعلم أن هذه الثورات نصنعها عندما يحتاج إليها العمل. إنما نحن في داخلنا لا نثور أبدا. وإذا حاولت نفوسنا الثورة زجرناها في عنف، فلا تظهر ثورتها وتستكين رغم أنفها. - وما لزومها وليس في الغرفة إلا أنا وأنت؟! - هكذا أريد أن تنقلها إلى متولي. - ولكن ألا تخاف من متولي؟ - بل أنا مرعوب منه، ولكنه إذا عرف هذا رحت أنا في أكبر مصيبة. - وماذا تريد أن يعرف؟ - أنني ثائر ورافض، وأنك تحاول أن تهدئني. وتقدم له اليوم جزءا من المبلغ، وبعد أسبوعين أو شهر نعطيه جزءا آخر بحيث يعرف أنه هو المحتاج إلينا ولسنا نحن المحتاجين إليه . ولا تذهب إليه فورا بل انتظر بضعة أيام. •••
وقال متولي: عشرون ألفا! ماذا أصنع بها؟! الثورة هذه أنا أعرفها جيدا يا ياسر بك.
اسمع يا بني يا ياسر، قل له كلمتين:
أولا:
أنا أعرف كيف أجعله يثور ثورة حقيقية ويصبح بين الناس مثل الكلب الأجرب.
ثانيا:
لا يظن أنني إذا لم أحصل على النقود منه بالرضا سأعجز عن الحصول عليها بالحكومة، فالنسبة المئوية التي سأحصل عليها من التبليغ عن تهربه من الضرائب وتهريبه للأموال أكبر بكثير من المائة ألف جنيه.
وحينئذ ثار ياسر ثورة حقيقية. - ما هذا يا رجل؟! لماذا أنت بهذه السفالة؟ الرجل يريد أن يساعدك.
ويقاطعه متولي: سفالة، سفالة يا ياسر، لقد اشتراك بضاعة وتدافع عنه. - فشرت. - بل فشرت أنت. أنت لا تعرف ما يجري وراءك. - ماذا يجري؟!
صمت متولي وكأنما أفاق إلى حقيقة لم يكن ذاكرها وقال له: أنا آسف يا ياسر بك يا بني، أنا آسف، أنا في دوامة هذه الأيام فلا تؤاخذني. - ماذا يجري ورائي؟
فكر متولي كثيرا يبحث عن شيء يقوله، فقد قال كلمة إذا لم يشرحها لن يمكنه من بعد أن يصل بحديث إلى ياسر أبدا. طال صمته ثم قال في لمحة من خاطر: ألم يعرض عليك صفوت أن تعمل معه؟
وبهت ياسر، فقد كان الحديث بينه وبين صفوت ولم يكن أحد حاضرا. فكيف عرف؟! لعل الموظفين أخبروه أن ياسر يذهب إلى المكتب يوميا، ولكن هذا لم يستمر إلا بضعة أيام قليلة، وهو لم يباشر أي عمل. ولم يدرك ياسر أن متولي استنتج وحده أن يعرض صفوت على زوج ابنته أن يعمل معه، وقال في نفسه ألقي بها ولعلها تصيب فأصابت، وسترت عليه ما أراد أن يخفيه عن ياسر الآن، وما لعله يخبره به بعد ذلك إذا احتاج الأمر. وقال ياسر: من أخبرك؟ - لست أنت المقصود بالعمل. إنه يريدك أن تعمل؛ لأن أخاك وكيل نيابة، ولأن أباك مستشار سابق، وكل الذين يعملون في القضاء يعرفونه ويراعون خاطره.
وصمت ياسر قليلا. ثم قال: المهم ، اقبل هذا المبلغ الآن.
وأطرق متولي. وقد أدرك أن صفوت يريد أن يؤمن نفسه ويريد فسحة من الوقت ليقتله. وكان متولي أيضا في حاجة إلى هذه الفسحة من الوقت لينفذ تدبيره الذي أحكمه. وقال متولي: وما له، أقبله. - وتقوم معي إلى صفوت بك. - وأقوم معك إلى صفوت بك.
