تحقيق العبودية
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.
أما بعد: قال ابن القيم ﵀: غنى القلب: ما يناسبه من تحققه بالعبودية المحضة، التي هي أعظم خلعة تخلع عليه، وأعظم هبة توهب له، وأعظم عطية تعطى للعبد: وهي أن يتحقق قلبه بالعبودية المحضة لله ﷿، فيستغني حينئذٍ بما توجبه له هذه العبودية من المعرفة الخاصة -أي: بالله ﷿ عن علمه بالله ﷾ وأسمائه وصفاته، والمحبة الناصحة الخالصة: أن يكون محبًا صادق المحبة، ناصحًا في محبته، مخلصًا لها من كل شوائبها، يحب الله ﷿ من كل قلبه.
وفي حديث ضعيف: أن النبي ﷺ أول ما أتى المدينة قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وهذا المعنى ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، فأول وصية في التوراة، وأول وصية قالها المسيح ﵇: الرب إلهنا، رب واحد، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك.
يقول ابن القيم: تستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية من المعرفة الخاصة، والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل من آثار الصفات المقدسة الإلهية، فإذا استحضر -مثلًا- اسمه ﷾ السميع، وصفة السمع، واستحضر استماع الأصوات كلها له ﷿ كصوت واحد وأنه يسمعها جميعها من أدناها إلى أقصاها على اختلاف اللغات، وتباين الألسنة، وتفاوت الحاجات، وهو ﷾ يسمع ما خفي منها وما ظهر، وما أسر وما أعلن فإن ذلك يجعله معظمًا لربه ﷾، ويجعله مراقبًا له في كلامه، ويلتفت إلى كل كلمة يقولها؛ لأنه يستحضر أن الله ﷿ يسمعها، ويستحضر كذلك أنه ﷾ سميع الدعاء، كما قال إبراهيم ﵇ منكرًا على قومه عبادة من لا يسمع الدعاء: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ [الشعراء:٧٢].
فيستحضر في نفسه كم مرة دعا الله ﷿ فسمع الله دعاءه، واستجاب له، وفرج كربه، وقضى حاجته؟ ويوقن بأنه إن لم ير له إجابة فهو ﷾ إما قد صرف عنه من السوء مثلها، وإما قد ادخر له عنده ﷿ من الفضل ما يتمنى يوم القيامة أنه لم يكن استجيب له شيء من الدعاء في الدنيا؛ لما يرى من الفضل، وهكذا في كل الصفات يحصل له من آثار شهود ملكوت السماوات والأرض، فإن الله ﷿ هو المليك المقتدر، فيشهد القدرة والعزة، وأنه ﷾ هو الذي أقدر العباد على ما بأيديهم، وأنهم لا يقدرون على شيء، وأنه ﷾ على كل شيء قدير، فهو قدير على ذوات العباد وقلوبهم وأحوالهم وأفعالهم الاضطرارية والاختيارية، وهو ﷾ قادر على الإحياء والإماتة، والإسعاد والإشقاء، وتفريج الكربات، فهو ﷾ يفعل ما يشاء.
11 / 2