Lessons from the Prophet's Mosque by Al-Uthaymeen
دروس الحرم المدني للعثيمين
Genres
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام ١٤١٦هـ[١]
في هذا الدرس الذي يعقبه الفتاوى يتكلم الشيخ بما تيسر من تفسير الآيات التي يقرأها الإمام في صلاة المغرب، وكان موضوع هذا اللقاء هو سورة الطارق حيث تطرق الشيخ في تفسيرها إلى إثبات الرؤية لله ﷾، والنهي عن الخوض في كيفية الصفات، واستفاض في تفسير آيات سورة الطارق وبيان روعة معانيها.
1 / 1
تفسير سورة الطارق
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذه الليلة، ليلة الخميس التاسع عشر من شهر ربيع الثاني نجتمع بإخوتنا في المسجد النبوي بعد صلاة المغرب وعلى كرسي أخينا الشيخ/ أبي بكر الجزائري: (والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) .
1 / 2
تفسير قوله تعالى: (والسماء والطارق)
نتكلم الآن بما يسر الله ﷿ من تفسير السورة التي استمعنا إليها في قراءة إمامنا في صلاة المغرب، ألا وهي قول الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:١-٤] يقسم الله بالسماء، والسماء هنا يحتمل أن يراد بها كل ما علاك فهو سماء، ويحتمل أن يراد بالسماء: السماوات السبع، فيكون مفردًا أريد به الجنس فيعم كل السماوات، وأيًَّا كان فإن الله تعالى لن يقسم بشيء إلا وهو دليلٌ على آية من آياته ﷿، فهذه السماوات الواسعة الأرجاء، العالية البناء القوية بناها الله ﷿، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:٤٧]، وقال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس:٥] .
وإياك يا أخي! أن تعتقد أن قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ أن الله بنى السماء بيده، كلا.
فقد قال الله ﷿: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت:١١] فالله تعالى خلق السماوات بالكلمة ولا بيده جل وعلا، ولهذا يخطئ من يظن أن قوله: (بأيدٍ) جمع يدٍ، وإنما هي مصدر آد يئيد والمصدر أيد، كباع يبيع والمصدر بيع، ولهذا لم يضفها الله إلى نفسه كما أضافها في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ [يس:٧١] وعلى هذا فلا يجوز أن نعتقد بأن الله خلق السماء بيده أو بأيديه أبدًا، بل أيد مصدر آد يئيد والمصدر أيد، مثل: باع يبيع بيعًا، وكال يكيل كيلًا.
إذًا: هذه السماوات العظيمة جديرة بأن يقسم الله بها حيث قال: (والسماءِ) فالواو هنا حرف قسم، (والطارق) معطوفة على السماء، والمعطوف له حكم المعطوف عليه، وعلى هذا فيكون الله تعالى أقسم على الطارق، وما هو الطارق؟ قال الله ﷿ تفخيمًا له: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ يعني: أي شيء أعلمك عن هذا الطارق الذي كان جديرًا أن يقسم الله به، ففسره الله بقوله:
1 / 3
تفسير قوله تعالى: (النجم الثاقب)
قال تعالى: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق:٣] هذا الطارق؛ وسمي طارقًا لأنه يبرز ليلًا، والطارق في اللغة العربية هو: القادم إلى أهله ليلًا، أو الوافد ليلًا، وعلى هذا فالطارق هو النجم.
(الثاقب) يثقب ظلام الليل بضيائه، ولهذا إذا خرجت إلى محل ليس فيه كهرباء لوجدت أنوار النجوم ظاهرة بينة، فهو يثقب الظلام بضيائه، ويثقب الشيطان بشهابه، الشياطين تتراكب حتى تصل إلى السماء لتسترق السمع، ولهذه الشياطين كُهَّانٌ في الأرض يتولونهم ويتلقونهم، فيأتيه الشيطان بخبر السماء ثم يشيعها الكاهن بين الناس ويكون -أعني الكاهن- حكمًا بين الناس، يحكم بينهم، ولهذا كانوا في الجاهلية يأتون إلى الكهان يتحاكمون إليهم، لكن الإسلام أبطل ذلك، وقال النبي ﷺ: (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ .
وتفسير (النجم الثاقب) تفسير الله ﷿، ولا أحد يفسر القرآن بمثل ما يفسره من تكلم بالقرآن وهو الله، ولهذا يقول العلماء: يرجع في تفسير القرآن إلى عدة أشياء: أولًا: إلى تفسير الله ﷿.
ثانيًا: إلى تفسير النبي ﷺ، ولا تفسير يعارض ذلك أبدًا.
ثم إلى تفسير الصحابة ولاسيما الفقهاء منهم المعتنون بالتفسير؛ كـ عبد الله بن عباس.
ثم إلى أكابر علماء التابعين الذين تلقوا تفسير القرآن عن الصحابة ﵃؛ مثل: مجاهد بن جبر.
وتفسير الله له أمثلة كثيرة في القرآن: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار:١٧-١٨] ما يوم الدين؟ ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار:١٩] .
«الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة:١-٣] ما هي؟ ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة:٤]، والأمثلة كثيرة في هذا.
تفسير النبي ﵊ أيضًا له أمثلة: منها: قول الله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:٢٦] (الحسنى) مبتدأ مؤخر، و(للذين) خبر مقدم (وزيادة) فما هي (الحسنى)؟ وما هي (الزيادة)؟ فسرها النبي ﷺ بأن الحسنى: هي الجنة، وأن الزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لذلك، وأن يجعلنا ممن يراه ربه وهو راضٍ عنه، ويرى ربه وهو راضٍ عنه، فسرها النبي ﵊ بأنها النظر إلى وجه الله، ولو أن أحدًا قال في الزيادة بغير ما قال الرسول ﷺ فلا نقبله.
1 / 4
إثبات الرؤية لله ﷾ يوم القيامة
وعلى هذا فيستفاد من هذه الآية الكريمة: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:٢٦] أن أهل الجنة يرون الله ﷿ رؤية عينية، يرونه بأبصارهم كما قال النبي ﵊: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، وقال في حديث آخر: (كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب)، وفي الحديث: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) ولا ألذ ولا أنعم ولا أطيب من رؤية المؤمنين لله ﷿ في الجنة، أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لذلك.
