توقع مشفقا أن يبطش به، ولكنه تلاشى وكأنما غلب على أمره.
15
أثارت محاكمة فاضل صنعان الخواطر كما لم تثرها محاكمة من قبل .. وانفجرت اعترافاته في المدينة مثل إعصار .. ولأن الصفوة ما زالت تعتبره أحد أبنائها، ولأن العامة اعتبروه أحدهم، فقد تبلبلت الأفكار أيما تبلبل، وتضاربت العواطف كالدوامات الصاخبة .. واستقبل ميدان «العقاب» سيلا لا ينقطع من النساء والرجال من كافة الطبقات .. واختلطت همسات الإشفاق بصرخات الشماتة، كما يختلط أنين الرباب بعربدة السكارى .. ولما تراءى الشاب من بعيد استبقت إليه الأبصار .. تقدم بين حراسه بخطوات ثابتة ووجه هادئ وامتثال خاشع. أمام النطع انهمرت عليه الذكريات في موجة واحدة متفجرة بالشهب .. تماوجت وجوه أكرمان والبلخي وجمصة البلطي وعبد الله الحمال والمجنون .. التحم الحب والمغامرة ودفاتر الدعوة وآلاف اللقاءات المدثرة بالظلام في الأقبية والخلوات .. وتبددت الطاقية وصاحبها كعثرة بلا قرار يفوح من أعماقها الإغراء محطما قمقمه عن شهواته المكبوتة .. وتجلى أخيرا نصره المأساوي جاذبا معه شبيب رامة السياف .. تلقى ذلك في ثوان بقوة خارقة وسرعة مذهلة، فرفض الأسى بإباء، وواجه مصيره ببرود واستعلاء، فرأى فيما وراء الموت إشراقة تبهر الأعين .. ولكنه رأى أيضا معلما من معالم الآخرة متمثلا في صورة المعلم سحلول تاجر المزادات والتحف .. دهش لمرآه فأفاق من رؤيته وسأله: ماذا جاء بك يا معلم؟
فأجاب وهو يتغير من النقيض إلى النقيض: جاء بي ما جاء بك.
فهتف بدهشة أكبر: أنت ملاك الموت!
ولكنه لم يرد. فقال في شجاعة: أريد العدل!
فقال بهدوء: الله يفعل ما يشاء.
معروف الإسكافي
1
لا يفوق مرحه الظاهر إلا أشجانه الباطنة .. رزقه محدود وامرأته فردوس العرة نهمة جشعة شرسة مليئة بالقوة والعنف .. حياته جحيم بين الكدح والزوجية .. لا يمر يوم دون أن تنهال عليه ضربا وسبا وهو يرتعد بين يديها خوفا وذلا .. يتمنى شجاعة يطلقها بها، يحلم بموتها، يود الهرب، ولكن كيف وإلى أين .. قال إنه أسير كما كان فاضل صنعان أسيرا لشيطان .. ولعله لا خلاص له - مثله - إلا بالموت.
Unknown page