334

Lawāmiʿ al-Anwār al-Bahiyya wa-Sawāṭiʿ al-Asrār al-Athariyya li-sharḥ al-Durra al-Muḍiyya fī ʿaqd al-Firqa al-Marḍiyya

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية

Publisher

مؤسسة الخافقين ومكتبتها

Edition

الثانية

Publication Year

1402 AH

Publisher Location

دمشق

«فَكُلُّ مَنْ» أَيْ: أَيُّ آدَمِيٍّ مِنْ خَلْقِهِ «شَاءَ» أَيِ اللَّهِ - تَعَالَى - «هَدَاهُ» الْمُرَادُ بِالْهُدَى هُنَا التَّوْفِيقُ، وَالْإِلْهَامُ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، فَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النحل: ٩٣] وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ [النحل: ٣٧] وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: " «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» "، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] فَنَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ، وَأَثْبَتَ لَهُ هِدَايَةَ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، وَالْمَشِيئَةُ تُرَادِفُ الْإِرَادَةَ، فَكُلُّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - هِدَايَتَهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ «يَهْتَدِي» الْهِدَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٦ - ٧] مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ الْهِدَايَةِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠] أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ الَّتِي لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا بِغَيْرِهِ، وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ وَهَيْئَتَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ مَوْجُودٍ خَلْقَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَا خَلَقَهُ لَهُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ تَعُمُّ هِدَايَةَ الْحَيَوَانِ الْمُتَحَرِّكِ بِإِرَادَتِهِ إِلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَهِدَايَةَ الْجَمَادِ الْمُسَخَّرِ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَلَهُ هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ كَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ هِدَايَةً تَلِيقُ بِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَضُرُوبُهَا، وَكَذَلِكَ لِكُلِّ عُضْوٍ هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ، فَالرِّجْلَانِ لِلْمَشْيِ، وَالْيَدَانِ لِلْبَطْشِ وَالْعَمَلِ، وَاللِّسَانُ لِلْكَلَامِ، وَالْأُذُنُ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْعَيْنُ لِكَشْفِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَكُلُّ عُضْوٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَهَدَى الزَّوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ لِلِازْدِوَاجِ وَالتَّنَاسُلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَهَدَى الْوَلَدَ إِلَى الْتِقَامِ الثَّدْيِ عِنْدَ وَضْعِهِ وَطَلَبِهِ. وَمَرَاتِبُ هِدَايَتِهِ سُبْحَانَهُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ هَدَى النَّحْلَ إِلَى أَنْ تَتَّخِذَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا، وَمِنَ الشَّجَرِ، وَمِنَ الْأَبْنِيَةِ، ثُمَّ تَسْلُكُ سُبُلَ رَبِّهَا مُذَلَّلَةً لَهَا لَا تَسْتَعْصِي عَلَيْهَا، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى بُيُوتِهَا، وَهَدَاهَا إِلَى طَاعَةِ يَعْسُوبِهَا، ثُمَّ هَدَاهَا إِلَى بِنَاءِ الْبُيُوتِ الْعَجِيبَةِ الصِّفَةِ الْمُحْكَمَةِ الْبِنَاءِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بَعْضَ هِدَايَتِهِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْعَالِمِ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

1 / 334