وحينئذٍ نؤمن إيمانًا عقديًا جازمًا بأن المؤمنين يرون الله ﷿ يوم القيامة في الجنة بأبصارهم، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.
فإن قال قائل: أليس الله تعالى قال لموسى حين قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف:١٤٣]؟ بلى قال ذلك، ولكن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا، والرؤية في الدنيا لا يمكن لأحد أن يرى الله ﷿ أبدًا؛ لأن الأبصار لا تتحمل ذلك، ولهذا ضرب الله له مثلًا فقال: ﴿انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ [الأعراف:١٤٣] الجبل كما نعلم جميعًا أصم ذو أحجار غليظة متينة: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ [الأعراف:١٤٣] وبقى على حاله فسوف تراني، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف:١٤٣] ماذا كان الجبل؟ ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الأعراف:١٤٣] انهد، وحينئذٍ: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف:١٤٣] أغمي عليه؛ لأنه رأى أمرًا هائلًا لم تتحمله نفسه: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ [الأعراف:١٤٣] أي: تنزيهًا أن يحيط بك أحدٌ وأنت أعظم من كل شيء، ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف:١٤٣] تبت إليك من أي شيء؟ وهل أذنب موسى حتى يقول: تبت إليك؟ لا.
هو سأل ما ليس له به علم، ولهذا لما قال نوح: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود:٤٥] قال الله له: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود:٤٦] ولهذا تاب موسى من هذا السؤال، والله المستعان! ومنا الآن طلاب علم إذا مروا بصفة من صفات الله جعلوا يمزقونها، ليس ينكروها، لكن يتنطعون ويتعمقون فيها، حتى أصبحوا ممثلين للرب ﷿ بالخلق، يبحث معك، يقول: إن لله أصابع، حقًا أن لله أصابع؟ وما هي الأصابع؟ يقول لك: كم الأصابع؟ له أظفار؟ له فواصل؟ وما أشبه ذلك، هذا حرام، مسائل الصفات آمِن بها على ما جاءت ولا تسأل، إن سألت هلكت.
وانظروا إلى الأئمة ﵏! قال رجل للإمام مالك: يا أبا عبد الله! ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] كيف استوى؟ سائل يسأل: كيف الاستواء؟ وما سأل عن المعنى، لو قال: ما معنى استوى؟ أجيب، لكن: كيف استوى؟ وهل أنت مطالب بأن تسأل عن الكيفية؟ أبدًا، أطرق مالك ﵀ وهو في مسجد الرسول ﵊ برأسه حتى قام يتصبب عرقًا من ثقل السؤال على نفسه، ثم رفع رأسه وقال: يا هذا! الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
كلمات من نور -ما شاء الله- يوفق الله من يشاء، ويتفضل عليه بالكلمات التي تكون نبراسًا للمسلمين.
يروي بعض العلماء هذا الكلام فيقول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
لكن اللفظ ما سقناه أولًا.
(الاستواء غير مجهول) وغير المجهول معناه معلوم.
(والكيف غير معقول) يعني: أننا لا ندركه بعقولنا، وكيف ندرك كيفية صفة من صفات الله بالعقل والله ﷿ يقول في الحس: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام:١٠٣]؟ ولذلك فكل ما بالحس سهل، حتى أبلد من في العالم يدرك بالحس، فالذي لا يدرك بالحس، بمعنى: لا تدركه الأبصار لا تحيط به، لا يدرك بالعقل، بمعنى: أننا لا نعلم كيفيات صفاته أبدًا.
(والإيمان به واجب) الإيمان بالاستواء واجب؛ لأن الله تعالى أثبته لنفسه، وما أثبته لنفسه وجب علينا أن نسلم به وأن نثبته.
(والسؤال عنه بدعة) السؤال عن ماذا؟ عن الكيفية، لا عن المعنى؛ لأن المعنى يقول: غير مجهول، أي: معروف، لكن السؤال عن الكيفية بدعة، ولماذا كان بدعة؟ نقول: كان بدعة لوجهين: الوجه الأول: أن الصحابة لم يسألوا عنه الرسول ﷺ، ونحن نعلم أن الصحابة أحرص منا على معرفة الله ﷿، ويجيبهم من؟ الرسول ﵊ الذي هو أعلم الخلق بالله، فالسبب والمقتضي موجود، وانتفاء المانع موجود، ومع ذلك ما سألوا الرسول؛ لأنهم يعلمون أن عقولنا أقصر وأحقر من أن تدرك كيفية صفة الله، آمنوا بالاستواء ولم يسألوا عنه، وسبحان الله! الصحابة ﵃ لا يسألون عنه وأنت تأتي في آخر الزمان تسأل عنه؟! أأنت أعلم بالله منهم؟! أأنت أشد تعظيمًا لله منهم؟! أأنت أشد حبًا لله منهم؟! كلا.
الوجه الثاني: أن السؤال عن كيفية صفات الله من سمات أهل البدع وعلاماتهم، فأهل البدع هم الذين يسألون عن الكيفيات ليحرجوا المثبتين، وتعرفون أن في الصدر الأول من هذه الأمة ولا زال خلاف في صفات الله، انقسم الناس فيها إلى ستة أقسام ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في آخر الفتوى الحموية، من شاء أن يرجع إليها فليرجع، لكن أهل البدع يأتون لأهل الإثبات فيقولون: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] كيف استوى؟ ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة:٦٤] كيف اليدان؟ كيف البسط؟ لكي يتوقف الإنسان لأنه لا يعرف هذا، فيتوقف فيقال: إذًا ليس عندك علم، لست كفؤًا لأن تسأل عن صفات الله فيوقعونك في إحراج.
ولكن ذكر بعض أهل السنة كلامًا جيدًا جدًا ومفحمًا، قال: إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل.
