ووثب واقفا عند توقف سيارة أمام باب الفيلا، ولما رأى البواب يفتح الباب على مصراعيه عبر الطريق بسرعة خاطفة، ثم تصدى للسيارة منحنيا قليلا ليراه صاحبها، ولكن الرجل لم يعرفه في الظلام، فهتف بصوته الغليظ القوي: أستاذ رءوف .. أنا سعيد مهران!
اقترب رأس الرجل من النافذة المفتوحة وهو يقول بصوت حلقي متزن: سعيد! .. أووه!
لم يستطع قراءة وجهه، لكنه وجد في لهجته ما شجعه، ومضت هنيهة صمت وجمود دون أن يفتح باب السيارة، ثم فتح الباب وجاءه الصوت قائلا: اركب!
بداية حسنة، رءوف علوان هو رءوف علوان بالرغم من السكرتارية الزجاجية والفيلا العجيبة. وانحدرت السيارة في ممشى كضلع القيثارة متجهة نحو مدخل السلاملك. - سعيد، كيف حالك يا رجل، ومتى خرجت؟ - أمس ... - أمس؟ - نعم ، كان يجب أن أقصدك ولكني شغلت بمسائل عاجلة، وكنت في حاجة إلى الراحة فبت ليلتي عند الشيخ علي الجنيدي، أتذكره؟
فقال وهما يغادران السيارة إلى بهو الاستقبال: أوووه! شيخ المرحوم والدك، شهدت حلقاته معك أكثر من مرة! - كانت مسلية! - وكان يعجبني غناء المنشدين.
وأضاء خادم النجفة فخطفت بصر سعيد بمصابيحها الصاعدة، ونجومها وأهلتها. وعلى ضوئها المنتشر تجلت مرايا الأركان عاكسة الأضواء، وتبدت التحف الثاوية على الحوامل المذهبة، كأنما بعثت من ظلمات التاريخ، وتهاويل السقف، وزخارف الأبسطة والمقاعد الوثيرة، والوسائد المستقرة عند ملقى الأقدام، وأخيرا استقر البصر على وجه الأستاذ الممتلئ المستدير، ذلك الوجه الذي طالما عشقه وحفظه عن ظهر قلب، لطول ما أحدق فيه منصتا، وبينا راح الخادم يفتح بابا مطلا على الحديقة في الجدار الأيسر، ويكشف عنه ستائره، مضى وهو ينظر إلى الأستاذ، ويلحظ الروائع مسترقا، وسرعان ما جرى تيار دسم مفعم بالعبير، واختلطت الأضواء بالشذا، فأوشك رأسه أن يدور، وجهه امتلأ كوجه بقرة، وشيء خفي سرى في شخصه جعله ممتنعا رغم طلاقة الوجه وحسن السلوك وابتسامة الثغر، وثمة رائحة سحرية لا تصدر إلا عن دم أزرق رغم أنفه المائل إلى الفطس، وفكيه البارزين، وقلبه يخفق في إشفاق، ويتساءل عن المقر إن انهدم الركن الوحيد الباقي، وجلس رءوف على كنبة قريبة من باب الفراندا، وأشار إليه أن يجلس على مقعد وثير يمثل جانبا من ضلع لمربع من المقاعد تطوق عامودا نورانيا شفافا موشى بصور أسطورية، فجلس بلا تردد وبلا مبالاة كعادته، ومد الأستاذ ساقيه الطويلتين متسائلا: هل جئتني في الجريدة؟ - نعم ولكني اقتنعت بأنها مكان غير مناسب للقاء!
فضحك عن أسنان اكتنف منابتها لون أسود، ثم قال: الجريدة عبارة عن دوامة لا تهدأ، وهل انتظرت هنا طويلا؟ - عمر كامل!
فضحك رءوف مرة أخرى وقال بلهجة ذات معنى: لا شك أنك عرفت هذا الطريق من قبل؟!
فضحك سعيد أيضا قائلا: طبعا، عرفت فيه زبائن لا ينسى فضلهم، فيلا فاضل باشا حسنين وقد خرجت من زيارتها بألف جنيه، وقرط ماسي نادر من فيلا الممثلة كواكب ...
وجاء الخادم يدفع أمامه نضدا قامت عليه زجاجة وكأسان، وجردل صغير أنيق بنفسجي اللون ملئ ثلجا، وطبق نضد فوقه التفاح على هيئة هرم، وصحاف فواتح شهية، وإبريق مياه فضي، وأومأ الأستاذ للخادم فانسحب وراح يملأ بنفسه الكأسين، ثم قدم إحداهما إلى سعيد، ورفع الأخرى قائلا: صحة الحرية!
Unknown page