Durūs lil-Shaykh Muḥammad al-Mukhtār al-Shinqīṭī
دروس للشيخ محمد المختار الشنقيطي
Genres
الاستكثار من العمل الصالح
الوصية الأخيرة التي أوصي بها نفسي وكل مسلم يرجو لقاء الله ﷿: الاستكثار من العمل الصالح، ينبغي للداعية إلى الله ﷻ أن تكون بينه وبين الله أعمالٌ صالحة خفية، لا يعلمها إلا الله ﷾، يجعل بينه وبين الله قيامًا في الأسحار، أو تكون ساعات يبكي فيها من خشية الله آناء الليل وأطراف النهار، أو تكون له صدقات خفية على الأرامل والأيتام ونحوهم من ضعفة المسلمين، فقد كان أئمة السلف رحمة الله عليهم يحرصون على مثل هذه الأعمال الصالحة، فإذا كان بينك وبين الله عمل صالحٌ خفي، فإنها قربى ووسيلة يحب الله بها عباده، قربة ووسيلة تزيد العبد حبًا في الله ﷾، وتستوجب له الدعوات الصالحة، وقد تكون من فقراء المسلمين وضعفائهم بما سد من حوائجهم، وفرج بإذن الله من كرباتهم.
كان أئمة السلف يحرصون على الأعمال الصالحة الخفية، فهذا علي بن زين العابدين رحمة الله عليه مع العلم والصلاح والعمل، كان إذا جن عليه الليل لبس ثيابه، ثيابًا مبتذلة وحمل على ظهره الطعام ومضى به إلى بيوت الأرامل والأيتام، وهو إمام في زمانه ولم يعلم أحد أن هذا هو الإمام علي بن زين العابدين، سليل بيت النبوة ﵀ برحمته الواسعة، وما علم الفقراء والضعفاء أنه هذا الإمام إلا بعد أن توفي، فلما توفي فقدوا من كان يقرع عليهم بيوتهم في جوف الليل رحمة الله عليه.
هكذا يكون الإنسان بينه وبين الله صدقات خفية.
وهذا شعبة بن الحجاج بن الورد الإمام الذي يقول فيه سفيان الثوري ﵀: كان شعبة أمير المؤمنين في الحديث.
وكان يهابه ويجله، وفعلًا كان خليقًا بهذا الخير، كان ﵀ لا يرد سائلًا سأله، حتى إنه دخل عليه رجل وبكى واشتكى أن دابته قد فقدت منه، فسأله: كم قيمتها؟ قال: ثلاثة دنانير، فأدخل يده في جيبه، وقال: هذه ثلاثة دنانير والله لا أملك غيرها!! وكانوا ﵏ يضحون ويبذلون، منهم من كان يخرج عن ماله، ومنهم من كان يتصدق بنصف ماله؛ لأن العلم إذا كسر القلوب لله ﷻ، لم يبالِ الإنسان بالدنيا جاءت أو ذهبت، والذي ضرنا ركوننا إلى الدنيا، فالأعمال الصالحة الخفية تعلم الإنسان الإقبال على الله ﷾، وتزيد من المعاملة الرابحة ولعله أن يصيب دعوة تكون مستجابة عند الله ﷾، وقل أن تجد عالمًا يجمع بين العلم والإحسان إلى الناس، إلا وجدته في أعلى المراتب، والقبول له كأحسن وأجمل وأكمل ما يكون، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.
والذي ضر كثيرًا منا أننا نفقد مثل هذه المواقف؛ لأن هذه المواقف تنبئ عن رحمة، وتنبئ عن انكسار القلوب لله ﷾، فلا يرحم المسلمين إلا الرحيم، ولا يحن عليهم إلا الحنون، فإذا زين الله الإنسان بالعلم، والسعي في تفريج كربات المسلمين، وبذل قيمة هذا الجاه لقضاء حوائجهم والإحسان إليهم؛ وفقه الله وسدده وجعل الخير له وحليفه حيثما كان، فإذا مات كان وراءه الرحمات والدعوات الصالحات من المؤمنين والمؤمنات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح خير، وأن ينشر بنا كل إحسان وبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
8 / 8