سبحان الله! كلام مضبوط واضح: أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل، أخبرنا أن له يدين ولم يخبرنا كيف اليدان، أخبرنا أنه خلق آدم بيديه كما قال تعالى لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص:٧٥] ولكن لو جاء إنسان يسأل: كيف خلقه بيدين؟ يجب علينا أن نقول: إن الله أخبرنا أنه خلقه بيده، ولم يخبرنا كيف خلقه، ولا كيف يده، وهذه أمور غيبية يجب علينا أن نقتصر فيها على ما جاء به النص، ولهذا أسلم طريقة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته هي طريقة السلف الصالح، الذين هم أهل السنة والجماعة، أما غيرهم من الطرق فإنها كلها فاسدة، لما يلزم فيها من اللوازم الباطلة لو لم يكن فيها إلا مخالفة ظاهر الكتاب والسنة ومخالفة الصحابة ﵃؛ لأن الصحابة مجمعون، على إثبات النصوص كما هي، فإذا قال قائل: ما دليلك على أنهم مجمعون على النصوص كما هي؟ قلنا: لأن القرآن نزل بلغة العرب، وأعرب العرب الصحابة، نزل القرآن بلغتهم، ولم يأت حرفٌ واحدٌ منهم يفسر القرآن بخلاف ظاهره فيما يتعلق بصفات الله، إذًا: فهم مجمعون عليها، ولا يحتاج أن نقول هذا النقل، ولعلنا توسعنا قليلًا ولا حرج إن شاء الله.
إذًا: نقول: إن الله ﷾ إذا فسر القرآن بشيء أخذنا به، وإذا فسره الرسول بشيء أخذنا به، وإذا فسره علماء الصحابة بشيء أخذنا به، وإذا فسره أئمة التابعين الذين تلقوا علم التفسير عن الصحابة أخذنا به، وما عدا ذلك فليس بحجة.
1 / 5
تفسير قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ)
نرجع إلى السورة: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:٤]: (إن) بمعنى: ما، و(لما) بمعنى: إلا، فيكون تفصيل الآية: ما كل نفس إلا عليها حافظ؛ لأن (إنْ) إذا جاءت بعدها (إلا) فهي للنفي، كقوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام:٧] ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ [الروم:٥٨] وما أشبه ذلك في الآيات الكثيرة، فإذا أتى بعد (إن) (إلا) فهي نافية، و(لما) بمعنى (إلا) يعني: ما كل نفس إلا عليها حافظ يحفظها ويحفظ عنها: أما يحفظها فدليله قوله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:١١] هذه من القرآن.
من السنة: (من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح) هذا الحفظ للنفس، وحفظ النفس للمحاسبة، يعني: أن الله جعل على كل نفس واحدٍ منا ملائكة يحفظون أعماله كما قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار:٩-١٠] هؤلاء الحافظون غير قوله تعالى: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:١١] فكل إنسان عليه حافظ، يحفظه من أمر الله، ويحفظ عليه أعماله، ويكون الحساب على الأعمال يوم القيامة، ولهذا سماه الله يوم الحساب، هذا الذي يكتب على الإنسان يحاسب عليه يوم القيامة، وكيف يحاسب؟ قال الله تعالى: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ [الإسراء:١٣] مفتوحًا: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:١٤] قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك، يقول: والله إن هذا إنصاف، لا يوجد أحد يدعي عليك ويقول: هات البينة، ولا قولك مردود، هذا كتاب موجود: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء:١٤] وما الذي يكتب في هذا؟ استمع إلى قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ [ق:١٦-١٧] واحد عن اليمين وواحد عن الشمال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٨] رقيب يعني: مراقب، عتيد يعني: حاضر لا يغيب.
كلمة (من قول) يقول العلماء: إنها نصٌ في العموم؛ لأن النكرة في سياق النفي للعموم، لكن قد يقترن بها ما يجعلها نصًا بالعموم لا تحتمل شيئًا آخر، فما هو الذي جعلها نصًا في العموم؟ (ما يلفظ من قول) من: حرف جر زائد إعرابًا، وليس زائدًا معنى؛ لأن معناه توكيد النفي، وإذا دخل على كلمة كان مؤكدًا لمدلول السياق: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٨] أي قول؟ كل الأقوال، ما دام قلنا: (ما يلفظ من قول) للنفي، المؤكد بـ (من) فمعناها: كل قول من خير أو شر أو لغو؛ لأن كلام الإنسان ثلاثة أقسام: خير، وشر، ولغو: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقل خيرًا) الذي هو واحد من الأصناف الثلاثة، إذًا لا يقول: اللغو ولا يقول الشر، واستمع إلى أوصاف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان:٧٢] سالمين منه بعيدين عنه، وما أكثر اللغو في كلامنا! بل ما أكثر الزور! والزور هنا ليس شهادة الزور، بل كل قولٍ محرم هو زور، وما أكثره: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٨] .
دخل رجل على الإمام أحمد بن حنبل وهو مريض، وكان ﵀ يئن من المرض، وتعرفون الأنين، فقال: يا أبا عبد الله! إن فلانًا وذكر اسمه من التابعين يقول: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، فأمسك ﵀ عن الأنين، يتصبر ويتحمل المرض ولا يئن خوفًا من أن يكتب.
1 / 6
تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق)
قال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [الطارق:٥] اللام لام الأمر، ولهذا سكنت بعد الفاء، ولام الأمر تسكن بعد الفاء، وبعد الواو، وبعد ثم، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج:٢٩] ولهذا يخطئ بعض القراء فيقول: (هذا بلاغ للناس ولْينذروا به) بتسكين اللام، وهذا لحن يحيل المعنى، وأكثر الناس لا يحس بهذا الشيء، فإذا سكنتها بعد الواو صارت لام أمر، فيختلف المعنى، ولهذا الصواب أن يقال: ﴿هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ [إبراهيم:٥٢] تكسرها: ﴿وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [إبراهيم:٥٢] واللام هنا مكسورة لأنها لام التعليل وعليه نأخذ قاعدة: لام التعليل مكسورة دائمًا، بخلاف لام الأمر فهي مكسورة إلا إذا دخل عليها واو العطف، أو فاء العطف، أو ثم، وعرفتم الأمثلة.
قوله: (فلينظر) اللام هنا لام أمر؛ لأنها سكنت بعد الفاء، هذا دليل لفظي، والدليل المعنوي: أن الله أمر الإنسان أن ينظر مم خلق.
1 / 7
تفسير قوله تعالى: (خلق من ماء دافق)
قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق:٦] ماء الرجل: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق:٧] الترائب: الصدر، والصلب: الظهر، خلق من هذا الماء المهين، وأصله الأول خلق من تراب من طين، من حمأ مسنون، هذا أصل الإنسان، وما تولد منه من ماء دافق: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق:٧] .
