فمنهم: مَن يرجع إلى هواهُ فلا يتعلَّق بشيءٍ مما سمِعَه في مجلسِ الذِّكْرِ، ولا يزدادُ هدًى، ولا يرتدِعُ عن ردي؛ وهؤلاء شر الأقسام، ويكونُ ما سمِعُوه حُجّةً عليهم، فتزدادُ (^١) به عقوبتُهم؛ وهؤلاء الظالمون لأنفِسهم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (^٢).
ومنهم: من ينتفِعُ بما سمِعَه، وهم على أقسامٍ: فمنهم مَنْ يردُّه مَا سمِعَه عن المحرَّمَاتِ، ويُوجبُ له التزامَ الواجباتِ؛ وهؤلاء المقتصدون أصحابُ اليمين. ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشميرِ في نوافلِ الطاعات، والتورُّعِ عن دقائقِ المكروهات، ويشتاق إلى اتباع آثارِ مَنْ سلَفَ من السَّاداتِ، وهؤلاء السابقون المقرَّبون.
وينقسم المنتفعون بسماع مجلسِ الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلةِ عنه إلى أقسامٍ ثلاثةٍ (^٣): فقسمٌ يرجعون إلى مصالح دنياهم المُبَاحةِ فيشتغلون بها، فتذهلُ بذلك قلوبُهم عمّا كانوا يجدونه في مجلس الذكر؛ من استحضارِ عظمة الله وجلاله وكبريائه، ووعدِه ووعيدِه، وثوابِه وعقابِه، وهذا هو الذي شكاهُ الصحابةُ إلى النَّبيِّ ﷺ وخشوا؛ لكمالِ معرفَتِهم، وشدَّةِ خوفِهم، أن يكونَ نِفاقًا، فأعلَمَهم النَّبِيُّ ﷺ أنَّه ليس بنفاقٍ.
وفي "صحيح مسلم" عن حَنْظَلَةَ ﵁ أنه قال: يا رسولَ الله، نافَقَ حَنْظَلَةُ. قال: "وَمَا ذَاكَ؟ " قال: نكونُ عندَكُ تُذكِّرُنا بالجنَّةِ والنَّارِ [حَتَّى] كأنهما (^٤) رَأْيُ عينٍ، فإذا رَجَعنا (^٥) من عِنْدِكَ عَافَسْنَا (^٦) الأزواجَ والضَّيْعَةَ (^٧)، ونسِينا (^٨) كثيرًا. فقال: "لو تَدُومونَ على الحال التي تقومُون بها من عندي لصافحتْكم الملائكةُ في
_________
(^١) في ع: "فيزدادوا به عقوبة"، وفي هامشها عن نسخة ما يوافق المثبت. وفي ش: "فتزاد".
(^٢) سورة النحل الآية ١٠٨.
(^٣) في ب، ط: "ثلاثة أقسام".
(^٤) في ب، ط: "كأنها".
(^٥) في "صحيح مسلم": "فإذا خرجنا".
(^٦) المعافَسَة: المعالجة والمداعبة. فلان يعافِسُ الأمور: أي يمارسها ويعالجها. (النهاية ٣/ ١٠٨).
(^٧) في صحيح مسلم: "والضَّيعات".
(^٨) في صحيح مسلم وسنن الترمذي: "نسينا" بغير واو.
1 / 48