240

Lughz Cishtar

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

Genres

وفي الحقيقة، فإن معتقد التجسد في جوهره الرمزي يتجاوز في غاياته الكبرى مفهوم اللاهوت الرسمي، الذي ينظر بالدرجة الأولى إلى حادثة التجسد باعتبارها واقعة تاريخية زمنية حصلت ليسوع المسيح وحده، جاعلا منها ماضيا ميتا لا آنا حيا متجددا؛ ذلك أن التجسد لا يقدم للبشرية، على مستوى الرمز، حقيقة تاريخية، بل حقيقة زمنية ماثلة أبدا هنا والآن، إنه وحدة الإلهي والإنساني؛ فالإله الابن عندما تجسد في هيئة بشرية، قد امتزجت خصائصه الإلهية بخصائصه البشرية فرفع البشر إلى مستوى الألوهة، وهبط بالألوهة إلى مستوى البشر. وهو بحلوله في جسد بشري واحد هو جسد يسوع، قد حل في كل الأجساد البشرية مرة واحدة وإلى الأبد، فمن أدرك سر هذا المعنى أدرك سر الخلاص الذي قدمه يسوع.

خمر جديد في زقاق قديمة

في قول للسيد المسيح من إنجيل لوقا نقرأ: «ليس أحد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة؛ لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فهي تهرق والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرا جديدا في زقاق جديدة فتحفظ جميعا.»

32

والزقاق جمع زق، وهو قربة جلدية كبيرة تحفظ فيها السوائل. والخمر الجديد هنا هو تعاليم يسوع، أما الزقاق القديمة فهي تعاليم التوراة. والمقصود هنا هو أن ما جاء به يسوع ليس صيغة جديدة عن التعاليم التوراتية، ولا يمكن فهمه من خلالها. ولكن المسيحية في تطورها اللاحق قد وضعت في صيغ قديمة فعلا، كانت معروفة في عبادات الأسرار ومعتقدات الخلاص السائدة في ذلك الوقت، وهذه المعتقدات هي التي هيأت المسرح لمشهد انتصار معتقد يسوع المخلص، الذي جاء تتويجا لها، وخاتمة لذلك المخاض الديني الروحي الطويل. يقول كليمنت الإسكندري، وهو أحد الدعاة الأوائل: «تعال إلي لأريك أسرار اللوغوس، وأشرحها لك من خلال صور مألوفة ومعروفة عندك.»

33

ولعل هذا القول يقدم لنا مفتاحا ذهبيا لفهم معادلة الخمر الجديد والزقاق القديمة في تكوين المسيحية الناشئة.

تطرح دورة حياة يسوع المخلص، في خطوطها العامة، تشابها واضحا مع دورة حياة الآلهة الأبناء المخلصين. ورغم أن موت يسوع وبعثه لا يتخذ طابعا دوريا سنويا، كما هو شأن آلهة الخصب، فإن الاحتفال بتجسيده وميلاده وموته ثم بعثه عبر السنة الطقسية المسيحية، يجعل من دورة حياته سلسلة من الأحداث الحاضرة أبدا، المتكررة إلى يوم الدينونة؛ ذلك أن الاحتفال بهذه الأحداث ليس إحياء لذكرى وقائع ماضيات، بل هو عيش لوقائع تحدث الآن والساعة، والسيد المسيح في مولده وموته وبعثه، إنما يجمع إلى شخصه خصائص المخلص الشمسي والمخلص القمري في آن معا، فميلاده شمسي، أما بعثه فقمري.

لم يرد في الأناجيل الأربعة ما يشير إلى تاريخ مولد المخلص يسوع، ولم تحتفل به الكنيسة في مطلع عهدها. ولكن المسيحيين في مصر بدءوا يحتفلون بعيد الميلاد في يوم السادس من كانون الثاني (يناير)، وعنهم أخذت الكنائس الشرقية هذا التقليد. حتى إذا حل القرن الرابع الميلادي تبنت الكنيسة الغربية، التي لم تحتفل من قبل بعيد الميلاد، يوم الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) كتاريخ رسمي لميلاد السيد المسيح. وكان لهذا التاريخ في ذلك الوقت دلالات دينية في العالم اليوناني-الروماني، وفي الشرق الأدنى القديم على حد سواء. فيوم الخامس والعشرين من كانون الأول هو يوم الانقلاب الشتوي حسب التقويم الجولياني، فيه تصل الشمس آخر مدى لها في الميلان عن كبد السماء، ويبلغ النهار أقصره، ولذا فقد اعتبر يوم ميلاد للشمس ولآلهة الشمس؛ لأن اليوم الذي يليه هو يوم صعود الشمس من جديد نحو كبد السماء، واستطالة النهار على حساب الليل. فكان أتباع المخلص الشمسي «ميترا» يحتفلون بميلاد مخلصهم في ذلك التاريخ، وكذلك السوريون الذين تحول مخلصهم إلى إله شمسي في الفترات المتأخرة، وفي المناطق التي تأثرت بالثقافة الرومانية مثل بعلبك. ففي ليلة الخامس والعشرين من شهر كانون الأول، عند منتصف الليل، كانت صرخة الميلاد تنطلق من حجرات قدس الأقداس معلنة ميلاد المخلص: «ها هي العذراء تلد ابنا والنور ينتشر»،

34

Unknown page