1 / 8
تفسير قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر)
﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ [الطارق:٨] إن الله ﷿ (إنه) الضمير يعود على الله، وإن لم يتقدم ما يعود إليه الضمير، لكن السياق يدل عليه: (إنه على رجعه) أي: رجع الإنسان (لقادر) متى؟ يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى:٢٩] .
﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ وهذا واضح، استدل الله ﷿ بالأشد على الأسهل، هل الأشد الابتداء أو الإعادة؟ إن الابتداء أشد، والإعادة أهون، والدليل على أن الإعادة أهون: قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم:٢٧] أي: إعادته: ﴿أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ وهذا واضح، أن الإعادة أهون من الابتداء، فيقول: (إنه على رجعه لقادر) فالذي خلقه من ماء دافق قادر على أن يرجعه يوم القيامة.
1 / 9
تفسير قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر)
قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق:٩] انتبه يا أخي! لهذه الجملة! نسأل الله أن يقوينا وإياكم على إخلاصها.
﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ يوم القيامة تختبر السرائر لا الظواهر، والسرائر: القلب، كما قال تعالى: ﴿أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ [العاديات:٩-١٠] يوم القيامة لا يحاسب الإنسان على أعماله الظاهرة فقط، وإلا لنجح المنافقون؛ لأن المنافقين يأتون بالأعمال الصالحة التي ظاهرها الصحة، لكن على قلوبٍ خربة، إذا كان يوم القيامة خانتهم قلوبهم، تبلى السرائر فلا يوجد عن أحدٍ منجى إلا من كانت سريرته طيبة، نسأل الله أن يطيب سريرتنا.
﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق:٩] تختبر، الحساب في الدنيا على الظواهر، وفي الآخرة على السرائر، وانظر إلى المنافقين في عهد الرسول ﵊ يعلنون الإسلام؛ يأتون للصلاة، يتصدقون، ويقولون للرسول ﵊: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون:١] ويذكرون الله لكن قليلًا: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:١٤٢] والرسول يعلم بعضهم: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد:٣٠] يعلم ذلك، وحتى أنه أسر إلى حذيفة بن اليمان بأسماء رجال عيَّنهم، ومع ذلك لم يقتلهم، لماذا؟ حتى لا يقال: إن محمدًا يقتل أصحابه.
فإذا قال قائل: هؤلاء ليسوا أصحابًا له؛ لأنهم أعداء له كما قال تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون:٤] فنقول هم أصحابه ظاهرًا، والحكم في الدنيا على الظاهر، لكن في الآخرة على البواطن، ولهذا أصلح سريرتك يا أخي! وانظر إلى قلبك هل فيه إيمان؟ هل هو متعلق بالله؟ لا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يستسلم إلا لله، فإذا كان كذلك، فاحمد الله وازدد من هذا خيرًا، وإن كان فيه بلاء فاحذر، ولعل بعضكم سمع قصةً: كان رجل من أصحاب رسول الله ﷺ في غزوة رواها البخاري في صحيحه، وكان لا يترك للعدو شاذة ولا فاذة، شجاع مقدام مصيب رامي، فقال النبي ﷺ: (إنه من أهل النار) فعظم ذلك على الصحابة، كيف يكون هذا المجاهد البطل المغوار من أهل النار؟! عظم ذلك عليهم، فقال أحد الصحابة: (والله لألزمنه حتى أرى ما غايته) فلزمه؛ صار معه يصاحبه ويمشي معه، فأصيب هذا الرجل الشجاع بسهمٍ من العدو، فجزع كيف يصاب وهو الرجل الشجاع البطل؟! فسلَّ سيفه ووضعه في صدره واتكأ عليه حتى خرج من ظهره، فمات، فجاء الرجل للرسول ﷺ، قال: (يا رسول الله! أشهد إنك رسول الله -اللهم صلِّ وسلم وعليه- قال: بم؟ قال: الرجل الذي ذكرت أنه من أهل النار حصل له كذا وكذا، فقال ﵊: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار) نعوذ بالله من ذلك، اللهم عافنا من هذا، اللهم أعذنا من هذا: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار) لأن قلبه فيه شيء، فيه سريرة خبيثة أودت إلى سوء الخاتمة، نسأل الله العافية.
ولهذا أحث نفسي وإياكم يا إخواني! على إصلاح الباطن، وعلى تفقد القلب، كلنا يتوضأ ويطهر ظاهره، كلنا يغتسل من الجنابة، ويطهر جسمه كله، لكن القلب، هل منا من يغسله كل يوم؟ قلَّ من يغسله، إن أجل العبادات الصلاة كثيرٌ من الناس لا يفعلها إلا على وجه العادة، يصبح يتوضأ ويذهب يصلي الفجر، لكن لا يحس بأن هذه الصلاة دخلت قلبه حتى كان في صلاته متصلًا بربه.
عروة بن الزبير أصيب بأحد أعضائه بالجذام؛ والجذام مرض إذا أصاب عضوًا انتشر في البدن ومات المصاب، فقيل له: إنه لا يمكن أن تنجو منه حتى نقطع رجلك، ولن تطيق ذلك حتى تشرب شيئًا من الخمر.
فقال: لا أقدر، فقالوا: كيف نعمل؟ قال: دعوني أصلي، فلما شرع في الصلاة قطعوا رجله؛ لأنه إذا دخل في الصلاة واتصل قلبه بالله ﷿ لم يشعر بما حوله، لأن الاتصال بالله ينسي كل شيء.
