وحتى دون أن يسأل أظهر له يده اليمنى، فإذا فيها مسدس من نوع غريب، أسود، لامع السواد، بطريقة ملفتة للنظر ومحيرة، جديد وكأنه لم يستعمل قط، وحتى دون أن يشير. أدرك القادم أن الصندوق الأنيق مليء بطلقات، مرصوصة بنظام رائع، ومقلوبة بحيث أن قواعدها إلى أعلى .. أما الشيء غير العادي فهو أنه في الصف الأخير الأيسر توجد رصاصة ليست مثل غيرها من الطلقات .. فقاعدتها ليست برونزية اللون، وربما المادة كالأخريات .. ولكنها وكأنها مصنوعة من فضة مشعة، أو برد من معدن ثمين، بريقه يخطف البصر، بحيث إذا نظرت إلى الرصاصات المقلوبة في الصندوق لا تستوقف هذه الطلقة بالذات انتباهك فقط، ولكنها تستولي عليك تماما، وتكاد تعجز أن تحول البصر عنها . تضرب يا بيه؟ مرة ثالثة قالها الرجل، وبالضبط لم يستطع القادم أن يحدد إن كان حقيقة قد قالها في المرتين الأخيرتين، أم أنه نفس النداء المغري يتردد صداه في عقله لثاني ولثالث مرة. بالكاد استطاع أن يسترد بصره المثبت على قاعدة الطلقة النادرة ليعود يعي بالرجل واللعبة. وحتى دون شرح، فهم أن عليه أن يتناول من الصندوق طلقة، ويضعها في المسدس، ثم يذهب إلى مكان في الركن، مخصص للإطلاق؛ حيث يوجد هناك حاجز تماما، كما يوجد في لعبة التنشين بمدينة الملاهي، كل الفرق أنه لا توجد عدة أهداف، إنما هدف واحد، لم يستطع من موقفه أن يتبينه، فإذا أسقطه يفوز بالجائزة، وأيضا لم يكن يدري ما هي الجائزة، ولكنه كان متأكدا أنها أعظم جائزة نالها أو ممكن أن ينالها في حياته، وبدا كل شيء يسيرا، والجائزة، أعظم جائزة قاب قوسين أو أدنى .. وما عليه فقط إلا أن يستعمل هذه الطلقة المشعة المتلألئة، حركة من يد الرجل أوقفته، يده اليسرى الخالية من المسدس. أشار له بها مطالبا بثمن الاشتراك في اللعبة، موضحا بأصابعه القيمة، وأخرج القادم من جيب بنطلونه جنيهين حسبا حدد، وضعهما في يده.
وكان مفروضا حينئذ أن يعطيه المسدس ويتناول الطلقة الفريدة ويعمر، ويذهب إلى الركن. ولكن شيئا من هذا لم يحدث. فجأة بدا كل شيء بعيد الوقوع؛ المسدس في يد الرجل وفي متناول يده، والطلقة في مكانها من الصندوق تزغلل عينيه، ولكن هناك مماطلة ومراوغة، وربما من أجل ألا يستعمل هذه الطلقة بذاتها، وربما للتسويف في التنفيذ .. ربما لأن هناك أشياء كثيرة لا بد أن تستوفى، والوقت يمتد دون أي داع للامتداد، والموقف لا يتحرك أو يتحرك منزلقا متراجعا .. وابتسامة الرجل تصبح أكثر وقاحة وأقل أدبا، وقلة اكتراث الحاضرين وانصرافهم إلى أنفسهم تزداد بشكل يجعل من موقفهم ذاك عاملا إيجابيا يتدخل ويساعد الرجل في مماطلته، ويحول بينه وبين أن ينال حقه وقد دفع قيمة الاشتراك، وغيظا فغيظا بدأ يحس إحساسا يتعمق ويدك كالمسمار المدبب الطويل في نفسه، أنه ضحية خداع لا يستطيع وضع يده عليه أو ضبطه، وأنه مسلوب الحق، وأن أحدا، وبالذات هذا الرجل الواقف أمامه بدأ يتراجع منصرفا ويحاول الاندساس بين الحضور، يريد سلبه حقه والضحك عليه .. وكل من في المكان وما في المكان يساعده. فالحضور بدءوا يتكاثرون، والخدم اشتدت حركتهم، والضجة علت قليلا .. وثمة مؤامرة خفية تدور بين