وفوجئت حين اقتربت أن هذا الرجل لم يكن إلا أستاذنا العظيم أحمد بك أمين الذي لقيني أجمل لقاء، وسألته عن مصير مقالتي فقال لي شيئا لم أكن أتوقعه قط، قال إنهم لم يشاءوا أن ينشروا شيئا عن عزيز بك أباظة، ولم يكن قد نال الباشوية بعد، وأنهم أرسلوا إليه خطابا يستأذنونه في نشر أبيات توفيق العوضي عنه، وقد أعجبت كل الإعجاب بمنطق المجلة وبخلق المشرفين عليها، وقلت لأحمد أمين إنني أستطيع أن أرسل أبياتا أخرى غير هذا فقال: «يكون أحسن.» وملأت نفسي الفرحة، وخرج أحمد بك من البحر وتبعته أنا ذاهبا إلى عشتنا وأخبرت أبي بسبب تأخير نشر المقالة، وبعد الظهر من اليوم نفسه ذهبت إلى مسرح برأس البر وحجزت لنفسي تذكرة لمشاهدة عميد الفن الكوميدي في مصر والشرق نجيب الريحاني، وعند عودتي كانت الشمس لم تغرب بعد، وإنما تميل إلى الغروب وجدت عامل تلغراف يدور بين العشش تائها، سألته عمن يريد؟ فقال: أريد عشة دسوقي بك أباظة. قلت له: أنا ابنه. فسلمني برقية من قريبنا المرحوم الأستاذ عبد الله عوضي أباظة الذي كان مدرسا بالثانوي، وكانت البرقية تحمل تهنئة بنجاحي في شهادة الثقافة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أستبشر خيرا كلما رأيت الريحاني في السينما أو في التلفزيون، ذهبت في اليوم نفسه إلى عشة أحمد بك أمين ووجدت عنده العلامة القانوني العظيم السنهوري باشا، وسلمت أحمد بك مقالة أخرى فيها أبيات لتوفيق غير هذه التي أوقفت النشر.
وهكذا كان هذا اليوم يوما مشهودا في حياتي كما ترى، حدث بعد ذلك أن رافقت أبي إلى بلدتنا غزالة، وكانت المقالة قد نشرت، فوجدت الأستاذ القرعيش قد نظم أبيات تحية لي سأذكر البيت الأول منها فقط؛ لأنها تؤرخ الفترة جميعها يقول في مطلع الأبيات:
نال الثقافة وازدهى
ببراعة صدر الثقافة •••
في غمرة حديثي عن تلك المرحلة لم أذكر أن أبي تولى الوزارة لأول مرة في 26 يونيو سنة 1941م، وكنت في السنة الثالثة الثانوية، وكان توليه الوزارة قبل تاريخ مولدي بيومين، وقبل أن يتولى أبي الوزارة كان حزب الأحرار قد رشحه لرياسة مجلس النواب بينما رشحت الهيئة السعدية أحمد ماهر باشا وكان رئيس الوزارة المرحوم حسن صبري باشا، وقصة هذا الرجل مع أبي عجيبة، فقد حدث في سنة 1938م أن أبي كان بصفته سكرتير عام حزب الأحرار يقوم بإعداد أسماء مرشحي الحزب في الانتخابات، وكان رئيس الوزراء محمد محمود باشا، ولم يشترك أبي في الوزارة، وكان هذا موضوع دهشة كبرى من الناس ألا يشترك سكرتير عام الحزب في الوزارة، ولكن محمد باشا اعتذر له اعتذارا شديدا، وجد أبي نفسه مضطرا أن يقبله لما لمحمد باشا محمود من مكانة خاصة في نفسه، وبينما أبي مشغول بإعداد الانتخابات كلمه حسن باشا صبري في التليفون وكان في ذلك الحين وزيرا في وزارة محمد باشا، وكان مقربا من الإنجليز، وطلب إلى أبي أن يضع أحد الأسماء مرشحة في دائرة معينة، ولكن أبي اعتذر بأن هذه الدائرة بها عضو قديم في الحزب؟ ولا يستطيع أن يتخطاه فإذا بحسن صبري يقول لأبي: أتناقشني؟!
فوضع أبي سماعة التليفون في وجهه ...
وبعد ذلك ببضعة أشهر حدثت في الوزارة أزمة استدعت إخراج وزير الزراعة من وزارته، وكان مجلس الوزراء مجتمعا حين قال محمد باشا للوزراء إنه مضطر أن يفض الاجتماع؛ لأنه على موعد مع الملك ليوقع منه مرسوم تعيين وزير الزراعة، وسأله الوزراء: من الوزير؟
وقال محمد باشا: إنه برلنتة (أي شخص من ألماس). - من؟! - دسوقي أباظة.
فإذا حسن صبري باشا يقول: إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، فسأخرج من الباب الآخر؟
وهكذا لم يعين أبي وزيرا في وزارة محمد باشا محمود، وظلت الوزارة بغير وزير زراعة حتى استقالت.
Unknown page