صيف 1964م
لغة الآي آي
لم تكن بالضبط صرخة، ولكنها كانت الأولى بعد منتصف الليل بقليل، تصاعدت، غير آدمية بالمرة، حتى الحيوان ممكن إدراك كنه صوته، ولكنها بدت لأول وهلة جمادية ذات صليل، كعظام تتكسر وتتهشم، تمسكها يدا عملاق خرافي القوة، وبنية صارمة لا رحمة فيها تدشدشها .. فجأة وفي المنزل الهادئ المظلم الفاخر الإظلام، السابح في سكون مسود تلمع فيه حواف الموبيليا الأنيقة الموزعة بعناية وذوق، بيت ساكن نائم يرفل في رائحته الليلية الخاصة التي تميزه عن أي بيت، وفي الحي المترف الذي تتثاءب نوافذه وأضواؤه واحدة وراء الأخرى ويئوب إلى الرقاد على ضجة المدينة ووسطها المستيقظ كغمغمة غارق في الأحلام.
وفي وسط هذا كله، ومن مكان لا تستطيع تحديده أو تعرف إن كان يمت حتى إلى الحي، تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول، مفاجئا وكالطعنة الملتاثة، حافلا بأنين التمزق، وكأنه صادر من حنجرة تتمزق أحبالها الصوتية لتصدر الصوت ويكاد يمزق طبلة أي أذن يقع عليها.
ودونا عن سكان الحي والبيت، بدا وكأنه الكائن الوحيد الذي سمعه. كان مغمض العينين لا يزال بينه وبين النوم مشكلة لا بد لها من حل. ومر الصوت مفاجئا غير مألوف من الصعب تبينه، ولكن جسده في اللحظة التالية كان يقشعر بخوف طفلي مذعور، وإن لم يستغرق زمنا، أسلمه إلى عينين مفتوحتين لآخرهما، وقلق وعاصفة من الاضطراب، فالإحساس التالي الذي واتاه كان إحساسا بالذنب، شعور غامض يربطه بالصوت، ويؤكد أن الصلة بينهما من صنعه ومسئوليته، وأن عليه وحده يقع التحمل للنهاية، وبالغريزة التفت، كانت زوجته لا تزال على وضعها، فقط في اللحظة التي التفت فيها ماءت مواء طال بعض الشيء، ثم بإرادة نائمة انتقلت إلى جنبها الأيسر وقربت ساقها، ربما كان الأثر الوحيد الذي أحدثه الصوت في جسدها المستسلم لأول مراحل النوم. وارتاح وبعض الشيء اطمأن وهو يواجه الأمر وحده؛ فقد كان ظهورها على المسرح لحظتها كفيلا بزيادة ارتباكه.
ما هذا الصوت ومن أين جاء؟
في لحظة مر بخياله ألف احتمال، إلا الاحتمال الوحيد الذي كان يخاف مروره. لم يكن قد تغير في البيت أو في الحي أو في دنياه كلها شيء ما عدا ذلك الشيء الواحد الذي اغتم له. ولا بد أن يكون الصوت الجديد من صنع القادم الجديد، حتى ولو نفى عقله بشدة، وأبى أن يصدق.
ولم يشأ أن يفكر أكثر، مجرد صوت وحدث، المهم ألا يعود يحدث، ومر بعض الوقت، أحال اللحظة إلى دقيقة، أو دقائق، ولا شيء يتغير داخل الليل الساكن، والأمل يقوى.
ولكن وشوشة غامضة حدثت، اندفع منها إلى أعلى فجأة صوت كالطوفان الهادر العمودي، له وقع العظام نفسها وهي تسحق وتتدشدش، صوت أقرب إلى رعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة، ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن ينهيها وكأنما الموت عند نهايتها.
انتهى الأمر. لم تعد هناك فائدة.
Unknown page