ورأى ياسر عجبا.
صفوت يلقف متولي ويحتضنه وهو يصيح به ضاحكا في فرح: وهل تستغني عني عمرك يا ابن الكلب؟
ويقهقه متولي وهو يحتضن صفوت: خدامك طول عمري. وهل أستغني عن تراب رجليك؟
ثم رأى ياسر ما هو أعجب. دمعات من عين صفوت صافحتها دمعات من عين متولي. كم هو ضئيل شأن الممثلين على خشبات المسارح وفي السينما والتليفزيون بجانب هؤلاء الممثلين على مسرح المال.
الفصل الخامس عشر
حين تفاوض رئيس النيابة ووجدان الرأي فيما رواه له وجدان عن مكالمة متولي، انتهى الرأي بينهما أنهما لا يملكان إزاءها إلا الصمت بعد إبلاغ الأمن العام، ليكون متولي تحت المراقبة، وقد أبلغ رئيس النيابة الجهات المختصة وانتهى الأمر في النيابة عند ذلك.
ولم تكن مفاجأة لوجدان أن يزوره ياسر في البيت بعد يومين من مكالمة متولي لوجدان. وحاول ياسر أن يفتح الحديث، فكان رد وجدان حاسما ومريرا. - أرجوك أبعدني عن هذا المستنقع الذي يسبح فيه حموك وموظفوه. ويكفيني خجلي أمام كل من يعرف صلتي به. - هل الخلاف مع الضرائب يدعو إلى هذا الكلام الجارح؟ - أنت تعرف ما يدعو إلى هذا الكلام الذي يعبر بعض التعبير عما أنا فيه. وربما يكفيك أن تعلم أنني فكرت في الاستقالة. وأنا متمسك بالنيابة لأنها المرفأ الوحيد لي من حياة مثل حياتك وحياة جيلي. فلا مرفأ لي من هذه الحياة إلا بأن أحاكم الحياة. - أنت تبالغ. - أنا شخص لا أريد شيئا إلا أن يكون اسمي واسم أسرتي سليما من كل ما يشين. وكنت أعتقد أن هذا مطلب يسير على الحياة أن تحققه لي ما دمت أنا لا أرتكب إثما وما دام أبي خرج على المعاش شريفا. وما دمت أنت حتى قبل زواجك في حالة مالية تستطيع أن تفي بحاجاتك المشروعة مع البحبوحة في العيش وبالطبع دون كباريهات. ولكن الحياة ترفض أن أنال هذا المطلب. وتصر على أن أتعرض لأشياء لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أتعرض لها. - ما كل هذا يا وجدان؟ أمن أجل مكالمة تليفونية كان يمكن أن تأتيك من أي إنسان تغضب كل هذا الغضب؟! - إذا جاءتني من أي إنسان ما اهتممت لحظة؛ فوظيفتي هي أن أتلقى البلاغات، أما أن يلجأ إلي موظف عند حميك ليطلب مني أن أشاركه في جريمة ابتزاز فهذا هو ما يحزنني، وأكرر لك أن هذا هو ما جعلني أفكر في الاستقالة. وأعرف بعد ذلك أن متولي كلمني ليحمي نفسه من القتل. فحموك إذن قاتل أيضا. - وما ذنب نسيبي إن متولي كلمك؟ - إنها ليست جريمة واحدة التي رواها متولي لي دون أن يشعر. إنها سلسلة جرائم، حياة أخرى غير الحياة التي أتصور أن يعيشها أخي. عالم أعرفه كوكيل نيابة ولا أتصور أنني عضو في أسرته. ياسر، اعمل معروف في ولنبتعد عن هذا الحديث. أصبح الكلام الآن لا داعي له، فقد أصبحت أبا لطفل من هذه الأسرة والحديث الآن لن يفيد شيئا إلا أن يزيدني ألما ويجعلني أقول لك عن حميك ما أعتقد أنه شديد عليك. وهو الآن جد ابنك. - على كل حال نحن سوينا الموضوع. - لا أعتقد أنكم سويتم شيئا. - فعلا والله، الأمر انتهى. - هيهات! إن ما سمعته في التليفون يجعلني واثقا أن هذا الأمر لن ينتهي إلا بمصيبة كبرى. - يا راجل لا قدر الله. - أرجو ألا يقدر الله. ولكنني واثق أنه قدر فعلا وستريك الأيام أنني على حق. •••
مر شهران ولم يفكر صفوت أن يدفع شيئا لمتولي غير المبلغ الذي أعطاه له عن طريق ياسر. وأدرك متولي أنه يريد أن يطلب منه. ويريد أن يجعل منه كلبا يبصبص بذيله للمأكل في يد صفوت. وحسان لا يسكت على متولي، واليوم الذي يمر يوما على الناس يمر عاما على متولي.
