339

Lawāmiʿ al-Anwār al-Bahiyya wa-Sawāṭiʿ al-Asrār al-Athariyya li-sharḥ al-Durra al-Muḍiyya fī ʿaqd al-Firqa al-Marḍiyya

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية

Publisher

مؤسسة الخافقين ومكتبتها

Edition

الثانية

Publication Year

1402 AH

Publisher Location

دمشق

الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ فَهُوَ يُرَادِفُ الْإِرَادَةَ كَمَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ قُرْآنِيَّةٍ، عَلَى أَنَّ أَظْهَرَ تَفَاسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ [الإسراء: ١٦] أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِطَاعَتِنَا، وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِنَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِنَا، فَفَسَقُوا بِمُخَالَفَةِ رُسُلِنَا. وَمِمَّا يُحْكَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ الْهَمَذَانِيَّ الْمُعْتَزِلِيَّ دَخَلَ عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا أَيْضًا، وَكَانَ عِنْدَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ، فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى الْفَوْرِ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَوْرًا: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَفَهِمَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مُرَادَهُ: أَيُرِيدُ رَبُّنَا يُعْصَى؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى، أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ. فَانْصَرَفَ الْحَاضِرُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا لَعَلَّهُ يَشْفِي وَيَكْفِي، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَمْرًا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، وَكَيْفَ يَشَاؤُهُ وَيُكَوِّنُهُ، وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ إِرَادَتُهُ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ؟ فَالْجَوَابُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ أَصْلُ الِافْتِرَاقِ وَالضَّلَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَفِرَقِ الْمُوَحِّدِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لِنَفْسِهِ، وَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ، وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ قَدْ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودًا لِلْمُرِيدِ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ إِلَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِفْضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ - إِلَى مُرَادِهِ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ، بُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَنَافٍ، لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِمَا، كَالدَّوَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْكَرَاهَةِ، إِذَا عَلِمَ مُتَنَاوِلُهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ جِدًّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ، بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عَاقِبَتُهُ، وَطُوِيَتْ عَنْهُ مَغَبَّتُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْعَوَاقِبُ؟ فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يَكْرَهُ الشَّيْءَ وَيَبْغَضُهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ وَكَوْنَهُ سَبَبًا لِأَمْرٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوْتِهِ،

1 / 339