أسباب طرح موضوع الثبات
ثانيًا: أهمية موضوع الثبات: إن موضوع الثبات حتى الممات من الموضوعات الهامة التي يجب أن تطرح لا في المناسبات وإنما في كل الأوقات، فإنه الغاية والهدف أن تلقى الله على طاعة، أن تلقى الله على التوحيد الخالص، وعلى العبودية الكاملة، وتزداد أهمية طرح الموضوع من وجهة نظري لسببين: السبب الأول: كثرة الفتن في هذا الزمان، فلو أسميت هذا الزمان الآن بزمان الفتنة أو بزمان الفتن ما بالغت وما تجاوزت الحد؛ فلقد كثرت الفتن، روى مسلم ﵀ من حديث أنس ﵁ عن النبي ﷺ قال: (أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا) سل نفسك: لماذا؟ قال النبي ﵊: (يبيع دينه بعرض من الدنيا) يبيع الدين بعرض من الدنيا؛ والدنيا زائلة، يبيع الغالي بالرخيص، فلقد كثرت الفتن في هذا الزمان بصورة مدمرة مزلزلة، وحتى لا أطيل ولأعرج على بقية عناصر الموضوع -إن شاء الله جل وعلا- أقول: بالجملة فإن الفتنة تنقسم إلى قسمين: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، أما فتنة الشهوات فلقد عصفت الآن بكثير من القلوب، وعبد كثير من الناس هذه الدنيا، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يبذلون، ومن أجلها يعملون، ومن أجلها يخططون، ومن أجلها يفكرون، بل ومن أجلها يوالون ويعادون، فالأكثر لا هم له إلا الدنيا، ولا يبذل الوقت والجهد والعرق إلا من أجل هذه الدنيا.
ووالله -يا إخوة- ما خشي النبي ﷺ على هذه الأمة من الفقر أبدًا، بل خاف النبي على هذه الأمة من الدنيا، كما روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف الأنصاري ﵁ قال: قال ﷺ: (والله! ما الفقر أخشى عليكم) وتدبروا هذا الحديث! فرسول الله لا يخشى على أمته من الفقر، (والله ما الفقر أخشى عليكم) إذًا: ما الذي تخشاه على الأمة؟ يقول المصطفى: (ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) فكم من الناس الآن من لا يعيش إلا من أجل شهواته!! وفتنة الشبهات التي مزقت الأمة الواحدة إلى جماعات شتىً، وإلى فرق، وإلى أهواء، ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أنه ﷺ قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة -وفي لفظ: على ثلاث وسبعين ملة- كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي) فالفتن كثيرة، فهناك فتنة الأموال، وهناك فتنة الإعلام، وهناك فتنة هوان الأمة وذلها، وهناك فتنة الابتلاءات التي تصب على رءوس الموحدين هنا وهنالك في كل مكان، فالفتن كثيرة، وهي تعصف بقلوب الموحدين في هذه الأيام، حتى شعر المسلم الحقيقي بالغربة في هذا الزمان، كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي غير رواية مسلم: (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي لفظ قال: (الذين يصلحون ما أفسده الناس) وفي لفظ قال: (الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس)، وفي لفظ قال: (الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فالغريب الآن هو: الذي يفر بدينه من الفتن، بل إن الذي يصبر على الدين، ويعيش الآن للدين، ويتحرك بهمِّ هذا الدين، ويفكر في أمر هذه الدعوة؛ كالقابض على الجمر بيديه، جاء في سنن الترمذي -والحديث حسن بشواهده- من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (يأتي زمان على الناس الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) إن الذي يريد الآن أن يتمسك بدين الله، ويريد أن يصبر على هذه الفتن والأهواء التي تعصف بقلبه؛ كأنه يقبض على الجمر بيديه، ولكثرة هذه الفتن وجب أن يُطرق موضوع الثبات، وأن يدندن العلماء والدعاة حوله، وأن يبينوا للأمة وسائل الثبات وسط هذا البحر الخضم من الفتن والأهواء، نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
السبب الثاني من أسباب أهمية موضوع الثبات: أن موضوع وأمر الثبات على الدين أمر متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلبًا إلا لكثرة تقلبه، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على التوحيد، فانتبه لدعاء من فطره الله على التوحيد، وانتبه لدعاء من لينت مفاصله وجوارحه على طاعة العزيز الحميد، ألا وهو المصطفى ﷺ، فقد كان يكثر في دعائه من قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال المصطفى: يا أم سلمة! ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه) والحديث رواه أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه ﷺ قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه، ثم قال: اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلوبنا على طاعتك).
أيها الأحبة! لقد صور النبي ﷺ عرض الفتن على القلوب بصورة بليغة دقيقة، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان ﵁ قال: قال ﷺ: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا) وكيفية صناعة الحصير في الماضي هي: أنه كان يجلس الصانع فيضع العود بعد العود بعد العود، فيصنع بذلك الحصيرة الكبيرة المعروفة، (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فتعرض فتنة صغيرة فيتشرب القلب الأسود هذه الفتنة، فتنكت هذه الفتنة في القلب نكتة سوداء، ثم تعرض عليه فتنة أخرى فيتقبلها ويتشرف لها؛ فتتوسع بقعة السواد في القلب، وهكذا حتى يعلو الران القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال ﷿: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين:١٤ - ١٥].
فأمر الثبات أمر خطير؛ لأنه متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلبًا إلا لكثرة تقلبه، فأنت الآن قلبك على حال، وأنت إذا كنت في بيئة الطاعة فقلبك يزداد فيه الإيمان، ومحال أن يكون جلوسك في بيئة الطاعة كجلوسك أمام فيلم من الأفلام الداعرة أو مسلسل من المسلسلات الفاجرة؛ والإيمان يزيد وينقص، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص الإيمان بالمعاصي والزلات، فعرض قلبك لبيئة الطاعة ليقوى الإيمان في قلبك، واصرف قلبك وعينك وجوارحك عن بيئة المعصية حتى لا يعلو الران قلبك وأنت لا تدري، أسأل الله أن يطهر قلوبنا بالإيمان.
24 / 3