مرة ثانية رحت أنظر إلى العسكري. وأخيه المريض، ولا أكاد أصدق! - انت أخوه صحيح؟ - أنا ح اكدب يا دكتور؟ الكرنيه أهه، شوف سيادتك!
في الواقع لم أعد السؤال للتأكد، أعدته فقط لأسكت إحساسا حقيقيا بالشفقة، لا على المريض، وإنما على أخيه .. إن الجنون هو المرض الوحيد الذي يمرض فيه الشخص ويحس آلام مرضه الآخرون .. إن المجنون لا يتعذب، العذاب يحل بأهله وأقربائه وذويه .. فهذا العسكري، تراه كم تألم وهو يستصحب أخاه إلى القسم مجنونا، ثم ، وهو يمضي أوراقه من الرؤساء، ثم وهو يقف أمامي يحكي بلسانه ما فعله ويدلل على جنونه، ويعريه، خاصة وهو لم يكن عسكريا عاديا؛ إذ اكتشفت أن على ذراعه أشرطة أربعة، كان واضحا أنه مهتم بها، وبمركزه .. وقد صنعها من حرير أحمر أنيق.
ولكن إنسانيتي لم تستغرق سوى لحظة، عدت بعدها أطمئن على الروتين؛ فالمفروض ألا يرسل المريض مع أقربائه. لا بد من عسكري يوفد لحراسته، حتى لو كان قريبه ضابطا أو شاويشا .. الروتين هو الروتين.
وسألت: أين العسكري؟
ومن بين الوجوه الكثيرة المتزاحمة على الباب، برز وجه ما لبث أن أصبح له جسد رسمي أسود، وبندقية، أعقبتها خبطة قدم، وتحية، ولم يكتمل الروتين إلا بتأنيبه، وإلا باعتذاره لم يكسر القاعدة وينتظر بالخارج إلا بناء على رجاء من الأخ الباشاويش. - خلاص يا دكتور نمشي؟
قالها الأخ مترددا، محرجا، وكأنما يستعجل مغادرة الحجرة وإنهاء الموقف .. ولكني لم أكن معه، كنت أحدق في الأخ المريض الذي بدأت ألحظ عليه أشياء .. كان في وجهه ورقبته كدمات وآثار ضرب، ورقبته بالذات كانت بها عضة واضحة، اشتركت في صنعها قواطع وأنياب، ولم يكن قد كف عن البكاء.
ووجدت نفسي أسأله عما يبكيه، وأنتظر إجابة من الإجابات المريضة المعتادة .. ولكنه ازداد بكاء ولم يجب .. وأعدت السؤال، وأيضا لم يجب، رفع رأسه وبجانب وجهه ألقى على أخيه الشاويش نظرة، انفرطت على إثرها دموع كثيرة من عينيه بلا كلام .. ووجدت نفسي أنظر أنا الآخر إلى الشاويش، ودهشت قليلا حين وجدته يصوب أشعة محمية من عينين واسعتين مبحلقتين، وكأنما يأمر بها أخاه أن يكف عن البكاء، ويكف عن النظر إليه.
ومرة أخرى وجدت نفسي أسأله عما يبكيه، وهذه المرة أيضا لم يجب .. غير أنه بلمحة جانبية خاطفة ألقاها على أخيه سكت، وعاد ينكس رأسه إلى الأرض.
وأحسست، رغم الصمت المستتب، أن الجو مشحون .. وأنني أنا الآخر بدأت أنتبه، وأتفرس، وأحاول أن أستخلص من الصمت سره.
وفجأة التفت المريض كلية إلى أخيه الشاويش، وقال: خذ الأرض يا أخي في ستين داهية .. هات عقد البيع دلوقت وأنا أمضي لك عليه، إنما بلاش تبهدلني كدة يا بدري وأنا أخوك!
Unknown page