قال إنه جاء هذه المرة بحجة أن الأرض التي أقام فوقها عشته أرضه وأنه يعطيه مهلة إلى الغد لينتقل منها.
وطمأن خاطره قائلا: إنه لا بد نصاب، أو سلطه أحد أصحاب العشش الأخرى!
وهنا لا بد تدرك أن ثمة عششا أخرى وغرزا قد أقيمت بعد مجيء عم حسن، فهكذا دائما شأنه، ما أن يحل بالمكان المهجور ويبدأ في تقديم مشروباته إلى الغادين والرائحين على الطريق .. أصحاب الطريق كما كان يسميهم عم حسن، الذي قد تتصور أنهم قلة في حين أنك لا يمكن تتبين كثرتهم إلا إذا أقمت لهم مكانا للشرب والراحة .. مكانا يصبح ككشك المرور الذي تلمح قبله أثرا لعربات ولا تلمح بعده، وإنما عنده فقط وعند العشة تظهر العربات، ويظهر الناس ويتكشف عنهم الفراغ الذي كان يخفيهم، وعنده يلتقطون أنفاسهم برهة استعدادا لاختفائهم القادم من الفراغ .. أصحاب الطريق كثير، لا بد لهم أسبابهم الخاصة لسلوك الطريق ولكنك تعجب حين يخرج لك عم حسن يعرض كنوزه متحدثا عنهم قائلا إن فيهم صاحب الحاجة والهدف لا شك، ولكن الغالبية سيتعبك حتما أن تحاول معرفة أهدافهم ولماذا يسيرون. إن معظم الناس أجناس قانعة ميالة إلى البيوت وحياة البيوت وعالم البيوت ولكن الدنيا فيها آخرون .. فيها القائلون لأنفسهم وللعالم: بلاد الله لخلق الله ومن بلد إلى بلد يرحلون، وعلى الطريق يشربون ويأكلون وأحيانا على نفس الطريق يموتون .. أصحاب الطريق وسكانه دائما فرادى ودائما على الطوى ونادرا ما يتكلمون وليسوا أبدا مجذوبين أو مجانين، وإن كان سلوكهم هذا قطعا سلوك مجانين .. الشيء الدائم أن وراء السير الطويل. مسيرة العمر، قصة انتهت حين وضع كل منهم قدمه على أول الطريق، وقد يكون للطريق أول ولكن أبدا ليس له آخر، وكأنما بحثهم الدائب عن آخر الطريق، والعمر يمضي وأعمار كثيرة تمضي قبل أن يصل أي منهم، السالكين سلوك المجانين، أو أي منا نحن السالكين مسالك العقلاء، آخر الطريق، دائما نلتقي؛ عقلاء ومجانين وراجلين وراكبين وأفندية وسواقين وهاربين وباحثين ومخبرين ومجرمين ومطاردين ومطرودين عند عم حسن عند تقاطع الطريق. ونأنس باللقاء، ونتعارف ونتحابب ونتذاكر ويسمي بعضنا البعض: رفاق الطريق.
وهكذا يحدث دائما؛ تبقى عشة عم حسن الذي يكتشف بها التقاطع المهجور، وحيدة لفترة أطول؛ إذ لا تلبث عشة أخرى أن تقام، وإن كان صاحبها ليس في وحدانية عم حسن وإنسانيته وطيبته بل حتى نظافته إلا أنه لا يعدم زبائن آخرين، وجعلنا لكل شيء سببا، ولكل طالب رزقا، ولكل عشة مهما كثر عدد العشش زبائن من رفاق الطريق!
ودائما ما تبدأ الغيرة من عم حسن ورواده الأكثر، تأكل القلوب، وعلى أقل سبب تحدث المشاحنات، وفي البقعة المهجورة والمقطوعة الصلة بكل أسباب الحياة والإحياء، سرعان ما تبدأ فيها أول البوادر، وكما تستدل على الأسد من رائحة بوله المنكر، تبدأ رائحة نظام الإنسان الفاسد تفوح، ومن بعيد وسط سكون العصاري المطبق تسمع صوتا غير غريب عليك تتلاحق عواءاته من بعيد .. تسمع الصوت وتشم الرائحة، الخناقة، تحسبها كلابا على جثة، ولكن الرائحة والخناقة أكثر بشاعة .. لا بد أنهم بشر على لقمة.
فإذا سمعت طرفا واحدا هو الماضي في زعيقه وعوائه، بينما الطرف الآخر صامت صمتا تاما، وكأنه ليس المقصود، فاعلم أن الخناقة مع عم حسن، وأن الآخر رغم أنه جاء إلى التقاطع بعده، ولولا عم حسن ما جرؤ على التفكير أو البقاء، إلا أنه محموم ينفجر بغضبه.
ولكن هؤلاء لم يكونوا يسببون للرجل العجوز الطيب أي إزعاج، بالعكس كان دائما يقابل عويلهم بالابتسام .. ابتسام الفرحة؛ إذ معناه أنه عمرت الحتة، وليس ما يبهج عم حسن أكثر من أن يدرك، هو الجواب الأرض القفر والساحات المهجورة، إن قطعة مهما بلغ صغيرها من الدنيا، ومن مصر أم الدنيا، قد عمرت. •••
ولكن، أن يعبس عم حسن، وأن يبدو وجهه شديد العبوس، وأن يظل هكذا حتى بعد محاولات العسكري المستمرة لتطيب خاطره معناه أن في المسألة شيئا آخر غير عادي!
واعتقد العسكري أن عم حسن رجل طيب ومسالم، ومن عادة هؤلاء أن يزعجهم التهديد، وهكذا أخذ العسكري على عاتقه ألا يتكرر المشهد، وأن يظل وراء من هدده حتى يجبره على المضي إليه وطلب غفرانه. وبدأ يعيد السؤال على الرجل، ويطلب من عم حسن وصفه وتذكر من أين جاء وإلى أين ذهب. ولم تعجبه الإجابات، فقد جاءت كلها غامضة محيرة وكأنما عن عمد، أو من شدة الخوف، يحاول عم حسن تضليله، وبهذا واجه عم حسن وكان أن ابتسم الرجل وكأني بقلبه ابتسم فهو لم يكن يحاول أن يخفي عنه شيئا، وأنه لا يفعل أكثر من أن ينقل إليه كل ما يعرف، فهو لم يع بالضبط من أين جاء الرجل فقد أفاق فوجده أمامه، ولا إلى أين ذهب فما كاد دمه يتغير لكلامه، حتى كان في ثورة الغضب قد اختفى، وهو لا يذكر ماذا كان يرتدي، فقد أضاع الغضب للحظة الرؤيا ذاكرته، غير أن ما أدهش العسكري ومنعه عن متابعة بقية الحديث وعن إلقاء أي سؤال، أن عم حسن في كلامه عن الرجل وكأنما يتكلم من الذاكرة ، وكأن ما في الذاكرة أقرب إليه مما، منذ دقائق ، حدث!
كان وكأنما يتحدث عن شخص يعرفه تمام المعرفة، عن شخص لا يمكن أن تكون تلك هذه المرة الأولى لرؤيته .. وحتى حين واجهه بهذا سكت ولم يجب، آخر كلمة قالها العسكري قبيل أن يغادره أن طلب منه، إذا جاء الرجل، أن يشير له ويناديه، وليدعه حينئذ يتكفل به.
Unknown page