216

Lughz Cishtar

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

Genres

ونحو الدار التي ستظهر نارها عباءتك، شد الرحال.

64

غير أن التجديد الحقيقي للقدرة الإلهية لا يتم إلا بالموت الفعلي الحقيقي الكامل الذي يليه البعث، حيث يزيل الموت ما بلي، ويعطي البعض كل جديد. ففي النظم الميثولوجية التي لا وجود فيها لمعتقد الموت السنوي لآلهة الطبيعة، نجد هناك معتقد الموت الدوري، حيث يموت الإله عند استكمال دورة زمنية تقدر بعدد من السنين، يختلف من ثقافة إلى أخرى؛ فآلهة الخصب هي أكثر الآلهة حاجة إلى تجديد قواها؛ لأن أي بادرة ضعف تنتابها، سيكون لها تأثير مباشر على توازن الطبيعة وحياة الكائنات. لذا كان على الإله أن يقدم نفسه للموت وهو في عز الشباب، فيجدد نفسه، ويبعث ثانية قبل أن تنال منه السنون. ولكن كيف يموت الإله، وكيف يتابع البشر دورة حياته ويساعدونه على إتمامها؟

في معتقد موت الإله السنوي، رأينا أن الروح الإلهية تحل مؤقتا في جسد القربان البشري وتموت من خلاله، أما في معتقد الموت الدوري، فإن الروح الإلهية تتجسد في كائن بشري حي مدة أطول من الزمن، وتحافظ على نشاطها وحيويتها ما دام هذا الكائن البشري متمتعا بالحياة النشطة الشابة. وغالبا ما يكون هذا الكائن شخصية ملكية مقدسة تعتبر ظلا حيا للقوة الإلهية الخفية، وممثلة له على الأرض. فإذا وصل منحى حياة الشاب أوجه، كان على ممثل الإله أن يموت قبل أن تضعف قواه ويتخاذل؛ لأن في ضعفه تخاذلا للقوة الإلهية التي تعبر عن نفسها من خلاله. وبموت ممثل الإله، يموت الإله أيضا، ليبعث من جديد في الخلف الفتي للملك المقتول، ويبدأ معه دورة حياة جديدة. ونستطيع العثور على مثل هذا الاعتقاد والطقس، لدى الكثير من الثقافات التي تعتبر الملك تجسيدا لألوهة الخصب ومركزا لنظام الطبيعة، يتوقف عليه هطول المطر وخصب الأرض وتكاثر الحيوان وتتابع الفصول.

فإلى عهد قريب، كان من عادة قبائل الشايلوك، التي تسكن ضفاف النيل الأزرق في أفريقيا، أن يقتلوا ملوكهم بعد فترة زمنية مقدارها سبع سنين من توليهم الحكم. وقد تختصر هذه الفترة، ويقتل الملك قبل أوانه، إذا أجدبت الأرض وساءت المواسم. وخلال حياته القصيرة، كان ملك الشايلوك يخضع في كل مناحي حياته إلى نظام حديدي مفروض من قبل الكهنة، مليء بمختلف أنواع القيود والتحريمات (التابو). فشخص الملك مقدس لا يمكن إلا للنبلاء رؤيته، والدخول عليه محرم حتى على أولاده. فإذا خرج في موكب رسمي، أحاط به سادة القوم من كل جهة وأخلي السبيل أمامه من المارة، وهرع الناس إلى بيوتهم فأغلقوا أبوابها ونوافذها حتى يبتعد الركب الملكي. وعندما يحل الموعد المحدد لموت الملك، كان الكاهن الكبير يدعو جميع النبلاء إلى احتفال سري، يتم خلالها قتل الملك ودفنه، وكانوا يدفنون إلى جانبه فتاة عذراء وهي حية. ويجب أن يتم هذا الطقس في إحدى الليالي المظلمة الواقعة بين غياب القمر القديم وظهور القمر الجديد، خلال فترة الجفاف السابقة لموسم الأمطار، وقبل أن تزرع البذور في الحقول. وبعد مرور عام كامل يتم تعيين الملك الجديد الشاب.