دخل متولي إلى مكتب ياسر في الشركة: ماذا جرى يا ياسر بك؟ - نعم، فيم؟ - أنت الآخر نسيت فيم؟ ألم تقل لي أسبوعين أو شهرا على الأكثر. - آه صحيح. - وأنت ماذا يهمك؟ لو كنت في الجحيم الذي أنا فيه أمام ابني وأمه. - أيلح عليك حسان؟ - حسان يلح بالصمت، وأمه تلح بالشتم. - أنا آسف يا عم متولي، الحق علي أنا. - يا ياسر يا بني المبلغ الذي يبدو كبيرا بالنسبة لصفوت أقل من ملاليم. - أعرف. - إذن فالمسألة إذلال؟ - يا رجل لا تقل هذا. - هي إذلال، وأنا أعرف. - تعرف. - نعم أعرف أنه يريد أن يذلني، وأنا قابل؛ لأنني أرى أن الطريق معه هو أقرب الطرق من ناحية الوقت. ولكن عند اللزوم ملعون أبو حسان وأم حسان، وأنا أعرف كيف أحصل على أضعاف هذا المبلغ. - غدا صباحا يكون الأمر انتهى وأحضرت لك ما تريد. •••
قال ياسر لصفوت: لماذا لا تعطيه المبلغ كله وتخلص؟ - وبماذا أمسكه بعد ذلك؟ - بمرتبه، بحاجته إليك، إنه سينفق المبلغ فورا وسيصبح في حاجة إلى مرتبه منك ليعيش. - يتهيأ لك، هذا ابن كلب. سيبقي من المبلغ شيئا ويسوق العوج ويعود إلى التهديد. - يا عمي صفوت، ما دام الرجل ابن كلب كما تقول ألا نحايله أحسن؟! - هذا لو كنت عبيطا مثلك. هذه الأصناف أنا تربيت فيها وأعرفها كما أعرف نفسي. اتركني أعامله المعاملة التي تضمن لي أن يظل محتاجا إلي. - ماذا تعني؟ - أعني خذ هذا المبلغ وأعطه له.