الجميع .. مؤامرة صامتة غامضة تلتف خيوطها خفية تحت ستار الضجة المكتومة وبين ثنايا السحب المدخنة المضيئة، وحتى من بين أنسجة البدل الغامقة والفساتين الفاتحة والقطيفة الحمراء. وصرخ في الرجل مهددا. وتوقع أن ينتاب الجميع نوبة ذهول لصراخه، ولكن، وكأنه لم يصدر صوتا، ما انتبه أحد .. وزعق مرة أخرى ولم يسمع سوى ما كان يسمعه من ضجة الحفل الصاخب المكتوم .. وأصبح الغيظ يخنقه وصغرت الدنيا في عينه وهانت، ولم تعد قوة في الكون تستطيع أن تحول بينه وبين أن يأخذ ويضرب الطلقة، تلك الطلقة بالذات، وبيده اليمنى، ودون وعي، انقض على الرجل وأمسكه من مقدمة سترته، ولم يأبه الرجل ولا الحاضرون لهذا العمل. وكان يخيل إليه أنه عمل يعد جريمة لا تغتفر في نظر المجتمع المحيط به، وبيده ممسكة الرجل من تلابيبه، حدق في وجهه، كانت نفس الابتسامة وقد أصبحت الوقاحة فيها هي الغالبة، تطل من وجهه الأسمر المستطيل، ويستطيل لها شاربه الأسود، وتجعل أسنانه البيضاء الحادة تطل من فمه المنفرج .. وفي الحال، وبيده الأخرى صفعه على وجهه صفعة قوية، أعجب شيء أنه لم يصدر عنها صوت، وكأنما صفعة معنوية وليست مادية حقيقية ضربها بنفسه، وهوى بها بجماع يده على الصدغ المستطيل الأسمر. وانقلب الغيظ إلى غضب، ولكنه غضب لم يصبه بالعمى، كان يرى، لم يفقد أبدا قدرته على الرؤية، وأدرك أن الصفع لم يعد يجدي، وأن الوقاحة المطلة من ابتسامة الرجل في حاجة إلى نوع من الضرب أكثر إهانة، وبكل ما يملك من قوة وبساقه اليمنى ركله في بطنه، وكان متأكدا أنه هذه المرة سينفطر ألما، فقد كان الضرب من القوة بحيث لو أصابت الحائط الجماد لتألم ؛ إذ هو نفسه، الضارب، قد شعر وكأن قدمه قد سحقت ودشدشت. وكان أمله أن ينظر إلى الرجل بعدها فيجده يتألم، يكفيه .. حتى استردادا لكل حقه أن يراه ولو لومضة خاطفة يتألم .. ولكن وجه .. وجه الرجل .. حين رآه كان لا يزال يبتسم. كل ما في الأمر أن الأدب ذهب تماما من ابتسامته، ولم تعد هناك سوى الوقاحة، وقاحة مستهزئة مستصغرة وكأنه ينظر إلى طفل .. وكاد يجن، فهو مدرك أن الرجل حي؛ من دم ولحم وأعصاب، وأنه حتما قد تألم، فكيف استطاع أن يكبت هذا الألم كله، وألا يبدو على وجهه خلجة واحدة أو لمحة اهتزاز تدل على معاناة، أو تدل على تغيير ولو طفيف في تعبيره المبتسم الوقح، وانهال عليه ضربا .. وقد انقلب الغضب إلى حنق مجنون، لم يعد يرى معه كيف ولا أين يضرب. ولكنه كان على يقين تام أنه بجماع قوته وإرادته يضرب وباستماتة يفعل، وأنه يضرب هذا الرجل بالذات ولا يريد ولا يمكن أن يتوقف عن ضربه حتى لو أراد، فمن هناك، من أغوار سحيقة جدا في كيانه، كانت تتدفق حمم من الحق المغلي الملتهب، وتنفجر معبرة عن نفسها المخيفة من خلال أيديه وأرجله وأسنانه .. فبأسنانه كان يعض، وكأنه انقلب إلى وحش، وبكعب حذائه يدك، وبقبضتيه يضمهما معا ويرفعهما عاليا ويهوي بهما دفعة واحدة كالمعول الهائل محطما ومدمرا، وكلما أحس بالوهن يزحف إلى إرادة الضرب فيه، كان يكفي أن يتذكر أنه خدع وضحك عليه ومنع منعا من مزاولة حقه لتعود إليه كل قواه، وبكل قواه يعود يحقد ويضرب ويضرب.