انظر إلى الرسول ﵊ لما نهى أصحابه عن الوصال، والوصال: ألا يفطر الإنسان بين اليومين، نهاهم الرسول عن الوصال ﵊، قالوا: (إنك تواصل؟ قال: لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) قال العلماء: معنى ذلك: أنه لانشغاله بذكر الله ﷿ لا يهتم بالطعام والشراب، وهذا حق، ولهذا يقول الشاعر في معشوقته:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
إذا قامت تتحدث في عشيقها نسيت الأكل والشرب وكل شيء، المشتغل قلبه بالله ﷿ ينسى، ولكن: أيهما أكمل حالًا عروة بن الزبير ﵁ الذي انشغل عن قطع عضو من أعضائه بصلاته، أو عمر بن الخطاب الذي كان يجهز الجيش وهو يصلي؟ لا شك أن عمر بن الخطاب أكمل حالًا؛ لأنه جمع بين عبادتين، وهاهو النبي ﵊ ولا شك أنه أكمل الخلق، كان إذا سمع بكاء الصبي خفف الصلاة، فكان عنده وعي، عنده عقل، لكن بعض الناس لا يتحمل الجمع بين هذا وهذا فيعجز، ولهذا سئل بعض العلماء: عن شخص مات وله ولد، فجعل الناس يعزونه وهو يضحك يتبسم، راضٍ بقضاء الله وقدره، لكن الرسول محمدًا ﵊ لما مات ابنه إبراهيم ماذا قال؟ قال: (العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم! لمحزونون) هذا أكمل من حال الرجل الذي عجز أن يتحمل الجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله وقدره فجعل يتبسم.
1 / 10
تفسير قوله تعالى: (فما له من قوة ولا ناصر)
قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ﴾ [الطارق:١٠] من هو الذي (ما له من قوة ولا ناصر) الإنسان، ليس له قوة في نفسه فيدافع عن نفسه، ولا ناصر يدافع عنه، ولكن إذا كان مؤمنًا وجد النصرة من الله ﷿: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر:٥١-٥٢] .
﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ [الطارق:٩-١٣] السماء ما علا، هنا لا شك أنها ليست السماء المحفوظة، والسماء ما علا؛ لأن الرجع هو المطر، والذي يأتي منه المطر السحاب؛ والسحاب ليس في السماء المحفوظ بل هو ما علا: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق:١١-١٢] الصدع: التشقق، إذا نزل المطر على الأرض نبت الحب في جوف الأرض، ثم ينتفخ وحينئذٍ تتصدع الأرض، فأقسم الله تعالى بالمطر الذي به حياة الأرض، وبالأرض التي قبلت هذا المطر وأنبتت، على ماذا؟ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ أي: القرآن؛ لأن بالمطر حياة الأرض، وبالقرآن حياة القلوب كما قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس:٦٩-٧٠] فالقرآن تحيا به القلوب، وهو قولٌ فصل أي: يفصل بين الأمور.
1 / 11
تفسير قوله تعالى: (إنهم يكيدون كيدًا)
قال تعالى: (إنهم يكيدون كيدًا) وقوله: (كيدًا) في الموضعين للتعظيم، أي: يكيدون كيدًا عظيمًا.
وأكيد كيدًا أعظم، كما قال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠] ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل:٥٠] .
وأعظم كيد كاده المشركون للرسول ﵊ كما بينه الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال:٣٠] (ليثبتوك) يعني: بالحبس فيحبسونك، (أو يقتلوك) واضح، (أو يخرجوك) من مكة، فماذا حصل؟ قال الله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠] فخرج النبي ﷺ من بينهم ولم يفعلوا شيئًا؛ لأن الله تعالى خير الماكرين انظر الحيلة العظيمة! يقولون: إن كبار قريش اجتمعوا في دار الندوة، وقالوا: من يكفينا من هذا الرجل، سفه آباءنا وأحلامنا، وأضل نساءنا وصبياننا، فذكروا آراء من جملتها هذا الرأي العظيم: الاتفاق على القتل، قالوا: يجتمع عشرة شباب أقوياء من قبائل متفرقة، ويعطى كل واحد سيفًا بتارًا ويضربون محمدًا ضربة رجلٍ واحد حتى يقضوا عليه، وحينئذٍ يضيع دمه في القبائل فلا تستطيع بنوا هاشم أن تأخذ بالثأر من جميع القبائل، وحينئذٍ يرضون بالدية ونسلم، فعلوا ذلك، ولكن لم يفد شيئًا، فالمهم أن الله يقول: ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق:١٦-١٧] (مهل) يعني: انتظر بهم، (أمهلهم رويدًا) أي: زمنًا قليلًا حتى يؤخذوا، والحمد لله ما كانت إلا مدة وجيزة بعد أن خرج الرسول ﷺ من مكة خائفًا على نفسه بعد ثمان سنوات رجع إليها منصورًا مظفرًا، حكم قريشًا بيده.
ذكر المؤرخون أن النبي ﷺ لما دخل مكة قال: (من دخل المسجد فهو آمن -انظر يؤمنهم وقد كانوا من قبل يخوفونه، والآن هو الذي يخيفهم- ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) ثم لما انتهى الأمر وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل؛ لأنه فاتح، فماذا فعل ﵊؟ فَعَل فِعل الحليم الرحيم قال لهم: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: إني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» [يوسف:٩٢] اذهبوا فأنتم الطلقاء) هذا الحلم مع القدرة، فانظر إلى كيد هؤلاء وإلى كيد الرب ﷿ أيهما أعظم؟ كيد الله أعظم، ولهذا هل الكيد صفة مدح أو صفة ذم؟ في المسألة تفصيل: إذا كان في مقابلة كيد العدو فهو صفة مدح، وإذا كان ابتداءً فهو صفة ذم، والكيد والمكر والاستهزاء والسخرية كلها على هذا الباب، إن كانت في محلها فهي صفة مدح: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة:٧٩] ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة:١٤-١٥] ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق:١٥-١٦] ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ [النمل:٥٠] ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد:١٣] وهلم جرًا.
