ثم كان صباح غادر الشيخ سلطان القاهرة والأزهر الشريف وأخذ سمته إلى قريته ميت جحيش، وما هي إلا أيام قلائل حتى كان قد عاد إلى الأزهر وقد عقد عقده على خطيبته وابنة خالته زكية التي كانت تنتظره أن يتم علومه بالأزهر، ولكنه بعد مغامرته لم يطق أن ينتظر الشهادة. وكان أبوه ميسور الحال يستطيع أن يعينه على الحياة بلا عون من الوظيفة. وتم زواجه. شرب الشيخ سلطان الخمر في هذه الليلة الخالدة؛ فقد علمه الشيخ عبد التواب أن الأنس لا يتم إلا بالكأس، ولكنه لم يعد إليها بعد ذلك أبدا، كما لم يعد إلى أمثال هذه المغامرة، وإن كان الشيخ عبد التواب قد أعجبه هذا الحال وواصل جهاده فيه.
تلك هي المغامرة الوحيدة في حياة الشيخ سلطان؛ فاحمرار عينيه إذن لا صلة له بالخمر، كما أنه ليس مرضا فما يحس فيهما بألم، إنما هو احمرار ركب فيهما بدلا من البياض.
كان الشيخ سلطان أمام المرآة ما يزال يجري على شاربه محاولات يائسة، حين طرقت الباب ابنته وهيبة، فتنحنح الشيخ وقال في تؤدة: ادخل.
وبدت وهيبة على الباب فتاة في مطالع الشباب الأولى، يحرمها البيت أن تبدي من شبابها شيئا؛ فمنديل يكسو رأسها، وجلباب يوضع عليها لا أثر فيه للحلية أو الزينة. ولكن الطبيعة التي تحارب الشيخ سلطان في كل الناس تحاربه في ابنته أيضا؛ فعلى خديها حمرة الشباب، وفي عينيها إشراقة تطالع الشيخ في تحد يضيق به أشد الضيق، فلو يملك لقال لفتاته احجبي نور الشباب أن يسطع من محياك، ولو يملك لألقى على وجهها غلالة أو حجابا كثيفا، ولكن لا سبيل له أن يفعل. كل ما استطاعه الشيخ هو أن يأمر بها ألا تذهب إلى المدرسة، فمكثت مع أمها تدبر شئون البيت أو تتعلم تدبيرها.
وقالت وهيبة: الفطار جاهز يا آبا. - ألبس عباس؟ - لا أدري؛ فقد رأيته منذ الصباح مشغولا براديو يحاول إصلاحه. - عظيم! ... نفتحها ورشة إذن لراديوهات أصحاب سي عباس. - سأناديه حالا.
وخرج الشيخ إلى البهو وقد أعدت به المائدة، وصاح: يا عباس!
وجاءه الرد قبل أن يتم النداء: نعم يا أبي.
ومع الإجابة خرج عباس من غرفته مرتديا ملابسه وقد بدا عليه العجل في ارتدائها، وسأل الشيخ ابنه في حزم: أصليت؟!
وقال الابن وقد بدا وكأنه أعد الإجابة: نعم. - فهيا كل لتذهب إلى المدرسة.
وجلس عباس إلى أبيه في أدب صامتا، ومد يده إلى رغيف واقتطع منه لقمة وهم بإلقائها إلى فمه، ولكن أباه يعاجله: ابدأ باسم الله ... بسم الله الرحمن الرحيم.
Unknown page