وحين تعب تماما، ولم يعد يقوى على مجرد رفع اليد أو تحريك القدم، حين أحس أنه كله قد تداعى وتهدم، وكأنه المضروب، وأنه بالكاد يلتقط النفس. إنه يلهث، بل لم يعد يقوى على أن يلهث .. بحيث بإرادته لم يعد يتنفس، وإنما صدره بآخر قوى الحياة فيه، ومن تلقاء نفسه وبغريزة المحافظة على الذات كصدر فقط يشهق كف، وسكت، سكن سكونا تماما، وكأنه في طريقه لاستقبال الموت. وأول بوادر قدرة على الحركة ارتدت إليه فتح بها عينه. والمذهل أن الرجل كان لا يزال هناك واقفا في تراخ وهدوء أمامه، والصندوق يحمله والمسدس نصف مختف في يده، والطلقة ذات القاعدة النادرة المعدن الخاطفة للبصر لا تزال في مكانها من صفوف الطلقات، وابتسامته هذه المرة وقد عاد الأدب يختلط بالوقاحة فيها تحتل مكانها من وجهه، وأيضا لا يزال موقف الدليل العارض لخدماته، وصاحب اللعبة الذي يروج لها ويغري الآخرين باللعب، ولم يعد أمام القادم وقد استنفد كل وسائل القوة إلا أن يلجأ إلى التأنيب واللوم. وأودع نظره كل ما يريد. وإذا بالرجل يجيب وكأنه يقول: «أنا مش قلت لك عايز يا بيه تضرب؟»
وأجال القادم رأسه بضعف في الحاضرين، وكأنما أدرك متأخرا جدا أنهم جزء من اللعبة، بينما الرجل يقول: وآدي انت ضربتني. أجل حقيقة كان يريد أن يضرب، ولكنه كان يريد أن يضرب الطلقة لا أن يضرب الرجل. - ما هي دي اللعبة!
قالها الرجل وقد ازداد الوقح في ابتسامته!
