وأبوك ينام ملء جفونه لا يبالي أقبل المستشار أم انعقد مجلس النظار؛ فقد تخطاه العزل،
المستشار، حتى إن أمثاله من المديرين الذين لم تشرق عليهم الشمس في بلد إلا وتغرب عنهم في آخر، ليتركون أثاث منازلهم ورياشها مطوقة بالحبال؛ لكثرة ما يؤمرون بسرعة التحول والانتقال؛ لذلك ترانا لا نحل في بلد إلا ونحن من أمرنا على سفر، ومن غضب المستشار على حذر، كأنما عنانا ابن الوليد بقوله:
تراه في الأمن في درع مضاعفة
مخافة الدهر أن يؤتى على عجل
هذا بعض ما نحن فيه. أفلا أغبطك بعد ذلك وأتمنى حالا كحالك؟!
ثم انتثر بعد ذلك عقد المجلس، فمضى كل لوجهه، وغادرت المكان على أثرهم، ويممت داري فلبثت فيها حتى حان الموعد، فخرجت وما زلت أمشي حتى اشتمل علي الليل، وأسمع صوتا فأتسمته، فأرى صديقا لي يتغنى بشيء من الكلام المقفى الموزون، فأجلس على كثب منه وهو لا يراني، وقد شجاني حسن صوته، وكاد يلهيني عن الموعد لطف إيقاعه، فألبث حتى يأتي على نشيده، ثم أتراءى له فأحييه، ونتبسط على الحديث فأسأله: لمن الشعر يا فلان؟ قال: هو بعض ما أعبث به، قلت: لقد أسمعتني منذ الليلة كلاما لو نحلته ابن أوس ما شك سامعه في أنه من مختاراته، فما لك تكتم الناس مثل هذا الشعر السري، ولو أنك أذعته لغضضت به من كثير من أولئك الذين باتت تطن الصحف بذكرهم؟!
قال: ليس من أمري المديح، ولا سبيل إلى إذاعته في تلك الصحف؛ إذ أنا لم أسلك به في تلك الطريق، قلت: فإن أعياك الأمر، فما لك لا تجمعه في ديوان، ثم تخرجه للناس كما يفعل الشعراء ممن هم دونك في منازل الأدب ومراتب القريض؟ قال: كان يكون ذلك حقيقا بي لو أن من يقرأ الأثر في مصر يقرؤه لذاته، لا لذات صاحبه، ونحن - بحمد الله - في بلد لا تنفق فيه سلعة الأديب ما لم يكن صاحبها حظيظا عند تلك الصحف، حتى إذا ظهر أثره في الناس قامت تقرظه بصنوف المديح والإطراء، وتنزل نفسها في الدعوة إلى كتابه منزلة أولئك المبشرين في الدعوة إلى دينهم.
فلو بعث اليوم صاحب اللزوميات وحاول أن ينشر في تلك الصحف حرفا مما أخذه على الأمراء، وأنكره على الكبراء؛ لأبت عليه أن تفسح لذلك الحرف مكانا بين جداول الأموات، فضلا عن جداول الأحياء. ألم تر إليها كيف كانت تقول يوم كانت تقرظ الشوقيات، وقد أسندت إلى صاحبها من الألقاب ما تعجز صحف الآستانة عن إسناد بعضه إلى جلالة المتبوع الأعظم وقد أدى فريضة الجمعة، أو تحركت شفتاه بالإنعام على بعض أهل الزلفى برتبة أو وسام.
بربك، ماذا رأيت فيها من الآيات؟ وما جاء به صاحبها من المعجزات، اللهم إلا ما يتباصر به علينا من تلك المعاني الغريبة التي ما سكنت في مغنى عربي إلا وذهبت بروائه؟
قلت: حسبك لا تغضض من شاعر الشرق، ولا تنتقص من أدبه؛ فتالله إنه لظريف الوزن، لطيف القافية، خاطره طوع لسانه، وبيانه أسير بنانه، كأنما يتناول الشعر من كمه لسهولة متناوله عليه، إلا أنه مكثار. وقل أن يسلم المكثار من العثار. فشعره كما قال الأصمعي في شعر أبي العتاهية: كساحة الملوك يقع فيه الخزف والذهب.
Unknown page