قال تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ [الطارق:١٧] هذه السورة كما سمعتم سورة عظيمة، وإني أحث الشباب خاصة وغيرهم أيضًا على فهم كتاب الله، لا على أن يقرءوه تعبدًا للتلاوة فقط، إن الله يقول في كتابه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:٢٩] لابد من التدبر؛ والتدبر هو التفهم والاتعاظ (وليذكر أولوا الألباب) أي: ليتعظوا به، ولهذا كانوا الذين يقرئون الناس القرآن من الصحابة كانوا لا يتجاوزون عشر آيات من كتاب الله حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، لكننا مع الأسف الآن تأتي إلى فصل كامل في الجامعة تقول: تعال فسر لي هذه الآية لا تكاد ترى واحدًا منهم يفسرها، وهذا نقص! إذا كنا نحرص على شرح الأحاديث الواردة عن النبي ﵊ فلماذا لا نحرص على تفسير كتاب الله؟ هذا أولى وأعظم، والإنسان سبحان الله! اسأل مجربًا كلما تأمل في كتاب الله اتضح له من المعاني ما لم يكن يعرفها من قبل: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ [طه:١٢٣] جَرِّبْ تَجِدْ، وفي القرآن حل كل شيء يشكل عليك: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل:٨٩] لكن أحيانًا يكون بيان القرآن بالأصالة، وأحيانًا يكون بيان القرآن بالإحالة على السنة، أحيانًا الأمر واضح في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:٦] فهذا واضح لا يحتاج تفسيرًا، لكن تأتي: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس:٢٦] الزيادة هذه لا نعرف معناها حتى فسرها النبي ﵊، لكن ما من إنسان يتدبر القرآن إلا وجد فيه من العلوم العظيمة ما لا يجدها في غيره، إن جئت في النحو وجدت شواهد، إن جئت في البلاغة وجدت شواهد، إن جئت في البيان وجدت شواهد، إن جئت في العقائد وجدت شواهد، في الفقه وجدت شواهد في كل شيء، قالوا: إن بعض علماء المسلمين اجتمع في مطعم من مطاعم أوروبا ومعه نصراني في نفس المطعم، لكن ليسوا على مائدة واحدة فيما يظهر، فجاء النصراني متحديًا، قال: إن كتابكم نزل تبيانًا لكل شيء، فكيف صنعت هذه (السلطة)، كيف صنع هذا الخبر، كيف صنع هذا اللحم -هذا ما همه إلا بطنه، يعني: يريد القرآن أن يكون كتاب مطبخ- كيف صنع هذا؟ وهذا العالم أعطاه الله ذكاءً، قال العالم: يا صاحب المطعم! تعال! كيف صنعت هذا؟ قال: فعلت كذا وكذا وذكر الوصفة تمامًا، قال: هكذا جاءت في القرآن! تعجب النصراني كيف جاءت في القرآن هات من أول الفاتحة إلى آخر الناس ما نجد هذا، فقال: موجودة في القرآن، إن الله قال: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٤٣] هذه الآية وإن لم تكن في هذه المسألة في خصوصها لكن فيها إشارة أن كل شيء لا تعلمه اسأل عنه أهل العلم به.
لو قلت مثلًا إعراب: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] ما إعرابها؟ إنه: موجود في القرآن بناءً على ذلك.
جاء في الحديث الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، والمسلمون كما تعلمون الآن في حروب مع النصارى وفي فتن بينهم، فينبغي لنا أن ندعو لإخواننا المسلمين أن ينصرهم الله تعالى على أعدائهم من الكفار؛ من النصارى واليهود والمشركين، والمنافقين، والملحدين، وأن ندعو لإخواننا الذين ظهرت بينهم الفتن أن يصلح الله ذات بينهم، فنسأل الله ﷾ في مقامنا هذا أن يصلح ذات بين المسلمين، وأن يجمع كلمتهم على الحق.
ونسأله ﵎ أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك على أعدائنا وأعداء الله ورسوله من نصارى الصرب المعتدين إنه على كل شيء قدير.
ونسأل الله ﷾ أن ينصر إخواننا في الشيشان على الشيوعيين الملحدين الذين لم يراعوا فيهم إلًا ولا ذمة، وهو على كل شيء قدير.
وعليكم يا إخواني! بالدعاء في مواطن الإجابة: بين الأذان والإقامة، في حال السجود، في آخر الليل، فإن الله تعالى ربما يجيب دعوة من إنسان لا يؤبه له، كما قال النبي ﵊: (رُب أشعث أغبر مدفوعٌ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) .
أقول: بارك الله فيكم أحث نفسي وإياكم على تدبر كلام الله ﷿، وتفهم معناه ففيه الخير كل الخير، وسعادة الدنيا والآخرة، علوم متنوعة، هداية، كما قال الله ﷿: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه:١٢٣-١٢٥] ليس يعترض على الله لكن يقول: ما هو السبب؟ ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه:١٢٦] .
1 / 12
الأسئلة
1 / 13
تفسير قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)
السؤال
ما معنى قول الله ﷾: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [القلم:٤٢]؟
الجواب
يقول الله ﷿: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ [القلم:٤٢-٤٣] هذه الآية فيها قولان للسلف: الأول: أن المراد بالساق الشدة.
يعني: يكشف عن شدة، وتشتد الأمور، ويدعى هؤلاء المنافقون إلى السجود ولكن لا يستطيعون؛ لأنهم لم يسجدوا لله ﷿ في الدنيا، فلم يتمكنوا من إجابة أمر الله تعالى في الآخرة.
والقول الثاني: أن المراد بالساق هنا ساق الرب ﷿.
أما الأول فيؤيده اللفظ، وأما الثاني: فيؤيده حديث أبي سعيد الطويل حيث ذكر النبي ﷺ أن الله يكشف عن ساقه.
فهل نأخذ بظاهر اللفظ، أو نقول: إن السنة تبين الظاهر وتحدد المعنى؟ هل نأخذ بظاهر اللفظ ونقول: المراد بالساق هنا الشدة، أو أن ساق الله ثبتت في الحديث والحديث تثبت به الصفات كما تثبت بالقرآن، أو نقول: إن الآية تفسر بما يطابق الحديث؟ نقول: لولا الحديث الذي فيه أن الله يكشف عن ساقه جل وعلا لحرم أن نفسر الساق بأنها ساق الله، لماذا؟ لأن الله لم يضفها إلى نفسه، وكل شيء لا يضيفه إلى نفسه لا يجوز أن تضيفه أنت إلى الله، لكن ما دامت السنة جاءت بالسياق المطابق للآية، وأن الساق هو ساق الرب ﷿، فإننا نرجح أن المراد بالساق هنا ساق الله ﵎، ولكن يجب أن نعلم أنه لا يماثل سوق المخلوقين؛ لأن عندنا آية في كتاب الله محكمة واضحة فيها: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] هذا خبر: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل:٧٤] هذا نهي.
1 / 14
حكم الاستغفار للمشرك أو للكافر
السؤال
فضيلةَ الشيخ! ما حكم الاستغفار للمشرك أو الكافر؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يستغفر لمشركٍ أو كافر؛ لقول الله ﵎: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة:١١٣] .
