مجالسِكُم وفي طرقِكُم، ولكن يا حنظلةُ، سَاعةً وَسَاعةً [ثَلَاثَ مَراتٍ] (^١). وفي روايةٍ له أيضًا "لَوْ كَانَتْ تَكُوْنُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْملائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ في الطُّرُقِ" (^٢). ومعنى هذا أن اسْتِحضارَ ذِكْرِ الآخرةِ بالقلب في جميعِ الأحوالِ عزيزٌ جدًّا، ولا يقدِرُ كثير من الناس أو أَكثرُهم عليه، فيُكْتَفَى منهم بذِكْرِ ذلك أحيانًا وإن وقعتِ الغَفْلةُ عنه في حالِ التَّلبُّسِ بمصالحِ الدُّنيا المباحةِ، ولكنَّ المؤمنَ لا يرضَى من نفسِه بذلك، بل يلُومُ نفسَه عليه ويحزنُهُ ذلكَ من نفسِه. العارفُ يتأسَّفُ في وقتِ الكَدَرِ (^٣) على زَمَنِ الصَّفاء، ويحِنُّ إلى زمنِ القُربِ والوصالِ في حالِ الجَفاء، وأنشدوا (^٤):
ما أَذكرُ عيشَنا الَّذي قد سَلَفا … إلا وجَفَ القلبُ وكَمْ قد وَجَفا (^٥)
واهًا لِزمانِنا الّذي كان صَفَا … هَلْ يرجِعُ بَعْدَ فوتهِ واأَسَفَا (^٦)
وقِسمٌ آخرُ يَستمرُّون على استِحضارِ حالِ مجلسِ سماعِ الذكْرِ، فَلَا يزال تَذَكُّرُ ذلك بقلوبهم ملازمًا لهم، وهؤلاء على قسمين:
أحدُهما: من يشغَلُهُ ذلك عن مصالح دُنياهُ المباحةِ، فينقطِعُ عن الخَلْقِ، فلا يَقْوَى على مُخالطتِهم، ولا القيام بوفاءِ حقوقهِم. وكان (^٧) كثيرٌ من السَّلَفِ على هذه الحالِ؛ فمنهم مَن كان لا يضحكُ (^٨)، ومنهم مَن كان يقولُ: لو فارقَ ذِكْرُ الموتِ قلبي ساعةً لفَسَدَ.
والثاني: مَن يستحضِرُ ذكرَ الله وعظَمَتَهُ وثوابَهُ وعِقَابَة بقلبِه، ويدخُلُ ببدَنِه في مصالحِ دُنياهُ من اكتساب الحلالِ والقيامِ على العيالِ، ويُخالِطُ الخَلقَ فيما يُوَصِلُ
_________
(^١) رواه مسلم رقم (٢٧٥٠) (١٢) في التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا؛ والترمذي رقم (٢٥١٤) في القيامة، باب رقم (٥٩). وقد أورده المؤلف بالمعنى، وما بين حاصرتين زيادة من صحيح مسلم.
(^٢) هي عند مسلم رقم (٢٧٥٠) (١٣).
(^٣) الكَدَر: نقيض الصفاه.
(^٤) لفظ "وأنشدوا" لم يرد في ب، ط.
(^٥) وجَفَ القَلْبُ: خفَق.
(^٦) في هامش (ع) عن نسخة: "لو كان يردّ فائتًا واأسفا".
(^٧) في آ: "كان" بلا واو.
(^٨) في ط: "لا يضحك أبدًا".
1 / 49