وقال آخر: والتفاهم خير!
وثالث قال بنبرة المسالم: سعيد، أنت قادم من السجن، والعاقل من اتعظ!
فقال وهو يداري حنقه المختنق: من قال إني جئت لغير التفاهم؟!
وفتحت نافذة من الدور الثاني، وأطل منها عليش؛ فارتفعت الرءوس إليه في توتر، وقبل أن تبدر كلمة خرج من باب البيت رجل طويل عريض، في جلباب مقلم، ينتعل حذاء حكوميا، فعرف سعيد فيه المخبر حسب الله، وسرعان ما تظاهر بالدهش، وقال منفعلا: ماذا دعا إلى إقلاقك، وما جئت إلا للتفاهم؟
فمضى نحوه مسرعا، وتحسسه مفتشا عما يريب في صدره أو جيوبه، فعل ذلك بمهارة وخفة ودربة وهو يقول: اسكت يا بن الثعلب، ماذا تريد؟ - جئت للتفاهم على مستقبل ابنتي. - أنت تعرف التفاهم؟! - نعم، من أجل ابنتي! - عندك المحكمة! - سألجأ إليها عند اليأس!
وصاح عليش من أعلى: دعه يدخل، تفضلوا!
اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك، وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا جدار. ودخلوا حجرة استقبال، فتفرقوا فوق الكنب والمقاعد، وفتحت النوافذ، فاندفع الضوء والذباب، وتبدت في البساط السماوي نقط سود من أثر حروق، وحملق عليش من صورة كبيرة في الجدار، معتمدا بقبضتيه عصا غليظة، أما المخبر فقد جلس إلى جانب سعيد، وراح يعبث بحبات مسبحة، ودخل عليش سدرة في جلباب فضفاض منتفخ حول جسم برميلي، رافعا وجها مستديرا ممتلئ اللغد تحت ذقن مربعة، وأنف غليظ محطم العرنين، صافح سعيد متظاهرا بالشجاعة، وقال: حمدا لله على سلامتك!
وسرعان ما تأزم الجو بالصمت، وتبودلت نظرات قلقة حتى عاد عليش يقول وكأنما يرغب في فتح صفحة جديدة: ما فات فات، وكل ما حصل يقع كل يوم، وقد تحدث أمور مؤسفة، وتنهار صداقات قديمة، ولكن لا يعيب الرجل إلا العيب!
بدا سعيد وهو يتابعه بعينيه البراقتين، وجسمه النحيل القوي، كأنه نمر يتربص بفيل، ولم يسعه إلا أن يردد قوله: لا يعيب الرجل إلا العيب.
وحدجته أعين كثيرة عقب ترديده، وكفت يد المخبر عن العبث بحبات المسبحة؛ فأدرك هو ما يجول بخاطرهم، فقال مستدركا: أوافقك على ما قلت حرفا بحرف!
Unknown page