ولكن يرد على هذا مسألة: أليس إبراهيم قد استغفر لأبيه؟ أجاب الله عنه فقال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة:١١٤] وسبحان القادر على كل شيء، إبراهيم أبوه مشرك، يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئًا، ونوح ابنه كافر غرق مع الهالكين، مما يدل على كمال قدرة الله ﷿، وأنه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر.
المهم أنه لا يجوز أن تستغفر للمشرك مهما عمل من الخير، وكذلك الكافر الذي مات على كفره، فلو مات إنسان وهو لا يصلي وأنت تعلم أنه لا يصلي إلى آخر رمق فلا يجوز أن تدعو الله له بالمغفرة ولا بالرحمة ولا بالرضوان؛ لأنه مات على الكفر.
السائل: هو يستشهد -يا شيخ- بقول الرسول ﷺ لكفار قريش: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ [يوسف:٩٢]؟ الجواب: هنا ليسوا كفارًا هم أسلموا كلهم.
1 / 15
أسباب صلاح الباطن
السؤال
فضيلة الشيخ! علمنا كيفية إصلاح ظواهرنا فكيف نصلح سرائرنا؟
الجواب
كل امرئ حسيب نفسه في إصلاح باطنه، لكن من أسباب إصلاح الباطن: أن يكون الإنسان دائمًا مع الله، يكثر ذكره واستغفاره، وعند المعاصي يخاف منه، وعند الطاعات يطمع في رحمته، المهم أن يعلق قلبه بالله ﷿، لا بالدنيا وزخارفها، ولذاتها، وشهواتها، قال الله ﵎: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران:١٤-١٥] .
1 / 16
حكم التوسل بحق الرسول وبمحبته
السؤال
هل يجوز للمسلم عند الدعاء أن يقول: اللهم بحق رسول الله أو بمحبته؟
الجواب
التوسل إلى الله ﷿ بالدعاء أو حال الدعاء إنما يكون فيما صح أن يكون وسيلة؛ لأن الوسيلة: هي كل ما يتوصل به الإنسان إلى حصول مقصوده، وعلى هذا فلابد أن تكون الوسيلة شرعية أو قدرية.
وهنا يحسن أن نتكلم على الوسيلة في الدعاء.
الوسيلة في الدعاء على أقسام: القسم الأول: أن يتوسل إلى الله ﵎ بأسمائه وصفاته، فنجعل الأسماء القسم الأول، والصفات القسم الثاني.
دليل التوسل بالأسماء: حديث ابن مسعود ﵁: (أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي إلخ) هذا توسل بالأسماء، سواء على وجه العموم كهذا الحديث، أو على وجه الخصوص مثل الدعاء الذي علمه النبي ﷺ أبا بكر ﵁: (فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) .
القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بصفاته، ومنه الحديث المشهور: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي)، ومنه أيضًا دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك.
إلخ) .
القسم الثالث: التوسل إلى الله تعالى بأفعاله، ومنه قوله ﷺ حينما علم أمته كيف يصلون عليه: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) فتوسل الداعي بصلاته على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وهي من فعله أن يصلي على محمدٍ وعلى آل محمد، فهذا التوسل إلى الله بفعله ﵎.
القسم الرابع: التوسل إلى الله بالإيمان به، وهذا كثير في القرآن: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران:٦] فهذا توسل بالإيمان به جل وعلا.
القسم الخامس: التوسل إلى الله باتباع الرسول ﷺ، مثل قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران:٣] .
القسم السادس: التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة؛ أن يتوسل الإنسان بالأعمال الصالحة، ومن ذلك قصة أصحاب الغار: ثلاثة آواهم المبيت فدخلوا في غار، فلما دخلوا فيه أطبقت عليهم صخرة على باب الغار وعجزوا أن يتخلصوا منها، فقال بعضهم لبعض: توسلوا إلى الله تعالى بأعمالكم الصالحة، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة، أحدهم توسل إلى الله تعالى ببره لوالديه، والثاني توسل إلى الله تعالى بعفته، والثالث توسل إلى الله بأمانته، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون، هذا التوسل بالأعمال الصالحة.
القسم السابع: التوسل إلى الله ﵎ بدعاء الصالحين، وذلك بأن تطلب من شخصٍ صالحٍ بأن يتوسل إليك، أن يدعو لك، مثل: توسل الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد: (دخل رجلٌ يوم الجمعة والنبي ﷺ يخطب قال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل من قلة المطر والنبات فادع الله أن يغيثنا، فرفع النبي ﷺ يديه وهو على المنبر، وقال: اللهم أغثنا! اللهم أغثنا! اللهم أغثنا! ثلاث مرات، قال أنس -وهو راوي الحديث-: فوالله ما في السماء من سحابٍ ولا قزعة -السحاب: الغيم المنتشر، والقزعة: القطعة الصغيرة- وما بيننا وبين سبع من بيتٍ ولا دار - سبع جبل معروف في المدينة تأتي من نحوه السحاب- فخرجت من ورائه سحابة مثل الترس -والترس ما يتوقى به المقاتل السلاح- فلما توسطت السماء انتشرت ورعدت وبرقت في الحال، قال: فما نزل النبي ﷺ عن منبره إلا والمطر يتحادر من لحيته) سبحان الله! سبحان القادر على كل شيء! وهذا من آيات الله وآيات رسول الله، من آيات الله: هذه القدرة العظيمة؛ حيث أنشأ الله هذه السحابة ورعدت وبرقت وأمطرت، من آيات الرسول: حيث إن الله تعالى أجاب دعوته بهذه السرعة، لو كان كذابًا ما أجاب الله دعوته.
بقي المطر أسبوعًا كاملًا لم يروا الشمس، فدخل رجلٌ أو الرجل الأول من الجمعة الثانية والنبي ﷺ يخطب، قال: (يا رسول الله! غرق المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكه، فقال ﷺ: اللهم حوالينا ولا علينا ويشير إلى النواحي، فما أشار إلى ناحية إلا انفردت السحاب فخرجوا يمشون في الشمس) هذا التوسل بدعاء الصالحين؛ بأن تطلب من الرجل الصالح أن يدعو لك.
ولما أصيب الناس بالقحط في زمن عمر بن الخطاب قال: [اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتسول إليك بعم نبينا فاسقنا] ثم طلب من العباس أن يقوم فيدعو الله، فدعا.