وفتح الخزنة وأعطى ياسر مبلغا نظر فيه ياسر وقال لصفوت مذهولا: ما هذا؟ خمسة آلاف جنيه؟ - نعم. - وهل هذا معقول؟ رجل يطلب منك ثمانين ألف جنيه تعطيه خمسة! طيب اجعلها عشرين مثل أول مرة. - اسمع كلامي أنت. خمسة وسيرجوك هو أن أزيدها إلى عشرة وأنت تقول إنك ستحاول معي وستحلفني بصفوت الصغير أعطيك خمسة أخرى وهكذا. - يا عمي، الرجل أنت لا تعرف حالته. الشر في عينيه ويقول إنك تريد أن تذله. - إذن فهو يعرف. - يا عمي صفوت، أنا طبعا لست في خبرتك ولا في عشرها، ولكن الذي أراه من متولي مخيف. - هذا لأنك جديد في الصنعة. - الإنسان لا يحتاج أن يكون جديدا في صنعة أو قديما فيها ليعرف الشر في عيون الناس. - افعل ما أقوله لك وسترى أن عمك على حق. - أمرك. •••
أمسك متولي المبلغ ونظر إلى ياسر: ما هذا؟! - لا عليك. الخزنة ساعة ما كلمته لم يكن فيها إلا هذا المبلغ. - نعم؟! - كذا والله. - اسمع يا ياسر بك إذا كنت تريد أن تصبح في غنى صفوت فلا تأخذ عنه الصنعة. - ماذا تقول؟ - أنت تزوجت ابنته من أجل المال طبعا. هل كنت عمرك رأيتها إلا شهرا وبضعة أيام في البنك؟ - هل جننت يا رجل، وأنا ما ذنبي حتى تتطاول علي؟ - لأنك لا ذنب لك أقول لك ما أقوله الآن. - أنت من عائلة كلها ناس أشراف، أخوك لم يخبرك وبلغ النيابة، أنا عارف لأنني الآن تحت الرقابة وهذا ما أردته من إبلاغ أخيك. وأبوك خرج على المعاش ولم يكون ثروة، فأنت من عائلة كلها أشراف وأنا مشفق عليك. - أنا ما دخلي في غضبك؟ - اسمع الكلام لآخره. - أهناك كلام آخر؟ - أنا لم أقل شيئا. - أنا لا أريد أن أسمع شيئا. سلام عليكم.
وخرج ياسر مغضبا ولم يسمع شيئا. مع أنه كان سيسمع عجبا.
الفصل السادس عشر
مخلوق عجيب هذا الإنسان، لا يعرف أبدا ماذا يريد. وكلما وهبت له الحياة من نعم نظر إلى ما لا ينبغي له أن ينظر إليه. وهكذا تسقط الحضارات. فحين تبلغ دولة القمة في مجدها تنظر إلى ما لا تطيق فتنفجر من داخلها وتزول حضارتها ويسقط مجدها وتحل مكانها حضارة أخرى.
والدول كل الدول هي مجموعة من الأناس، والإنسان هو العامل الأساسي فيها. وهو هو الذي يرتفع بمجد دولته حتى يبلغ بها أعلى عليين، وهو هو الذي يمزقها فينخفض بها إلى أسفل سافلين.
وسبحان بارئ النفوس العالم بأسرارها يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
فهو سبحانه يعلم أن الإنسان لا يرضى، ولهذا وعد نبيه والمتقين بالرضا لا بالعطاء. والرضى أقصى ما يطلبه الإنسان عند نفسه، وغاية ما يتمناه مخلوق من الخالق، فقد يكون الإنسان ذا ثروة لا تحصى. فإذا نسج الرضا ثيابه على نفس إنسان جعل منه أغنى الناس طرا وإن كان لا يملك قوت يومه.
فالحياة حين تعطي فتغدق وتمنع الرضا فإنها تكون قد حرمت من أعطته وأغدقت كل شيء. إنه لا يملك شيئا. إنه فقير معدم، وهو وماله ومجده هباءة.
وإن أعطت السطوة والشهرة والجبروت وحجبت الرضا فالطاغية الجبار المتكبر المتغطرس ذو السطوة قطعة حقيرة من الهمل لا يساوي شيئا، وهو نفسه الذي يحقر نفسه. وإن نفسه هي التي تدمر له نفسه.
هكذا الإنسان، وهكذا حطم الإنسان الدول.
وهكذا سوسن بنت صفوت المعلاوي. عندها المال لا تعرف ماذا تصنع به، ووهب الله لها وجها ليس فيه عوج ولا قبح، وتزوجت من فتى جميل الطلعة متعلم. وهي وحيدة أبيها. وهي لا تعلم شيئا عن علاقات زوجها بالراقصات أو الكباريهات، وهي لا ترى منه إلا حبا. هي عندها كل شيء إلا الرضا.
