لا يكن عندكم شرائع ولا مجالس لمحاكمة المذنب، ولا تبيحوا للقاضي حق القتل لينتقم للموت بالموت! لا تجلسوا بينكم قضاة يرتكبون الإثم خفية ويعاقبونه جهرا! بل هذبوا نفوسكم وأخلاقكم بالعلوم، فتشعروا بالقاضي والجلاد في ضمائركم! لقد وهبتكم السماء عاطفة الغفران فاغفروا. إن هبة الغفران لأعظم هبات الله للإنسان.
هذه اللهجة التي خاطب بها لامرتين أبناء جنسه في فم الناسك، هي التي خاطب بها الله بلسان موسى جميع بني إسرائيل في البرية. خاطب موسى شعب إسرائيل في الإصحاح الأول من سفر التثنية قائلا: «اسمعوا بين إخوتكم واقضوا بالحق بين الإنسان وأخيه ونزيله. لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء. الصغير كالكبير تسمعون. لا تهابوا وجه إنسان لأن القضاء لله.»
وخاطب موسى شعب إسرائيل قائلا: «إذا خبطت زيتونك فابق على غصونه بعض ثمار لعابري الطرق، وإذا حصدت حقلك ونسيت فيه بعض رزم فلا ترجع لتأخذه، إنه لليتيم والفقير والأرملة يكون.»
والتوراة هي أيضا نفحة من الشرق! وكما أحسن الشرق إلى لامرتين عندما أوحى إليه أسطع كواكبه إن في نثره وإن في شعره، هكذا لامرتين فقد أحسن إلى الشرق وإلى سوريا ولبنان بنوع خاص.
لم يكن لامرتين كهؤلاء الكتبة الأوروبيين، الذين مروا في هذه البلاد مرور الطيف، وكفاهم أسبوع أو أسبوعان ليكتبوا عنها المجلدات ويصفوها من أطرافها إلى أطرافها، بل كان من هؤلاء الذين يحترمون نفوسهم، ومن كان يحترم نفسه يحترم الغير، فلا يبخسه حقه في تقاليده وعاداته، ولا يشوه نواحيه الجميلة بفلتات من اللسان تدل على تحامله أو على جهله.
كان لامرتين أول من عرف الأوروبيين إلى سوريا ولبنان، وكشف لهم تلك الكنوز الشعرية المطمورة فيهما. ولقد نظر إلى آثارنا نظرة احترام وإعجاب وهو يعلم، حق العلم، أنها ليست بقايا مدافن طواها الزمن، بل مدنية عظيمة لا تزال الحياة تتمشى بين رسومها وأنقاضها!
قال يصف هياكل بعلبك: «تراءت لنا في الشفق البعيد جمهرة من الخرب المصفرة، تذهبها الشمس المنحدرة إلى المغيب، وتنفصل رويدا رويدا عن أخيلة الجبال لتغيم في شفافة من أشعة المساء. فأشار الأدلاء إلى هذه الخرب هاتفين: بعلبك! بعلبك! كانت تلك الخرب الجبارة معجزة الصحراء، بعلبك الساحرة التي خرجت من ضريحها المجهول لتقص علينا أنباء الأعمار التي فقد التاريخ تذكارها.
فلما بلغنا إلى تلك الهياكل العجيبة، لبثنا مذهولين أمام السحر المنبثق من أطوادها الساحقة، وأمام قطع الغرانيت الأحمر والأشهب، والرخام الأبيض، والحجارة الصفراء، والأعمدة المفرضة، والتماثيل المطروحة على الأرض، يمتزج بعضها ببعض كحمم بركان لفظ بقايا دولة عظيمة!
ولما هبط الليل صعد القمر في السماء الصافية، وعبر بين شقوق جدار كبير من الحجارة البيضاء، وتخاريم شرفة عربية تطل على الصحراء! عند هذا استولى علينا ذهول غريب، واستسلمنا إلى أحلام عميقة، أما ما فكرنا به في تلك الآونة، وفي ذلك المكان البعيد عن العالم الحي، في ذلك العالم الميت، أمام شهود الماضي المجهول الذي يقلب بطنا لظهر جميع افتراضاتنا في التاريخ وفلسفاتنا في البشر، فالله وحده عليم به.»
وقال يصف روعة المناظر اللبنانية، وقد صورها بريشة لم يحملها شاعر لبناني إلى الآن: «صعدنا نتسلق الجبال، فأبصرنا وراءنا البحر يحتجب رويدا رويدا عن الأنظار، وقد انبثق الفجر وأطلت شعفات القمم تذوب على رءوسها أكواد الثلوج، فتراءت لنا الصحراء الفسيحة تلمع تحت بخارها الناري كقطعة من الحديد أعارتها النيران لونها الأحمر، أو كمحيط عظيم لا شواطئ له تسبح فيه الشمس والجبال والغيوم!
Unknown page