أيضحك؟
لأن القيامة لا تقوم
إنه يريد مرة أخرى أن يسمع، ويرهف السمع، فما يدور مهم، أهم شيء في حياته يدور، وراديو الجيران .. الحائط في الحائط، صوته عال كأنه يؤذن، ومن بعيد يأتي صراخ الأطفال الذين لا يزالون يقظى. الدبة وقعت في البير وصاحبها راجل خنزير. هل وقعت حقيقة؟ وهل هي مستكنة الآن في البئر؟ وهل صاحبها خنزير سمين ملظلظ كأبي السباع إسماعيل؟ إنه يريد أن يسمع ويرهف السمع، فهي، أمامه ترقد الآن فوقه تماما، أو لا بد كذلك، فالمرتبة تنبعج من بين ألواح «الملة» الخشبية، ولكن انبعاجها شديد، وأمه خفيفة .. فلماذا الانبعاج الشديد؟ كان هذا زمان، حين لم يكن يسمع سوى الهمس، العشاء .. وابتسامتها السعيدة تغرقهم والطبطبة الحنون، ثم صوتها المتثائب قوموا يا أولاد ناموا .. الدنيا اتأخرت، وكالدجاج المطيع تدخلهم. ترفع داير السرير الأبيض وتدخلهم تحته؛ فالبيت حجرة واحدة، ومكانه المفضل بجوار الحائط في الصيف؛ فالحائط بارد؛ يلصق نفسه ويلمس عليه بساقه العارية فيستمتع وكأنه يجرش قطعة ثلج، ويمضي الصيف ويأتي الشتاء، ويغير مكانه إلى الحافة، وطوال العام هناك البقرة التي لم يسمعها بوضوح أبدا؛ لأنه حين يصحو على وقعها الخافت، تكون قد لفت، وتكون القهوة قد شطبت ونورها الكهربائي الوهاج قد انطفأ وأظلم الشارع تماما، والباب يزيق قليلا كلما فتح، وحين يفتح يسمع الهمس، الهمس والظلام، لا شيء سوى الظلام التام، ونقر كنقط الماء المتساقط من السقف بعد انتهاء المطر، همس همسة أو همستين كحفيف قميص نومها، أو لعله حفيف القميص يبدو كالهمس ثم يسود السكون .. وتصعد أمه فوق الفراش، فهي وحدها تنام فوق السرير، والسرير واسع يكفيهم جميعا، ولكنها تصر، من زمن من أيام أبيه حتى أن يناموا جميعا أسفل السرير، حتى حين كبروا وبدءوا التململ والشكوى، وقال إن رءوسهم تخبط في «الملة» رفعت أرجل السرير فوق قواعد، وأحضرت نجارا خصيصا ليطيل من قوائم الملة، حتى ليصبح ما تحت السرير وكأنه حجرة ضيقة حقيقية يلذ له فيها وهو الطفل، والأطفال مغرمون بالعشش والمخابئ وأمكنة الاستخفاء، اللعب والرقاد. وكثيرا ما شكلها بخياله، وتصورها خيمة أعرابي في الصحراء، أو خندقا في باطن الأرض، أو مقام شيخ من أصحاب الكرامات .. وبرغم هذا كله كان دائما ينقصه شيء، فكم من مرة اشتاقت نفسه أن ينام في حضنها، وأن تضمه مثلما كانت تفعل وأن تسمح له مرة أن ينام معها هناك حيث المرتبة اللينة والملاءة النظيفة .. وفي الليل، في عز الليل، كان أحيانا يدعي المرض. وبصوت مسموع يتأوه، ولا من أحد يسمع، فإذا سمعت أو ضاقت بآهاته سألته بصوت غير عال ولكنه مملوء بالوعيد والتأنيب .. مالك يا براهيم، فلا يجرؤ حتى على أن يواصل الادعاء، ويخرس تماما وكأنما تأوهه كان مجرد التماس على استعداد لسحبه فورا واستنكاره لحظة أن يلمح أن التماسه لم يلق الترحيب. الظلام والحفيف والهمس، ثم الأرق الذي ينتاب أمه على أثرها، وكأنما سببه هذا النفس الغريب الذي يحس به قد ملأ الحجرة لحظة أن فتح الباب، أرق لا يستقر معه قرار، فتظل تتقلب وتتحول، حتى إن لوحا من «الملة» سقط على ساق أخته ياسمين، ذات ليلة، وجرحها وصرخت، وصرخ هو الآخر، وحين لم تستجب أمه في الحال؛ أصيب بالذعر، فظل يصرخ إلى أن نام مضروبا. لا بد أنه لم يكن أرقا، لا بد أنه كان شيئا آخر، منذ متى بدأ يعي هذا الشيء الآخر، بالتأكيد ليست الليلة هي المرة الأولى، أول مرة وعى كانت ليلة العيد، كانت قد أخرجتهم من الحجرة لتستحم، وحين دخلوا عليها بعد هذا، وشعرها مبتل وهي تنفضه لتجففه، وقميصها النظيف مفتوح .. وصدرها - لأول مرة في حياته يدرك أن لأمه صدرا. فلقد رآه ورأى نظرتها وأحس في التو وكان شيئا في نظرتها يحف به نفس الحفيف المريب، وكأنما الدنيا تظلم والهمس يعود صادرا من عينيها ملحا ومشيرا إلى صدرها. ووجد نفسه لا يجرؤ على الاستمرار، وانطلق يجري إلى الخارج والأولاد، حيث الدبة التي وقعت في البير، ولعب ولعب ولعب، حتى امتلأت عيونه بالتراب، وامتلأ رأسه بالتعب، وداخ وعاد .. ودق الباب، ودق ولم يفتح له أحد .. وجاء الصوت، صوت أمه، المليء بالوعيد، ما دام اتأخرت، نام على العتبة .. نام على العتبة فعلا، وكأنه ينتظر الأمر بفارغ الصبر، ولكنه حين استيقظ في الصباح وجد نفسه مكانه تحت السرير، وكانت هي .. أمه إلى جواره .. وحين رأته يستيقظ احتضنته وقبلته، وقالت له كل سنة وأنت طيب يا براهيم. واستكان لحظتها وهو أسعد أهل الدنيا، كل ما كان يضايقه هو رائحة صابون الاستحمام التي كان يشمها، صادرة عنها، مقترنة - لا يدري لم - بإحساس مخجل محرم، وكاد أن يبدأ يتقلب في حضنها ويتدلل عليها، ويمسك يدها ويلفها حول رقبته، ثم يلعب في أصابعها السمراء من الخارج القمحية من الداخل، ويقبل كفها، ثم يقبل كل أصبع من أصابعها على حدة، من عمر طويل لم يفعل هذا، فمن عمر طويل لم ينم بجوارها، ولكنه ما إن بدأ يتمرغ في حضنها حتى أحس بصدرها يضغط بشدة على ظهره، ليس ضغطا شديدا، وإنما ضغط الكتلة من اللحم الحي. وصدرها الحي مع رائحة الصابون وعرقها الخاص والهمس في الظلام، وجد نفسه يغتاظ إلى درجة البكاء وتسقط دموعه في صمت على يدها الملتفة حوله فتسحبها كالملسوعة، وحين تدرك أنه حقيقة يبكي، تضمه إلى صدرها بشدة أكثر. وكلما اشتدت في ضمها وضغطها أحس أنه يريد أن يتخلص منها ويجري هاربا إلى الأولاد والدبة وصاحبها الخنزير .. ولكنه حين يدرك أن الليل ذهب، وأن هناك صباحا، واليوم يوم العيد، حيث يعيد كل الأولاد، ويأخذون العيدية ويفرحون، بكى ولم يسكت إلا إثر هزة شديدة وصرخة منها: مالك يا وله؟ ما له، حقيقة ما له، ماذا حدث؟ لا شيء حديث، لا شيء يبكيه، فلماذا هو حزين؟ لماذا هو حزين؟ أمن جلسة أبي السباع إسماعيل التي أصبحت تطول، والقرش الذي يعطيه إياه كل مرة ويرسله ليشتري لنفسه كرامللة، حتى لو لم يكن يريد يصر على إرساله، وهو خائف أن يخرج ويترك أمه بمفردها معه، فإذا تلكأ، جاءه الصوت الآمر منها: اسمع كلام عمك إسماعيل يا برهيم .. وينظر برهيم في عينيه، وكأنما ليطمئن قبل مغادرة الحجرة، ولا يستطيع أن ينظر فيهما أكثر من ومضة، لا لخوفه منه ومن جسده الهائل الضخم، ويده السميكة في سمك مخدة أخيه