هو لم يعرفني إلا من البنك، ولم تمر على معرفتنا إلا أسابيع لم تكتمل شهورا، فما الذي جعله يطلب مني أن ألقاه؟! طبعا أعرف أنا ابنة من؟ لا، لا أظن أنه أحب جمالي. إن مثله يستطيع أن يعرف من هي أجمل مني. يقولون إن للجمال مقاييس تختلف من رجل إلى رجل. ولا بد أن الأمر كذلك، وإلا ما تزوجت الكثرة الكاثرة من البنات. نراهن قبيحات غاية القبح ويراهن أزواجهن جميلات غاية الجمال. أما هو فأعتقد أنه تزوجني لمالي. لا بأس في هذا، نعم، فمال أبي جزء من مقومات شخصيتي. ولكنني أحب أن يحبني الرجل لنفسي، لي أنا، ليس لمال أبي ولا لسيارتي ولا لأي شيء إلا أنا، فأنا أستحق أن يحبني الرجل من أجلي أنا.
مثلا باهر حمدي في النادي يغازلني، أنا أرده، من الطبيعي أن أرده في أول الأمر. تعلم الإسكواش خصوصا ليلعب معي. وما البأس؟ باهر حمدي ليس فقيرا. وإن كان فهو يعلم أنه لن يتزوجني، فهو يغازلني بعد أن تزوجت. ولا يمكن أن يفكر في الزواج مني وأنا زوجة جديدة. وطبعا هو لا يطمع أن ينال مني مالا، بل إنني منذ لعبت معه الإسكواش أصبح يقدم لي الهدايا، هدايا بسيطة ولكنها معبرة؛ زجاجة برفان، إيشارب. فيها تعبير، فيها حب، حب لي أنا.
لم أرد الهدايا، وأصبحت أقبل غزله، وتمادى. •••
حين نقل ياسر الحديث إلى صفوت: أتظل طول عمرك عبيطا؟ - لماذا؟ - لماذا لم تسمع له؟ - ماذا أسمع؟ - إنه يريد أن يعرض عليك صفقة ويجعلك تعتمد على نفسك حتى تقف معه ضدي. - وما حاجته إلى ذلك؟ - حتى لا تجعلني أذله. - لم تعجبني طريقة الكلام. - أتريد أن يسمعك غناء؟ - وماذا ترى؟ - لا شيء، اسكت الآن. إذا كان مصرا فهو الذي سيسعى إليك.
في المكتب وياسر جالس في الحجرة التي خصصت له، والتي جرى فيها حديثه الأخير مع متولي، سمع ياسر طرقا على الباب، ولم ينتظر الطارق، بل دخل ولم يسمح لياسر أن يقول شيئا وإنما قال وهو يقفل الباب بالمفتاح: لا تقل شيئا حتى تسمع. - كلامك جارح. - هكذا الحقيقة دائما. وما سأقوله أشد إيلاما. هل أنت رجل تحتمل أم أنصرف؟ - أحتمل ماذا؟ - زوجتك تخونك.
واندلع ياسر قافزا على الكرسي: ألهذا الحد؟!