ولكن هل هذا من المستحسن أن تطلب من الرجل أن يدعو لك؟ الجواب: لا.
ليس من المستحسن، ادع الله أنت بنفسك لقول ربك جل وعلا: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:٦٠] لكن إذا كان لمصلحة الناس كما لو طلبت من رجل تتوسم فيه الخير أن يدعو الله تعالى بإنزال المطر، أو أن يشفي المريض الفلاني، يعني: ليس لنفسك، هذا لا بأس به؛ لأنه إحسان إلى الغير، أما لنفسك فلا تفعل؛ لأن هذا السؤال فيه محذوران: المحذور الأول: أنه نوعٌ من الذل، الإنسان يسأل، كأنما يقول: أعطني ريالًا.
والثاني: أن فيه غرورًا للمسئول، لأن المسئول قد يُعجب بنفسه وينتفخ، يقول: أنا ولي من أولياء الله، الناس يسألونني أن أدعو الله لهم، فيحصل في ذلك غرور.
لكن قال بعض العلماء: لو سألت من أخيك أن يدعو الله لك من أجل الإحسان إليه، ليس من أجل أن يحسن لك، أن تحسن أنت إليه، بأن تنوي أن يثاب على دعائه لك لأنه إحسان، وتنوي أيضًا أن يقول الملك له إذا دعا لك بالغيب له: آمين ولك مثله، أما قول الإنسان كلما رأى رجلًا يتوسم فيه الخير والصلاح: يا فلان! ادع الله لي، أو أسألك الدعاء، فهذا ليس بحسن.
وإذا توسل الإنسان بمحبته للرسول ﵊ وقال: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك أن ترزقني كذا وكذا، فهذا جائز؛ لأن حب النبي ﷺ عبادة يتقرب الإنسان بها إلى ربه ﷿، ويجب عليك أن يكون رسول الله ﷺ أحب إليك من نفسك وولدك ووالدك والناس أجمعين.
وانظروا يا إخواني! التحيات لله، أول ما نقدم فيها حق الله ﷿: (التحيات لله والصلوات الطيبات) ثم بعد ذلك حق الرسول ﷺ: (السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته) ثم بعد ذلك حق نفسك: (السلام علينا) ثم بعد ذلك حق إخوانك المسلمين: (وعلى عباد الله الصالحين) مما يدل على أن أعظم الحقوق وأولاها في التقديم هو حق رب العالمين، ثم حق رسوله الأمين ﵊، ثم حق النفس، ثم حق الصالحين.
في صلاة الجنازة التكبيرة الأولى: الفاتحة؛ الثناء على الله.
الثانية: الثناء على الرسول.
الثالثة: دعاء عام للمسلمين.
الرابعة: دعاء خاص للميت.
لماذا قدمنا حقنا في: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) على عباده الصالحين؟ لأن حق النفس مقدم على غيرها.
لكن في الدعاء للميت ستدعو لغيرك، والعموم أولى من الخصوص، تأملوا هذه المعاني العظيمة والأحكام البالغة في الشريعة، يتبين لك أنها من لدن حكيم خبير.
إذًا: التوسل إلى الله بمحبة الرسول جائز؛ لأنك تثاب على ذلك.
وبالمناسبة نسمع كثيرًا من الناس يقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، هل هذا صواب أم خطأ؟ إن هذا خطأ لأن إبراهيم خليل الله، ومحمد خليل الله أيضًا، قال النبي ﷺ: (إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا) والخلة أعلى من المحبة، ولهذا لا نعلم أحدًا من المخلوقين اتخذه الله خليلًا إلا إبراهيم ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام، لكن نعلم أن الله يحب المؤمنين، يحب المتقين، يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا، لكن هل يمكن أن تقول: إن الله خليل الذين يقاتلون في سبيله صفًا؟! لا.
لا يمكن، وهل يمكن أن تقول: إن الله خليل المؤمنين؟! لا.
إذًا: قل: إن إبراهيم خليل الله، ومحمدًا خليل الله أيضًا.
أما التوسل بحق الرسول فغير جائز؛ لأن حق الرسول الذي ينتفع به هو الرسول ﷺ، إلا إذا قصد القائل بحق الرسول عليَّ وهو الإيمان به واتباعه صار هذا من باب التوسل بالأعمال الصالحة.
وكذلك التوسل بجاه الرسول الصواب أنه لا يجوز، وأقول: يا أخي المسلم! بدلًا من أن تتوسل بأشياء مشتبهة وأشياء مختلف فيها، توسل إلى الله بشيء واضح لا إشكال فيه، عندك أنواع التوسل الجائز وهي سبعة أنواع كما ذكرنا.
1 / 17
مشروعية رفع اليدين في صلاة الجنازة
السؤال
ما هو الأفضل: رفع اليدين أو عدم رفعهما في صلاة الجنازة؟
الجواب
الصواب أن رفع اليدين في تكبيرة الجنازة سنة في كل التكبيرات، كما جاء ذلك صريحًا عن ابن عمر، ومثل هذا من الأمور التوقيفية التي لا تكون إلا عن نص، بل جاء عن النبي ﵊ أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة.
السائل: ما هو دليل الذين لا يرون عدم رفع اليدين في صلاة الجنازة؟ الشيخ: ليس عندهم دليل، إلا حديث ابن مسعود على ما أظن، ولكن إذا وجد مثبت ونافٍ المقدم المثبت.
1 / 18
الدليل على الصلاة على النبي ﷺ بعد الأذان
السؤال
ما الدليل على الصلاة على الرسول ﷺ بعد الأذان كما فعلت من قبل؟
الجواب
قوله ﷺ: (اللهم رب هذه الدعوة التامة.
إلى أن قال: ثم صلوا عليَّ.
حتى قال: فإنها تحل له الشفاعة) فتصلي عليه وتقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت سيدنا محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد) .
1 / 19
حكم زيادة (إنك لا تخلف الميعاد) في الدعاء بعد الأذان
السؤال
ما حكم الزيادة في الدعاء بعد الأذان: (إنك لا تخلف الميعاد)؟
الجواب
الزيادة هذه صحيحة، صححها شيخنا عبد العزيز بن باز، وهي أيضًا زيادة من ثقة مقبولة، وهي أيضًا من صفة دعاء المؤمنين: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران:١٩٤] .
1 / 20