وأطرق عباس صامتا، وقالت الأم بعد أن مصت شفتيها: له في ذلك حكم.
وتوقفت السيارة فجأة، ونظر عباس يرى ما أوقف ركبهم، فوجد الشرطي يعترض سبيلهم، وأوشك أن يقول للسائق امض، ولكنه كان يعلم أنه لن يطيع؛ فيد الشرطي أقدس من أي أوامر. وأوشك أن ينزل إلى الشرطي يرجوه أن يسمح لهم بالمرور؛ فقد خيل إليه أن امرأته ستلد في السيارة، ولكنه تذكر أن الشرطي لن يأبه برجائه؛ فالقانون أهم من زوجته والوليد المنتظر. وحين وجد أن لا سبيل له إلا أن يسكت، تضاءل أمام نفسه عاجزا يرنو إلى زوجته وقد عادها الألم. وأمسك يد ليلى في تشبث ملهوف يردد النظر بين الشرطي ووجه زوجته الذي غضنه الألم المرير. وأخيرا سمح الشرطي لهم أن يسيروا.
وبلغت السيارة المستشفى، وأدخلت ليلى إلى غرفة الولادة، وصحبتها أمها، وظل عباس وحده. أحاطت به الوحدة، وحدة كاملة، فراغ، فراغ كبير من حوله. أحس كأنه هباءة في الهواء يبحث عن شيء يتعلق به، ولكن يده لا تمسك بغير الفضاء. يقوم إلى باب الحجرة يحاول أن يدخل ولكن أمر الطبيب الصارم يقذف به مرة أخرى إلى الوحدة والفراغ والفضاء.
وجاءت أمه ومعها وهيبة ولطفي، وحاول أن يجد فيهم الشيء الذي يتعلق به. وتركته أمه ووهيبة ودخلتا إلى ليلى، وظل هو مع لطفي. وأحس أنه ما يزال يمسك بالفضاء، وخيم عليهما الصمت، وطال. وخرجت وهيبة فزعة من الحجرة، ولقفها عباس: ماذا؟! ... ماذا يا وهيبة؟ - لا أدري. إنها متعبة ... متعبة ... الطبيب يريد طبيبا آخر. لطفي ... نريد ... نريد ...
واندفع عباس إلى الحجرة، وحاول الطبيب أن يمنعه ولكنه لم يعبأ بأوامره، ووقف إلى جانب ليلى شاحبة بلا لون ولا نأمة إلا صفرة وابتسامة تسللت إلى شفتيها حين رأته وهمست: لا تخف، لا تخف يا عباس، كفاك خوفا. - أريد أن تعيشي، أريد أن تظلي بجانبي؟ - سأكون بجانبك دائما، هنا أو هناك سأكون بجانبك.
وصرخ عباس: لا! لا!
وقال له الطبيب في حزم: حياتها في خطر، أي هزة قد تودي بها، أرجوك.
وأمسك بذراعه يقوده إلى خارج الغرفة فاستسلم له، ولكن قبل أن يصل إلى الباب وقف مرة أخرى في إصرار: أراها ضعيفة، ولكن الأمل كبير، أليس كذلك يا دكتور؟ - أملنا في وجه الله، لا تضع هذا الأمل، أرجوك.
ونظر إلى الطبيب نظرة داهشة، ثم استسلم له وخرج، ولكنه ظل ملاصقا لباب الغرفة يتحسسه في خوف والدموع تملأ عينيه، وفجأة وجد نفسه يقول بلا وعي: يا رب.
وأحس أنه وجد ما يريد أن يتعلق به: يا رب. يا رب.
Unknown page