وجلس متولي وقال في هدوء: اجلس واسمع. - أنا لا أقبل. - تقبل ماذا؟ وهل تراني أقدم لك وجهة نظر؟! أنا أقدم لك حقيقة، والحقيقة حقيقة، سواء قبلتها أم لم تقبلها. - ألأنك غاضب من ...؟
ويقاطعه متولي: إذا كان ما أقوله لمجرد الغضب أكون أهبل. أنا أقول لك حقيقة وأريد لك الخير مع ذلك، وإذا استمعت إلي فستعرف إن كنت معك أم عليك. - وماذا يمكن أن أسمع؟ ليس أمامي إلا الطلاق. - هكذا، بهذه السرعة؟ - لا طبعا، بمجرد أن أتأكد. - وكيف تريد أن تتأكد؟ - هذا بيدك أنت. - طيب اسمع الكلام المفيد، هي تخونك مع ولد اسمه باهر حمدي، تلعب معه في النادي. وشقته أمام النادي مباشرة. قبل اللعب يخرجان معا ويذهبان إلى شقته التي يعيش فيها وحده، ثم يعودان إلى اللعب. والذي رأى هذا لم يسكت وإنما حكى للنادي، والكل يعرفون ويتندرون بك. - أولاد الكلب! - وما لهم هم حتى تشتمهم؟ - إذن أراقبها؟ - وحدك؟ - بالطبع، هذا أمر لا أتصور أن يعرفه أحد. - فإذا تأكدت؟ - أطلقها. - وتضيع عليك الشقة وشهادات استثمار بنصف مليون جنيه. - وماذا تريدني أن أصنع؟! - لما جئت لي في السنبلاوين كنت سأقول لك، ولكنني تذكرت أن سوسن نفساء وأنت لا تستطيع أن تتأكد إلا بعد أن تزول مدة النفاس. وقد بدأت المقابلات فعلا ويمكنك أن تفعل الآن ما يحفظ لك المال والشقة. - كيف؟ - ألا تعرف ضابط شرطة صديقك؟ - أعرف طبعا. - تخبره. •••
حين قالت سوسن لوالدتها إنها ذاهبة إلى النادي بعد الظهر لتلعب إسكواش كان ياسر بجانب التليفون بعيدا عن الجميع. طلب رقما وقال جملة واحدة: أنا ياسر، اليوم الساعة الخامسة. •••
وضبط الزوج زوجته في حالة تلبس بمعاونة الشرطة وحرر المحضر.
وقال ياسر لأمه: هذا ابني صفوت، أنت التي تربينه لا أمه؟ - وهل عرفت كيف أربي أباه حتى أربيه؟! النهاية، الولد ما ذنبه؟ هذا قدرنا نحن، هات الولد. •••
وقال وجدان لياسر: أما كان الأولى أن تطلق دون هذه الفضيحة التي سيواجهها ابنك حين يكبر؟ - وأترك هذه الأم تربيه؟! - لا يا ياسر، أنت طمعت في مال الولد وفي الشقة. - أنا. - لا عليك، لقد عملتها وما كان كان. •••
قال وجدان لأبيه: قدمت استقالتي اليوم. - أعرف أنك كنت ستفعل هذا. مسكين أنت يا بني، تعيش في زمن لا يحتملك. - أنا كنت أريد فقط أن أظل نظيفا. أنا لا أدعي المثل العليا، ولا أحاول أن أغير شيئا مما حولي. كل ما كنت أطمح إليه أن أسير طريقي أنا نظيفا، ولكن الطريق مليء بالأصداف القاطعة كحد الموس، وأنا حافي القدمين، لأني لا أحاول أن أخدع الناس بغير حقيقتي. - اسمع يا وجدان، حين يبلغ الشر أقصاه اطمئن! - وكيف؟ - لا بد أن ينحسر. شهور وربما عام أو عامان وتنحسر هذه الموجة وتعود إلى مكانك في النيابة. - أتظن أن حزني من أجل النيابة وحدها؟ حزني من أجل أخي وجيل أخي الذي هو جيلي. - أعرف؛ ولهذا أبشرك أن هذه الموجة لا بد أن تنحسر، فكما أن للخير موجات للشر موجات ثم تنحسر. الحياة لا تستطيع أن تسير في هذا المستوى إلا لفترة ثم تبدل هي نفسها بنفسها. والناس هم الحياة، والناس هم الذين سيجدون أنفسهم سائرين على نفس الأصداف القاطعة التي سرت عليها، وسيعرفون أنهم حفاة وأن أحذيتهم خداع، حين يجدون أقدامهم كلها ممزقة كنفوسهم سترى. هم تمزقت نفوسهم وأنت لم تتمزق منك سوى الأقدام. وسرعان ما تزول جراحك. - أبي، أتعرف؟ - أعرف أنك واحد من جيلك، وما دام فيه مثلك فلا تخش عليه. - أحس أن ما تقوله هو الحقيقة. أبي، أتعرف؟ - ماذا؟ - إني أرجو الله ألا يطول انتظاري. ولكنني واثق ثقتي بالله وبك، أنك على حق، وأني سأعود لأعمل وكيلا للنائب العام.
Unknown page