وليس في الفرس والروم والترك والبربر والهند والزنج من يحفظ اسم جده، أو يعرف نسبه؛ لذلك تداخلت أنسابهم، وسمي بعضهم إلى غير أبيه. والعرب يحفظ الأنساب، فكل واحد منهم يحفظ نسبه إلى عدنان، أو إلى قحطان، أو إلى إسماعيل، أو إلى آدم ﵇، فلذلك لا ينتمي واحد منهم إلى آبائه وأجداده، ولا يدخل في أنساب العرب الدعي.
وخلصت أنسابهم من شوائب الشك والشبهة، فكل واحد من العرب يتناسب أصله وفرعه، ويتناصفه بحره وطبعه وزكى ندره وزرعه.
فللعرب من المنابت أزكاها، ومن المغارس أتمها وأعلاها. ولجمع العرب كرم الأدب إلى كرم الأنساب، ولقنهم الله الحكمة وفصل الخطاب، ولولا علم الأنساب لانقطع حكم المواريث وحكم العاقلة، وهما ركنان من أركان الشرع، ولما عرف الرجل فرسه من لعده، ومن يرثه ومن لا يرثه ممن يرث منه.
وكانت العرب أنهم إذا فرغوا من المناسك حضروا سوق عكاظ، وعرضوا أنسابهم على الحاضرين، ورأوا ذلك من تمام الحج والعمرة، لذلك قال الله تعالى " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا ".
فصل
أعلم الناس بأنساب العرب
في الزمن الماضي أبو بكر عبد الله بن عثمان، ومخرمة وعامر بن الطرب، وعقيل بن أبي طالب، وعروة بن أذينة، وجبير بن مطعم من بني نوفل وغيرهم.
وقال رسول الله ﵌ لحسان بن ثابت شاعره: اهج المشركين، وروح القدس معك، واءت أبا بكر يعلمك مساوي القوم فإنه عالم بالأنساب.
وذكر الإمام أستاذنا أحمد بن محمد الميداني في كتاب مجمع الأمثال من تصنيفه في معنى هذا المثل إن البلاء موكل بالمنطق أنه قد حضر رسول الله صلى الله عليه وآله الموسم ومعه الصحابة من المهاجرين والأنصار، فجاء رجل يقال له: دغفل بن حنظلة من بني ربيعة، وقال: من نسابة الصحابة؟ فأشاروا إلى أبي بكر.
فقال له أبو بكر: ممن الرجل؟ فقال دغفل: من ربيعة، فقال له أبو بكر: من هامتها أم من لهازمها؟ فقال دغفل: من هامتها العظمى، فقال له أبو بكر: من أي هامتها؟ فقال دغفل: من ذهل الأكبر. فقال له أبو بكر: أفمنكم عوف الذي قيل فيه لا حر بوادي عوف؟ فقال: لا.
فقال له أبو بكر: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الاحياء؟ قال: لا، قال: أفمنكم جساس بن مرة حامي الذمار والحوفزان قاتل الملوك، والمزدلف صاحب العمامة؟ أفمنكم أخوال الملوك من كندة؟ فقال دغفل: لا.
فقال له أبو بكر؟ فأنت من ذهل الأصغر لا من ذهب الأكبر.
فحمل دغفل وسكت ساعة، ثم قال لأبي بكر: ممن الرجل؟ فقال: من قريش: فقال له دغفل: من أي قبيلة؟ فقال له أبو بكر: من بني تيم.
فقال له دغفل: أمكنت الرامي من ثغرتك، أفمنكم قصي بن كلاب المجمع، وهاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ أفمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم الوحوش والطيور؟ أفمنكم المفيضون بالناس وأهل الندوة والرفادة والحجابة والسقاية؟ فقال أبو بكر: لا.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله حتى بدت نواجذه، فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ لأبي بكر: لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة.
فقال أبو بكر؟ فوق كل طامة طامة، وأن البلاء موكل بالمنطق. فقال دغفل: صادف درأ السيل درأ يصدغه. فصار هذا الكلام مثلًا.
ومعنى هذا الكلام أنه صادف السر شرًا يقوى عليه ويغلبه. ويقال في الأمثال: أنسب من دغفل، وهو دغفل المذكور. وكان أعلم قبائل العرب بالأنساب. وقول العرب: أنسب من كثير هو من النسب لا من النسب، هو كثير الشاعر. وقيل أيضًا: أنسب من جبير بن مطعم.
وقيل: إن أعرابيًا دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وأنشد بين يديه ﵇:
إني امرء حميري حين تنسبني ... فلا ربيعة آبائي ولا مضر
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ذلك النسب بعدك عن الله والرسول. وفي رواية أخرى: ذلك أبعدك من الله ورسوله.
وهذا الحديث يدل على أن من هو قريب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من طريق النسب كان قريبًا إلى رحمة الله تعالى.
فصل
تفاصيل فرق الناس
الأسباط: أولاد إسحاق ﵇. والقبائل في أولاد إسماعيل ﵇.
قال التفتازاني: السبط الجماعة التي تجري في الأمور بسهولة؛ لاتفاقهم في الكلمة، مأخوذ من السبوطة.
1 / 6