الصغير، فقد كان يكرهه، ولكن لأن في عينيه نفسها شيئا متحركا غير ثابت، نظرة خائنة لا تستقر .. تختلط الخيانة فيها بالسخرية، سخرية جافة خشنة كظهر الليفة، يقشعر لها جسده، وتدميه .. سخرية بلا خفة دم، سخرية السمين التخين الذي يتجشأ عقب كل مرة يناوله فيها كوب الماء ليشرب، ثم يكمل الحديث بصوته الخشن الرنان، وآه لو مال على أذن أمه وهمس. همس متحشرج .. كهمس الزوران، يحس برهم أنه يخرج من فمه وينتشر كالدخان القابض الخفي من حجرتهم وفي حياتهم يملؤها بأثر جارح غير مريح باعث على الخجل، ولماذا عمه أبو السباع إسماعيل بالذات، ألأنه يزورهم؟ هناك عشرات الرجال يأتون، وعشرات يسلمون على أمه ويحيونها ويهمسون لها، وأحيانا يعطيه أحدهم قرشا، إنما لماذا هذا الرجل بالذات؟ وأمه تضحك مع الكل وتجالس الكل .. فقط مع أبي السباع إسماعيل يحس كأن التيار الخفي الذي يربطه بها باستمرار حتى لو غابت أو سافرت أو نامت، فاتصاله بها دائما قائم وموجود، حين تجلس أو تحدث أبا السباع. يحس فجأة وكأن التيار قد انقطع ولم تعد تشعر به، ولكن شعوره هو بها يزداد إلى حد الجنون .. إلى حد أنه يمنع نفسه منعا من أن يمسك بعصا أبيه ويدفعها لتستقر في عينيها، أو فجأة يخلع كل من ملابسه ويقف أمامها عاريا تماما لتدرك أنه موجود، والحياة كانت سهلة وعذبة ولذيذة، يحب كل ما فيها، يحب اجتماعهم حول الطعام بعد الجوع الشديد، حيث يجلس فرحا بالطعام وباجتماعهم هو وأمه وأخته وأخيه الصغير ذي الأربعة أعوام الذي لا يزال يتهته ليخرج الكلام، وتعلق أمه بهم جميعا، وبه على وجه خاص .. والشاي بالحليب في الصباح، وفسحة الخص والعصاري مع الترمس على البحر، والجلسة على الحشيش في قلب المنتزه .. ما أجملها حتى لو جاءت سيرة أبيه .. حين يتولى أمه وجوم يخاف معه أن تبكي .. ويتبارى الحاضرون في تعداد صفاته .. حتى لكأنهم يتحدثون عن شيخ من أولياء الله .. وفي الحديث عن قوته، وكأنه كان عنتر بن شداد!
أجل .. شيئا فشيئا، بدأت الكلمة التي كان يأخذها على غير محمل محدد يتكون لها في ذهنه معنى، مات، أغلق عينيه إلى الأبد، واصفر وجهه وبرد .. ولفوه في كفن .. ودفنوه .. لقد رأى هذا كله، ولكن لم يبدأ يفهم معناه .. مثله مثل الهمس في الظلام والحفيف، وقولهم البركة في برهم، إلا هناك حيث وقعت الدبة في البير، أشياء كانت مغطاة بطريقة لا يفهم لها معنى، ثم بدأ يسقط عنها الغطاء ويصبح إن لم يكن معنى واضح، فلا أقل من شيء خفي عميق مظلم كفوهة البئر الذي سقطت فيه دبة ذلك الخنزير .. حتى غناء الأولاد والبنات كان في تلك الليلة بلا معنى، هكذا أحس، رغم ما كانوا هم فيه من متعة كبيرة، كان هو وحده يحس أن الأغنية، بل حتى اللعب كله أصبح بلا معني، شده صاحب ورشة الدوكو الذي يعمل عنده من أذنه ولعن أباه: ياد انت كبرت وبلغت ومابقيتش عيل .. ما نتاش عاجبني كده، طول النهار موطي لي في الأرض كدة، إيه اللي كاسر عينك ياد .. أوع يكون تشومبة بيعلم عليك!
وفهم جيدا ما يريد أن يقوله الأسطى .. وأحس بلسعة نار تكويه وتجنه. - ما تقولشي كدة تاني يا أسطى!
Unknown page