65

وفي مناطق أخرى من أفريقيا نعثر على معتقدات وطقوس مشابهة؛ ففي موزمبيق وأنغولا وروديسيا، كان الملك يعتبر تجسيدا للإله الأكبر، وكان يدعى بالقمر وزوجته تدعى بكوكب الزهرة. وكان الاثنان يقتلان في نهاية فترة محددة من حكم الملك على يد الكهنة، ويدفنان في قبر واحد على أحد المرتفعات.

66

وتقص حكاية شعبية من جنوب السودان عن عادة قتل الملوك التي كانت سائدة في تلك المناطق فتقول: إن مملكة كوردفان كانت من أغنى الممالك الأفريقية، وكان ملكها من أغنى ملوك الأرض؛ إلا أنه كان أتعس الملوك؛ لأن مدة حكمة وحياته كانت محددة بفترة زمنية، تتحكم فيها دورة فلكية لا يعرف أسرارها سوى الكهنة، الذي كانوا يتابعون تحركات النجوم في السماء لمعرفة الوقت الذي يتوجب فيه قتل الملك. فإذا حل موعد الموت أجبر الكهنة الملك على الموت، ومعه عدد من أفراد عائلته وبعض المقربين ممن اختارهم شخصيا لهذه المهمة عند صعوده إلى الحكم في بداية الدورة الفلكية. وقد سارت الأمور على هذا المنوال أجيالا طوالا، إلى أن اعتلى العرش فتى في ريعان الصبا اسمه «أقف»، وتم اختيار مرافقيه في رحلة الموت وعلى رأسهم مملوك اسمه «فارليماس»، وأخت الملك الشابة واسمها «سالي» التي تم تعيينها في منصب كاهنة النار المقدسة التي تبقى مشتعلة ما دام الملك حيا، حتى إذا جاء أجله الموعود، أطفئت النار وقتلت كاهنتها وأشعلت نار جديدة ترعاها كاهنة أخرى. وكان المملوك فارليماس معروفا برواية الحكايا الساحرة، فآنس إليه الملك وقربه، وأخذ يستمع إلى حكاياه في كل يوم، ومعه المقربون من أفراد حاشيته. فكان إذا ابتدأ فارليماس حكايته الجديدة، كان الملك وضيوفه يغفلون عن طعامهم وشرابهم، ويغفل الخدم عن خدمتهم، ويبقى الجميع مشدودين إلى فم فارليماس حتى آخر الليل وظهور تباشير الصباح، كأن في كلماته سحرا، أو أن فيها مخدرا قويا. إلى أن جاء يوم انتابت فيه الملك صحوة، فأحس أن كل يوم يمر إنما يقربه من أجله، فأخذ يفكر في طريقة يتفادى بها ما يعتقده الجميع قدرا محتوما. وكان مثله في ذلك فارليماس وسالي اللذين وقعا في حب بعضهما، وتاقا إلى اعتصار العمر حتى أيام الشيخوخة الأخيرة. وأخيرا اهتدت سالي إلى طريقة تصرف بها نظر الكهنة عن مراقبة النجوم ومتابعة الدورة الفلكية؛ إذ استطاعت إقناع كبير الكهنة ومعه بعض أتباعه، بالحضور إلى بلاط الملك للاستماع إلى حكايا فارليماس. فأتوا بعد أن أذن لهم الملك، يدفعهم الفضول في الليلة الأولى، وبدافع الشوق في الليلة الثانية، ثم تعودوا إتيان حلقة فارليماس في كل ليلة، يشدهم إليها نداء سحري لا يستطيعون عنه صدا. وفي إحدى الليالي، وبعد أن انتهت حكاية فارليماس، اكتشف الكهنة أن أحدا منهم لم يبق لمراقبة النجوم، وتأكدوا من أنهم قد فقدوا أثر الدورة الفلكية التي كادت تقارب نهايتها؛ فثارت ثائرتهم وقرروا قتل فارليماس، إلا أن الملك التمس له ليلة أخيرة يقص فيها آخر حكاياته، فكان له ما أراد. في تلك الليلة، هب الناس من كل حدب وصوب، إلى ساحة كبيرة نصب فيها عرش الملك وكرسي لفارليماس، الذي ابتدأ حكايته على مسمع من الناس جميعا. وعندما جاء الصباح وانتهت الحكاية، تنبه الناس من خدرهم فوجدوا أن الكهنة جميعا قد ماتوا، فعاش الملك حتى بلغ الشيخوخة، وأبطلت من بعده عادة قتل الملوك.

67

Unknown page