لم أنته بعد من قصة أمي وضبطها لي متخلفا عن المدرسة، عدت من المدرسة وذهبت إلى والدتي، وكانت - رحمها الله - قريبة الرضى، وظللت أتلطف معها حتى عرفت أن الذي أبلغها بعدم ذهابي إلى المدرسة هو عم أحمد، ومن العجيب أنني في هذه السن قدرت له ما فعل وشكرته في نفسي، فما كان يبغي إلا مصلحتي من وجهة نظره، وبحثت عنه فقيل لي إنه ذهب إلى البلد هو وأسرته الكبيرة، وكلهم من بلدتنا غزالة، ولكنه كان يقيم مع زوجته وأولاده ببيتنا بالعباسية بحجرة بالبدروم، وكانت حجرته دائما غاية في النظام والنظافة، فقد كان هو دائما حسن الهندام نظيفا، وكذلك زوجته أم زكية التي أرضعتني على ابنها عبد العظيم، وكثيرا ما كنت أزورها في حجرتها بالبدروم، بل كثيرا ما كنت أتناول طعامي في هذه الحجرة.
طالت غيبة عم أحمد بالبلدة وهمس لي سائقنا الذي كان من البلد أيضا أن عم أحمد لن يعود. - لماذا؟ - لأنه قدر أنك ستكون غاضبا عليه.
ودهشت من إخلاص هذا الرجل، لقد وازن بين بقائه في عمله الذي هو مورد رزقه الوحيد وبين أن يغمض عينيه عن تخلفي عن المدرسة، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم فلاحي كما يعتقد، فأبلغ والدتي بأمري وترك عمله وتوكل على الله، وقد كان لصيقا بأبي، فقد كان خادمه الخاص، وكان يسافر معه أوروبا، ويعرف كيف يريحه ويلبي كل طلباته دون أن يطلبها، فقد قضى حياته كلها مع أبي هو وأبوه كذلك، وأقاربه جميعا يعملون في الأرض عند أبي.
سارعت فطلبت عم أحمد في غزالة بالتليفون، وطبعا لم يكن ببيتنا هناك، ولكني طلبت من الذي أجابني بالبيت أن يناديه لينتظر مني مكالمة ... وكلمته. - ماذا يا عم أحمد ... لماذا لم تأت؟
فقال في صوت به آثار ضحك: أتريدني أنت أن أجيء؟ - طبعا. - بكرة سآتي.
وأرجو الله أن أكون قد أكرمت هذا الرجل على قدر ما شهدت من تضحيته وحبه وإخلاصه لنا.
في مدرسة فاروق بدأت رحلتي مع الملاحق، فكنت دائما أنتقل من السنة إلى الأخرى بملحق حتى حصلت على شهادة الثقافة، وهي تعطى لمن يتجاوز الامتحان في السنة الرابعة الثانوية، وهي السنة السابقة على شهادة التوجيهية التي أصبح اسمها الثانوية العامة.
وقد كان يوم حصولي على شهادة الثقافة يوما مشهودا في حياتي، كنت في ذلك اليوم أترقب ظهور مقالتي الثانية في مجلة الثقافة التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي أعظم لجنة أدبية عرفها تاريخ مصر، فقد كانت تضم عمالقة الأدب جميعا بلا استثناء.
ومع أنني كثيرا ما رويت كيف نشرت أول مقالة لي في حياتي إلا أنني أعتقد أنني لن أستطيع أن أقدم إليك هذا الكتاب دون أن أذكر بداية حياتي مع الكتابة، وأنا قبل كل شيء وبعد كل شيء كاتب، وفي العام القادم أكون قد قطعت من عمري خمسين عاما في الكتابة.
كنت طالبا في الثقافة السنة الرابعة الثانوية في مدرسة فاروق الأول الثانوية، وكان يدرس لنا اللغة العربية أستاذ طيب اسمه الأستاذ ضاحي كتبت له موضوع إنشاء استعملت فيه كلمة تساءل فيما أذكر، فإذا يضع تحتها خطا ويقول لي: تساءل على وزن تفاعل، وتفاعل لا تكون إلا في تبادل الشيء بين شخصين فاستعمالك لها غير صحيح.
Unknown page